الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تعظيم الله عز وجل والخضوع لأوامره:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة الصف.
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)﴾
﴿سَبَّحَ﴾ كما يقول العلماء: نَزَّهَ ومَجَّدَ، وبعض المفسرين يضيفون إلى التنزيه والتمجيد الخضوع، لأن الإنسان حينما يُعظم الله عزَّ وجل لابدَّ من أن يخضع له، بل إن الخضوع له علامة تعظيمه، فمن عَظَّمَهُ بلسانه ولم يخضع لأمره ما عظّمه حقيقةً، نزَّهه عن كل نقص، ومجّده، ونسب له كل كمال، ثم خضع له، هذا معنى سَبَّحَ بالمعنى الدقيق: نزّه ومجّد وخضع، بل إن الخضوع علامة التنزيه والتعظيم، فمن ادّعى أنه يسبَّح الله عزَّ وجل، ولم يخضع لأمره ففي تسبيحه خلل، أو في تسبيحه كذب، لأن الله سبحانه وتعالى أهل التقوى وأهل المغفرة.
أما السماوات والأرض فهو مصطلحٌ القرآني يعني الكون، والكون يعني ما سوى الله، كل المخلوقات تُنَزِّهُ، وتمجِّد، وتخضع لله عزَّ وجل، أما الإنسان فقد أُعطي حرية الاختيار:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
الإنسان مخلوق مكرَّم مخيَّر:
الإنسان مخيَّر، لذلك يخضع أو لا يخضع، بينما بقية المخلوقات خاضعةً حكماً لله عزَّ وجل، أما الإنسان فقد أعطي حرية الاختيار، فلما قبِل حمل الأمانة كرَّمه الله عزَّ وجل بأن:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾
فالإنسان مخلوقٌ أول، والإنسان مخلوقٌ مكرَّم، والإنسان مخلوقٌ مكلَّف، مخلوق أوَّل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ ، المخلوق المُكَرَّم.
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
إذا كان هناك بضعة آلاف نوع من الورود والأزهار هذه لمن؟ هذه لا تؤكل، ولكنها يُستمتع بمنظرها وبرائحتها، لمَن خُلقت؟ أنواع الفواكه التي لا تعد ولا تحصى لمن خُلقت؟ هذه الأرض التي هي أمينةٌ على كل حاجاتنا لمن خُلقت؟ هذا معنى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ .
والإنسان هو المخلوق المُكَلَّف لقوله تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
فكل ما في الكون بسماواته وأرضه يسبِّح لله تسبيح تنزيه، وتسبيح تمجيد، وتسبيح خضوع إلا الإنسان، الذي هو سيِّدُ المخلوقات، الذي سُخِّرت له السماوات والأرض، هذا الإنسان أُعطي حرية الاختيار، فإما أن يؤدي الأمانة التي حملها، وإما أن يخون الأمانة، هو حينما قَبِل حمل الأمانة لم يكن ظلوماً جهولاً، إنه كان ظلوماً جهولاً بحمل الأمانة؟ الجواب: لا، أما حينما حملها وخانها: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ هو حينما قبِلها لم يكن ظلوماً جهولاً، كان طموحاً، فلم خانها كان ظلوماً جهولاً.
من ابتعد عن الله عزَّ وجل يصبح أضلّ من الحيوانات:
أيها الإخوة الكرام؛ مما يلفت النظر في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ﴾ الكفار.
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾
حار المفسرون في معنى قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾.
﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾ أي بهائم، يعيشون ليأكلوا، يأكلون ويتمتَّعون كما تأكل الأنعام، أما معنى قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ لأن أشدّ الوحوش شراسةً تنتهي وحشيته حينما يملأ بطنه، فإذا ملأ بطنه لا يعتدي على أحد، قد تمر أمام الوحش الكاسر أضعف الحيوانات، حينما يكون شَبِعاً لا يعتدي على أحد، أما الإنسان لو وفرت له كل حاجاته، حينما يبتعد عن الله عزَّ وجل يستطيل على خلقه حتى يغدو الشر عنده هدفاً، أي هذه القنبلة التي أُلقيت على هيروشيما، وقتلت ثلاثمئة ألف إنسان في أربع ثوانٍ، هذه وحشيةٌ ما بعدها وحشية، الأسلحة الجرثومية، الأسلحة الكيماوية، الأسلحة النووية، الآن هناك أسلحة إذا أُلقيت قنبلة على مدينة لا تقتل إلا البشر، وتبقى الأبنية كما هي، من أجل أن نأخذ المدينة غنيمةً كما هي دون أن نهدمها، فحينما يبتعد الإنسان عن الله عزَّ وجل يغدو شرَّ مخلوقٍ على وجه الأرض:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)﴾
أما الذين كفروا في نهاية الآية:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)﴾
فالإنسان إما أن يكون فوق الملائكة المقرَّبين، وإما أن يكون في أسفل السافلين.
﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ أي وحشية الإنسان تفوق أشدَّ الوحوش شراسةً، هذا إذا ابتعد عن الله.
ومعنى: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ الحيوان حينما يموت ينتهي كل شيء، لا حساب ولا عذاب، ولكن الإنسان حينما يموت تبدأ متاعبه، محاسبٌ عن كل كلمة، وعن كل حركة، وعن كل سكنة، وعن كل ابتسامة، وعن كل وصل، وعن كل قَطْع، وعن كل غضب، وعن كل رضا، وعن كل عطاء، وعن كل منع، أضلّ من الحيوانات لأنهم مكلَّفون وسيحاسبون، أضلّ من الحيوانات لأن وحشية الإنسان تفوق حاجاته التي يحتاجها.
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ عزيزٌ؛ لا يُنال جانبه، عزيزٌ فردٌ لا شريك له، عزيزٌ يستحيل أن تحيط به، عزيزٌ يحتاجه كل شيء في كل شيء، فردٌ لا شريك له، يحتاجه كل شيء في كل شيء، لا يحاطُ به، بعيدُ المَنال.
حكيم ؛ كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق.
الشرّ المطلق غير موجود في الكون:
أيها الإخوة؛ دققوا فيما سأقول: الشر المطلق ؛ أي أن الشر للشر لا وجود له في الكون، بل إن الشر المطلق يتناقض مع وجود الله، إما أن تؤمن بأن لهذا الكون إلهاً رحيماً، حكيماً، عادلاً، وإما أن تؤمن بالشر المُطْلَق، الشر موجود، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( عن علي بن أبي طالب كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استفتَح الصَّلاةَ كبَّر ثمَّ يقولُ: وجَّهْتُ وجهيَ للَّذي فطَر السَّمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا مِن المُشرِكينَ إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي للهِ ربِّ العالَمينَ لا شريكَ له وبذلكَ أُمِرْتُ وأنا أوَّلُ المُسلِمينَ، اللَّهمَّ أنتَ الملِكُ لا إلهَ إلَّا أنتَ أنتَ ربِّي وأنا عبدُكَ ظلَمْتُ نفسي، واعترَفْتُ بذَنْبي، فاغفِرْ لي ذُنوبي جميعًا لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ، لبَّيْكَ وسعدَيْكَ والخيرُ كلُّه في يدَيْكَ، والشَّرُّ ليس إليكَ ، أنا بكَ وإليكَ تبارَكْتَ وتعالَيْتَ أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ. ))
الشر ليس إيجابياً، حينما تضع مادة سُكَّريَّة في محرِّك سيارة يصيبه الخلل، أي أنت تحتاج إلى أن تصلحه من جديد، أن تدفع ثلاثين ألف ليرة لكمية سكر وضعت في المحرك، السكر مادة أساسية، مادة مفيدة جداً، ونحن في أمسِّ الحاجة إليها، والمحرك مادة أساسية في حياتنا، من أين جاء الشر؟ من سوء الاستعمال، النفط مادة أساسية، ضع قطرتين منه في الطعام انتهى الطعام، تلقيه في القمامة، النفط مادة أساسية، والطعام مادة أساسية، فالشر لا وجود له إلا بشكلٍ طارئ من سوء الاستعمال، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) أي مركبة صُنِعَتْ في أرقى معمل، وفيها كل وسائل الراحة، وفيها جمال، فيها أناقة، فيها قوة ومتانة، أما حينما يقودها إنسان ثمل سكران، وينزل بها في الوادي، وتصبح بشكل لا يحتمل، هذا شر، مَن خلق هذا الشر؟ سوء استعمال، أن يقود إنسان سيارة وهو سكران، هذه هي النهاية، لا يوجد معمل في الأرض يصنعها هكذا، لا، المعامل تصنع سيارة جميلة متماسكة أنيقة، أما حينما ترى السيارة قد تدهورت، ولها منظر لا يحتمل، ليس هناك في العالم معمل صنعها بهذه الطريقة، لا، حينما أسيء استخدامها كانت بهذا الشكل، فأصل الشر من مخالفة منهج الله، ومخالفة التعليمات، وأوضح ما يكون: ثلاث مواد بيضاء مسحوقة، السكر والملح ومسحوق التنظيف، لو وضعت السكَّر في الطبخ فالطبخ لا يؤكل، لو وضعت الملح في الحلويات فالحلويات لا تُؤكل، لو وضعت مسحوق التنظيف فيهما فكلاهما لا يُؤكلان، هذه ثلاث مواد أساسية، إذاً من أين جاء الشر؟ من سوء الاستعمال، من الجهل، كلمتان؛ ما من مصيبةٍ في الأرض إلا بسبب خروجٍ عن منهج الله، ما من خروجٍ عن منهج الله إلا بسبب الجهل، انتهى الأمر، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام منزِّهاً ربَّه: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) أما إذا قلت في عقائد المسلم: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره و شره، معنى ذلك هذا الشر النسبي الذي نراه نحن شراً وهو خيرٌ مطلق:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)﴾
الحقيقة أن كل شرّ تتصوره شراً هو خيرٌ مطلق، لكنه شر بالنسبة لإنسان محدود الأُفُق، ركِب مؤمنٌ مركبةً تدهورت به فأصيب بجرح عميق في وسطه، وكسر في حوضه، الطبيب يجري عملية جراحية لترميم الوسط، وهو يفتح البطن وصل إلى الكُلية فرأى فيها ورماً خبيثاً في بدايته، وهذا الورم الخبيث لا يأخذ أبعاده إلا بعد عشر سنوات، وهو قاتل، أما في بداياته فعلاجه سهلٌ جداً، لأن الكُلية لو استؤصل نصفها لبقي الإنسان حيًّا، فيما يبدو أنه وقع حادث، أما حينما أردنا أن نضمِّدَ الجراح، وأن ننظف الجراح وصلنا إلى الكلية، فإذا فيها ورمٌ خبيث، استؤصل، نجا هذا الإنسان من هذا المرض القاتل، فهذا الحادث خير أم شر؟ ظهر أنه خير، يمكن أن تقيس هذا على كل المصائب، إنسان عنده مزرعة يمكن أن يضمنها بخمسمئة ألف، أتاها يوم الحصاد فإذا هي خاويةٌ على عروشها:
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)﴾
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)﴾
قال تعالى:
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾
بسبب هذه الخسارة الكبيرة رجعوا إلى الله، وتابوا إليه، واصطلحوا معه، فلما اصطلحوا معه عوَّضهم عن خسارتهم أضعافاً مضاعفة، فهذا المحصول المدمَّر خير أم شر؟ إنه خير، يجب أن نؤمن أن الشر الذي يفعله الإنسان يوظِّفُهُ الله عزَّ وجل للخير المطلق.
ذهبت امرأة لتفحص صدرها في مستشفى، الموظَّف أهمل، فأعطى قريبها نتيجة امرأة ثانية مصابة بالسل، أليس هذا خطأ كبيراً؟ أن تُقدِّم لإنسان صحيح ما يفيد أنه مريض بمرض عضال؟ هذه المرأة بقيت تبكي وتبكي إلى أن هُدِيَتْ إلى أن تصطلح مع الله، وأن تتوب إليه، وأن تعود إليه، وأن تؤدي الصلوات، وأن تتحجَّب، ثم تبيَّن أن الخطأ من الموظف، وهي سليمة الصدر ليس فيها شيء، هذا الخطأ الذي فعله الموظَّف خطأ وشر كيف وظفه الله عزَّ وجل؟ للخير، كل أخطاء البشر توظَّف للخير، لو سألتموني: ما الدليل؟ قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)﴾
قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)﴾
شرير، ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ﴾ هذا الشر شر فرعون وظفه الله عزَّ وجل لخير المستضعفين:
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾
فإذا رجعوا، واصطلحوا مكَّناهم، وقوَّيناهم على فرعون ليتوب ثانيةً على أيديهم، ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ هذه سنة الله في خلقه.
إذا عصاني من يعرفني سلَّطت عليه من لا يعرفني، ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
بشكلٍ ملَّخص: الشر المطلق لا وجود له في الكون، بل إن الشر المطلق يتناقض مع وجود الله.
الشرُّ النسبي والشر المطلق:
ما الشر المطلق؟ النسبي أن تأتي بالمبضع، وأن تفتح البطن، وأن يخرج الدم غزيراً، وأن تغلق هذه الأوعية والشرايين، وأن تصل إلى الزائدة فتستأصلها، لأنه لابدَّ من استئصالها، إن آلامها لا تحتمل، تصبح عندئذٍ خطراً على حياة الإنسان، فتح البطن، وانهمار الدم، واستئصال الزائدة شرّ مطلقٌ أم نسبي؟ نسبي، أما لو جاء إنسان، وبقر بطن إنسان بلا سبب، نقول: هذا الشر مطلق، بالمعنى التوضيحي، فحينما أفتح البطن لأستأصل ورماً خبيثاً، أو لأستأصل زائدةً ملتهبة، فَتْح البطن لا يسمى شراً، يسمى شرًّا نسبيًّا موظفًا للخير، أما حينما أفعل الشر للشر فهذا اسمه: شرّ مطلق، لا وجود له في الكون، لأنه يتناقض مع وجود الله، هكذا الإيمان، لذلك:
﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)﴾
بعض المؤمنين يظن بالله غير الحق ظنّ الجاهلية، الله جلَّ جلاله كماله مطلق: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ هذا الكلام حول كلمة الحكيم، أي الشيء المناسب، في الوقت المناسب، بالقدر المناسب، بالأسلوب المناسب، ومعنى الحكيم أن كل شيءٍ وقع لابدَّ من أن يقع، ولو لم يقع لكان نقصاً في حكمة الله، أبداً، من هنا قال بعض الأئمة: "ليس في الإمكان أبدع مما كان" ، أو "ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني"، وحسن الظن بالله ثمن الجنة، ونحن في الدنيا، يوجد شر، أما هذا الشر فنسبي، وهذا الشر موظَّف للخير، قال تعالى:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ لو أحصيت المؤمنين في الأرض، وكأنني لا أبالغ لوجدت تسعة أعشارهم اصطلحوا مع الله على أثر مصيبةٍ نزلت بهم، فهل تُعَدُّ المصيبة شراً؟ أعرف رجلاً سمعت قصته في قطرٍ آخر، هو رجل متفلِّت، منغمس في المعاصي كلها، لم يُدْخِل الآخرة في حساباته إطلاقاً، عنده بنتٌ صغيرة أخذت جزءاً من عقله من شدة حبه لها، أصيبت بمرضٍ خبيثٍ في دمها، انقلبت حياته جحيماً، لم يدَعْ طبيباً إلا وعالجها على يديه، لم يدع بلداً إلا وذهب إليه، إلى أن اضطر إلى بيع بيته، والسفر إلى بلدٍ أجنبي بُغْيَةَ معالجتها، فجأةً خطر في باله لعل الله يشفيها لهم إذا تاب هو وزوجته، فاتفق مع زوجته على التوبة لله عزَّ وجل، بدأا يصليان، وحجّب زوجته، واصطلحا مع الله، وهذا المرض تراجع شيئاً فشيئاً إلى أن عوفيت ابنته تماماً، هذا الإنسان كان متفلتاً، كان شارداً، كان في طريق جهنم، كان هالكاً في الدنيا والآخرة، هذا المرض العُضال الذي أصاب ابنته أعاده إلى الله، وحمله على التوبة، وجعله يصطلح مع الله، وذاق طعم القُرب، فهل يُعدّ هذا المرض شراً مطلقاً أم شراً نسبياً؟ شر نسبي.
فيا أيها الإخوة؛ حينما قال الله عزَّ وجل تعقيباً على قصة أصحاب الجنة:
﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)﴾
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾ هذه طبيعته، وهذه بواعثه، وهذه أهدافه، العذاب من أجل الخير المُطْلَق، العذاب شرّ نسبي من أجل الخير المطلق، لكن لو أن أباً شدّد على ابنه في سنيّ الدراسة، إلى أن نال أعلى الشهادات، وعاش حياةً كريمةً مريحةً ذات دخلٍ كبير، ألا يترحَّم هذا الابن على أبيه ملايين المرات على أنه ضربه في سن الدراسة، وضيَّق عليه، وألزمه البيت، وتابع دراسته؟ هكذا، فلذلك الشر المطلق لا وجود له، والشر النسبي موظفٌ للخير المطلق، هذا معنى (حكيم)، إذاً: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .
الآن الخطاب للمؤمنين :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2)﴾
ذكرت لكم من قبل أن الجماد شيء يشغل حَيِّزاً، له وزن، وله طول وعرض وارتفاع، أبعاد ثلاث، وله وزن، ويشغل حيزاً، هذا الجماد، أما النبات فهو شيءٌ له أبعاد ثلاث، ويشغل حيزاً، لكنه ينمو، هذا الفرق الأول، الحيوان شيءٌ له أبعاد ثلاث، ووزن، وينمو، ويتحرَّك، الإنسان شيءٌ يشغل حيزاً، وله أبعادٌ ثلاث، وله وزن، وينمو، ويتحرَّك، ويفكر، وينْطِق، الله عزَّ وجل اختصّ الإنسان بالبيان، قال تعالى:
﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ ينطق، يعبر عن مشاعره، يعبر عن أفكاره، يعبر عن حاجاته، بلسانه أو بقلمه، ويستمع إلى أفكار الآخرين ومشاعرهم بأذنه، أو يبصرهم بعينه، يسمع أو يقرأ، ينطق أو يكتب، هذه اللغة، القدرة على التعبير عن الأفكار والمشاعر تعبيراً شفهياً وكتابياً، والقدرة على فهم كلام الآخرين فهماً شفهياً وفهماً مكتوباً، هذه اللغة، هذه اللغة مما اختصّ الله بها بني البشر: ﴿الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الْإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَان﴾ تصوَّر مجتمعاً ليس فيه لغة، وأردنا أن نمنع التجول، كيف؟ تحتاج لكل مواطن إلى شرطي يدفعه إلى البيت، أما بلاغ يُلْقى في خمس ثوان لا تجد في البلاد إنساناً يمشي، أداة اتصال راقية جداً، أما اللغة المكتوبة فهي أرقى بكثير، اللغة المقروءة نستفيد منها في لقاءاتنا، أما المكتوبة فتنقل الثقافة من جيل إلى جيل، الإمام القُرْطُبي مات قبل ألف عام، أما تفسيره بين أيدينا، والغزالي ألّف كتابه إحياء علوم الدين، هو مات قبل أقلّ من ذلك، وكتابه الإحياء بين أيدينا، هؤلاء العلماء الكبار الذي تركوا آثاراً كبيرة جداً، آثارهم بين أيدينا نستفيد منها، بالكتابة تنتقل المعارف والثقافات من جيلٍ إلى جيل، وبالترجمة من أمةٍ إلى أمة، هناك كتب عالمية أُلِّفَت باللغة الإنكليزية مترجمة إلى معظم لغات العالم، تدرَّس في كل الجامعات، لذلك قال الله عزَّ وجل: ﴿الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الْإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَان﴾ .
اللغة من أرقى وسائل البيان وفي الوقت نفسه أداة تدمير:
من أخصّ خصائص الإنسان اللغة، فما أصل اللغة؟ أن تعبِّر بها عن واقع، فإن لم تعبر بها عن واقع أنت خنت هذه الأمانة، أوهمت إنساناً بشيءٍ لا وجود له، هذا هو الكذب، فكما أن اللغة من أخصّ خصائص الإنسان، ومن أرقى وسائل البيان، في الوقت نفسه تنقلب اللغة إلى أبشع أداةٍ للتضليل، الغُرْمِ بالغُنْمِ، كما أنها ميزةٌ رائعة لبني الإنسان يتواصلون بها في أفكارهم، ومشاعرهم، وفي ثقافاتهم، ومعارفهم، في الوقت نفسه حينما لا تفعل ما تقول تكون أكبر ضالّ مضلّ في بني البشر، تقول شيئاً وتفعل غيره.
بماذا جاء الأنبياء؟ الأنبياء جاؤوا بالكلمة، الآن هناك حضارات مادية، يقولون لك: صواريخ، أقمار صناعية، قنابل عنقودية، وقنابل ذكية، وأسلحة كيماوية، وأسلحة جرثومية، وقنبلة نووية، وحاملات نفط تحمل مليون طن، فالحضارة المادية جاءت بمنجزات مُذهِلَة، نقلوا الصورة، ونقلوا الرسالة، ونقلوا عبر الأقمار الصناعية، وصار العالم كلَّه قرية صغيرة، وطائرات عملاقة تحمل ستمئة وخمسين راكباً، أو سبعمئة راكب، وصار هناك شيء لا يُصدَّق.
تناقض الكذب مع هوّية الإنسان:
الأنبياء الذين هم رُسُل الله عزَّ وجل بماذا جاؤوا؟ جاؤوا بالكلمة، كلمةٌ أسعدت الأمم، كلمة نقلت رعاة الغنم فصاروا قادة الأمم، أما أساس الكلمة الصدق، أن تعبِّر عن واقع، أما إن لم تُعَبِّر عن واقع فقد أصبحت الكلمة ضالَّةً مضلَّة، لذلك الآية دقيقة جداً:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)﴾
إن قلت عن شيءٍ فعلته في الماضي ولم تفعله فهذا كَذِب، وإن قلت عن شيءٍ ستفعله في المستقبل ولم تفعله فهذا إخْلاف، الكذب في الماضي، والإخلاف في المستقبل، إن قلت كلاماً ينطبق على الواقع فهذا صدق إخباري، وإن قلت كلاماً فعلته في المستقبل فهذا صدقٌ إخلاصي، أي أنت قلت: سأفعل كذا وفعلت كذا، مخلصٌ لكلمتك، إذاً موضوع: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ كما قيل: يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ، الكذب يتناقض مع هوّية الإنسان، كَرَّمه باللغة، واللغة ينبغي أن تعبِّر عن واقع، أن تعبِّر عن واقعٍ ماضٍ أو مستقبلي، أما إن لم تعبِّر فهو الكذب، وهو من أسوأ خصائص الإنسان.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ لذلك في الأرض آلاف الكُتَّاب الأخلاقيين، وآلاف المصلحين الاجتماعيين، وآلاف المربين، وفي الأرض أنبياء أرسلهم الله للأمم، لماذا فعل الأنبياء ما يُشْبِه المعجزات ولم يفعل كل المصلحين ما فعله نبيٌّ واحد؟ لأن النبي فعل ما قاله، ولا تجدُ مسافةً بين أقواله وأفعاله.
المقت أشدّ أنواع البغضاء:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾
المقت أيها الإخوة؛ ليس هو البغضاء، إنه أشدُّ أنواع البغضاء، أي إذا –لا سمح الله ولا قدر-لم يفعل الإنسان ما قاله بلسانه مَقَتَهُ الله أشدّ المقت، لأنه تعامل مع أوهام، كان من الممكن أن يتعامل مع وقائع، ومع أشياء دسمة، وأشياء نافعة، إنسان اكتفى أن يقول: أنا معي ألف مليون، وليس معه ثمن رغيف خبز، فرح بهذه الكلمات الفارغة، هذه لا تسمن ولا تغني من جوع، أما إذا عمل عملاً حقيقياً، وشَكَّل ثروة كبيرة فإن هذا شيءٌ آخر، فالذي يتعامل مع الكلمات الفارغة الجوفاء الكاذبة المزوّرة هذا إنسان وقع في وهمٍ كبير، وقع في وهمٍ أنه مؤمن، وهو ليس كذلك، هذا من أخطر ما يُصيب الإنسان؛ أن يعيش في أفكار بعيدة عن الواقع، واقعه شيء وأفكاره شيءٌ آخر، حينما يمتهن الإنسان الفِكر، ويتعامل مع القيم لفظاً، ويتعامل مع الخُلُق الكريم عرضاً وبياناً، وهو ليس كذلك فإنه وقع في شرِّ عمله، لذلك ربّنا عزَّ وجل يَمْقُتُ هذا الإنسان أشدَّ المقت، ﴿كَبُرَ﴾ من يقول هذا الكلام؟ ربُّنا، ﴿كَبُرَ﴾ لا تنسوا أن العظيم إذا وصف شيئاً بأنه عظيم فهو من العظَمة بحيث ما لا يُوصف، إذا قال لك طفل: معي مبلغ كبير، فإنك تقدِّر أن معه مئة ليرة، أما إذا قال لك أحد أكبر أغنياء العالم: أنا عندي ثروة عظيمة، فتقدَّرها بعشرات ألوف الملايين، طفل قال لك: معي مبلغ عظيم، وأحد أكبر أغنياء العالم قال لك: عندي ثروةٌ عظيمة، تفهم عظيماً من طفل مئة ليرة، وتفهم عظيماً من هذا الثري بعشرات ألوف الملايين، ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾
ابن آدم! عظ نفسك فإن وعظتها فعظ غيرك، وإلا فاستح منّي. إيَّاك أيها الداعية أن يخالف فعلُك قولَك:
أحد الدعاة نصح شخصاً قال له: "احذر أن يراك المدعو على خلاف ما تدعوه" ، أيّة دعوةٍ إلى أية فكرةٍ لا تنجح إلا إذا كان فيها مصداقية، وإذا فقد الإنسان المصداقية انتهى، سقط في الوحل وتحت الأقدام، قد يكون فصيحاً، وطليق اللسان، ومنطقياً، وأفكاره جيدة جداً، وعرضه رائع، وأدلَّته قوية، أما إذا كشف المدعو أن هذا المنطقي المتكلِّم المتفيقه الذي يُعبِّر عن أدقّ المشاعر والأفكار ليس في مستوى دعوته، لم يجد المصداقية في دعوته، سقط هذا المتكلم في الوحل، فكل إنسان يَدَّعي الحق، لكن المحك هو العمل، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)﴾ فالإنسان يحاسب نفسه، بل إن المؤمن قريب من الله عزَّ وجل، قد يشعر أحياناً إذا فعل شيئاً نهى عنه في حديث له، كأن الله عزَّ وجل يعاتبه يقول: يا عبدي، أنت كذلك؟! أنت الذي قلت للناس: افعلوا كذا وكذا، أنت كذلك؟! ألا تستحي منّي؟ لذلك يرى أهل النار يوم القيامة في النار إنساناً له شهرةٌ واسعة في حقل العلم، وقد بُقِرَ بطنه، وخرجت أمعاؤه وأقتابه، عن عثمان بن عفان قال سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ. ))
أخطر شيء في الدعوة إلى الله أن تنقلب إلى حرفة مثل أية حرفة أخرى، هناك أساليب ومعلومات وأفكار، والإنسان يستقبل الناس، ويُقنِعهم، أما هو فبعيدٌ بعداً شديداً عما يدعو إليه، من هنا كان هذا الدعاء: "اللهمَّ إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علَّمتني منّي، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أتزيّن للناس بشيءٍ يشينني عندك، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سِواك، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أكون عبرةً لأحدٍ من خلقك" .
لا أكون عبرة، لا أتزيّن للناس بشيء يشينني عندك، لا أتكلَّم كلاماً فيه رضاك أما ألتمس به أحداً سِواك.
التعاون والتكاتف أساس إصلاح هذه الأمة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)﴾
نستنبط من هذه الآية أن الله يحبُّنا أن نكون متعاونين، متكاتفين، أن نكون صفًّا واحداً، ألا نكون متفرِّقين، متناحرين، متباغضين، متحاسدين، مختلفين، والشيء الذي يعصر القلب هو أن أعداءنا على خمسة بالمئة من القواسم المشتركة يتعاونون، ونحن المسلمين على خمسة وتسعين بالمئة من القواسم المشتركة ولا نتعاون، وهذا أكبر ما يؤلم المسلمين، كتابنا واحد، نبيّنا واحد، سنَّتنا واحدة، معتقداتنا واحدة، آلامنا واحدة، آمالنا واحدة، لغتنا واحدة، أهدافنا واحدة، لا نتعاون كما ينبغي، والأعداء الأَلِدَّاء على خمسة بالمئة من نقاط الاشتراك يتعاونون، الأمر الإلهي:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾
والآن لا يصلح أمر هذه الأمَّة إلا بالتعاون، والتضامن، والتكاتف، والتآزُر، رحم الله الإمام الشافعي يقول: "نتعاون فيما اتفقنا ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا" .
سمعت تعليقاً من أخ كريم على هذه المقولة، قال لي: أنا أقترح-طبعاً ليست منه، ولكن قرأها لعالمٍ جليل- أن نقول: نتعاون فيما اتفقنا، وينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا، ونتناصح أيضاً، نتعاون، ونتناصح بالحكمة والموعظة الحسنة، هذه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ .
يحبُّنا الله أن نكون متعاونين غير مختلفين، متعاونين بكل مشاعرنا وقلوبنا، لذلك قال النبي الكريم:
(( عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يدُ اللَّهِ مع الجماعَةِ. ومن شذَّ شذَّ إلى النَّارِ. ))
[ الشوكاني في نيل الأوطار، حكم المحدث: ثابت الجملة الأولى صحيحة يد الله على الجماعة، وأما الزيادة فلم نجد لها طرقا يشد من عضدها ويقويها ]
(( وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ. ))
وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
(( وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ. ))
(( عن جُنْدَب بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ. ))
ليس من صلَّى الفجر في وقته، بل في جماعة، في أقرب المساجد إليه، فهو في ذمَّة الله حتى يُمسي، ومن صلَّى العشاء في جماعة فهو في ذمَّة الله حتى يًصبِح.
فما قولكم أن المؤمنين إذا كانوا في قتال، وفي خط المواجهة الأول، في ساعات الالتحام مع العدو، ودخل وقت الظهر، عليهم أن يصلُّوا جماعةً، في القرآن الكريم تفصيل لصلاة الجماعة في أثناء الحرب، فإذا كنا في أثناء الحرب ينبغي أن نُصَلِّي جماعةً، فما القول في أيام السلم والطمأنينة؟ الإنسان الذي لا يصلِّي جماعة، أي ليس له جماعةٌ ينضمُّ إليها، يتعاون معها، يستقي من علمها، يهتدي بفتواها، إنسان ضائع، الإنسان قوي مع أخيه، الأجانب يقولون: واحد زائد واحد يساوي ثلاثة، أحياناً اثنان ينتج عنهما أفكار أكثر من عشرة.
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)﴾
النبي الكريم بيّن لنا سبيل التعاون وحذّرنا من سبل التفرقة:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ لذلك كل ما من شأنه أن يقوِّي هذه العلاقة أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، أمر بإفشاء السلام، أمر بتلبية الدعوة، أمر بعيادة المريض، أمر بالتهنئة إذا أصابه خير، أمر بالتعزية، أمر بتشيّيع الجنازة، أمر بالعطف والإحسان، أمر بإكرام اليتيم، كل ما من شأنه أن يقوي العلاقة بين المؤمنين أمر النبي به، وكل ما من شأنه أن يُبعِد فيما بينهم نهى النبي عنه، نهى عن الغيبة لأنها تُمزِّق المجتمع، نهى عن النميمة، نهى عن السخرية، نهى عن المحاكاة، التقليد، نهى عن اللمز والغمز، كل ما من شأنه أن يُضْعِفَ العلاقة بين المؤمنين نهى النبي عنه.
معنى ذلك لو جمعنا الأحاديث:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ. ))
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. ))
هذه الأحاديث حوالي مئتي حديث تقريباً، كل ما من شأنه أن يقوِّي العلاقة بين المؤمنين أمر النبي به، كل ما من شأنه أن يُضعِف العلاقة.
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾
سيدنا عمر وسيدنا الصدِّيق رضي الله عنهما بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام صار هناك خلاف حول الخلافة، سيدنا الصديق قال لعمر رضي الله عنه: << يا عمر، مُدَّ يدك لأُبايعك-أبو بكر أقوى، وأفضل، وأقدم- فيما أذكر يقول سيدنا عمر: أي أرضٍ تقلِّني، وأيّ سماءٍ تظلّني إذا كنت أميراً على قومٍ فيهم أبو بكر؟! >> هذه فوق طاقتي، لا أحتملها، فقال له الصديق: << أنت أقوى منّي يا عمر؟ فقال له عمر: أنت أفضل مني، عندئذٍ قال عمر: قوّتي إلى فضلك >> .
نتعاون.
الحقيقة أن التعاون حضارة، والتنافس همجية، كلما ارتقى الإنسان على مستوى البيع والشراء يتنافس الباعة فلا يربح الكل، الكل يفلّس، التنافس هَمَجِيَّة، أما التعاون فحضارة.
أيها الإخوة؛ حينما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)﴾
ماذا نستفيد من كلمة (جميعاً)؟ أي حينما يتوب المؤمنون جميعاً نقطف ثمار الإيمان جماعةً، إذا كنت تعيش بين إخوة مؤمنين يمكن أن تتعامل معهم كلهم براحة من دون خوف، وإذا لم يكن هناك إيمان واستقامة صار كل تعامل مع واحد منهم معركة، تخاف أن يقنصك، تخاف أن يغدر بك، كل شيء فيه لغْم، كل شيء قد ينفجر أمامك، حياة الإنسان مع أناس بعيدين عن الله عزَّ وجل حياة مخيفة جداً، أما أنت بين إخوانك المؤمنين لا يكذِبون، فلا تجد كذباً ولا غدراً ولا خيانة ولا إيذاء، والمسلم أخو المسلم لا يخذله، ولا يسلمه، ولا يحقره، ولا يؤذيه، ولا يكذِبه، مالك حرامٌ عليه، عرضك حرامٌ عليه، دمك حرامٌ عليه.
أنت تعيش بين مؤمنين طيّبين، عندما يكون الإنسان مع جماعة مؤمنة يرتاح، حتى لو تعاملوا فيما بينهم مادّياً أحدهم لا يأخذ إلا حقَّه، أما أهل الدنيا فيأخذون ما لهم، وما ليس لهم، الجماعة رحمة، كذلك أخوك المؤمن ينصحك وتنصحه، يأخذ بيدك وتأخذ بيده، يعطيك وتعطيه، إذا كان الجار العادي فقد قيل: أتدرون ما حقُّ الجار؟ إذا استعان بك أعنته، وإذا استنصرك نصرته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا أصابه خيرٌ هَنَّأته، وإذا أصابته مصيبةٌ عَزَّيته، وإذا مرضَ عدته، وإذا مات شيّعته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهةً فأهدِ له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذِه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها.
هذا الجار العادي، أي حياة المؤمنين في سعادة كبيرة جداً، يوجد تعاون، يوجد صدق، يوجد حبّ، أحياناً الإنسان يجلس مع إخوانه عشر ساعات لا يمل، توجد مليون نقطة مشتركة، أفكار مشتركة، مبادئ مشتركة، قِيَم مشتركة، أهداف مشتركة، أخلاق مشتركة، طُموحات مشتركة، آداب مشتركة، فلذلك قال النبي:
(( عن النعمان بن بشير: الجماعةُ رَحمةٌ والفُرقةُ عذابٌ. ))
هذه علامة، أما هناك مجتمعات أخرى تعينك على المعصية، تشدُّك إلى الدنيا.
حاجة كل إنسان إلى بيئة مؤمنة:
نختم الدرس بقول النبي عليه الصلاة والسلام، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( عن أبي سعيد الخدري: لا تُصاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا ، ولا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ. ))
انضم للمؤمنين تَسْعَد بهم، وكن مع المؤمنين لأن الله عزَّ وجل أمرك بأمر قطعي الدلالة قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
أي من أجل أن تستطيعوا أن تتقوا الله كونوا مع الصادقين، أنت بحاجة إلى بيئة مؤمنة، لأنه مهما تكن الأفكار دقيقة وعالية فإن البيئة لها أثر خطير جداً، فأنت يجب أن تكون لك بيئة طيّبة، بيئة طاهرة، بيئة مؤمنة، بيئة راقية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ .
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾
المؤمنون إذا ذهبوا في نُزهة فهي جنَّة، يذكرون الله عزَّ وجل، يتعاونون، لو جلسوا في جلسة حَفَّتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده.
المؤمن إذا سهر مع إخوانه يسعد بهم، سافر معهم يسعد بهم، شاركهم يسعد بهم، فلذلك: ((الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)) ، ((لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ)) ، هذا كلُّه مستنبط من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ .
عندما كان النبي الكريم في غزوة من الغزوات سأل عن أحد الصحابة، فغمز أحدهم أنه سرَّه النظر إلى عِطفيه، وسرُّه بستانه، فهو في ظلٍّ ظليل، أي آثر مصالحه الدنيوية على أن يغزو معك، النبي سكت، فجاء رجل قال: "والله يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيراً، والله يا رسول الله لقد تخلَّف عنك أناسٌ لو علموا أنك تلقى عدّواً ما تخلَّفوا عنك، وما نحن بأشد حباً لك منهم" ، فتبسَّم النبي، سُرّ من هذا الموقف.
أنت دافع عن أخيك، لا تكن عوناً للشيطان عليه، كن عوناً له على الشيطان، إذا أخطأ أخوك فاستره، دافع عنه، قيل: التمس لأخيك عذراً ولو سبعين مرَّة.
يروى عن قاضٍ من كِبار القضاة دخلت عليه امرأةٌ، يبدو أنه ظهر منها صوت بَشِع، فتألَّمت ألماً شديداً، وقالت لأختها: سمعنا، عندما وصلت إليه قال لها: ما اسمك يا أختي؟ قالت له اسمها، فقال لها: لم أسمع، ارفعي صوتك، فرفعت، فقال لها: لم أسمع لأنني ضعيف السمع، فقالت لها: انظري معنى هذا أنه لم يسمعنا.
المؤمن دائماً يبحث عن الكمال:
الإنسان كلَّما ارتقى لا يكون قنَّاصاً، عيّاباً، همَّازاً، لَمَّازاً، يبحث عن العيوب، المؤمن يبحث عن الكمال، فكل واحد فيه كمال وفيه نقص، المؤمن الراقي يبحث عن النواحي الإيجابية، لذلك النبي لم يواجه أحد بما يكره، كان يقول على المنبر:
(( عن أنس بن مالك: ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكني أُصَلِّي وأنامُ، وأصومُ وأُفْطِرُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمن رغِبَ عنْ سُنَّتِي فليسَ مِنِّي. ))
[ صحيح الجامع: حكم المحدث: صحيح ]
يكون قد فعلها شخص واحد فقال: أقوام، ولم يسمّ أسماء، مرَّة كان أصحابه مدعوّين وهو معهم فظهرت رائحة، أذَّن العصر، فقاموا إلى الصلاة، هم جميعاً صلَّوا الظهر، والآن أذَّن العصر، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن لحوم الإبل فقال: توضؤوا منها، وسئل عن لحوم الغنم فقال: لا توضؤوا منها. ))
[ صحيح :رواه أحمد ، أبو داود وابن ماجه ]
الأكل كان لحم جزور، فقالوا: كلَّنا أكلنا، فقال: كلكم فليتوضَّأ، من أجل أن يضيع هذا الذي انتقض وضوءه، لا تحمِّروا الوجوه، هذا معنى: ﴿اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ الآن تجد الخلافات على مستوى أسرة واحدة، الإخوة متحاربون، الأصهار متحاربون، العدلاء متحاربون، أولاد العم متحاربون، الشركاء متحاربون، ما هذه الحياة؟ كلها الشيطان داخل فيها، أما المؤمنون فهم متعاونون، متآزرون، متكاتفون، متضامنون، متناصحون، ورد: المؤمنون بعضهم لبعضٍ نصحة متوادُّون ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقون بعضهم لبعضٍ غششة متحاسدون ولو اقتربت منازلهم.
﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ﴾ في آية واحدة أو في آيتين الله عزَّ وجل أعلمنا من يكره ومن يحبّ، يكره الذي يقول ما لا يفعل، ويحب المتعاون مع إخوانه المؤمنين، الذي يلتمس لهم العذر، قيل: التمس لأخيك عذراً ولو سبعين مرَّة.
إن شاء الله في درسٍ قادم نتابع الآيات:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾
الملف مدقق