الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
كلّ ما على الأرض مِن آياتٍ مسخَّرةٌ للإنسان :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السابع والأخير من سورة الحَج .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ .. الآيات المصدَّرة بكلمة " ألم تَرَ " تعني أن هذه الآية تحت سمع الإنسان وبصره ، في متناوله ، أي ما في الأرض مِن طاقات ، ومن قِوى ، ومن مواد كلها مسخَّرةٌ للإنسان ، لِمَن الحديد ؟ مَن الذي يستفيد منه على وجه الحصر ؟ الإنسان ، النحاس ، الرصاص ، أنواع المعادن ، وأشباه المعادن ، وجميع أنواع الفلزات ، والطاقات الكامنة في باطن الأرض كلُها لمَن ؟ كلُّها مسخَّرةٌ للإنسان ، ما على وجه الأرض من حيوانات كلها مسخرةٌ للإنسان ، بعضها مذلَّل ، وبعضها غير مذلَّل ، والذي هو غير مذلَّل في النهاية مذلَّل ، فربنا سبحانه وتعالى يُلْفِتُ نظرنا إلى أن كل ما على وجه الأرض مِن آياتٍ ، من قِوى ، من مواد ، من معادن ، من أشباه معادن ، من مظاهر طبيعيَّة ، من طاقات إنما هي مسخَّرةٌ للإنسان ، ودائماً الشيء المُسَخَّرُ له أكرم من المُسَخَّر .
أنت المخلوق الأول ؛ الأرض كلُّها مسخَّرةٌ لك ، تحتاج إلى ثيابٍ ترتديها في الصيف جعل الله لك القطن ، تحتاج إلى ثيابٍ ترتديها في الشتاء جعل الله لك الصوف ، تحتاج إلى معدن قاسٍ تستعين به في حرفتك جعل لك الحديد ، تحتاج إلى معدن خفيف جعل لك معدناً خفيفاً ، تحتاج إلى معدن لا يصدأ يكون قيمةً للسلع جعل لك الذهب والفضَّة ، تحتاج إلى معدن سريع النقل جعل لك النحاس ، أيْ أنواع المعادن وخواص المعادن الفيزيائيَّة والكيميائيَّة هذه كلّها مسخَّرةٌ للإنسان ، أشباه المعادن مسخَّرةٌ للإنسان ، أنواع الصخور ، أنواع الرمال ، أنت بحاجة إلى بلور يُدخل لك النور ، ويقيك من البرد ، فكان البلور ، والبلور أساسه الرمل ، والرمل خُلِقَ خصيصاً لتصنعه على هذا الشكل ، إذاً ربنا سبحانه وتعالى يُخاطب الإنسان الغافل ، الإنسان المُقَصِّر : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ﴾ أن الله خالق الكون ﴿ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ .
إعطاء الله عز وجل الإنسان القدرة الفكريَّة لتسخير الأشياء :
شيءٌ آخر ؛ لو أن الأرض فيها معادن ، وفيها أشباه معادن ، وفيها غازات ، وفيها مواد صلبة ، ومواد سائلة ، وفيها تلال ، وفيها جبال ، وفيها وديان ، وفيها بحار ، وفيها نباتات ، وفيها حيوانات ، ولَم يُعْطِ الإنسان القدرة الفكريَّة على تسخير هذه المخلوقات ، ما قيمتها ؟
هناك أشياء ثلاث : هناك أرضٌ كل ما عليها ، وكل ما فيها مسخَّرٌ لك ، وهناك مخلوقٌ أوَّل أودع الله فيه عقلاً يستخدمه لتسخير ما على الأرض ، مَنْ جعل مِن هذه المواد مَرْكَبَةً ؟ مَن جعل مِن هذه المزروعات غذاءً ؟ مَن جعل مِن هذه المواد الأوليَّة بيتاً ؟ مَن جعل مِن الصوف كساءً ومِن القطن ثياباً ؟ الإنسان أُعْطي إمكانات لاستخدام ما على الأرض ، فلذلك التسخير يعني أن الله سبحانه وتعالى خلق أشياء ذات نفع عَميم سخَّرها لك ، وأعطاك إمكانات تستغلُّ بها هذه الأشياء .
توافق نواميس الأرض مع نواميس الإنسان :
يوجد شيءٌ آخر ؛ نواميس الأرض متوافقةٌ مع نواميس الإنسان ، أي الأرض دورتها حول نفسها في اثنتي عشرة ساعة تقريباً في الاعتدالين ، وأنت إذا قمت بعمل تستنفذُ قِواك في ثماني ساعات ، لو أن النهار يدوم خمسين ساعة ، وأنت تُستنفذُ قُواك في ثماني ساعات لاضطربت الحياة على وجه الأرض ، لو كان الليل ساعة واحدة دورة الأرض حول نفسها تتوافق مع ما أُودِعَ فيك من قدرات ، طول الليل والنهار ، حجم الأرض ، مقدار الجاذبيَّة التي على وجه الأرض ، هذا كلُّه متوافقٌ مع الإنسان ، هواء الأرض متوافقٌ مع رئتيك ، تركيب الهواء ، نِسَب الهواء متوافقٌ مع طبيعتك .
إذاً الأشياء التي أودعها الله في الأرض ؛ أنواع الصخور ، أنواع الجبال ، أنواع التلال ، أنواع الوديان ، البحيرات الحلوة والمالحة ، والأنهار ، أنواع الأسماك ، أنواع الأطيار ، أنواع الحيوانات ، أنواع النباتات ، بالمئات ، ثلاثمئة نوع عنب ، أربعمئة نوع تفَّاح ، ثلاثة آلاف وخمسمئة نوع قمح ، الله عزَّ وجل خلق كل نوع من هذه الأنواع ، بعضه ينمو في الصيف ، بعضه في الشتاء ، بعضه فيه قساوة ، بعضه فيه لين ، هذا للصناعة ، هذا للخبز ، أنواع منوَّعة ، ليس في الأرض فاكهة ولا إنتاج نباتي إلا وله أنواع منوَّعة تختلف بحسب الاستعمال السريع ، أو الاستعمال البطيء ، أو التخزين ، أو التموين ، أو الاستهلاك ، هذا كلُّه من فضل الله عزَّ وجل .
فأولاً : الأشياء مُسَخَّرة ، والإنسان أودع الله فيه إمكانات استخدام هذه الأشياء ، الإنسان استخرج المعادن ، استخرج البترول ، أخذ الفلزات ، وضعها في فرن عالٍ ، صهرها جعلها حديداً ، والحديد جعله أنواعاً ، والنحاس كذلك ، والرصاص كذلك ، وأنواع المعادن المُشِعَّة أيضاً ، الإنسان استخدم .
هناك شيءٌ آخر ؛ أن نواميس الأرض ، حجم الأرض ، دورة الأرض حول نفسها ، حول الشمس ، جوُّ الأرض ، حرارة الأرض متناسبة مع طبيعة الإنسان ، ومع جسده ، ومع رئتيه ، ومع قلبه ، ومع جسده ، إذاً هذه الآية : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ .
تسخير الكون للإنسان :
هذا الذي نجلس عليه مسخَّر ، هذه الأنعام التي خلقها الله لنا مسخَّرة ، وهذه الثياب التي نرتديها مسخرة ، وهذا الذي نضعه في أيدينا مسخَّر ، الساعات مسخَّرة ، مصنوعة من موادَّ ، استغلَّها الإنسان ، وصَنَّعها كما يريد ، وأي شيء تستخدمه ؛ شيء صلب ، ليِّن ، مائع ، لزج ، سائل ، غازي ، كلُّه مسخَّر ، المواد ، الحاجات ، النباتات ، الحيوانات ، الله عزَّ وجل يلفت نظر الإنسان إلى أن كل ما على الأرض مسخَّرٌ للإنسان ، ألا يستحي الإنسان ؟
أيا غافلاً تبدي الإساءة و الجـهلا متى تشكر المولى على كل ما أولى ؟
عليك أياديه الكرام وأنت لا تـــــراها كـــــــأن العـيـــــنَ عمــيـــــــــــاء أو حــــــــولا
لأنت كمزكومٍ حوى المسك جيبــــه ولـكنَّه المـحـــــــروم مــــــــا شمَّه أصــــــلا
* * *
إلى متـــــــــــى أنت باللذَّات مشغولٌ وأنت عــــــــــــن كل ما قدَّمت مسؤولُ ؟
* * *
أي إذا إنسان قدَّم لك شيئاً ثميناً تصبح أسيراً له طوال حياتك ، عطاءٌ محدودٌ من إنسان يجعلك أسيراً له ، وكل هذا الكون ، وكل ما في الأرض ، وكل ما على الأرض مسخَّرٌ لك أيُّها الإنسان ومع ذلك ألا تشكره ؟ ألا تنصاع لأمره ؟ ألا تستحي منه ؟! كما قيل : ابن آدم كبرت سنك ، وضعف بصرك ، وشاب شعرك ، وانحنى ظهرك ، فاستحيِ مني فأنا أستحيي منك.
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) ﴾
[ سورة الحديد ]
من لوازم رؤية آيات الله الخضوع التام :
الإنسان حينما يرى هذه الآيات الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل يجب أن ينصاع لله طائعاً ، وراكعاً ، وساجداً ، لو أن الإنسان ألزم نفسه هذا الأسبوع أيِ شيءٍ يستعمله أن يرى أن الله سخَّره له بالدليل العلمي أي شيء تستخدمه ، إذا ركبت مركبةً مَن الذي خلق هذا الوقود السائل ؟ من أودع فيه قوَّة الانفجار ؟ مركبة وزنها طن هل بإمكان خمسة رجال أن يدفعوها في صعود ، في طريق صاعدة ؟ ما هذا الوقود السائل الذي ينفجر فيحرِّكها ؟ مَن سخَّره لنا ؟ ضع مكان البترول ماء هل تسير السيارة ؟ هذا الغاز الذي تستخدمه في البيت مَن أودع فيه قوة الاشتعال ؟ الله سبحانه وتعالى ، هذا الهواء الذي تستنشقه مَن جعل نسبه دقيقة جداً ؟ آزوت ، وأكسجين ، وغازات نادرة ، مَن ؟ هذا الماء الذي تشربه مَن جعله لا لون له ، ولا طعم له ، ولا رائحة ؟ نفوذٌ ، يذيب كل شيء ، يتبخَّر بدرجة منخفضة ، من أعطاه هذه الخصائص ؟ ما من سائلٍ ، ولا غازٍ ، ولا شيءٍ صلبٍ إلا وله صفات فيزيائيَّة وكيميائيَّة ، من جعلها بهذا الشكل لتوافق حاجاتك ؟
مرَّة وجدت على سور حديقة حديداً مثبَّتاً بالحجر ، طبعاً كيف يُثَبَّت الحديد بالحجر حيث يصبح الحديد والحجر قطعةً واحدة ؟ لابدَّ من الرصاص ، يُحْفَر الحجر حفرة كرويَّة يُوضَع إسفين الحديد فيها ، يُسْكَبُ الرصاص .. مَن جعل الرصاص يذوب بدرجة مئة ؟ على موقد غازي عادي ، ما من حاجة إلى فرن عال ، العامل عاملُ الحديقة يذيب الرصاص بحوجلة صغيرة فوق مصباح ، أو فوق موقد غاز ، أو موقد آخر ، يُذاب هذا الرصاص ، يُصبُّ هذا الرصاص في هذه الحفرة ، من أعطى الرصاص خاصيَّة التمدُّد بعد التجمُّد ؟ الله سبحانه وتعالى ، بعد أن يصبح الرصاص بارداً وصُلباً يصبح الحديد والحجر قطعةً واحدة .
وهل تصدِّقون أن الحشوات التي توضع في أسنانكم عند طبيب الأسنان أساسها الرصاص ؟ لأنها حينما تَجْمُد تتمدَّد فتأخذ مكاناً يصعب اقتلاعها ، من جعل الرصاص بهذه الخاصَّة ؟ الله سبحانه وتعالى جعل انصهاره سهلاً ، وتجمُّده سهلاً ، وبرودته سهلة ، وتمدُّده سهلاً ، مَن جعل الماء في درجة زائد أربع يتمدَّد ولولا هذه الخاصَّة لهلك كل من على الأرض ؟ الله سبحانه وتعالى ، فلذلك هذه الآية واسعة جداً : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ﴾ لكم ، أيْ سخَّر ما في الأرض خصيصاً لكم ، وإكراماً لكم .
الأرضُ وما فيها خُلِقت لحكمة وليس عبثًا :
هناك فكرة دقيقة جداً ، الفكرة مؤدَّاها أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذه الأشياء عبثاً ونحن واستفدنا منها ، لا ، هذه الأشياء خُلِقَت مصمَّمةً خصيصاً للإنسان ، متوافقة مع حاجاته .
هذه البقرة ؛ مَن أودع فيها هذه الخاصَّة وهي إعطاء الحليب ؟ لو أن البقرة تفرز الحليب لوليدها ، وليدها يحتاج لاثنين كيلو فقط ، إنها تعطي أربعين كيلو في اليوم لماذا ؟ ومَن يُصَدِّق أن كل كيلو حليب محصلة دوران أربعمئة كيلو من الدم في الخلايا الثديية للبقرة ، أي كل كيلو حليب يقابله أربعمئة كيلو من الدم تذوب في الشعريَّات حول الغدد الثديية في البقرة ، هذه البقرة معمل متنقِّل ، معمل صامت لا يحتاج إلى ضجيج ، البقرة مسخَّرة ، والغنمة مسخَّرة ، والدجاجة مسخرة ، تأكل من خشاش الأرض ، تعطيك بيضة كلها غذاء ، فيها ستة عشر فيتاميناً ، خمسة عشر شبه معدنٍ ومعدن ، أي البيضة شيء دقيق جداً ، آخر بحث للبيضة أن غلاف البيضة الكلسي فيه حوالي عشرة آلاف ثُقب من أجل التنفُّس ، هذا الرشيم حينما يبدأ بالنمو يحتاج إلى أُكسجين ، والغشاء الذي تحت الغلاف الكلسي فيه ثقوب تقابل ثقوب الغلاف الخارجي ، وكل ثقب بالغلاف الداخلي الدقيق الرقيق موصول بأنبوب إلى الرشيم ، أيْ عشرة آلاف أنبوب موصولة بفتحات في الغشاء الرقيق ، ويقابل هذا الغشاء الرقيق عشرة آلاف فتحة بالغشاء الخارجي .. الكلسي .. مِن أجل تنفُّس الرشيم حينما تُحْضَن البيضة ، ما هذا ؟ هذه بعض نتائج البحوث الحديثة في البيضة ، كله مسخَّرٌ لنا ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ ﴾ انظر إلى اللَّحم الذي تأكله ؛ لحم الدجاج ، لحم السمك ، لحم الغنم ، لحم الماعز ، لحم البقر ، لحم الجمل ، الجمل للصحراء ، والبقر للحليب ، والغنم للحم والجلد والصوف ، والدجاج للحم والبيض ، والمزروعات ، وأنواع الخضراوات ، والفواكه ، والثمار ، والمحاصيل .. إلخ ..
طريقة جريان الفلك في البحر بأمرِ الله :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ﴾ .. من أعطى الماء قوَّة التماسك ؟ الماء فيه قوَّة تماسك ، هذه القوَّة تجعل الأجسام التي عليه تطفو إذا أزاحت ماءً أقلَّ من حجمها حسب قانون أرخميدس ، فهذا الماء الذي أودع الله فيه قوة التماسك ، فيه قوة دفع نحو الأعلى ، لولا هذه القوة لما استُخدم البحرُ لنقل الركَّاب والبضائع ، املأ وعاءً من الماء واغمسه في بركة ماء ، تحس أن أربعة أخماس وزنه تلاشى ، أين ذهب هذا الوزن ؟ هناك قوَّةٌ دافعةٌ نحو الأعلى ، هذه التي أشار الله إليها : ﴿ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ لولا قوَّة الدفع نحو الأعلى ، لولا تماسك ذرَّات الماء ، لما أمكن للسفن أن تمخر عُباب المحيط ، طبعاً البحر له فوائد كثيرة جداً ، لو كان البحر بحجم أقل لانعدمت الحياة من على سطح الأرض ، لكن هذا الحجم المدروس بحيث إن التبخُّر يساوي حجماً من السحب كافياً لهطول الأمطار ، وإنبات المزروعات ، لذلك البحر حجمه فيه حكمة بالغة ، وحجم البر له حكمة بالغة ..
الصحارى و تصريف الرياح من آيات الله الدالَّة على عظمته :
الصحارى كما قلنا اليوم : هذه الكتل الهوائيَّة المتمركزة فوق الصحارى تكتسب من حرارتها ، وتلك الكتل المتمركزة فوق القطب تأخذ من حرارة القطب ، ومِن تمركُز كتل هوائيَّة باردة الهواء البارد ينكمش ، وتكثر كثافته ، ويزداد وزنه فيتجه نحو الأسفل ، والهواء الساخن تقلُّ كثافته ، ويخفُّ وزنه ، ويتمدَّد ويتجه نحو الأعلى ، وجود منطقتين منطقة ضغط خفيف وضغط مرتفع ، تنشأ تيَّارات هوائيَّة ،
هذه التيارات تبدل جو الأرض ، تنقي الجو ، البارحة مساءً بعض هذه النسمات العليلة بدَّلت جوَّ دمشق الذي سيطر عليها منذ خمسة أيَّام ، فتصريف الرياح من آيات الله الدالَّة على عظمته ، أيضاً هذا مسخرٌ للإنسان ، الرياح ، والأمطار ، والسحب ، والثلوج ، والبَرَدْ ، وما شاكل ذلك .
كلّ نظام الكون بإذن الله :
﴿ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ﴾ .. كما قلنا في دروس سابقة : ربنا عزَّ وجل جعل فوق الأرض كتلة هوائية يزيد سُمْكُها عن خمسة وستين ألف كيلو متر ، وهذه الكتلة الهوائية عبارة عن طبقات ، بعض هذه الطبقات تزيد حرارتها عن ألف وخمسمئة درجة ، بحيث أن كل جسمٍ ساقطٍ على الأرض يصبح شهاباً ، ويتشهَّب بهذه الطبقة ، وكأن اللهُ سبحانه وتعالى جعل السماء سقفاً محفوظاً كما ذكر في آيات أخرى ، لذلك كل جسم ساقط بحكم الجاذبية لابدَّ من أن يتشهَّب في هذه المنطقة ، الحرارة ألف وخمسمئة درجة ، لذلك منظر الشهب حينما تسقط هذه أحجار كبيرة ، نيازك ، كويكبات تسقط باتجاه الأرض ، تمرُّ بهذه المنطقة فتصبح رماداً لا يرى إلا بالمجهر ، فالله سبحانه وتعالى بهذه الطريقة ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ﴾ لولا هذه الطبقة الحارَّة لرُجِمَت الأرض بالكويكبات والأحجار والنيازك وما شاكل ذلك ، لكن الله أحياناً يسمح لنيزك كبير جداً أن يصل إلى الأرض لنعرف نعمة الله عزَّ وجل في حجز هذه الكويكبات ، وهذه الأحجار المُمتلئة بالفضاءَ الخارجي ، بفضل هذه الطبقة التي تتشهَّب فيها كل الأجسام ، وطبقة الأوزون تمنع الأشعَّة القاتلة أيضاً هذا من حفظ الله عزَّ وجل للأرض ..﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ .. إلا أن يأذن الله لبعض النيازك فتصل إلى الأرض .
الله تعالى رؤوف ورحيم بعباده :
﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ .. رؤوف بهم ، جعل هذه الأرض فيها آياتٍ دالَّةً على عظمته كي نعرفه ، فإذا عرفناه عبدناه ، وإذا عبدناه سعدنا بقربه ، سعدنا في الدنيا والآخرة .
شيءٌ آخر ؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ جعل كل حاجاتنا في الأرض ؛ تحتاج إلى مواد صلبة ، إلى معادن ، إلى أشباه معادن ، إلى أملاح ، إلى مواد مشعَّة ، إلى مواد تمتص ، إلى مواد مُخَمِّدة للصوت ، كله في الأرض موجود ، كم نحن بحاجة إلى المطَّاط ؟ هل يمكن مثلاً أن تصل بين جسمٍ قاسٍ مع جسم قاس آخر من دون اضطراب إلا بالمَطَّاط ؟ هذا من خلق الله عزَّ وجل ، فكل شيء أنت بحاجة إليه مثلاً هناك رخام يمتصُّ الحرارة ولا يشعُّها ، ثمنه باهظ جداً ، الحجَّاج في أمسَّ الحاجة إليه ، مقتلع من اليابان ، تطوف حول البيت ودرجة الحرارة خمس وستون درجة فتجد الرخام بارداً ، مَن خلق فيه هذه الخاصَّة ؟ نادر جداً ، هذا مسخَّر لهذا المكان بالذَّات .. ربنا عزَّ وجل جعل كل حاجاتك مؤمَّنة على وجه الأرض ، حتى عندما احتاج الإنسان للتصوير مثلاً ، من خلق المواد التي لها حساسية بالغة بالضوء ؟ أليست هي من خلق الله عزَّ وجل ؟ ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ .
إحياء الإنسان آية من آيات الله الدالة على عظمته :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ﴾ .. كنتم أمواتاً فأحياكم ، أي كنتم في حالة العدم ، الإنسان قبل أن يولد :
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) ﴾
[ سورة الإنسان ]
كنتم أمواتاً ، أيْ في طور العدم فأحياكم ، حُوَين منوي لقَّح بويضة ، وانقسمت البويضة عشرة آلاف قسم وهي في طريقها إلى الرحم ، ثم تعلَّقت في الرحم فكانت علقةً فمضغةً ، نمت العظام ، كساها الله لحماً ، فأصبح كائناً له أجهزة ، وله أعضاء ، وله جلد ، وله شعر ، ودماغ ، وأعصاب ، وقلب ، ورئتان ، وعضلات ، وعظام ، أليس الابن المولود من آيات الله الدالَّة على عظمته ؟ ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ﴾ .. الله عزَّ وجل خلق له في جسمه رئتين ، وهو في رحم أمِّه ليس بحاجةٍ إليهما ، معنى ذلك أن هناك تخطيطاً ، الطفل في بطن أمه لا يتنفَّس ومع ذلك خُلِقَت له رئتان ، وقلب الطفل ؛ ما دام الطفل لا يتنفُّس فمعنى هذا أن طريق الدم من الأذين إلى الرئة إلى الأذين معطَّل ، إذاً ربنا عزَّ وجل خلق ثقباً بين الأذينين هذا ثقب بوتال ، لأن العالم الذي اكتشفه اسمه بوتال .. لكن حينما يولد الجنين ، ويخرج إلى الدنيا يتنفَّس ، فإذا بقي هذا الثقب مفتوحاً يصاب بمرض اسمه داء الزرَق ، تأتي جلطة - هكذا قال الأطبَّاء - فتغلق هذا الثقب ، يدُ مَن كانت داخل قلب الطفل الصغير ؟ لولا أن يُغْلَقَ هذا الثقب لما عاش إنسان ، لكن ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة من حينٍ لآخر كل خمسين ألف ولادة ، كل مئة ألف ، مليون ولادة يجعل طفلاً صغيراً ثقبه مفتوحٌ لحكمةٍ بالغة ، وليس على حساب الطفل ، يكونُ أجله قصيراً ، لكن هذا درس لنا ، عندما يولد الطفل يدُ من دخلت إلى قلب هذا الطفل ، وأغلقت هذا الثقب المفتوح مؤقَّتاً بين الأذينين ؟ ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ﴾ مَن جعل القلب ينبض بالجنين ؟ مَن أعطى الطفل الحياة ؟ الله سبحانه وتعالى .
الموت قانون وآية من آيات الله :
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ .. الموت آية من آيات الله الدالَّة على عظمته ، حتى الآن تعريف الموت صعب جداً ، هل الموت توقُّف القلب ؟ لا يكفي ، الآن يضعون للمريض قلباً صناعياً ، والدم يُضَخُّ في جسم الإنسان وهو ميِّت ، ليس معنى الموت توقُّف القلب ، بعضهم يقول : توقُّف جذع الدماغ عن النشاط ، لا يزال تعريف الموت موضوعاً حَيَّر العلماء ، فحياة الإنسان في بطن أمِّه آية ، وموته آية ..﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ ، بعد الموت .
كفر الإنسان وجحودُه مع أن كل شيء بيد الله :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾ .. حياته بيدِ الله ، وموته بيد الله ، وبعثه بيد الله ، ومع ذلك ينسى الإنسان اللهَ سبحانه وتعالى ، قال : " يا رب كيف أشكرك ؟ " .." قال الله عزَّ وجل : تذكرني ولا تنساني ، إنَّك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني " .
تيسير الله طريق الهداية لكل الناس :
﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ﴾ .. أيْ ربنا سبحانه وتعالى جعل لكل أمَّةٍ طريقاً يصل إليه ، الصلاة طريقٌ إليه ، الصوم طريقٌ إليه ، الحَج طريقٌ إليه ، أوامر الله عزَّ وجل في مُجْمَلِها طريقٌ إليه ، سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام في مجملها طريقٌ إليه ، هذا المنسك أيْ عبادة ، ربنا عزَّ وجل مِن أجل أن يسعد العباد رسم لهم طريقاً إليه .. عن أبي هريرة رضي الله عنه :
(( أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ ؟ قَالُوا : لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ ، قَالَ : فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا . ))
[ صحيح مسلم ]
فربنا عزَّ وجل جعل الصلاة طهوراً تطهِّر الإنسان من أدرانه ، وجعل الصلاة نوراً تريه الحقَّ حقاً والباطل باطلاً ، وجعل الصلاة حُبوراً تسعده ، تطهِّره وتنير قلبه وتسعده ، هذه حِكَمُ الصلاة ، وهي مناجاةٌ ، وهي ذكرٌ ، وهي خشوعٌ ، وهي دعاءٌ ، فالصلاة منسك ، والصوم ترك طعامه وشرابه من أجل الله منسك ، والحج تَرَكَ أهله وبلاده ومكانته ومَن حوله وجاء إلى الله راغباً فيما عنده ، فالحج منسك من مناسك الله عزَّ وجل ، فربنا عزَّ وجل رحمةً بالإنسان جعل لكل أمةٍ منسكاً هم ناسكوه .
عدم التفات الأنبياء إلى من يعترض عليهم لأنهم على صراط مستقيم :
﴿ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْر ِ﴾ .. أيْ يا محمد هؤلاء الذين يعترضون عليك لا تلتفت إليهم ، لا تتنازع معهم ، الله سبحانه وتعالى أنهى مَنْ حول النبي مِن المشركين أن ينازعوه ، بمعنى أن النبي ينبغي أن يُعْرِض عنهم ، وألا يلتفت إليهم ، وأن يصبر على اعتراضاتهم ليتلافى منازعاتهم ، وتعكير صفوه مِن أجلهم ..﴿ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ أي دعهم وشأنهم ، وادعُ إلى ربك ..﴿ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ﴾ إنك على الحق المبين .
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾
[ سورة المائدة ]
من رحمة الله بالإنسان أنه جعل له العبادات كي يطهر ويرقى :
﴿ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ﴾ أي هذا الهدى يصل بك إلى الله عزَّ وجل أنت ومن تبعك ..
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾
[ سورة يوسف ]
مِنْ رحمة الله بالإنسان أن الله سبحانه وتعالى جعل له هذه العبادات ، بها يرقى ، بها يطهُر ، بها يرى ، بها يتَّصل ، بها يسعد ، أي هذه العبادات مؤدَّاها للإنسان لأنَّ الله سبحانه وتعالى غنيٌ عنَّا ..
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أنَّهُ قالَ : يا عِبَادِي ، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي ، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فلا تَظَالَمُوا ، يا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يا عِبَادِي ، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يا عِبَادِي ، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يا عِبَادِي ، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا ، يا عِبَادِي ، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا ، يا عِبَادِي ، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ ، يا عِبَادِي ، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا ، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ . وفي روايةٍ : إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي ، فلا تَظَالَمُوا . ))
[ صحيح مسلم ]
ذلك بأن عطائي كلام وأخذي كلام ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه . أي هذه الآية تعني أن الصلاة لنا ..
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) ﴾
[ سورة العنكبوت ]
والصيام لنا .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ . ))
[ صحيح البخاري ]
والحج لنا ..
﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) ﴾
[ سورة إبراهيم ]
من معاني هذه الآية : إذا حَجَّ الإنسانُ حجاً صحيحاً أَمِنْ مِن عذاب الله طوال حياته ، إذا دخل على الله هذا الدخول الصادق المُخلص ، فطهر قلبه من كل دنس ، وارتقى إلى الله عزَّ وجل ، سعِدَ في دنياه وأخراه ، فكان آمناً .
الإنسان غير المُطَبِّق لا يستحق أن تستمع له ولا أن تناقشه :
﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ .. أحياناً يُؤتَى الإنسانُ قوَّةَ جَدَل ، يؤتى القدرة على المناقشة ، هذه تُسَمَّى : القدرة على الإقناع ، قد يكون عمله في واد ، وأفكاره في واد ، قد يكون منافقاً ، قد يؤتى طلاقة في اللسان ، قد يؤتى قدرة على إقناع الآخرين ، العبرة أن يكون العمل صحيحاً ، فالله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أيْ هذا الذي يجادلك لا تلتفت إلى كلامه ، انظر إلى عمله ، فإن كان مستقيماً فاهتم بكلامه ، وإن كان غير مستقيم فلا تلتفت إليه ، لأن هذا كلامٌ لا يُقدِّم ولا يؤخِّر ..
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾
[ سورة الماعون ]
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)﴾
[ سورة العلق ]
انتهت الآية ، أيْ انظر إلى عمله ، هذا الذي ينهى عبداً إذا صلَّى كاذب ، منافق ، مخادع ، وصولي ، أناني ، يحبُّ ذاته ، يبني مجده على أنقاض الآخرين ، هذا الذي ينهى عبداً إذا صلَّى يحب أن يأكل ويجوع الناس ، يحب أن يكتسي ويعرى الناس ، يحب أن يطمئنّ ويخاف الناس ، هذا الذي ينهى عبداً إذا صلَّى لا تلتفت إليه ، لا يستحقُّ أن تناقشه .. ﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ العبرة العمل ، الإنسان المستقيم أغلب الظن يوافق أهل الحق على ما يقولون ، لأنه قريب من الله عزَّ وجل ، قلبه مستنير ، فيرى هناك تطابقاً عجيباً بين ما في نفسه وبين أقوالهم ، لكن المنحرف آكلَ المال الحرام مثلاً ، هذا لا يحب أن تشدِّد عليه في كسب المال ، يتضايق ، يهاجمك ، يسفِّه لك آراءَك ، لأن عمله سيئ ، ما دام عمله سيِّئاً إذاً يردُّ الحق ويدافع عن الباطل ..
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
[ سورة القصص ]
دليل ، الإنسان الذي يحبّ الاختلاط هذا يهاجمك إذا أمرت بالابتعاد عن النساء المُحَرَّمات ، يهاجمك ، ويقول لك : هذا تخلُّف ، هذا تزمُّت وضيق أُفُق ، أين تعيش أنت ؟ بأي عصر تعيش ؟! هو استمرأ لنفسه هذا السلوك ، هو يدافع عن شهوته ويردُّ الحق .. لذلك الإنسان لا يتورَّط في مناقشة إنسان منحرف ، لا تناقش غبياً ، ولا تناقش منتفعاً ، ولا تناقش قوياً ، ولا تناقش منحرفاً ، هؤلاء لا يُنَاقَشون ، هو يدافع عن باطله ، يدافع عن شهوته ، يدافع عن انحرافه ، يهاجم الحق ولو كان ناصعاً كالشمس ..﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أما إذا ناقشك رجلٌ مستقيم فاحترم آراءه ، وإذا كان خَطَّأك في بعض الأحيان فقد تكون أنت المخطئ ، وهو المصيب ، أي خذ كلامه على محمل الجد ، إذا كان الشخص مستقيماً ، ملتزماً بالحق ، وبيَّن لك غلطاً في سلوكك أو في أفكارك فاهتم به اهتماماً كبيراً جداً ، لأنه هو ينطلق من حق ، كأن الأساس هو التطبيق ، أي الإنسان غير المُطَبِّق لا يستحق أن تستمع له ، ولا أن تلقي له بالاً ، ولا أن تناقشه ، ولا أن تحاوره ، إلا في حالة واحدة ، إذا قال لك : أنا حينما أقتنع ألتزم ، صار له عليك حقٌ ، إذا قال لك : أنا مع الحق حيثُ دار ، أقنعْني أن هذا حرام فسأتركه ، أقنعْني أن هذا حق فسأتّبعه ، عندئذٍ يجب أن تُشَمِّر ، وتوضِّح له الحق إلى آخر درجة .
الله سبحانه هو الحَكَم العدلُ يوم القيامة :
﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(69)﴾ .. الله هو الحَكَم ، والإنسان السعيد من كانت عقيدته وأعماله وَفق القرآن الكريم ، لأن الله ناصره ، وهو الذي يحكم بينه وبين خصومه يوم القيامة .
انضباط الإنسان إن عَلِم أن الله رقيب عليه :
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ إذا الإنسان ترجو خيره وتخاف بطشه ، وإذا غلب على يقينك أنه يراقبك مراقبةً دقيقة ، أغلب الظن أنك تطيعَه دائماً ، فالمُشكلة مع الناس أنهم يعتقدون أن الله هو الخالق ، أما إذا علموا أن الله يعلم كل شيء صغيراً أو كبيراً ، كل خاطر ، كل نيَّة يعلمها ، وسيثيب عليها إن كانت خيراً ، وسيعاقب عليها إن كانت شرَّاً ، إذا بلغ حدّ علمك أن الله يعلم لابدَّ من أن تنضبط ، لذلك ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) ﴾
[ سورة المائدة ]
إذا علمت أن الله يعلم انضبطت ، لو كنت محاسباً ، وعليك مراقبة تلفزيونيَّة .. مرَّة دخلت إلى محل تجاري وجدت شاشة وشخصاً يكتب في دفاتر ، فسألته : مَنْ هذا ؟ قال : هذا موظَّف ، قلت : هذه مراقبة مستمرَّة .. لو كان صاحب هذا المحل مما يرجى خيره ، أو يخشى شرُّه ، وشعر هذا الذي يكتب أن عليه مراقبةً دائمةً ماذا يفعل ؟ أيضيِّع الوقت ؟ أيغادر الطاولة ؟ لا يستطيع ، فإذا كان الإنسان مراقَبًا مِن قِبَل إنسان هناك اهتمام بالغ ، أحياناً توجد صالات : انتبه الصالة مراقبة ، مراقبة تلفزيونياً ، إذا وضع أحدهم غرضاً في جيبه فهو مُراقَب ، فإذا كان الإنسان يُراقب تجد أن هناك انضباطاً ، فكيف إذا كان ربنا عزَّ وجل هو المراقِب؟!
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾
[ سورة النساء ]
يوجد كثير من المحلات مراقبةٌ بالتصوير ، لو إنسان أسرع تظهر صورة سيارته مع المخالفة ، فلا يستطيع أن يسرع ، إذا توصَّل إنسان لجهاز مراقبة مع التقاط الصور ، فالناس ينضبطون انضباطَ خوف ، انضباطَ ردع ، وليس انضباطَ وازع ، فكيف لو غلب على يقين الإنسان أن الله بالمرصاد .. ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ .
علْمُ اللهِ محيطٌ بكل شيء في الأرض والسماء :
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ .. ألا يكفي الإنسانَ دافعٌ للاستقامة أن الله يعلم ؟ الإنسان العاقل إذا أصدر شخصٌ ذو مكانة أمراً ، وجعل للأمر عواقبَ وخيمة ، وهو يراقبك ، مستحيل تخالف أمره ، مستحيل بحكم المنطق أن تخالف أمر إنسان يفعل ما يقول ، ويتوعَّد مَن يخالفه ، فإذا كنت منضبطاً مع إنسان ، فكيف بخالق الأكوان ؟ ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ أي هذا الذي يفعله الناس مُسَجَّل ، كتاب ..
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾
[ سورة الإسراء ]
﴿ كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) ﴾
[ سورة المطففين ]
معنى مرقوم أي صفحاته مرقَّمة ، إذا ختم أحدٌ دفاتره فلا يستطيع أن يمزق صفحة منها ، يقول لك : أخي هذه دفعة كبيرة سنتخلَّص منها ، مرقَّم ، بلغت صفحات هذا الدفتر مثلاً مئةً وثلاثين صفحة ، مرقَّمةً واحدةً وَاحدةً ، مرقوم أيْ مرقَّم .
وهناك رأي ثانٍ مرقوم أيْ من الرقم توجد صورة ، المخالفة وصورتها ، لست أنا ، تفضل أليست هذه سيارتك ، أليس هذا رقمها ؟ المخالفة مع صورتها ، أو الكتاب مرقّم ، فإذا كان كذلك كيف يخالف الإنسان ربه ؟ ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ ، أطلعني أحَدُهم على كمبيوتر ، صفحة بحجم الكف ، يوجد فيها ثلاثمئة وخمسون ألف معلومة ، إذا كانت صفحة فيها هذه المعلومات ، فمن الممكن أن تكون كل أعمال الإنسان مسجَّلة ، يوم القيامة تُعْرَضُ عليه عَملاً عملاً ، لماذا فعلت كذا ؟ لماذا غششت أخاك ؟ لماذا كذبت عليه ؟ لماذا أوقعت بين هؤلاء ؟ لماذا جمعت هذا المال على أنقاض الآخرين ؟ هذا كله فيه حساب .
المشركون جَهلةٌ في اعتقادهم وسلوكهم :
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ .. السلطان هنا يعني الشرع ، الله عزَّ وجل ما أنزل كتاباً يأمرنا فيه أن نعبد من دون الله هذه الأصنام ..﴿ وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي بلا دليل نقلي ، وبلا دليل عقلي ، ليس هناك دليل نقلي من كتاب سماوي يأمرنا أن نعبد هذه الأصنام ، وليس هناك منطق أو حجَّة ، أي هذا الصنم حَجَر ، هذا الصنم من تمر .. أكلت ودٌّ ربَّها .. جاعت ذات مرة قبيلة فأكلت ربَّها ، شاعر مرَّة رأى صنماً يبول عليه الثعلبان فقال :
أربّ يبول الثعلبان برأسه لقد ضلَّ من بالت عليـه الثعالبُ
* * *
ما هذا الصنم الإله ؟ لا يوجد دليل نقلي ، ولا يوجد كتاب سماوي منزَّل يأمرنا أن نعبد هذه الأصنام ، ولا يوجد دليل عقلي منطقي يسمح لنا أن نعبدهم ، فربنا عزَّ وجل قال : ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أصناماً ، أحجاراً ، أحياناً أشخاصاً ..﴿ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ يوم القيامة .
حالة المشرك عندما تُتلى عليه آيات الله :
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ﴾ .. المنكر هنا الإنكار ، أي إذا تلوت آيات الله البيِّنة على أهل الدنيا المكذِّبين الفاجرين ..﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ﴾ .. أيْ ينقبضون ، تنقبض أسارير وجوههم ، ينزعجون ، لأن الحق يقيّد شهواتهم ، الحق يحدُّ من انطلاقهم ، الحق يأمرُهم أن يستقيموا على أمر الله ، هم يفعلون ما يشاؤون ، لذلك إذا كان الإنسان متفلِّتاً من الحق وسمع الحق يتألَّم ، يضيق به ذَرْعَاً ..﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ﴾ أيْ الإنكار ، هذا مصدر ميمي ، أَنْكَرَ يُنْكِرُ إنكاراً ومُنْكَرَاً ..﴿ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ .. أي شدَّة حمقهم ، وغيظهم ، وحقدهم تدفعهم إلى أن يهجموا على من يتلو عليهم هذه الآيات ، وهذا هو الضعيف حينما يفقد الحجَّة ، وحينما يفقد البَيِّنة ، وحينما يُسْقَطُ في يده يهجم على خصمه ، الذي يهجم على خصمه بالضرب واللَّكم هو ضعيف الحجَّة ، حينما يفقد الإنسان حجَّته يستخدم يده ..﴿ يَكَادُونَ يَسْطُونَ﴾ أيْ يهجمون ..﴿ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ ﴾ أي إذا كان هذا القرآنُ قد أورث فيكم الأحقاد والآلام فإن هناك ما هو أشر من هذه الآلام ألا وهي النار ، متألِّم جداً ، كيف أن هذا الابن سار على طريق الحق ؟ كيف أن أخاه بدأ يغضُّ بصره ويحرِّر دخله ؟ يعد أخاه منحرفاً ، يعد أخاه متزمِّتاً ، يعد أخاه انجذب ، يحقد عليه ، كل هذا الحقد لأن أخاك استقام على أمر الله ؟! لأن أخاك عرف الله عزَّ وجل ؟! إن هناك أشرّ من هذا الألم ، وهي النار ، عقابٌ لمن يصدُّ عن سبيل الله ..﴿ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) ﴾ .
الذبابة آية من آيات الله الخارقة :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً ﴾ .. هذه الذبابة ، فربنا عزَّ وجل قال :
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)﴾
[ سورة الملك ]
أيْ دقَّة خلق الذبابة وكمال خلقها ككمال خلق الفيل ، وككمال خلق المَجَرَّات ، ليس عند الله صنعةٌ متقنةٌ وصنعةٌ أقلّ إتقاناً ، كله متقنٌ ، من البعوضة ، البعوضة لها جناحان يرفَّان أربعة آلاف رفَّة في الثانية ، البعوضة لها ثلاثة قلوب ، لها جهاز رادار ، ولها جهاز تحليل دم ، ولها جهاز تخدير ، ولها جهاز تمييع ، ولها محاجم تقف على السطح الخشن ، ولها مخالب تقف على السطح الصقيل ، ويرفُّ جناحاها أربعة آلاف رفَّة في الثانية ، ومع ذلك قال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)﴾
[ سورة البقرة ]
فخلقُ الفيل ، وخلق الجمل ، وخلق الحوت ، وخلق المجرَّات ليس أعظم من خلق البعوضة ولا خلق الذبابة ، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يضرب مثلاً الذباب لكثرته ، ولضعفه ، ولقذارته ، ولهوانه كما قال بعض المفسرين ، لأربعة أسباب ؛ لكثرة الذباب ، ولمهانته عند الناس ، ولقذارته ، ولضعفه .
تحدي الله أهلَ الأرض جميعاً بخلق ذبابة واحدة :
أي : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ .. أيْ أهل الأرض ، القِوى المجتمعة على سطح الأرض ، القِوى العلميَّة ، الجامعات ، المخابر ، الجيوش الجرارة ، إن كل هذه القِوى العسكريَّة والعلمية ليس بإمكانها أن تخلق ذبابةً واحدة ، ربنا اختار ذبابة تحقيراً لهؤلاء الذين يَدْعون من دون الله .. ﴿ وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ ليس جهة واحدة ، لو عُقِدَت مؤتمرات على مستوى القارَّات الخمس ، جميع الجامعات في العالم ، جميع المصانع في العالم ، جميع المخابر الحيويَّة في العالَم ، جميع الكُتَل من أجل أن تخلق ذبابةً واحدة لا يستطيعون ، الأغرب من ذلك : ﴿ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً﴾ .. لو الذباب وقف على جسم إنسان ، ونقل له بعض الأمراض ، وهذا المرض سَلَبَهُ صحَّته ، هناك فيروس للشلل ، وفيروس للحمَّى ، وفيروس لالتهاب السحايا ، لو فرضنا هذه الأمراض نقلتها ذبابة فسلبت الإنسان صحَّته ، هل بإمكان البشر لو اجتمعوا أن يسلبوا هذا الذباب ما أخذه منهم ؟ قال : ﴿ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ .. أي هذا منتهى العَجز ؛ أن الدول مجتمعةً ، والشعوب مجتمعةً ، والقوى الفكرية مجتمعةً ، والقوى الصناعيَّة مجتمعةً ، لو أنها اجتمعت ، وتعاونت ، واتفقت على خلق ذبابة ، ليس في الإمكان ، لو اجتمعت على أن تشفي مريضاً أصابته ذبابة ، لا يستطيعون .. ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ أي هذا الذي يعبد الصنم ضعيف ، والصنم أضعف .
من عرف الله أطاعه وعبده :
﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ .. ما عرفوا الله ، لو عرفوه لعبدوه ، لو عرفوه لأطاعوه ، لو عرفوه لوحَّدوا له وجهتهم ، لو عرفوه لما عبدوا غيره ، لو عرفوه لما أطاعوا مخلوقاً وعصوه .
اصطفاء الله جبريل من الملائكة ومحمد من البشر والأمور كلها راجعة إليه :
﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾ .. ربنا عزَّ وجل جعل الملائكة رسلاً للأنبياء ، وجعل الأنبياء رسلاً للبشر ، فهناك ملائكة رسل كسيدنا جبريل ، وهناك بشر رسل كسيدنا محمَّد ، لكن الله يصطفي أي أعلى الملائكة سيدنا جبريل ، يصطفي من الناس الأنبياء والمرسلين ، هم صفوة الصفوة ، وهم في القِمَم دائماً ..﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أيْ يعلم ما يفعلون وما سيفعلون ، أو ما قدَّموا وما أخَّروا .. ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ الأمور كلُّها راجعةٌ إليه .
الدين كله صلاة وعبادة وأعمال صالحة :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ .. أيْ اتصلوا بالله عزَّ وجل ، كنَّى ربنا سبحانه وتعالى عن الصلاة بالركوع والسجود ، الصلاة قيامٌ وركوعٌ وسجود ، وأقرب ما يكون الإنسان في الصلاة وهو راكعٌ وساجد ..﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ أيْ اتصلوا بالله عزَّ وجل ..﴿ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾ دخل فيها الصوم ، دخل فيها الحَج ، دخل فيها الزكاة ، دخل فيها كل عمل تبتغي به رضوان الله عزَّ وجل ، دخل فيها الذكْر ، دخل فيها التفكُّر ..﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ .. تقرُّباً إليه ، هذا الدين كلُّه ؛ صلاة ، وعبادة ، وأعمال صالحة ..﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ، لعلَّكم تفوزون ، لعلَّكم تنجحون ، لعلَّكم تحقِّقون الهدف من خَلْقِكُم ، لعلَّكم تكونون كما أراد الله لا كما أردتم أنتم .
الدين في جوهره اتصال بالله وإحسانٌ إلى الخلق :
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ .. القضيَّة تحتاج إلى صدق ، الإنسان أحياناً تنازعه نفسه ، جاهدوا أنفسكم وأهواءكم ، رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ؛ جهاد النفس والهوى ..﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ إذاً الدين في جوهره اتصال بالله وإحسانٌ إلى الخلق ..﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾ هذا اتصال بالله ..﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ الفلاح ، والنجاح ، والتفوُّق منوط بهذين الشيئين ، الاتصال بالخالق والإحسان إلى الخَلق ..﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ ربنا عزَّ وجل يمتحن الإنسان ، يجعل له عقبات ، ويجعل له خصوماً ، يجعل له معارضات ، يصيبه ببعض الضيق ، بنقصٍ في الأموال والأنفس والثمرات ، يصيبه بخصوم ..﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ أي حق الجهاد أن تكون كما يريد الله سبحانه وتعالى ، أن تستنفذ كل الفُرَص ، أن تبذل كل المجهود ..﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ أي هو اختاركم لهذا الدين .. " إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه " ربنا عزَّ وجل رَشَّحك لهذه المهمَّة ، أسمعك الحق لما علم فيك من خير .
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾
[ سورة الأنفال ]
ها قد أسمعك الحق ، هو اختارك ، خصَّك بهذا الهدى ، جمعك مع أهل الحق ، تدير ظهرك للحق ؟ تستنكف ؟ تتأفَّف ؟ تتململ ؟ تسأم ؟ تقول : هذا فوق طاقتي !! لا ، استعن بالله ولا تعجز .
اصطفاء الله الناس للخير :
الكلمة الدقيقة : ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ ..هو اختاركم ، إذا ساق ربنا عزَّ وجل لك خيراً ، إذا جعل ربنا عزَّ وجل لك وظيفة في الدعوة إليه ، إذا جعلك ربنا عزَّ وجل تستمع لمجلس علم ، سمحَ لك أن تستمع ، ساقك لهذا المجلس ، دلَّك عليه ، لِما علم فيك من خير ، هو اختارك ، هو توسَّم فيك الخير ، وأنت ترفض ؟ هذا موقف فيه حجود كبير جداً .
كل ضرورة في الإسلام لها متنفَّس ومنفذ :
﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ .. الدين يُسر ، والدين متوافق مع الفطرة ، لا توجد شهوة أودعها الله عزَّ وجل في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة ، شهوة النساء جعلها بالزواج ، والمال جعله بالكسب المشروع ، والعلو في الأرض جعله في العلم وفي طاعة الله عزَّ وجل ، أي شيء أودعه الله في الإنسان جعل له متنفَّساً نظيفاً ، وصحيحاً ، وشريفاً ، ومحموداً ، وراقياً ، ومقبولاً ، ومعترفاً به ..﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ، الصائم المريض يفطر ، والمسافر يفطر ، وإذا أصاب الإنسان مرض يُصلي بالإيماء ، يصلي برأسه ، يصلي قاعداً ، إذا كان مُضَّطراً من الممكن أن يأكل لحم خنزير في حالات يخشى فيها الموت..
﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) ﴾
[ سورة الأنعام ]
كل ضرورة لها في الإسلام متنفَّس ، لها منفذ ..
توافق الإسلام مع الفطرة :
﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ ، أَحَد أصحاب رسول الله هُدِّد بالقتل إلى أن ينطق بكلمة الكُفر فنطقها ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال : عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر :
(( وشَدَّدُوا الْعَذَابَ عَلَى عَمَّارٍ بِالْحَرِّ تَارَةً ، وَبِوَضْعِ الصَّخْرِ عَلَى صَدْرِهِ أُخْرَى ، وَبِالتَّغْرِيقِ أُخْرَى ، وَقَالُوا : لَا نَتْرُكُكَ حَتَّى تَسُبَّ مُحَمَّداً أَوْ تَقُولَ فِي اللاَّتِ والعُزّى خَيْرًا ، ففَعل فتركوه ، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك ؟ قال : شر يا رسول الله ، كَانَ الأمرُ كذا وكذا !! قال : فكيفَ تجدُ قلبَكَ ؟ قال : أجدهُ مطمئناً بالإيمان ، فقالَ : يا عمارُ إن عادوا فعُدْ ، فأنزَلَ الله تعالى : إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ . ))
[ فقه السيرة : حكم المحدث : في ثبوت هذا السياق نظر وعلته الإرسال ]
أي الإسلام متوافق مع الفطرة ، متوافق مع طبيعة الإنسان ، متوافق مع نواميس الخَلْق .
النبي إبراهيم عليه السلام هو من سمّى المسلمين بهذا الاسم :
﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ ..
﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)﴾
[ سورة البقرة ]
هذه التسمية تسمية أبينا إبراهيم عليه السلام .
الأمة الإسلامية أمة وسط بين الله وخلقه :
﴿ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ .. كأن الله عزَّ وجل جعل هذه الأمَّة أمَّةً وسطاً بينه وبين خلقه ، فالنبي يشهد الحق لنا ونحن ينبغي أن نشهد الحق للناس .
الأمر بالصلاة والزكاة والاعتصام بحبل الله :
﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ .. لأنفسكم وللناس ..﴿ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾ أيْ بالطاعة .
وَلاية الله للمؤمنين :
﴿ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ .. يقول الله عزَّ وجل :
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)﴾
[ سورة البقرة ]
إذا كان الله وليَّكم فلا ضَيْرَ عليكم ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ .." ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فِتُّك فاتك كل شيء ، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء " .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين