الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الصراع الدائم بين الحق والباطل :
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الخامس من سورة الحَج .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ .. يؤكِّد بعض العلماء أن هذه الآيات هي الآيات التي أذِن الله فيها أوَّل مرَّة للمؤمنين بالقتال ، ذلك أن الحق لابدَّ من أن تدعَمَهُ قوَّة ، وأن الحق من دون قوة مُسْتَباح ، وأن أهل الباطل منذ القِدَم يكيدون للحق ، وأن هناك صراعاً دائماً بين الإيمان والكفر ، بين الحق والباطل ، لذلك في هذه الآيات يذكر الله فيها سبحانه وتعالى أن الذين آمنوا قد ظُلِموا ، وأنهم عليهم أن يأخذوا حقهم ، وأن يحافظوا على هذا الحق ، ولكن لماذا لا يتولَّى الله سبحانه وتعالى الدفاع عنهم ؟ ولماذا لا يعفيهم من مؤونة القِتال ؟ لماذا ؟ هذا السؤال الأوَّل .
الله سبحانه وتعالى من دون شك قادرٌ على أن يقدِّم النصر للمؤمنين على طبقٍ من ذهب ، من دون عناءٍ ، ولا تعبٍ ، ولا جهدٍ ، ولا مشقَّة ، ولكنَّ هذا النصر الذي يُقَدَّم من دون جهد لا قيمة له ، ولا يرقى بهم ، ولا يتيحُ لهم أن يسعدوا في الجنَّة التي وعدهم الله بها .
الله سبحانه وتعالى وعدهم بالنصر بشرط أن يكون القتال من طريقهم ، وعدهم بالنصر بشرط أن يكون النصر عن طريقهم .
دفاع اللهِ عن المؤمنين :
لذلك كان التمهيد بقوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ .. أيْ إنّ الله خالق الكون ، واجب الوجود ، الأبدي السرمدي ، القوي ، القهَّار ، العزيز ، الجبَّار ، هذا الإله العظيم الذي خلق كل شيء ، والذي خلق الكون فقال له : كن فيكون ، هو نفسه يدافع عن الذين آمنوا ، ولم يقل : يَدْفَعُ ، بل يدافع ، لأن دافع مصدرها المُدافعة ، والمدافعة أبلغ من الدفاع ، دَفَعَ دفعاً ، ودافع مدافعةً .. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولا يَعرف معنى هذه الآية إلا المؤمن ، لأنه من خلال تجاربه اليوميَّة يرى رأي العين كيف أن الله سبحانه وتعالى يُدافع عنه ، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يُنقذه من عدوِّه ، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يكيد لمن يكيدون له ، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يحفظه بحفظه المنيع ، هذا المعنى لا يتذوقه إلا المؤمن .. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لماذا ؟ قال بعض العلماء : " هذه الآيات توطئةٌ وتمهيدٌ لآيات القتال" ، إن الله يدافع عنكم .
بغض الله للخائنين للأمانة :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾ .. لماذا يدافع الله عن المؤمنين ؟ قال: لأنه يحبٌهم ، ولماذا يكيد للكافرين ؟ لأنه لا يحبُّهم ، إن الله لا يحبُّ أعداء المؤمنين ، من هم أعداء المؤمنين ؟ هم الكافرون ، لماذا لا يحبهم الله عزَّ وجل ؟ لأنهم خائنون ، كافرون ، خانوا ماذا ؟ خانوا أمانة التكليف .
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ﴾
[ سورة الأحزاب ]
الإنسان حمل الأمانة ، فإما أن يفي بعهده ، وإما أن يخون الأمانة ، فالله سبحانه وتعالى لا يحبُّ كل خَوَّانٍ ، لم يقل : كل خائنٍ ، لأن الذي ينسى الأمانة ، ولا يقوم بحقِّها ليس خائناً فحسب ، بل هو خَوَّان ، أيْ كثير الخيانة ، هذه الأمانة نفسك التي أودعها الله بين جنبيك ، نفسك التي أوكلك الله بتزكيتها ، هذه أهملتها وتبعت الشهوات ، فلذلك حينما يتخلَّى الإنسان عن أمانته التي عهد الله بها إليه فهذا ليس خيانةً فحسب ، بل هِو أشدُّ أنواع الخيانة ، سمَّاه الله سبحانه وتعالى خَوَّان أيْ كثير الخيانة ..﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾ الخوَّان هو الذي خان الأمانة التي مِن أجلها جاء الله به إلى الدنيا ، لماذا أنت هنا على وجه الأرض ؟ سؤال كبير ، لماذا أنت هنا في الأرض ؟ لأنك حملت الأمانة في الأزل ، ولأنك قَبِلت حمل الأمانة وقلت لربِّك : أنا لها يا رب .. فالآية الكريمة :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) ﴾
[ سورة الأعراف ]
فالأمانة أنَّك جئت إلى الدنيا ، ووضِعَت نفسُك بين يديك أمانة كي تزكِيَها ، ولا تتزكَّى النفس إلا إذا عرَّفتها بربِّها ، وإلا إذا استقمتَ على أمره ، وأقبلتَ عليه ، فطهُرت نفسك من أدرانها ، فلذلك : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) ﴾ .
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأنه يحبُّهم ، ولماذا يحبهم ؟ لأنهم أدَّوا الأمانة ، ولأنهم شكروا النعمة ، بينما أعداؤهم الكفَّار لا يحبُّهم ، لماذا لا يحبُّهم ؟ لأنهم خانوا الأمانة وكفروا النعمة ، وهاتان صفتان أساسيَّتان من صفات الكفر ، خيانة الأمانة وجحود النعمة ..﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾ لذلك قال بعضهم : " كفاك على عدوِّك نصراً أنه في معصية الله " ، وكفاك شرفاً أنك مؤمنٌ به ، وكفاك عزَّاً أنك عبدٌ له ، وكفاك فلاحاً ونجاحاً وتفوَّقاً وفوزاً أنك مستقيمٌ على أمره ..
من أراد أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ ..ألا يطمح أحدنا أن تكون له هذه الخصيصة ؟ ألا يطمح الإنسان أن الخالق العظيم يُدافع عنه ؟ ألا ترون أهل الدنيا أنهم إذا أقاموا علاقةً مع شخصٍ مُهمٍّ تراهم يتيهون بهذه العلاقة ، ويفخرون بها ، وقد لا تسعهم عقولهم ، يعرضون عليك الصورة التي اجتمعوا فيها معهم على طاولةِ طعام العشاء ، يقول لك : فلان كنت معه ، ألا ترى أن خالق الكون ، أن الله جلَّ وعلا هو يدافع عنك ، أليس هذا شرفاً عظيماً لك أيها المؤمن ؟ أتبتغي عند الآخرين العِزَّة ؟ أتبتغي عند أهل الدنيا العِزَّة ؟ ابتغ العزّة عند الله ، الله سبحانه وتعالى رفعك فلا تخفض نفسك ، الله أعزَّك فلا تُذِلَّ نفسك ، الله كفاك فلا تنظر إلى سواه ..﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هذه الآية لها معنى قد تدركه عقولنا ، ولكن هذه الآية لها مُعاناة ، فمن كان مؤمناً حقاً ، وكان يدعو الله حقاً في سرِّه وجهره ، وقد رأى من مدافعة الله عنه الشيء الكثير ، عندئذٍ يعرف معنى هذه الآية ، ويعيش هذا المعنى ، أن تعيش المعنى أبلغ من أن تفهمه .. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كن مؤمناً ، والله سبحانه وتعالى يتولَّى الدفاع عنك ، الإنسان العادي أحياناً يشعر بغِبْطَة وبطمأنينة لا حدود لها إذا وكَّل محامياً لامعاً في قضيةٍ شائكة ، يقول لك : أنا محامِيي فلان وهو من ألمع المحامين ، وله صِلاتٌ وثيقة مع القضاة ، واجتهاده لا يُخطئ ، وله شخصيَّةٌ قويَّة ، وله هيبةٌ في قصر العدل ، وقد وكَّلته وأنا مطمئن ، فما قولك إذا كان الذي يتولَّى الدفاع عنك هو الله سبحانه وتعالى ؟ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأنه يحبُّهم ، لأنهم يحبونه وهو يحبُّهم ، لأنهم حملوا الأمانة ، ولأنهم شكروا النعمة ، بينما أعداؤهم الكفَّار خانوا الأمانة ، وكفروا النعمة ، فإذا كادوا للمؤمنين فالله سبحانه وتعالى يتولَّى الدفاع عنهم ..﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كن مؤمناً واحْظَ بهذا الشرف العظيم ، كن مؤمناً ونَم مطمئناً هادئ البال ، فلن تستطيع جهةٌ على وجه الأرض أن تنالك بالأذى لأن الله يدافع عنك ، كن مطمئنَّاً ولا تخشَ إلا الله ، كن مطمئناً وكن مؤمناً ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كفى المؤمنين فخراً هذه الآية ، أي إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله ، هو أهلٌ أَن تتوكَّل عليه .
إذنُ اللهِ للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال المشركين :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ ﴾ .. من الذي أَذِنَ ؟ الله سبحانه وتعالى ، أحياناً لا يُذْكَرُ الفاعلُ تعظيماً له ..﴿ أُذِنَ﴾ خُلِقَ الإنسان ، مَنْ خلقه ؟ الله سبحانه وتعالى ، الفاعل قد لا نذكره لشدَّة عظمته ، أو لأنه معروفٌ لدى كل الناس ، هل من خالقٍ إلا الله ؟ إذا قلنا : خُلِقَ الإنسان لأنَّه معروف ، لأنه أعظم من أن يُذْكَر أو أجلّ من أن يُذْكَر ..﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ الحديث كان قبل قليل كان عن المؤمنين ..﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ربَّما يقول قائل : لِمَ لَمْ يقل الله عزَّ وجل : أُذِنَ للذين آمنوا أن يقاتلوا ؟ فربنا عزَّ وجل من إعجاز القرآن الإيجاز ، فبدَّل بكلمة المؤمنين كلمة الذين يقاتَلون ، واستنبط العلماء من أن الذي يُقَاتَل يَحِقُّ له أن يُقاتِل إذا كان قد قوتل ، لذلك لا ينبغي أن تبدأ أنت بالقتال ، البادئُ هو الظالم ، إذا قوتلت ، طبعاً الخطاب موجَّه إلى النبي الكريم وأصحابه الذين ذاقوا مِن بأس قريش ، ومن التضييق ، والشدَّة ، والتعذيب الشيءَ الكثيرَ ، لذلك يقول الله عزَّ وجل : ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ بفتح التاء ، أيْ هم قوتِلوا ﴿ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ إذاً هناك شرطان ، لا ينبغي للمسلمين على مستوى الأمَّة الإسلاميَّة أن تقاتل أعداءها إلا إذا بدؤوها بالقتال ، وكانوا بهذا القتال ظالمين ، شرطان ، أما أن تعتدي على غيرها فعندئذٍ لا تُنْصَر ، يجب أن تُبْدَأ بالقتال من قِبَلِ أعدائها أولاً ، ويجب أن يكون هذا العدوان ظالماً ، عندئذٍ أُذِنَ لها أن ترد الصاع صاعين ، يأتي عدوٌ غاصبٌ دخيل يأخذ الأرض ، ويبيح المحرَّمات ، ويشرِّد السكَّان ، ويبقى المسلمون صامتين ؟! لا .
إحراز النصر للمؤمنين شيءٌ هيِّنٌ على الله عزَّ وجل :
﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ .. وهذه الباء أيْ سبب مشروعيَّة القتال أنهم ظُلِموا .. ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)﴾ .. فلِمَ لمْ يقل الله عزَّ وجل : وأن الله سينصرهم ؟ لا ، هذه أبلغ ، لأن إحراز النصر للمؤمنين شيءٌ هيِّنٌ على الله عزَّ وجل ، شيءٌ سهلٌ جداً على الله عزَّ وجل ..﴿ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)﴾ قد يقول لك قائل : القضية سهلة جداً ، أنا بإمكاني أن أفعلها ، قد لا يقول لك : سأفعلها لك ، إذا قال : سأفعلها لك ، وكـأنها مُهِمَّةٌ صعبة ، وكأنها شيء كبير ، قال : هذا بإمكاني أن أفعله ، إذا قال لك : بإمكاني أن أفعله فمعنى ذلك أن نصر المؤمنين شيءٌ على الله يسير .. ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ لكنَّ القتال لا يكون إلا عن طريق إمام المسلمين ، لا يوجد قتال فردي ، هذا ُ ليس على آحاد المسلمين ، ولكنَّه على مجموع الأمَّة .. ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ لو فرضنا : أمةٌ مسلمة لها عدوٌ غاشم استباح محرَّماتها ، أيحقُّ للأفراد أن يقاتلوا هذا العدو ؟ لا ، لابدَّ من أن يكون القتال على مستوى الأمَّة ، لابدَّ من أن يكون على مستوى الجماعة المؤمنة التي تتمثَّل في أميرها .
السماح بالقتال لمن أُخرج من دياره بغير حق :
﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ .. ما هو هذا الظلم ؟ ما بيان هذا الظلم ؟ .. ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ الإنسان قد يُنْفَى من دياره لفاحشةٍ ارتكبها ، وقد يُنفى من دياره لجريمةٍ فَعَلَهَا ، أما أن يُخْرَج من دياره بلا سبب ؟! أن يشَرَّد الإنسان من بيته ومن أرضه بلا سبب ؟! هذا هو الظلم الكبير ، لذلك حينما يدافع الإنسان عن أرضه هذا دفاعٌ مشروع ، حينما يدافع عن أرضٍ سُلِبَت منه هذا دفاعٌ مشروع ..﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ فالمؤمنون الأوائل ذهب بعضهم إلى الحبشة ، وذهب الآخرون إلى المدينة ، إنهم قد أُخْرِجوا ، من أمرهم بالخروج ؟ كفَّار مكَّة ؟ لم يأمروهم بالخروج ، ولكن ضيَّقوا عليهم ، وضيَّقوا عليهم ، وشدَّدوا عليهم ، حتَّى حملوهم على الخروج ، آذوهم ، وضيَّقوا عليهم ، وقاطعوهم ، ونكَّلوا بهم ، وعذَّبوهم حتى حملوهم على الخروج ..﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ .. أيْ ذنبهم الوحيد أنهم قالوا : ربنا الله ، وهذا الذي يتحمَّل المتاعب لأنه يقول : ربي الله هو إنسانٌ عند الله عظيم ، وهو إنسانٌ له عند الله أجرٌ كبير .
الأمر بدفع الظلم للحفاظ على الدين وشعائره :
﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ .. لولا أن الله سبحانه وتعالى شرع للمؤمنين الجهاد لجاء أعداؤهم من غير مِلَّةٍ فاستباحوا أرضهم ، وشرَّدوهم منها ، وهدموا معابدهم ، ونكَّلوا بهم ، إذاً لابدَّ للحق من قوَّةٍ تحميه ، من هنا شُرِعَ الجهاد في سبيل الله ..﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ ولولا أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن ندفع عنَّا الظلم بالجهاد ..﴿ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ﴾ فالصوامع هي أماكن العبادة التي كان يقبعُ بها العبَّاد في قديم الزمان ، والبِيَعُ كنائس النصارى ، والصلوات كُنُس اليهود ، والمساجد دور عبادة المسلمين ، هكذا جاء في بعض التفاسير ، على كل الصوامع والبيع والصلوات والمساجد كلُّها تمثِّل دور العبادة التي يُعْبَد فيها الله سبحانه وتعالى ، وفيها يُذْكَر ، فلولا مشروعيَّة الجهاد ، طبعاً جاء المغول والتتار في العصور الوسطى واكتسحوا بلاد المسلمين ، لولا مشروعيَّة الجهاد لفقدنا هذا الدين الحنيف ، ولكنَّ بالجهاد رددناهم .. سيدنا صلاح الدين لولا مشروعية الجهاد لكان الإفرنج يعيثون في هذه الأرض الفساد .. ونحن يجب علينا أن نردُ الظلم بالظلم ، وهؤلاء شُذَّاذ الآفاق لابدَّ من أن يُرَدَّ ظلمهم بالجهاد في سبيل الله ، باسترداد الحقِّ المُغْتَصَب.
الآية التالية تشير إلى التوازن في القوى :
لذلك : ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً﴾ .. هذه الآية واسعة جداً ، يوجد معنى آخر للآية : ربنا عزَّ وجل رحمةً بالضعَاف يقيم قِوى متوازنة ، أحياناً قوَّتان كبيرتان ؛ هاتان القوَّتان الكبيرتان ضمانةٌ للضِعاف ، فلو أنها قوةٌ واحدة لأكلت الجميع ، من معاني هذه الآية أن هناك توازناً في القوى دائماً هو من فعل الله سبحانه وتعالى رحمةً بالضِعاف ، حتى على مستوى غير الجهاد ، على مستوى الاقتصاد ، أحياناً شركتان تنتجان سلعةً واحدة ، هاتان الشركتان تتنافسان لجلب المشترين ، إنها تُحَسِّن بضاعتها وتخفض أسعارها ، أي هذه رحمة ، التوازن في كل شيء رحمة ، فهذه الآية تشير إلى ذلك التوازن :﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً﴾ .
هدف المساجد والبيَع والصوامع ذكرُ الله :
إذاً هذه المساجد ، وتلك البِيَع ، والصلوات ، والصوامع ، هدفها الأول أن يُذكر اللهُ فيها ، وأن تذكره وحده ، وألا تذكر سواه ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) ﴾
[ سورة الجن ]
لا ينبغي على منبر رسول الله أن يُذْكَر غير الله ورسوله ، هذا مسجدٌ أُقِيمَ لنشر الحق لا لزيدٍ أو عبيد ، فلذلك : ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً﴾ إذاً مشروعيَّة الجهاد أنه قوَّةٌ للحق ، والحق بلا قوةٍ لا قيمة له ، المسلمون إن لم يكونوا أقوياء يأتي أعداؤهم من الكفَّار فيَحتلّون أرضهم ، وينهبون ثرواتهم ، ويستبيحون دماءهم ، ويزوِّرون تاريخهم ، ويهدِّمون معابدهم ، هكذا ، فلذلك الجهاد كما قال الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه : " الجهاد درع الله الحصينة ، وجُنَّته الوثيقة ، وهو لباس التقوى ، وما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارهم إلا ذلوا " .
قانون النصر: وَلَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ :
﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ .. كما قلت قبل قليل : الله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يقدِّم النصر للمسلمين هيِّناً ليِّناً على طبقٍ من ذهب من دون عناءٍ ولا تعب ، من دون جهدٍ ولا مشقَّة ، من دون قتالٍ ولا صبرٍ ولا شيءٍ من هذا القَبيل ، ولكن هذا النصر الذي يقدِّمه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بلا جهدٍ منهم لا قيمة له ..
من أخذ البلادَ بغير حربٍ يهـون عليـه تسـليم البلادِ
* * *
لكنَّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون هذا النصر عن طريق المؤمنين ، عن طريق بذل الجهد ، عن طريق التضحية ، عن طريق العطاء ، عن طريق أن يبيع الإنسان نفسه في سبيل الله .. ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ ، أي :
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)﴾
[ سورة آل عمران ]
الله سبحانه وتعالى جعل في هذه الآية قانوناً للنصر ، الله سبحانه وتعالى ينصر من ينصره .. يُروى أن سيدنا صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه كان له شيخ ، وقد هَجَمَ الفرنجة على بلاد المسلمين ، وسفكوا الدماء ، وانتهكوا الأعراض ، وعاثوا في الأرض الفساد ، وكان خطرهم يزداد ، وأعمالهم العدوانيَّة تشتد ، لذلك استشار شيخه ماذا يفعل ؟ فقال : " أَزِلْ المُنكر حتى تستحقَّ النصر " ، يروي التاريخ أنه قال له : " يا سيدي لم يبق هناك وقتٌ لإزالة المنكر" ، فدفعه وقال : " قم لا نصرك الله " ، حتى نفَّذ هذه النصيحة بحذافيرها فأغلق كل دورِ اللهو ، ومنع شرب الخمر ، وأقام حدود الله عزَّ وجل ، ثم التفت وقاتل الفرنجة حتى انتصر عليهم .. وآخر معركة جرت في عين جالوت حينما انتصر سلطان مصر على التتار ، ما الذي فعله ؟ أقام العدل ، وأزال كل المنكرات ، وعندئذٍ استعان بالله عزَّ وجل ، والله سبحانه وتعالى نصره . فلذلك الآية الكريمة : ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ أيْ لا تطمع أن ينصرك الله عزَّ وجل وأنت مقيمٌ على المعاصي ، لأنك إذا أقمت على المعصية أنت والذي تقاتله سواء ، أي إذا تساوى المتقاتلان في البعد عن الدين كان النصر للأقوى عدداً وعدَّةً ، أما إذا كان أحد الفريقين مؤمناً فالله سبحانه وتعالى هو الذي ينصره ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ .. أي كن مع القوي ، كن مع القوي العزيز ، الله قويٌّ لا يُقْهَر ، وإرادته لابدَّ من أن تنفذ .
التمكين في الأرض :
ينصرون الله عزَّ وجل .. ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ ما هو التمكين ؟ الإنسان بين أن يكون مُمَكَّناً في الأرض ، وبين أن يكون مستضعفاً ، فالمستضعف هو الذي لا يقوى على تحقيق مُراده ، لا يملك القوَّة ، ضعيف ، مقهور ، لكنَّ المُمَكَّن هو الذي يملك أن يحقِّق ما يريد ، فربنا عزَّ وجل وصف هؤلاء المؤمنين بأنهم ﴿ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ أي من التمكين في الأرض أن تكون ذا بحبوحة ، فالإنسان إذا اغتنى ، وكان ضعيف الإيمان بعد أن يغتني يترك الصلاة ، وبعد أن يغتني يأمر زوجته أن تُسْفِر عن وجهها ، وبعد أن يغتني يحبُّ أن يفعل المنكرات ، هذا مكَّنه الله في الأرض أي جعله بماله مستطيعاً أن يفعل ما يشاء ، فما كان منه إلا أن ارتكب المعاصي ، وابتعد عن الدين ، ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ التمكين واسع جداً ، قد يجعلك الله قوياً ، قد يجعلك في مرتبةٍ اجتماعيَّة حيث إنّ أَمْرَكَ نافذ ، إذا أمرتَ فأمرُك مُطاع ، إذاً أنت مُمَكَّن في الأرض ، قد تكون في منصب ، في عمل ، في وضع اجتماعي ، في وضع معاشي ، في وضع اقتصادي ، في وضع من الأوضاع قوي بقوَّة المال أو بقوة السلطان ، فإذا كنت في هذا المستوى عليك أن تصلِّي وتأمر الناس أن يصلّوا ..﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ أحياناً يكون الإنسان معلِّمًا في مدرسة فيصبح مديراً لهذه المدرسة ، أي صار عنده قوَّة أكبر ، هل يوظِّف هذه القوَّة لنشر الفضيلة بين الطلاب ؟ في حَضِّهم على الصلاة ؟ في حضِّهم على معرفة الله عزَّ وجل ؟ هل يأمر بالمعروف ؟ هل ينهى عن المنكر ؟ ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أحياناً يكون الأب ممكَّناً ، يدخل إلى بيته يكون سلطان للبيت ، أمره نافذ ، هذا الذي تزوَّج ، ووهبه الله زوجةً وأولاداً هل يقوم ويصلي بأولاده وزوجته ؟ هذا قد مكَّنه الله في الأرض ، جعله في بيت مستقل ، قد يكون أحياناً الشاب في بيت ليس له رأي ، البيت فيه معاصٍ ، فيه منكرات ، فيه مخالفات ، الصلاة لا قيمة لها في هذا البيت ، إذا صلى يُستهزأ به ، نقول : هذا الشاب غير ممكَّن ، فإذا تزوَّج هذا الشاب ، وصار له بيت مستقل ، وله زوجة وأولاد ، هذا الإنسان قد مَكَّن الله له في الأرض ، أتراه يصلي ؟ أيأمر هذه الزوجة أن تصلي ؟ أيصلي بها وأولادُه من ورائه ؟ أيقيم أمر الله في هذا البيت أم أنَّه حينما مُكِّن أطلق لشهواته العِنان ؟ وجلب أجهزة اللهو ليحظى بها ببعض المباهج ؟ هذه الآية واسعة كثيراً تنطبق على كل واحد منَّا ..﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ ممكن أن تأخذها على مستوى فردي ، ممكن أن توسِّعها إلى أعلى مستوى ، أي المسلمون حينما كانوا في الأندلس مكَّنهم الله ، بلادٌ شاسعةٌ واسعةٌ مكَّنهم الله فيها ، فلمَّا أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر مكَّن الله لهم حكمهم ، وأمدَّهم بقوَّةٍ منه ، وجعلهم ينطلقون لفتح أوروبا ، ووصلوا إلى مشارف باريس ، فلمَّا تركوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، واتخذوا القَيْنات ، وانغمسوا في الموشَّحات ، واشتروا الجواري الحِسان ، وشربوا الخمر في الأندلس ، الله عزَّ وجل تَخَلَّى عنهم بكل بساطة ..﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ هذه الآية يمكن أن تُطَّبَّق على كل واحد منَّا ، يكون غيرَ متزوج يتزوج ، صار له بيت مستقل ، الله مكَّنه في الأرض ، يكون معلِّماً فصار مديراً ، يكون كاتباً فصار رئيس دائرة ، يا ترى بعدما رفعه الله هل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؟ هل يُحِق الحق ويُبْطِل الباطل ؟ هل ينحاز مع إنسان قوي على حساب المؤمنين ؟ امتحان ، وهذه الآية أيضاً تُطَبَّق على المسلمين فيما لو حكموا الدنيا ، فيما لو أعاد الله لهم مجدهم وعزَّهم ، فيما لو أعاد الله لهم تمكينهم في الأرض ..﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ أي المؤمن لا يزيده المال إلا تواضعاً ، ولا تزيده القوة إلا طاعةً لله عزَّ وجل ، والمُنافق إذا تمكَّن في الأرض أكثر فيها الفساد ، وعاث فيها فساداً ، هذا هو الفرق بين المؤمن وبين غير المؤمن ..
وَللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ :
﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ الإنسان قد يسافر إلى بلد أجنبي ، يكون معه مئات الملايين ، وهناك ليس مَنْ يحاسبه على الصلاة ، مباهج ومناظر ، وطعام وشراب ، من مكانٍ إلى مكان ، ومن فندق إلى فندق ، أمَّا إذا كان مؤمناً اضطر إلى السفر فهل يترك الصلاة هناك ؟ الإنسان المُمَكَّن أعطاهُ الله عزَّ وجل مِيِّزة ، أعطاه إمكانيَّات ماديَّة أو معنوية ، أو قدرات ، أو قِوى ..﴿ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ .. هذا امتحان ، لكنَّ هذا الذي مُكِّن في الأرض فلم يُصَلِّ ، ولم يأمر بالصلاة ، ولم يؤتِ الزكاة ، ولم يأمر بإيتاء الزكاة ، ولم يأمر بالمعروف ، ولم ينه عن المنكر ..﴿ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ سوف يعود إلى الله عزَّ وجل ، وسوف يحاسبه على عمله إن خيراً فخير ، وإن شرًّا فَشَرٌّ .
مواساة الله نبيَّه بقصص الأنبياء قبْله :
﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ .. الله سبحانه وتعالى يواسي النبي عليه الصلاة والسلام ، إن كذَّبوك يا محمد ، صلى الله على محمد : ﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ﴾ هؤلاء جميعاً كذَّبهم أقوامهم ، فلك أيها النبي الكريم بهم أُسوة ، أي لست وحدك المُكذَّب ، الأنبياء من قبلك كُذِّبوا ، أقوامهم كذَّبوهم ..﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى ﴾ لم يقل : وكذَّب قومُ مُوسى مُوسَى ، ﴿ وَكُذِّبَ مُوسَى﴾ لأن سيدنا موسى لم يكذِّبه قومه ، إنما كذَّبه الأقباط ، وعلى رأسهم فرعون .
الإملاء ليس دليلاً على أن الله راضٍ عن الإنسان :
﴿ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ﴾ .. الله عزَّ وجل يُملي للكافرين لحكمةٍ يُريدها ، يزيدهم قوَّةً إلى قوَّتهم ، يعطيهم البلاد ، المال ، العز ، الجاه ، ثم يأخذهم أخذ عزيزٍ مُقْتَدِر ..﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أيْ عاد وثمود وأصحاب مَدْيَن ، هؤلاء الأقوام الذين كذَّبوا الرسل أملى الله عزَّ وجل لهم ، فالإملاء ليس دليلاً على أن الله راضٍ عن الإنسان ، الله عزَّ وجل قد يُمِدّ الكافر بما يشتهي ؛ من مالٍ وأولادٍ وبنين ، وعزٍّ وشأن ، لكن هذا امتحان وابتلاء ، وليس عطاءً ..
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)﴾
[ سورة الفجر ]
هو يقول هذا ، هذا ليس إكراماً .. ﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ ، قال له الله : ﴿كَلا ﴾ ، ليس عطائي إكراماً ، ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء ، وحرماني دواء .. ﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ﴾ قد يرى الإنسانُ عدوَّه يزداد قوةً إلى قوته ، ويزداد مالاً ، وله صحَّةٌ طيِّبة ، وله أولاد ، وله زوجة ، ويعيش كما يحلو له ، والدنيا ترقص من حوله ، والأمور كلها تأتي وَفْقَ مراده ، لا ينبغي لك أن تشكك في قواعد الدين ، ربنا عزَّ وجل يقول في آية شهيرة :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
[ سورة الأنعام ]
صورة من صور إهلاك الله القرى الظالمةَ :
﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ .. ما أكثر القُرى التي يُهْلِكُها الله وهي ظالمة ! ﴿ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ﴾ هناك قرى كثيرة ظَلَمَتْ فأهلكها الله ، فإذا زرتها الآن ترى بئراً معطَّلةً ، ليس هناك من إنسانٍ يغدو لهذِهِ البئر فيستعين بها على شرابه ..﴿ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ﴾ قصرٌ مهجور ، وبئرٌ معطَّلة ، صورة من صور إهلاك القوى ، بئر معطَّلة ، والبئر مرفق حيوي جداً ، لو كان هناك أشخاص يقيمون في هذه القرية لكان هذا البئر يعمل ليلاً ونهاراً ، بئر معطَّلة وقصر مشيد ، ولكن الأشباح وحدهم يسكنون به ، أي بيت كبير ، كما زار البحتري إيوان كِسرى فوصفه وصفاً بليغاً ، فلذلك ربنا عزَّ وجل أعطانا صورة بلاغيَّة كيف أن هذه القرية الظالمة التي أهلكها الله عزَّ وجل لا ترى فيها إلا بئراً معطَّلةً وقصراً مشيداً ، هذا معنى .
يوجد معنى آخر أن البئر وهي مرفقٌ حيويٌّ أساسي للناس مُعَطَّل ، أي أناسٌ يعيشون حياةً تفوق حدَّ الخيال في البذخ ، وأناسٌ لا يجدون شربة ماءٍ يشربونها ، إن هذا الظلم الاجتماعي يؤدِّي إلى هلاك هذه القرية ، هذا المعنى الثاني .. على كل .. ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ .. معنى خاوية على عروشها عرش البيت سَقْفُهُ ، فالسقف إذا تهدَّم وتهدَّمت فوقه الجدران نقول : هذه الدار خاوية على عروشها ، أي سقفها في الأرض وحيطانها فوق السقف ، أي رمز من رموز التدمير ..﴿ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) ﴾
عدم استعمال الكافر حواسَّه للإيمان بالله :
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(46)﴾ .. أي هؤلاء الكفَّار كفَّار قريش وأي كفَّارٍ آخرين ألم تكن لهم قلوبٌ يعقلون بها ؟ الله عزَّ وجل أعطى الإنسان قوَّة إدراكيَّة كبيرة جداً ، أعطاهُ فكراً يفكِّر به ، أعطاه قلباً يعقل به ، أعطاه أذناً يسمع بها ، أعطاه عيناً يُبصر بها ، ألم تُبْصِر عينه ما حلَّ بهؤلاء الظالمين من عادٍ وثمود وأصحاب مدين وقوم نوح وقوم سيدنا موسى ؟ ألم يَرَ بعينه ما حلَّ بهم ؟ ألم يرَ آثارهم ؟ ألم يرَ ديارهم ؟ ألم يرَ أهراماتهم ؟ ألم يرَ حمَّاماتهم ؟ مدارجهم ؟ الرومان كانوا في هذه البلاد مقيمين ، انظر إلى مدرَّجاتهم ، إلى مدنهم ، إلى آثارهم ، إلى أبنيتهم ، فربنا عزَّ وجل قال : ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ الكافر له عينان واسعتان جميلتان زرقاوان أحياناً ، يقولون لك : له عيون جميلة جداً ، ومع ذلك فهو أعمى عند الله ، لأنه لم ير الحقيقة ، القلب يرى الحقيقة ، فهذه العين لا قيمة لها ، إنها ترى ظاهر الأشياء ، ترى صورها ، ولكن القلب هو الذي يعقل .
الله تعالى لن يخلف وعده أبداً :
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ الكفَّار يستهزئون : متى يا سيدنا العذاب ؟ متى ؟ سؤال استهزاء ، سؤال سخرية ، متى ؟ نحن بالانتظار ، إذا دعا رجلٌ الناسَ إلى الله عزَّ وجل ، وتوعَّدهم بعذاب الله ، يستهزئون ، يقولون له : متى ؟ نحن جاهزون للعذاب ، متى سيأتي العذاب ؟ فقال ربنا عزَّ وجل : ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ ، هذه " لن " لتأبيد النفي ..
معاني قوله تعالى : وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ :
﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ ربنا عزَّ وجل حليم ، اليوم الذي عندك يساوي عند الله ألف سنة ، أي ألف سنةٍ عندك كيومٍ عند الله عزَّ وجل ، فربنا عزَّ وجل يستوي عنده ضيق الزمان واتساعه ، يستوي عنده اليوم وألف سنة ، كلاهُما عند الله سيَّان ، هذا المعنى الأول .
المعنى الثاني : حينما يأتي العذاب فإن يوماً من أيام هذا العذاب تعدل عند الذي يُعَذَّب ألف عام ، انطلاقاً من الحقيقة القائلة : " إنَّ دقيقة الألم ساعة ، وساعة اللذَّة دقيقة " ، الإنسان أحياناً ينتظر وهو قلق ، يقول لك : انتظرت ساعة وكأنَّها سنة ، الإنسان أحياناً تُؤْلمه سِنُّهُ ، يقول لك : أمضيت ليلةً وكأنها شهر ، فلذلك الوقت يخفُّ وقعه ، ويثقل وقعه على الإنسان ، فالإنسان حينما يعذِّبه الله عزَّ وجل إن اليوم الواحد من العذاب يمضي على المُعَذَّب وكأنه ألف عام .. هذا المعنى الثاني .
المعنى الثالث .. ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ .. المعنى الثالث : أن اليوم - يوم القيامة - اليوم من أيَّام يوم القيامة يساوي ألف سنةٍ في الأرض ، أيْ إذا انتظر الناس يومين أيْ ألفيْ سنة ، هذا المعنى الثالث ، أيام يوم القيامة كلُّ يومٍ فيها يعدل ألف عام ، هذا معنى . أو حينما يأتي العذاب اليوم الواحد من أيام العذاب يمضي على الإنسان الكافر وكأنَّه ألف عام .
المعنى الثالث : الزمن من خلق الله ، فيستوي عند الله ضيق الزمان واتساعه ، اليوم والألف عام .. ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ أحياناً يمد الله عزَّ وجل الإنسان ، يكون في شبابه مفرِّطاً ، غائباً عن القيَم وعن كتابِ الله عزَّ وجل ، لكن تمضى عشرون سنة وهو مازال جامحاً ، ثلاثون ولا زالَ منغمساً في الشهوات ، في الأربعين تجده معتزاً بقوَّته ، في الخمسين ، في الستين تجد أنَّه يعاني من مجموعة الأمراض ، فتجده قد صار معتدلاً ، الله عزَّ وجل وعد الإنسان المنحرف بشيخوخة مُزرية ﴿ ثمُّ يُردُّ إلى أرذل العمر ﴾ هو حينما كان شاباً نسي هذه الآية ، وظنَّ أنه سيبقى شاباً إلى أمدٍ غير محدود ، ولكن جاء وعد الله ، الله عزَّ وجل لا يستعجل ، وعده هذا الذي يمضي شبابه في المعاصي لابدَّ له من خريف عمرٍ هو كالجحيم تماماً ، ﴿ ثمُّ يُردُّ إلى أرذل العمر ﴾ فالإنسان يظن وعدَ الله بعيداً ، وعد الله قريب ، ولكن يأتي ، كل متوقعٍ آت.
كل شيء عند الله بقدر :
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ .. هناك مدن جميلة جداً كلُّها نوادي قِمار ، كلُّها نوادي عراة ، كلُّها فنادق مشبوهة ، كلُّها سواحل ، تُرتَكَبُ فيها المعاصي على قَدَمٍ وساق ، هناك مدن جميلة جداً تعيش على المعصية ، مورد أهلها على المعصية ، الإنسان لا يغتر ، هذا البلد بلد القِمار ، هذا البلد بلد اللِواط ، هذه البلد بلد الزنا ، ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ يوجد مدينة بالساحل الأطلسي اسمها .. أغادير .. كان فيها فنادق ونوادٍ ، نوادٍ تُمارَس بها الرذيلة بشكل لا يوصف ، وهي قبلة السيَّاح الأجانب ، وجميع السيَّاح الأغنياء كانوا يرتادون هذه القرية ، قرية على الساحل الأطلسي ، جاءها الزلزال في ثلاث دقائق جعل عاليها سافلها ، دُمِّر فيها كل شيء ، أشهر فندق في هذه المدينة الساحليَّة الجميلة كان مؤلَّفاً من ثلاثين طابقاً ، غاصت هذه الطوابق الثلاثون ولم يبقَ منه إلا لوحته التي هي على الطابق الثلاثين ، جاءت هذه اللوحة على مستوى الأرض .. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ في بعض الأحيان تقع زلازل ، نكبات ، فيضانات ، ساعةً يقالُ لك : في كولومبيا ثار بركان رافقته فيضانات ، هذا كلُّه بقدر ، كلًّه مدروس .
﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)﴾
[ سورة الإسراء ]
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾
[ سورة النحل ]
تحت سمعنا وبصرنا .
من يسعَ ليطفئ نور الله فهو من أصحاب الجحيم :
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ .. سعى ، أي سعى سعياً حثيثاً ليطفئ نور الله عزَّ وجل ، ليصدَّ الناس عن سبيل الله ، يضع لهم العقبات في طريقهم إلى الله ، ليمنعهم من تلقِّي العلم ..﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) ﴾ .
التناقض بين تمنِّي النبي وتمني الشيطان :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ .. أيْ النبي أو الرسول إذا تمنَّى هداية الخلق ، تمنَّى نشر الحق ، تمنى أن تقوم الحياة على شرع الله ، تمنى أن يسعد الناس بالقرب من الله عزَّ وجل ، تمنى أن يكون الناس على الحق جميعاً ، تمنى أن يسعد الناس ، هذا النبي ماذا يتمنَّى ؟ يتمنَّى الخير ، يتمنَّى أن يؤمن الناس بربهم ، يتمنى أن يسعدوا بالقرب منه ، يتمنى أن يدخل الناس الجنَّة ، يتمنَّى أن ينتشر الحق سريعاً ..﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾ يأتي الشيطان فيلقي في أمنيته بعض الشُّبَه ، وبعض الأفكار التي تصدُّ الناس عن سبيل الله ، يلقي الشيطان في أمنيَّته أن يضلَّ الناس ، النبي ألقى في أمنيته أن يهديهم ، والشيطان ألقى في أمنيته أن يضلَّهم ، النبي ألقى في أمنيته أن يسعدهم ، والشيطان ألقى في أمنيته أن يشقيهم ، النبي ألقى في أمنيَّته أن يهديهم إلى سواء السبيل ، والشيطان ألقى في أمنيته أن يضلَّهم سواء السبيل ، فهناك تناقض في تمنِّي النبي وتمني الشيطان ، النبي يتمنَّى الخير والشيطان يتمنى الشر .. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ أيْ في أمنيته هو ، أو وضع العراقيل التي من شأنها أن تُعِيَق تحقُّق أمنية النبي ، شخص له ابن ، يتمنى الأب أن يصلي ابنه ، وأن يستقيم ، وأن يغضَّ بصره ، وأن يطلب العلم الشريف ، وأن يكون مؤمناً ، وأن يكون متفوقاً ، يأتي رفيق صاحبٌ لهذا الابن ، صاحب سوء فيدعو الابن إلى النزهات المحرَّمة ، وإلى دور اللهو ، وإلى ترك الصلاة ، وإلى معاكسة الأب ، فنقول : هذا الأب تمنَّى هداية ابنه ، وهذا الصاحب السوء تمنَّى أن يحبط أمنية الأب ، هكذا المعنى .. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ .
الله سبحانه وتعالى دائماً بالمرصاد :
لكن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد .. ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ كل أماني الشيطان تُبَدَّد ..﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أبو جهل ، وأبو لهب ، وصفوان بن أميَّة ، وزعماء قريش الخصومُ الألدَّاء ماذا تمنَّوا ؟ تمنوا أن يطفأ نور الله عزَّ وجل ، ما الذي حصل ؟ أتمَّ الله نوره ، في معركة أحد ماذا تمنَّى الكفَّار ؟ أن ينهزم المسلمون ، في معركة بدر ، في معركة الخندق ما الذي حصل ؟ نصر الله نبيَّه والمؤمنين ، هذه الآية دقيقة جداً ، أي لا يستقر الأمر إلا على الحق .. ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ..
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين