الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
كل إنسان رهين عمله يوم القيامة:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة الحاقة، ومع الآية التاسعة وهي قوله تعالى:
﴿ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)﴾
الإنسان يوم القيامة رَهين عمله، ونجاته أو هلاكه بحسب عمله، فالدنيا دار ابتلاء، بينما الآخرة دار جزاء، في الدنيا قد تستطيع أن تتحرَّك حركةً لا تتأثر بعملك السابق، لكنه في الآخرة عملك الذي يتلبَّسك هو سبب فوزك أو هلاكك، ففرعون وهو في الدنيا كان فرعون مصر، لكن هنا جاء بعمله متلبساً وسوف يلقى جزاء عمله تاماً وَفْقَ أدق موازين العدل.
﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ﴾ من قبله أي من تقدَّمه من القرون الخالية والأمم الماضية؛ أي فرعون ومن تقدمه من الأمم الخالية والقرون الماضية.
﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ قوم لوط الذين انحرفوا عن سواء السبيل، ذكرت لكم من قبل أن الله سبحانه وتعالى خلق الذكر والأنثى، والحكم الشرعي هو الزواج، وليس من علاقةٍ بين الذكَرِ والأنثى إلا علاقة الزواج، فمن خرج عن هذا المنهج فقد خالف حكماً شرعياً، ووقع في جريمة الزنا، جريمة الزنا مخالفة للحكم الشرعي، قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)﴾
لكن عمل قوم لوط عملٌ ليس مخالفاً للحكم الشرعي فَحَسْب بل هو مخالفٌ أيضاً للفطرة السويَّة أيضاً، مخالفة الفطرة شيءٌ أكبر من مخالفة الحكم الشرعي، لذلك أَهْلَكَ ربنا عزَّ وجل قرية لوطٍ فجعل عاليها سافلها، وأرسل عليهم حجارةً فأهلكتهم، قوم لوط خالفوا الحكم الشرعي وخالفوا الفطرة الإنسانية، والذي يُلفت النظر أنَّه في هذا العصر الأخير فَشَت الفاحشة إلى درجة أن هذا المرض الخطير الذي أعيى الجامعات ومراكز البحوث أعيى هؤلاء العلماء أن يجدوا مصلاً مضاداً لهذا المرض، هو بسبب الشذوذ، والشذوذ مخالفة الفطرة السليمة والحكم الشرعي معاً، فربنا عزَّ وجل سَمَّى قوم لوطٍ: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ لأن الله جعل عاليهم سافلهم، وأرسل عليهم حجارةً فأهلكتهم، وقد استنبط العلماء أن الذي يرتكب جريمة قوم لوط يستحق القتل، لا الجلد ولا الرجم، يستحق القتل أو أن يلقى من شاهق، لأنه يخالف الفطرة ويخالف الحكم الشرعي ويعمل على إفساد المجتمع، وقد لفت نظري قبل أسابيع، أو قبل شهر تقريباً، أن هناك وزيرَ صحةٍ في أحد بلاد الغرب يحمل دكتوراه في العلوم الإنسانية، يعقد مؤتمراً صحفياً ويصرح بملء فمه أنه شاذٌ جنسياً، قلت: سبحان الله في أي عصر نحن!! قيل:
(( كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؟ قالوا: أو كائن يا رسول الله؟ قال: نعم وأشد منه سيكون، قال: كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف، قالوا: أوكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: وأشد منه سيكون قالوا: وما أشد منه ؟ قال: كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً. ))
[ ابن أبي الدنيا وأبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أمامة بسند فيه ضعف ]
وفيما أعلم أن هناك منظَّمات في العالم الغربي تنظِّم هؤلاء الشاذين، تعطيهم بطاقات، تدافع عن حقوقهم، تدعو إلى دخلوهم الجيش في أمريكا، تدعو إلى ردّ اعتبارهم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن عبد الله بن عمر: يا مَعْشَرَ المهاجرينَ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ: لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ؛ حتى يُعْلِنُوا بها؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم. ))
دققوا في هذا الحديث الذي يُعتبر أو يعدُّ من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام: ((لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ حتى يُعْلِنُوا بها؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم)) هذه الأمراض الجنسية الجديدة، هناك مرض الأَكَلَة يقضي على الإنسان في أربعٍ وعشرين ساعة، تتفتت أنسجته العضلية تفتُتاً، وهناك أمراضٌ جنسيةٌ لا تعد ولا تحصى، إلا أن أبرزها وأشهرها مرض الإيدز.
مرض الإيدز أراده الله عقاباً للانحراف ولم يرده مرضاً كبقية الأمراض:
أيها الإخوة الكرام؛ قد يبذل العالم ألف مليون من العملة الصعبة لقيادة بحوثٍ تكتشف مصلاً مضاداً لهذا المرض، لو أنهم توصلوا جدلاً إلى مصلٍ مضاد هذا الفيروس يُغيِّر شكله فتذهب كل هذه الأموال سدى، الحقيقة هو أضعف فيروس على الإطلاق يتحدى أقوى الحكومات، يتحدى أقوى الجامعات، يتحدى أقوى بحوث العلماء، كل العالم مكتوف اليدين أمام هذا المرض، جاء في أحد إحصاءات أمريكا قبل سنةٍ أو أكثر أنه في كل عشر ثوانٍ يموت إنسان بهذا المرض، والشيء الذي لا يُصدَّق أن بعوضةً تقف على جسم مصاب فتغرز خرطومها في جسمه، وتمتص من دم المصاب، وتقف على جسم صحيح فتغرز خرطومها الملوث بهذا الفيروس فلا تنتقل العدوى من هذا إلى هذا، الله جلَّ جلاله أراده عقاباً للانحراف ولم يرده مرضاً كبقية الأمراض يبتلى به الإنسان، إذاً: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ﴾ أي بالمعصية والكفر، الإنسان حينما يكفر يعصي، حينما يؤمن يُطيع، فالكفر تكذيبٌ وإعراضٌ وانحراف ؛ والإيمان تصديقٌ وإقبالٌ وانضباط.
عقاب قوم موسى ولوط لعصيانهم أمر ربهم:
﴿ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)﴾
من هو رسول ربهم؟ قال علماء التفسير: هو سيدنا لوط، عصوه وأبوا إلا أن يحققوا شهواتهم وفق انحرافهم لا وفق منهج الله عزَّ وجل، قال:
﴿ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)﴾
هذه المرأة خلقها الله لتكون زوجةً، هذا الذي تبحث عنه يجب أن يُروى من خلال المرأة الزوجة، ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ .
وقال بعض المفسِّرين: الرسول هنا أي سيدنا موسى، لأن فرعون هو الذي عصى أمره، وسيدنا لوط لأن قوم لوط هم الذين عصوا أمره، ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً﴾ أي أخذةً زائدةً عن الحد المعقول، لأن ربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾
﴿فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً﴾ أي أخذةً عاليةً زائدةً على العذاب الذي يتقبَّله الإنسان.
مصير قوم نوح:
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)﴾
فكيف يخاطب الله قريشاً؟ ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ لو أنه قال: حملناهم، فالمقصود قوم نوح، لكن لمَ قال: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ﴾ ؟ استنبط العلماء أن الذين عاشوا على وجه الأرض هم من نسل سيدنا نوح ومن نجا معه من السفينة، لأن الله سبحانه وتعالى أهلك كل من عاصر هذا النبي الكريم إلا من رَكب السفينة.
﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)﴾
فربنا عزَّ وجل لم ينجِّ إلا ركاب السفينة، إذاً البشرية كلها انحدرت من نسل هذا النبي الكريم سيدنا نوح، لذلك نحن من أبنائه: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ .
قال بعض العلماء: طغى الماء أي طغى على خُزَّاِنِه من الملائكة غضباً لربه، وكأن هذا الماء أُعطي ما يسمى بالتشخيص، أي أعطي نفساً مدركةً، هذا الماء لم يحتمل كُفر هؤلاء، فكأنَّه تفلت من ضبط خزانه الملائكة: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ يروى أن الإمام علياً كرم الله وجهه قال: "طغى على خُزَّاِنِه من الملائكة غضباً لربه، فلم يقدروا على حبسه" .
لذلك حينما فار التنور نبَع هذا الماء من كل مكان وشكَّل بحراً هائجاً، ولم ينج من سكان الأرض إلا من ركب سكان نوح.
وقال بعضهم: ليس من الماء قطرةٌ تتنزَّل قبله ولا بعده إلا بكيلٍ معلومٍ غير ذلك اليوم، الأمور دقيقة جداً، إلا أنه في هذا اليوم فار الماء من كل ينبوع وملأ الأرض وطغى حتى أهلك كل من كفر بهذا النبي الكريم: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ الجارية: هي السفينة:
﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)﴾
في النهاية لم ينج إلا ركَّاب السفينة.
﴿ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)﴾
قال بعض المفسرين: أراد الله سبحانه وتعالى أن يبقي ألواح السفينة على جبلٍ هو الجودِي، لتكون آثار هذه السفينة عبرةً للناس من بعد نوحٍ عليه السلام.
وقال بعضهم: إن إغراق قوم نوحٍ الذين كذَّبوه هذا الإغراق هو الموعظة الباقية التي ينبغي أن نتَّعظ بها، وأن نتخذها درساً بليغاً في حياتنا، أي ربنا عزَّ وجل يدعونا دعوةً بيانية، إن استجبنا سلمنا وسعدنا، وإن لم نستجب دخلنا في مرحلةٍ جديدة من مراحل الدعوة إلى الله، مرحلة التأديب التربَوي، فإن استجبنا وتبنا إلى الله عزَّ وجل نجونا وسلمنا وسعدنا، وإن لم نستجب دخلنا في مرحلةٍ ثالثة وهي الإكرام الاستدراجي، فإن تُبنا وشكرنا نجونا وسلمنا، فإن لم نفعل قصمنا الله عزَّ وجل، هذه هي سياسة ربنا جلَّ جلاله مع عباده، يدعوهم دعوةٌ بيانية، ثم يربِّيهم تربيةٌ تأديبية، ثم يكرمهم إكراماً استدراجياً، فإن لم يستجيبوا ولم يتوبوا ولم يشكروا أخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر.
علامة السماع الصحيح هي الاستجابة:
﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)﴾ الحقيقة ربنا عزَّ وجل حينما تحدَّث عن السماع وصف السماع بأنه استجابة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾
فعلامة السماع الصحيح هي الاستجابة، من هنا قال الله عزَّ وجل:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾
الإصغاء والسماع لا يسمَّى سماعاً ولا إصغاءً إلا إذا تاب الإنسان إلى الله عزَّ وجل، أما أن يُلْقِي سمعه ويستوعب الكلام ولا يتحرك، لا يأخذ موقفاً، لا يحاسب نفسه، لا يدع مُنكراً، لا يدع معصيةً، هذا السماع لا قيمة له، فهذا الذي يسمع ولا يستجيب هو في حكم الذي لا يسمع.
أيها الإخوة؛ ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)﴾ الأُذُنُ الواعية التي تعي الحق، لذلك ما دام الإنسان في بحبوحة، مادام في صحة، مادام شاباً، غني، عنده فراغ، عنده قوَّة، يوجد فُسحة من عمره، يجب أن يستجيب إلى الحق، وأن يصغي إليه، وأن يستوعبه، وأن يأخذ موقفاً عملياً، أما إذا أَلْقَى السمع ولم يفعل شيئاً يؤكِّد أنه استمع، أي أنت إذا قلت لإنسان: على ظهرك عقرب، فبقي هادئاً جداً والتفت إليك وقال: إنني أشكر منك هذه الملاحظة، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكّنني أن أكافئك عليها، هل فهم ما قلت له؟ بالتأكيد لم يفهم، لو أنه فهم أن على كتفه عقرباً لقفز وصاح وخرج من جلده خوفاً وفرقاً، أما حينما بقي هادئاً، وانتبه إلى هذه الملاحظة، وشكرك عليها، وتبسَّم، معنى ذلك ما سمع ما قلت له، فالذي لا يستجيب أي كأنه ما سمع.
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)﴾
قال العلماء: هذه النفخة هي النفخة الأولى لقيام الساعة التي لا تُبقي أحداً على قيد الحياة.
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)﴾
الأرض والجبال حُمِلَتَا وارتطمتا ودُكَّتا وسويتا، الآية الكريمة:
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾
﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ أي سوِّيتا ببعضيهما؛ جبال شاهقة، وديان ساحقة، تلال، أَكَمَات، وهاد، أرض وعرة، أرض مستوية، سواحل، أغوار، كل هذه التضاريس أُلْغِيَت، دكتا دكةً واحدة وأصبحت مستويةً مع بعضها بعضاً.
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)﴾
هذه التي لابدَّ من أن تقع، ﴿وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ لابدَّ من أن تقع، وقوعها محقق، لذلك أكثر الكلمات التي يعبَّر عنها عن المستقبل في القرآن الكريم كلمات تأخذ صيغةَ الفعل الماضي لتحقق الوقوع.
﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)﴾
أي السماء انشقت أصبحت ضعيفة، هذا التماسك، هذا النظام التجاذُبي، التجاذب الحركي، هذه القوى قوى التجاذب، هذا الكون المبني أقوى بناء، تخلخل النظام، وتفتت الأرض، وتبعثرت الكواكب، وأصبحت السماء واهية، ﴿وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ أي ضعيفة.
﴿ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)﴾
أي على أطرافها، ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ قال العلماء: ثمانية أصنافٍ من الملائكة، أو ثمانية أزواجٍ من الملائكة.
الله سبحانه وتعالى مُطَّلعٌ على ما في النفوس والقلوب:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)﴾
هنا دخلنا الآن في بيت القصيد، يومئذٍ تعرضون على الله عزَّ وجل؛ كل إنسان مخبوء بين ثوبيه؛ يعرض عمله، تُعرض نيَّته، تُعرض مطامحه، تُعرض أفعاله، تُعرض حركاته، سكناته، نشاطاته، مواقفه، عطاؤه، منعه، غضبه، رضاه، وصله، قطعه، رحمته، قسوته، عنايته، إهماله، إخلاصه، تفلُّتُهُ، استقامته، انحرافه، ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾ تربية أولاده، معاملة زوجته، معاملة جيرانه، معاملة شركائه، معاملة زبائنه، معاملة من فوقه، معاملة من تحته، معاملة من عاصره، في لهوه، في جِدِّهِ، في فرحه، في ترحه، في سفره، في إقامته، في أتراحه: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ أي كأنك تشاهد شريطاً فيه كل تفاصيل حياتك، كل دقائقها، كل ما فعلته في الدنيا معروضٌ عليك بأدق التفاصيل والجزئيَّات!!
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾
﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ لا تستطيع أن تُخفي عن الله شيئاً، أنت بإمكانك أن تُخفي عن معظم الناس أشياء كثيرة، قد توهم أُناساً كثيرين أنك في وضع وأنت بخلافه، قد توهم أناساً كثيرين إلى أمدٍ طويل أنك في حال وأنت في خلافه، لأن الإنسان الطرف الآخر علمه محدود، نافذته كلامك وتصريحك، لكن الله سبحانه وتعالى مُطَّلعٌ على ما في النفوس، مطلعٌ على ما في القلوب،﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾ .
أكبر دافع لطاعة الله أن تعلم أن الله يعلم:
إخواننا الكرام؛ إن أكبر دافع لطاعة الله أن تعلم أن الله يعلم، أن تعلم أن الله مطلعٌ عليك، أن تعلم أن الله محيطٌ بك، أن تعلم أن الله لا تخفى عليه خافية، أن تعلم أن الله يحول بينك وبين قلبك، أن تعلم أن خواطرك في علم الله، أن تعلم أن خاطراً بسيطاً يعلمه الله ويحاسب عليه، والدليل: أناس كثيرون ينوي نيَّة يرى نيَّته أمامه، إن كانت طيبة رأى التوفيق والفوز، وإن كانت سيِّئة رأى الدمار، هذا أكبر دليل على أن الله مطلعٌ على خواطرك الداخلية، آلاف القصص تؤكِّد هذه الحقيقة.
إنسان نوى أخٌ كريم قال لي: انتهى من خدمته الإلزامية ولا يملك من الدنيا شيئاً، أعطته أخته سواراً من حليِّها، واشترى بها تذكرة طائرةٍ إلى الخليج، قال لي: وأنا في الطائرة والله ما حرَّكت شفتاي إلا أنني قلت في نفسي: إن أكرمني الله فسأبني له بيتاً في منطقتي، وغاب سنواتٍ عِدَّة وأكرمه الله، ما تكلم، خاطر داخلي، الله عزَّ وجل علم خاطره وأكرمه وأعطاه، جاء ليقيم هذا المسجد، هناك إجراءات لابدَّ منها، رأى من التسهيلات ما لا يوصف، وبني المسجد، وصليت في هذا المسجد، أي خاطرٍ يخطر في بالك، أي نيةٍ تنعقد في نفسك، أي طموحٍ تتمنَّاه في علم الله عزَّ وجل، ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ هنيئاً لمن كانت سريرته كعلانيته، وسره كجهره، وباطنه كظاهره، لأنه عند الله مكشوف، قد تخدع أناساً كثيرين إلى أمدٍ قليل، وقد تخدع أناساً قليلين إلى أمدٍ طويل، أما أن تخدع الله عزَّ وجل فهذا مستحيل.
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾
أما أن تعطي نفسك قيمةً لا تستحقُّها فهذا مستحيل، لن تستطيع أن تخدع نفسك، قال تعالى:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾
فموطن الثقل في هذا الدرس هذه الآية: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾ .
الله تعالى يعلم خيانة الإنسان وكذبه:
إنسان خائن، إنسان كاذب:
(( عن النواس بن سمعان الأنصاري: كبُرتْ خيانةً أن تُحدِّثَ أخاك حديثًا هو لك مُصدِّقٌ وأنت له كاذبٌ. ))
[ أخرجه أحمد: الترغيب والترهيب : خلاصة حكم المحدث : ضعيف :عمر بن هارون ]
خيانة الإنسان، ظلم الإنسان، الكذب، النفاق، الدجَل، الإيهام، الاحتيال، التدليس، هذا كله في علم الله عزَّ وجل: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ .
بالنهاية الناس رجلان، نحن في الدنيا لنا تقسيمات لا تُعَدُّ ولا تحصى، شرقٌ وغرب، شمالٌ وجنوب، جهةٌ تؤمن بالفرد على حساب المجتمع، وجهةٌ تؤمن بالمجتمع على حساب الفرد، من أعراقٍ مختلفة؛ أعراق سامية، أعراق آرية، أعراق أوروبية، لغات مختلفة، عادات مختلفة، تقاليد مختلفة، عقلية مختلفة، مشارب مختلفة، أنماط مختلفة، أصول مختلفة، أما يوم القيامة فالناس نوعان:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)﴾
إيتاء الكتاب باليمين دليل الفوز والنجاة، العرب كانت تتبارك باليمين، بل إن هناك بعض التقاليد الجاهلية أن إنساناً إذا طار طائرٌ عن يمينه تفاءل، فإن طار عن شماله تشاءم، وهذا لا أصل له، لكن هنا في القرآن الكريم: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ دليل فوزه ونجاته، ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ اقرؤوا كتابي، الإنسان حينما ينجح ويتفوَّق، يعطي جلاءه لكل من حوله؛ انظر الدرجات، انظر المكافئات، انظر التقدير، انظر الامتياز، انظر الثناء، الإنسان يزهو بنجاحه وتفوِّقه، والحقيقة هذا هو النجاح، تجد أحياناً إنساناً يفرح بالدنيا، فرحه بالدنيا من ضيق أفقه، لأن هذه الدنيا من عرفها لم يفرح لرخاء، عَزَّى أحد إخوتنا الكرام بيتاً من بيوت دمشق، قال لي: البيت مساحته سبعمئة متر، قال لي: فيه من التزيينات ما لا يصدقه العقل، كل شيءٍ في البيت من أعلى مستوى، مزودٌ بكل ما يطرب له الإنسان، قال: وأنا في التعزية قلت: أين صاحب البيت؟؟ هذا الذي يؤخذ منك عند الموت ليس عطاءً، هذا الذي تخسره عند الموت لا يسمى عطاء، لذلك من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي، يقول الإمام علي رضي الله عنه: "الغنى والفقر بعد العرض على الله" يجب أن تعتقد أن الذي أنت فيه في الدنيا لا يسمى عطاءً:
(( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)﴾
كلمة: ظنّ إذا قالها مؤمن فهي اليقين، وإذا قالها الكافر فهي الشك: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ﴾ أي أيقنت ﴿أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾.
الإنسان الذي ينجو من عذاب الله هو الذي يخافه فقط:
أيها الإخوة؛ وقفة متأنِّية، هذه الآية تشير إلى أن الذي ينجو من عذاب الله هو الذي يخافه فقط، لا تقل: ضمير، ما معنى الضمير؟ لا تقل: رادع، قل: الذي يخاف الله عزَّ وجل هو الذي ينجو من عذابه في الدنيا والآخرة، ما سبب نجاة هذا الإنسان هذا الذي: ﴿أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ سبب النجاة أنه قال: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ لذلك إن أردت قاعدةً ذهبية تُعينك على طاعة الله، وعلى ضبط أمورك، قبل أن تقول كلمة، قبل أن تُعطي، قبل أن تأخذ، قبل أن تبتسم، قبل أن تتجَهَّم، قبل أن تغضب، قبل أن ترضى، قبل أن تقطع، قبل أن تصل، قبل أن تحسن، قبل أن تعفو، هيِّئ لربك جواباً: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ لذلك قال لي أخٌ كريم مرةً: استطاع أن يحوز أرضاً عن طريق مناقصةٍ وهميةٍ تمثيلية، جاء بأشخاص عديدين، ودخلوا في المزايدة، ورسا السعر على سعرٍ قليلٍ جداً بالنسبة إلى ثمن الأرض، وهناك أيتام يملكون هذه الأرض وأرامل، فلمَّا ذكر لي ذلك، قلت: كيف تواجه الله يوم القيامة؟ هذا مقياس دقيق، قبل أن تأخذ ما ليس لك، قبل أن تعطي، قبل أن تحابي، قبل أن تظلم، قبل أن تستغل، قبل أن تغتصب، قبل أن تفعل شيئاً لا يُرضي الله هل هيَّأت لله جواباً؟
مرة سألني أخ، يعمل في التموين قال لي: ماذا أفعل؟ قلت له: افعل ما تشاء، اكتب الضبوط كما تشاء، أدخل الناس إلى السجن كما تشاء، ينظر إليّ هكذا ما هذا الكلام!! قلت: ولكن إذا كنت بطلاً هيِّئ لربك جواباً عن كل شيءٍ تفعله، إذا كان هناك إنسان يؤذي المسلمين في طعامهم يجب أن توقفه عند حده، إذا كان هناك إنسان يُطعم الناس طعاماً فاسداً، يُطعم الناس لحماً فاسداً يجب أن توقفه عند حده، ولكن علاقتك مع الله، لا مع عبد الله، علاقتك مع الله، هيِّئ لربك جواباً.
وأنا أقول لكم أيها الإخوة؛ وأقول لنفسي أيضاً: قبل أن تفعل شيئاً، قبل أن تعطي، قبل أن تمنع، قبل أن تغضب، قبل أن ترضى، قبل أن تتساهل، قبل أن تتشدد، قبل أن تُطَلِّق، قبل أن تتزوج، قبل أن تَحرم، قبل أن تمنع، قبل أن تذهب إلى هذه النزهة، قبل أن تجلس مع هؤلاء في سهرة، قبل أن تفعل شيئاً هيئ لله جواباً، لأن يوم الحساب يوم آتٍ.
﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)﴾
عيشة مرضي عنها، وعيشة ترضى عنك أيضاً؛ ترضى عنك فلا تذهب عنك، وترضى عنها فلا تَمَلُّها: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ .
(( عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. قال أبو مُعاويةَ، عن الأعمَشِ، عن أبي صالِحٍ: قرَأ أبو هُريرةَ: (قُرَّاتِ أعْيُنٍ).))
حتى إن الذي يطيب لنا في الدنيا الذي في الجنة مثله ليس بينهما شبهٌ إلا الاسم، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عن المستورد بن شداد: واللهِ ما الدنيا في الآخرةِ إلا مثلُ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ فلينظر بم يرجعُ؟))
[ فتح الباري لابن حجر : خلاصة حكم المحدث : إسناده إلى التابعي على شرط البخاري ]
قال تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)﴾
فيها من الحور العين، وفيها من الولدان المخلَّدين، وفيها ما تلذُّ الأعين وتشتهيه الأنفس، فيها من كل فاكهةٍ زوجان، فيها من كل شيءٍ يُسعد الإنسان إلى أبد الآبدين، لا تقدم في السن، ولا مرض، ولا كِبَر، ولا حسد، ولا قلق، ولا شيءٍ مما يؤذي الإنسان في الدنيا، وفوق هذا قد ينظُر المؤمن إلى الله عزَّ وجل يوم القيامة فيغيب خمسين ألف سنة من نشوة النظرة.
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾
الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، وفوق ذلك.
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)﴾
هذه الجنة التي يزهد بها الناس، ويسعون إلى جناتٍ في الدنيا، ما إن تكتمل حتى يأتي ملك الموت، الآن، يقول له: الآن، الدنيا تغر وتضر وتمر، الدنيا دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له، الذي يضع كل آماله في الدنيا مقامر لأنه قد يخسرها في ثانيةٍ واحدة، وكم سمعنا عن أناس يملكون عشرات، بضع ألوف الملايين، وماتوا في ثوانٍ معدودات بحادث، الإنسان أحياناً يسعى لتجارةٍ عريضة، يخسر كل ما يملك في ثانيةٍ واحدة، فلذلك أمرنا الله عزَّ وجل أن نسعى إلى الآخرة.
﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)﴾
بمعنى أنَّك مُضَّطجع تأكل من ثمارها، وإن كنت قاعداً تأكل من ثمارها، وإن كنت واقفاً تأكل من ثمارها، أي يوجد راحة إلى درجة غير معقولة، كيفما أردت: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ دانيةٌ منك.
متاعب الطاعات تذهب وتبقى ثمارها ولذائذ المعاصي تذهب وتبقى تبعاتُها:
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
هذه أيام الدنيا، أيام بذل المال، أيام غض البصر، أيام البعد عن الفتن، أيام البعد عن هذه البدع التي جاؤوا بها إلينا كي نسهر إلى ساعة متأخرة من الليل في معصية الله عزَّ وجل، قبل أن نجلس، وقبل أن نستمتع، وقبل أن نفعل ما يفعله معظم الناس، هل فكَّرنا في هذا اليوم؟ ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ صلاة الليل، صلاة الفجر في المسجد، تلاوة القرآن، حضور مجلس العلم، تربية الأولاد، خدمة الزوجة، إنصافك من نفسك، هذه الأعمال الطيبة، الدعوة إلى الله، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، هذه تجد ثمرتها يوم القيامة، ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ .
إخواننا الكرام؛ الإنسان حينما يدرس في الدنيا، ويتعب تعباً شديداً ثم ينجح، ينسى كل تعبه لحظة النجاح، هذه الدنيا التي مرَّت تمر كلمح البصر، تذهب متاعب الطاعات وتبقى ثمارها، وتذهب لذائذ المعاصي وتبقى تبعاتُها، لذلك يقول الله عزَّ وجل: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ الأيام السابقة في الدنيا، الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ. ))
هناك ممنوعات، هناك محرمات، هناك شيء ممنوع أن تشربه، ممنوع أن تأكله، شيء ممنوع أن تنظر إليه، هناك أوامر، هناك نواه، هناك حقوق، هناك واجبات، هناك مسؤوليات، هناك تبعات، يوجد عليك واجب نحو الله عزَّ وجل، واجب نحو أمك وأبيك، واجب نحو زوجتك، واجب نحو أولادك، وواجب نحو من تتعامل معهم.
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)﴾
لأنه شيء مخز، يوجد فضائح، يوجد أعمال سيئة، يوجد معاص، يوجد آثام، وهذا الكتاب ينطق عليه بكل ما فعل.
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)﴾
الموت للكافر أهون من أي شيءٍ بعده، الموت للمؤمن أصعب من كل شيء بعده، فبعده سعادة أبدية، أما الموت للكافر، ما يعانيه الإنسان حينما يموت، سكرات الموت أهون شيءٍ مما بعد الموت للكافر، ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ يا ليت الموت الذي متُّه كان قاضياً عليّ كلياً:
﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28)﴾
أين المال؟
﴿ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)﴾
ماذا يفعل المال بعد الموت؟ بالعكس قد يكون وبالاً على صاحبه، قد ينفقه أولاده في المعاصي والآثام، هو جمعه وتعب به ودخل به النار: ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)﴾ فقد مكانته، فقد وظيفته، فقد شأنه، فقد حُجَّتَهُ.
عاقبة من لم يؤمن بالله ولم يستقم على أمره:
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)﴾
ضعوا الأغلال في يديه.
﴿ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32)﴾
قال بعض المفسرين: تدخل من فمه وتخرج من دُبُرِهِ، أو بالعكس.
﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾
لأنه ما آمن بالله العظيم، ما استقام على أمره، حينما لم يؤمن بالله العظيم تفلَّت من منهجه، فعل ما يحلو له، فالإيمان بالله من ثمار الطاعة، والطاعة من ثمار السلامة، والسلامة تنتهي إلى الجنة، آمنت فانضبطت فسلمت فسعدت، يمكن أن نقول: الناس رجلان؛ متصلٌ بالله، منضبطٌ بأمره، محسنٌ إلى خلقه، سعيدٌ في دنياه وأخراه، إنسان مقطوع عن الله، ما آمن بالله العظيم، تفلَّت من منهجه، أساء إلى خلقه، شقي في الدنيا والآخرة، ﴿إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ وفضلاً عن كفره كان يحارب الأعمال الصالحة.
﴿ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)﴾
أي لا يحضُّ على إطعام المسكين بل يُثبِّط الهمم والعزائم.
﴿ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)﴾
لا يوجد صديق، الإنسان في الدنيا له أصدقاء، له أتباع، له من يدافع عنه، له من يتفقَّده، أما هنا.
﴿ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)﴾
كأنه قَيْح.
﴿ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ هذان المشهدان من مشاهد يوم القيامة؛ رجلان، رجل قال: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ ورجل قال: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ ، رجل: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ رجل: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)﴾ أي لا توجد حالة وسط، أحياناً الإنسان بوضع غير جيد وغير سيئ، أما في الآخرة فلا يوجد، فوالذي نفس محمدٍ بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، إما في جنةٍ يدوم نعيمها، أو في نارٍ لا ينفدُ عذابها، إما في نعيمٍ مقيم:
﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
وإما الأغلال في أعناقهم يُسْحَبون إلى النار، لا يوجد حلّ وسط، إما في قمم السعادة أو في دركات النار، فلذلك إذا آمنت بالله العظيم طبَّقت منهجه القويم فسلمت وسعدت، وإن لم تؤمن بالله العظيم تفلّتت من هذا المنهج القويم فشقيت وأشقيت.
سورة الحاقة سورةٌ مباركة تذكِّر الإنسان بالنهايات التي لابدَّ منها:
إخواننا الكرام؛ من المناسب أن نعيد قراءة هذه المشاهد في البيت، وأن نذكُر ما قيل حولها لأن هذه السورة سورة الحاقة سورةٌ مباركة، تذكِّر الإنسان بهذه المشاهد وهذه النهايات التي لابدَّ منها، وكلنا على هذا الطريق سائرون، أبداً، ما منا واحد إلا وسيكون في أحد هذين المشهدين، لا يوجد حالة ثالثة، يوجد بالدنيا واحد درس، وواحد لم يدرس، الذي لم يدرس يعيش، لا بأس، أما في الآخرة فلا يوجد شيء من هذا، إما أنك آمنت بالله العظيم وتبع هذا سلامةٌ وسعادة إلى أبد الآبدين، وإما أنك لم تؤمن، من لوازم عدم الإيمان التفلت والمعصية والانحراف والعدوان وشقاءٌ إلى أبد الآبدين، فلذلك هنيئاً لمن اتعظ في الدنيا قبل الآخرة، هنيئاً لمن قال: الله ربي قبل أن يقول:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
ساعات الندم تعتصر القلب، وربنا عزَّ وجل كأنه ذكر لنا ما سيكون كي نقف الموقف المناسب، هذه السورة بين أيديكم، وهذان المشهدان الصارخان الدَّالان على نهاية الإنسان الحتمية إما مع هؤلاء وإما مع هؤلاء.
الملف مدقق