الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أسباب تسمية يوم القيامة بالحاقة:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة الحاقة.
﴿ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ ورد في بعض التفاسير أنه من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقة أُجِيَر من فتنة الدجَّال، ومن قرأها كانت له نوراً يوم القيامة.
كلمة الحاقَّة أي القيامة، أي أخطر شيءٍ في حياة الإنسان هذا اليوم الذي يُحاسب فيه عن كلِّ أعماله ويُعطى حقَّه كاملاً، وقد سُمِّيَ هذا اليوم بالحاقَّة لأسبابٍ كثيرة: أولاً لأن الأمور تَحِقُّ في هذا اليوم، أي تستقر، هناك أشياء باطلة، هناك أشياء كاذبة، هناك أشياء مزوَّرة، هناك أشياء طاغية، كل شيءٍ يعود إلى وضعه الطبيعي، كل شيء يستقرّ على حجمه الطبيعي، على قيمته الحقيقية، هناك من يعلو، وهناك من يخفض، هناك من يَقْوى، هناك من يضعف، هناك من يغتني، هناك من يفتقر، هذه الحركة التي للناس في الحياة الدنيا تستقر استقراراً دقيقاً، كل إنسانٍ يُعطى حجمه الحقيقي، كل إنسان يٌقيِّم عمله تقييماً صحيحاً، سُمِّيَت الحاقة لأن الأمور تَحِقُّ فيها أي تستقر.
ضربت ُّمرَّةً لكم مثلاً: كرةٌ في بعض جوانب جدرانها قطعةٌ من الرصاص، دحرج هذه الكرة، مهما دحرجتها لا تستقر إلا وقطعة الرصاص في الأسفل، هذا الوضع الطبيعي، الإنسان قد يعلو بغير حق، قد يغتني بغير حق، قد يَقْوَى بغير حق، وقد يضعُف من دون سبب، وقد يفتقر لأنه أطاع الله عزَّ وجل.
الفرق بين مراتب الدنيا ومراتب الآخرة:
الدنيا دار ابتلاء، الدنيا دار عمل، الدنيا دار امتحان، الدنيا دار تكليف، ربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)﴾
في الدنيا، قد تجد إنساناً في الدنيا يملك ألوف الملايين، وقد تجد مئة مليون لا يملكون درهماً واحداً، قد تجد في الدنيا إنساناً قوياً جداً، بحركةٍ وإشارةٍ يفدي آلافاً مؤلَّفة، وإنساناً ضعيفاً لا يستطيع أن يغضّ بصره، أو أن يُحِدَّ النظر في شيء، يوجد قوي، يوجد ضعيف، يوجد غني، يوجد فقير، يوجد وسيم، يوجد دميم، يوجد صحيح، يوجد مريض، الحظوظ موزَّعة توزيع ابتلاء، ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ .
أيها الأخ الكريم؛ أنت ممتحنٌ في الدنيا، ممتحنٌ مرَّتين، ممتحن فيما أعطاك، وممتحن فيما سلب منك، ممتحنٌ إذا كنت قوياً، وممتحنٌ إذا كنت ضعيفاً، ممتحنً إذا كنت غنياً، وممتحنٌ إذا كنت فقيراً، ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ .
وفي الدنيا مراتب الدنيا لا تعني شيئاً، قد لا يكون الغني مكرَّماً عند الله، وقد يكون الفقير هو الولي، قد لا يكون القوي مكرَّماً عند الله، وقد يكون الضعيف هو المكرّم، قد لا يكون الصحيح مكرَّماً عند الله، وقد يكون المريض هو المكرّم، مراتب الدنيا لا تعني شيئاً وهي مؤقَّتة، وقد تعني عكس ظاهرها، بينما تعني مراتب الآخرة كل شيء، وهي مستقرَّة، أي يَحِقُّ في هذا اليوم الحق، فالإنسان إذا كان غنياً هذا الغنى في الجنة باستحقاقٍ وجدارة مع رضا الله عزَّ وجل، وإذا كان في الجنة محروماً، في الدار الآخرة محروماً فهذا الحرمان عن استحقاقٍ دقيق وعن عدلٍ مطلق، إذاً مراتب الدنيا لا تعني شيئاً، مؤقتةُ، ولا تعني شيئاً، وقد تعني عكسَ ظاهرها، بينما مراتب الآخرة تعني كل شيء، ومتوافقةٌ مع عمل صاحبها، وهي أبديةٌ لا نهاية لها، لذلك السعيد من تحرَّك إلى مراتب الآخرة، من طَمِحَ إلى مقعد صدقٍ عند مَليكٍ مقتدر، من طمح إلى الغنى بعد العرض على الله، كما قال سيدنا علي رضي الله عنه: "الغنى والفقر بعد العرض على الله" .
أول معنى من معاني الحاقَّة هو اليوم الذي تحقُّ فيه الأمور، أي تستقر على وضعها الطبيعي، تُعطى حجمها الحقيقي، تُعطى قيمتها الحقيقية، الحق حق والباطل باطل، الخير خير والشر شر، المعروف معروف والمنكر منكر، لكن في عالم الدنيا قد يغدو المنكر معروفاً، وقد يغدو المعروف منكراً، في عالم الدنيا قد يًصدَّق الكاذب وقد يُكذَّب الصادق، في عالم الدنيا قد يخوَّن الأمين وقد يؤتمن الخائن، في عالم الدنيا قد تكون المَراتب لا على وفق أعمال أصحابها بل على وفق نفوذهم، لا على وفق اجتهادهم بل على وفق انتمائهم، هكذا هي أمور الدنيا، أما في الآخرة فالأمور تستقر على وضعها الصحيح، وعلى قيمتها الصحيحة، وعلى حجمها الصحيح، لذلك هنيئاً لمن كان متفوِّقاً بمقياس الآخرة، والويل لمن ظنَّ التفوق بمقياس الدنيا، لأن الدنيا تذهب من بين يدي الإنسان في ثانيةٍ واحدة، ما جمَّعه الإنسان في عمرٍ مديد يخسره في ثانيةٍ واحدة إذا توقَّف قلبه، أو تجلَّط دمه، انتهى، أما المؤمن فتراه ينطلق إلى حياةٍ أبديةٍ كلُّها خيرٌ وهناء، هذا هو المعنى الأول، سميت الحاقة حاقةً لأن الأمور تَحِقُّ فيها، أي تستقر على وضعها الطبيعي، تأخذ حجمها الحقيقي، تُعْطَى حكمها الصحيح، تُقَيَّم تقييماً مطلقاً، رب الكائنات هو الذي يحكم، رب الوجود هو الذي يفصل، خالق الأكوان هو الذي يعطي أو يمنع، هذا معنى الحاقة في معناها الأول.
الحاقَّة حاقَّة لأنها محققة الوقوع والعاقل من أدخل هذا اليوم في حساباته:
وقيل سُمِّيَت الحاقَّة حاقَّةً لأنها محققة الوقوع، أي ما من حدثٍ في حياة الإنسان أشد واقعيةً وتحقُقاً من هذا اليوم، في الجامعة ما أخطر يومٍ في الجامعة؟ يوم الامتحان، إن لم تنجح في هذا اليوم لا قيمة لكل هذا العام الدراسي، لا قيمة لكل الدوام، لا قيمة للمصاريف التي دفعتها، لا قيمة للكُتب التي اقتنيتها، لا قيمة للدروس التي حضرتها، لا قيمة للوظائف التي أَدَّيْتَها، الامتحان حسم كل ذلك وأنهى كل ذلك، فأخطر يومٍ في العام الدراسي هو يوم الامتحان، وما من يومٍ محقق الوقوع كيوم الامتحان، فأي طالبٍ غفل عن هذا اليوم فهو أحمق.
سُئِلَ مرَّةً أحد الطلاب الذين نالوا الدرجة الأولى على طُلّاب القطر: بمَ نلت هذه الدرجة العالية؟ فأجاب إجابةً أعجبتني، قال: لأن يوم الامتحان ما غاب عن ذهني ولا ساعةً واحدة طوال العام الدراسي، وكل واحد من المؤمنين إذا جعل هذا اليوم (الحاقة) أمام عينيه وأدخله في كل حساباته، في تجارته، في بيعه، في شرائه، في حديثه، في نظره، في سمعه، في بطشه، في سيره، في شؤون بيته، في شؤون عمله، في شؤون أفراحه، في شؤون أتراحه، إذا أَدْخَلْتَ هذا اليوم الحاقة المحقق الوقوع، الذي فيه الحساب دقيقاً والعمل مقيَّماً فقد نجحت وفزت، أما إذا غفلت عن هذا اليوم، نسميه هذا اليوم يوماً مصيرياً، إذا غفلت عن هذا اليوم فقد وقعت في خطلٍ وخطأ كبيرين.
المعنى الأول: ﴿الْحَاقَّةُ﴾ الأمور تَحِقُّ فيها، أي تستقر على وضعها الصحيح، بتقييمها الدقيق، بحجمها الحقيقي، بميزان خالق السماوات والأرض.
والمعنى الثاني أن هذا اليوم مُحَقُّق الوقوع، أي لا يمكن إلا أن يقع، حتمي الوقوع، فالإنسان أحياناً يتوقَّع أن هذا الشيء يقع أو لا يقع، هو في شكٍ منه، فَسَمَّى الله يوم القيامة: ﴿الْحَاقَّةُ﴾ لأنها محققة الوقوع..
﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)﴾
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)﴾
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)﴾
هذه الحاقة، من هو العاقل؟ من هو الذكي؟ من هو الفائز؟ من هو الفالح؟ من هو الناجح؟ من هو المتفوِّق؟ هو الذي أدخل هذا اليوم في دقائق حياته، في نظرته، في كلمته، في حركته، في سكنته، في منعه، في عطائه، في ابتسامته، في عبوسه، في غضبه، في رضاه، في عمله، في بيته، في تجارته، في كسبه للمال، في إنفاقه للمال، ﴿الْحَاقَّةُ﴾ حساب دقيق، أعمال الإنسان تُعْرَض عليه بكل تفاصيلها، صغيرها وكبيرها.
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾
يوم القيامة كل إنسانٍ يُعْطَى حقَّه كاملاً غير منقوص:
المعنى الثالث أنّ هذا اليوم يوم القيامة سُمِّيَ بالحاقَّة لأن هذا اليوم يُعْطَى كلّ صاحب حق حَقَّه، كم من مظلومٍ في عالم الدنيا؟! كم من خاسرٍ ويستحق أن يكون رابحاً؟! كم من رابحٍ ويستحق أن يكون خاسراً؟! كم من قوي وينبغي أن يكون ضعيفاً؟! وكم من ضعيفٍ وينبغي أن يكون قوياً؟! كم من متطاولٍ وحقه أن يُتطاول عليه؟! الدنيا دار ابتلاء.
إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرحٍ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي، سُمِّيَ يوم القيامة بالحاقَّة لأن كل إنسانٍ يُعْطَى حقَّه كاملاً غير منقوص.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)﴾
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)﴾
﴿ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
سُمِّيَ يوم القيامة بالحاقَّة لأنه في هذا اليوم يُعْطَى كل ذي حقّ حقَّه كاملاً، لا يُمكن لأحد أن يقول: أنا مظلوم، لم آخذ حقي، أنا هُضِمَ حقي، لم يعرف الناس قيمتي، لم يعطوني استحقاقي، هذا يقال في الدنيا، أما في الآخرة فقد قال تعالى عنها:
﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾
﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ هذا المعنى الثالث، المعنى الثالث سمّي يوم القيامة بالحاقَّة لأن هذا اليوم يُعْطَى كل ذي حقّ حَقَّه.
قهر الباطل يوم القيامة بكل فرقه وجماعاته:
المعنى الرابع: سُمّي يوم القيامة بيوم الحاقة يوم الغلبة للباطل، يقولون في اللُّغة: حاققته فحققته، أي غالبته فغلبته، أعداء الدين الذين يُريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، الذين يقعون في الخندق الآخر، الذين يَسْعَوَن جاهدين في حياتهم الدنيا لإعلاء كلمة الباطل، الذين يَسْعَوَن لإطفاء نور الله عزَّ وجل، هؤلاء سوف يُغلَبون:
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾
في هذا اليوم يُقْهَرُ الباطل بكل فِرَقِه، وكل جماعاته، وكل قِواه، قد تجد في الدنيا الباطل قوياً جداً، قد تجد في الدنيا للباطل قِلاع، للباطل مكانة كبيرة في عالم الدنيا، قد تجد الباطل بيده مقاليد الأمور، هناك من يدَّعي أن العالم كلُّه في قبضته، هكذا يظن الناس:
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾
فإذا رأيت للباطل جولةً، إذا رأيت لأهل الكفر والضلال قيمةً، وقوةً، وهيمنةً، واستطالةً، وسيطرةً، وتحكُّماً، وتغطرساً، إن رأيت لهؤلاء شأناً في الحياة الدنيا يجب أن تعلم علم اليقين أنهم مغلوبون في يوم القيامة لأن هذا اليوم يملكُه الله وحده.
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾
إذاً حاققته فحققته أي غالبته فغلبته، وسُمِّيَ هذا اليوم بالحاقة، لأن الباطل في هذا اليوم يُدْحَر ويُغلَب، في الدنيا للباطل شأن.
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾
هذه التجمُّعات في الدنيا لا قيمة لها في الآخرة، هذا التعاضد على الباطل، هذا التكاتف على إطفاء نور الله كل هذه التجمعات تتلاشى يوم القيامة، والله وحده هو الذي يحكم بين الناس.
الحق هو الثبات والسمو بينما الباطل هو الشيء العابث والزائل:
الحاقَّة والحقَّة والحق: لغاتٌ ثلاثة بمعنى واحد، الحق هو الله، والآية الكريمة:
﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)﴾
أي إن الحق لابسَ خَلْقَ السماوات والأرض، وإن أردنا أن نعرف معنى الحق في هذه الآية نعرفه بالقرآن الكريم نفسه، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)﴾
فالحق يتناقض مع اللَّعِبْ، خلق الله السماوات والأرض بالحق، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ إذاً الحق نقيض اللَّعب، هو ما خلقنا السماوات والأرض باطلاً، الحق نقيض الباطل، تعريف الحق إذاً: الباطل الشيء الزائل، فالحق إذاً الشيء الثابت، والباطل اللِّعب، الشيء العابث، الحق إذاً الشيء الهادف، فالحق من خصائصه الثبوت والسمو، فإذا قلت: خلق الله السماوات والأرض بالحق، أي خُلِقت لتبقى ولهدفٍ كبير، كان خلق الإنسان بالحق أي خُلِقَ ليسعد إلى أبد الآبدين، الحق يعني الثبات والسمو، لذلك في هذا اليوم يُعْطَى كُلُّ ذي حقّ حقَّه، ويعلم الذين كفروا أي منقلبٍ ينقلبون، في هذا اليوم يعرف الإنسان الشارد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق جميعاً ليُسْعِدَهُم، خلقهم ليرحمهم.
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
خلقهم ليسعدهم.
خيارك مع الإيمان خيار وقت فقط:
لذلك أيها الإخوة؛ هناك نقطة دقيقة جداً: هي أن خيارك مع الإيمان ليس خيار قَبولٍ أو رفض، هناك أشياء كثيرة خيارك معها خيار قَبولٍ أو رَفْض، يُعرض عليك بيت ترفضه لصغر مساحته، أو لوضاعة مكانه، أو لبعده عن الشمس، ترفضه أو تقبله، يُعرض عليك عمل ترفضه لأن الراتب قليل، تُعرض عليك تجارة ترفضها لأن فيها مُخاطَرَة، فأنت هناك أشياء كثيرة خيارك معها خيار قبول أو رفض، إلا أن خيارك مع الحق خيار وقت فقط، لابدَّ من أن تؤمن بما جاء به الأنبياء شئت أم أَبَيْت، ولكن يكون هذا الإيمان بعد فوات الأوان، في الوقت غير المناسب، بعد أن تخسر الآخرة، فالخيار مع الإيمان خيار وقتٍ لا خيار قبولٍ أو رفضٍ، فلذلك: ﴿الْحَاقَّةُ﴾ هذا اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)﴾
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)﴾
فنحن خيارنا مع الإيمان خيار وقت فقط، إن آمنا في الوقت المناسب سَعِدنا ونجحنا، وإن آمنا بعد فوات الأوان خِبْنا وخسرنا.
الحاقة أخطر يوم في حياتنا:
﴿الْحَاقَّةُ﴾ لها أربعة معان.
ما: اسم استفهام، أي ما هي الحاقَّة؟ هذا أسلوبٌ قرآنيٌّ معجز للفت النظر إلى خطورتها، وإلى قيمتها، وإلى هَوْلِها، وإلى العدل المُطْلَق فيها، أي أخطر أيام الإنسان هذا اليوم الذي يقف فيه بين يدي الله عزَّ وجل ليُحَاسب عن كل أعماله.
﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)﴾
ورد في الأثر أن الأغنياء يُحشرون أربع فرقٍ يوم القيامة، فريقٌ جمع المال من حلال وأنفقه في حرام فيقال: خذوه إلى النار-حسابه سريع-وفريقٌ جمع المال من حرام وأنفقه في حلال فيقال: خذوه إلى النار-حسابه سريع-وفريقٌ جمع المال من حرامٍ وأنفقه في حرام -حسابه أسرع-فيقال: خذوه إلى النار، بقي الفريق الرابع الذي جمع المال من حلال وأنفقه في حلال هذا يُقال له: قفوه فاسألوه هل تاه بماله على عباد الله؟ هل قصَّر في أداء فريضةٍ أو صلاة؟ هل قال جيرانه من حوله: يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقصَّر في حَقِّنا؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: تركته ومازال يُسأل ويُسأل.
هذه الحاقة أخطر يوم في حياتنا، في الدنيا لك أن تقول ما شئت، لك أن تدَّعي ما شئت، لك أن تستعلي على خلق الله، لك أن تبذِّر المال، لك أن تجمع المال من أي طريقٍ شئت، لك أن تنفقه في الحلال والحرام، لك أن تقول كلاماً غير صحيح، لكن هذا اليوم تَحِقُّ فيه الحقائق، وتستقر فيه الأمور، ويُعطى كل ذي حقّ حقه هو محقق الوقوع، وهو اليوم الذي لا شك فيه.
﴿مَا الْحَاقَّةُ﴾ للتهويل، والتعظيم، وبيان خطورة هذا اليوم، ﴿مَا الْحَاقَّةُ﴾ هل أنبأك أحدٌ عنها؟ هل عَرَفْتَ خطورتها؟ هل عرفت مصير الناس فيها؟ هل عرفت أنها يوم الفصل؟ أنها يوم العدل؟ أنها يوم الدين؟ أنها يوم الدينونة؟ هذه الحاقة.
الفرق بين الوصف والمعاينة:
قال:
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ(3)﴾
قال العلماء: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ أي إنّ أحداً لم يُعْلِمْكَ من قبل ما الحاقة، أيضاً من أجل أن يكون هذا المعنى قوياً في نفوسنا.
العلماء قالوا: إذا قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ أي إن الله لم يُعْلم النبي عنها لكن سيعلمه، وها قد أعلمه عن الحاقة، أما إذا قال: وما يدريك، أي لن يُعْلِمَهُ لأن هذا من شأن الله عزَّ وجل.
﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)﴾
إذا قرأت القرآن ورأيت فيه وما أدراك، فالله عزَّ وجل سيخبر نبيه بذلك، أما إذا قرأت في القرآن قوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ أي أن الله عزَّ وجل لن يخبر نبيه بذلك، هذا من شأن الله وحده، قال العلماء: حينما قال الله عزَّ وجل: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ النبي يدري وصفها ولكن لم يعاينها، وشتَّان ما بين الوصف والمعاينة، ليس الخبر كالعيان، قد تقول: لا دخان بلا نار، استعملت العقل، واستنبطت استنباطاً يقينياً أنه لا دخان بلا نار، فإن رأيت دخاناً فوراء الجدار نار، وقد تأتي خلف الجدار وترى النار بعينك، دخلت في علم اليقين، وقد تقترب من النار فتشعر بوهْجِها، أما حينما تضع يدك فوقها هذا شيء آخر، هذا العيان، ليس الخبر كالعيان، الله سبحانه وتعالى أخبر النبي عن هذه الحاقَة ولكن المعاينة لم يعاينها النبي، نحن في حياتنا وصف الألم شيء وأن تذوق الألم شيءٌ آخر، وصف الفقر شيء وأن تذوق الفقر شيءٌ آخر، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ أي لم تعاينها، ليس الخبر كالعيان، مهما وصفنا يوم القيامة وصفاً دقيقاً أحياناً تقرأ عن زلزال، أحياناً تقرأ أن طائرةً سقطت وقد مات جميع ركابها، لو أن إنساناً في طائرة واضطربت وشعر الراكب أن هناك خطراً، اضطربت واضطرب طاقم الطائرة، صار هناك إنذار، فإن قلب الإنسان عندئذ يكاد ينخلع، فإذا احترقت في الجو وأتيح لإنسان أن ينجو، وقيل له: صف ماذا حدث؟ الوصف شيء وأن تقرأ الخبر أن طائرةً سقطت ومات جميع ركابها شيءٌ آخر، فالخبر شيء والمعاينة شيء، فهذا اليوم ينسى فيه الإنسان كل شيء، قد تقع عين الأم على ابنها يوم القيامة تقول: يا بني جعلت لك في الدنيا صدري سقاءً، وحجري وطاءً، وبطني وعاءً، فهل من صدقةٍ يعود علي خيرها اليوم؟ يقول لها ابنها: ليتني أستطيع ذلك يا أماه إنما أشكو مما أنتِ منه تشكين.
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)﴾
قال بعض العلماء: بلغني أن كل شيءٍ في القرآن﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ قد أدراه إياه وعلَّمه، إذا قال الله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ أدرى ربنا نبيَّه وعلّمه، وكل شيءٍ في القرآن وما يدريك فهو مما لم يعلمه ولن يعلمه، أبداً، أي مضمون وما يدريك متعلقٌ بذات الله، من شأن الله عزَّ وجل، أما الذي قال الله عنه: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ الله جلَّ جلاله أدرى نبيَّه بعد ذلك، وقال أحد العلماء أيضاً: كل شيءٍ قال الله فيه: وما أدراك فإنه أخبر نبيه به، وكل شيءٍ قال الله فيه: وما يدريك فإنه لن يخبر نبيه به.
﴿ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)﴾
بها، أي انظر إلى هؤلاء الذين كذَّبوا بهذا اليوم ما مصيرهم؟ الآن يوجد درس عملي: ﴿الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)﴾ القارعة من أسماء يوم القيامة، سميت القارعة لأنها تَقْرَعُ الناس بأهوالها، ونعوذ بالله من قوارع فلان ونوازعه وقوارص لسانه، هكذا كانت العرب تقول، العبد يقرَع بالعصا، أي الضرب القاسي، الخبر المُفزع، الشيء الصاعق هي القارعة.
مثلاً فقد تقرأ أخباراً كثيرة في الصحف عن عالم التجارة، أما خبر احترقت كل المستودعات، هذا خبر ليس عادياً، هذا خبر يقف له التاجر، هذا خبر قد يضرب التاجر جبهته بعد سماعه، قد يقع مغمياً عليه، قد يُصاب بجلطة، هذا خبر، كل المستودعات احترقت، أو كل هذا المال صودر، أو كل هذه التجارة أخفقت، فهناك أخبار في الدنيا صاعقة، والدنيا مؤقتة، أما الخبر الذي يشيب لهوله الولدان فهو القارعة: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ سميت القارعة قارعةً لأنها تقرع الناس بأهوالها، قوارع القرآن قالوا: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فَزِع من الجنّ أو الإنس، آية الكُرسي، سورة الفَلَق، سورة النَّاس، هذه قوارع القرآن إذا خاف الإنسان يقرؤها فتهدأ نفسه، وبعضهم قال: القارعة مأخوذةٌ من القُرْعَة أي القرعة ترفع قوماً وتخفض آخرين، تعطي وتمنع، أي يوجد ميزان آخر، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)﴾
قد تجد إنساناً في أعلى درجات الغنى، هو يوم القيامة مع الفقراء المحرومين، وقد تجد إنساناً فقيراً جداً في الدنيا، هو يوم القيامة مع الأغنياء المرموقين، ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ من هنا قيل: ألا يا رب نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة، ألا يا ربَّ نفسٍ جائعةٍ عاريةٍ في الدنيا طاعمةٍ ناعمةٍ يوم القيامة، ألا يا ربَّ مكرمٍ لنفسه وهو لها مهين، ألا يا ربَّ مهينٍ لنفسه وهو لها مكرم، هذه القارعة: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ من القُرعة، تسحب القرعة نالت فلاناً وخسرها فلاناً.
يوجد معنى آخر: القارعة هي العذاب الذي ينزل في الدنيا، فثمود في بعض معاني هذه الآية كذَّبت بالقارعة، أي كذَّبت بوعيد الأنبياء.
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)﴾
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾
الذين يتعاملون بالربا كذَّبوا هذه الآية، ولم يعبؤوا بوعيد الله عزَّ وجل.
إذاً يمكن أن تكون القارعة يوم القيامة لأنها تقرع الناس بأهوالها، ويمكن أن تكون القارعة العذاب الذي تَوَعَّد الله به العصاة في الدنيا، لهذا تقول لإنسان متلبِّس بالمال الحرام، إنسان عاص منحرف تذكِّره بوعيد الله فلا يأبه، ولا يرعوي، بل يسخر، إذاً: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ أي كذَّبوا بالعذاب الذي نزل بهم في الدنيا، ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ ثمود هم قوم صالح، وعادٌ قوم هود.
﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)﴾
أي بالفعلة الطاغية، أو بالصيحة الطاغية المجاوزة للحد، أي صيحة جعلتهم صَرعى كهشيمٍ المحتظر، الآية تقول:
﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)﴾
أنت أحياناً لو وجدت حشرة صغيرة جداً حجمها أقل من حجم النملة لا تحتاج إلا إلى ضربةٍ واحدة، لا تحتاج ضربتين، أي مهما كان الإنسان قوياً فهو ضعيفٌ ضعيفٌ ضعيف أمام عظمة الله عزَّ وجل، أنا ملك الملوك ومالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فإن العباد أطاعوني حوّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن هم عصوني حوّلتها عليهم بالسخطة والنقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسَبِّ الملوك وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم، إذاً: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ أي بفعل الله، بفعلة الله الطاغية، طغت عليهم فسحقتهم، أو بالصيحة الطاغية، ومعنى الطاغية المجاوزة للحد الطبيعي.
الشام شهدت عشرات الزلازل في هذا العام، منها ثلاث درجات على مقياس ريختر، أربع، أما لو كانت سبع درجات لا تجد شيئاً:
﴿ قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً (107)﴾
فهناك حد، سرعة الرياح مئة وخمسون كيلو متراً، لو سبعمئة؟ لا تجد بيتاً قائماً، لو كان الصقيع عشرين درجة تحت الصفر لا تجد ثمرة في الصيف تأكلها:
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)﴾
﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ أي بعقاب تجاوز الحد الطبيعي، هناك برد مقبول، هناك رياح مقبولة، هناك زلزال مقبول، يبلغ درجتين أو ثلاث، أما إذا بلغ سبعاً أو ثمانية لكان هذا دماراً كاملاً، هناك رياح عاتية مقبولة، أما سبعمئة دمار كامل، هناك صقيع، أما إذا أصبحت درجة الحرارة سبعين تحت الصفر لكان هذا دماراً كاملاً، ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ أي بالصيحة المجاوزة للحد، والآية المؤكِّدة لهذا المعنى هي:
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)﴾
أي كانوا كالهشيم، شيء مُبَعْثَر، وقالوا: الطاغية الصاعقة، وقال مجاهد أحد العلماء: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ أي بسبب طغيانهم ومجاوزتهم للحد.
وقال بعضهم: بطغيانهم وكفرهم.
وقال بعضهم الآخر: ﴿فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ﴾ أي بعاقر الناقة، عاقر الناقة واحد فما ذنب الباقين؟ قال: لأنهم أقرّوا ذلك، وشجّعوه على عمله، وأيَّدوه بفعلته فاستحقّوا جميعاً الهلاك.
﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6)﴾
الريح الصرصر هي الريح الباردة التي تُحرِق ببردها، إذا أمسك الإنسان أداة معدنية حرارتها حوالي عشرين تحت الصفر جلده يلصق بها، وتحترق يده من شدة البرد، اليد تحترق من شدة الحر ومن شدة البرد، قد تسقط بعض أعضاء الإنسان في بعض المناطق القطبية، فريحٍ صرصرٍ أي باردةٍ تُحْرِقُ الناس، طبعاً صرصرٍ مأخوذةٍ من الصر وهو البرد الشديد، أو ريحٍ ذات الصوت الشديد، الرياح إذا هبَّت عاتيةً لها صوتٌ مخيف، ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ أو شديدة السموم، أي عتت على خُزَّانها فلم تطعهم-هذا معنى جديد-تفلّتت؛ أي تفلَّتت من السيطرة، كأن الملك موكلٌ بهذه الريح، فقد تتفلَّت هذه الريح أحياناً من سيطرة الملك، ورد في الحديث الشريف أنَّه:
(( ما أرسل الله من نسمةٍ من ريحٍ إلا بمكيالٍ، ولا قطرةٍ من ماءٍ إلا بمكيالٍ إلا يوم عادٍ ويوم نوحٍ، فإن الماء يوم نوحٍ طغى على الخُزَّان فلم يكون لهم عليه سبيل. ))
ثم قرأ قوله تعالى:
﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)﴾
والريح لمَّا كان يوم عادٍ عتت على الخُزَّان فلم يكن عليها سبيل، ثم قرأ: ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ﴾ أي أرسلها وسلَّطها، والتسخير استعمال الشيء بالاقتدار، ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾ متتابعة.
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾
أنتم تقرؤون عن بعض المصائب التي وقعت في بعض البلاد، يقول لك: إعصار دمَّر ما قيمته ثلاثين مليار دولار، إعصار واحد، صقيع أتلف مئات الملايين من المحاصيل، نحن في حياتنا الدنيا نسمع أخباراً كثيرة عن مصائب، وكوارث، وزلازل، وأشياء ينخلع لها القلب ونحن في الدنيا قبل الآخرة.
بطش الله عز وجل بطش شديد:
الآية الكريمة:
﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)﴾
أي متتابعة، أحياناً الإنسان إذا طالت موجة الحر يضجر الناس، إذا طالت موجة البرد يضجر الناس، إذا كان هناك مشكلة استمرت لا يحتمل الناس، ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ معنى حسوماً متتابعات، ومعنى حسوماً أي حسمتهم، أي استأصلتهم من شأفتهم، انتهوا، هناك معالجة، وهناك تأديب، وهناك مصيبة، وهناك قصم، انتهوا، هذه: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ أي الإنسان في قبضة الله دائماً، وكأنه مربوطٌ بحبلٌ مرخى، في أية لحظة يُشَد الحبل فإذا هو في قبضة الله، حسوماً، حُسِمَ الأمر أي انتهى، إنسان ارتكب جريمة فأُعدِم، إعدامه حسم، أما سُجِنَ فهناك أمل في أن يخرج، هناك أمل أن يصدر عفو عام، هناك أمل أن يهرب مادام مسجوناً، أما إذا أُعدِم وانتهى الأمر، حُسِمَ هذا: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾ الحسمُ هو الاستئصال، ويسمى السيف حُسَاماً لأنك به تستأصل المشكلة، ضربته بالسيف فقطعت رأسه وانتهى الأمر، سمِّي الحُسام حساماً، وحسمتهم أي قطعتهم وأذهبتهم، حسمتهم لم أُبق منهم أحداً، الحُسُوم: الشُؤم، أي هذه الرياح تحسم الخير عن أهلها، قد تجد أحياناً رياح أتلفت كل المحاصيل، صقيع أحرق كل الثمار، الحسم الشؤم أيضاً، وفي آيةٍ أخرى قال تعالى:
﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)﴾
من هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن عبد الله بن عمر: اللهمَّ إنَّي أعوذُ بك من زوالِ نعمَتِك، وتَحَوُّلِ عافيَتِك، وفجْأةِ نقمتِك ، و جميعِ سَخَطِك. ))
أحياناً فجأةً ينصبّ العذاب صبّاً، أحياناً يفقد الإنسان بصره، يفقد حركته، وعند الله مصائب لا تُعَدُ ولا تُحصى، نسأل الله السلامة، لكن عافيتك أوسع لنا يا رب، أي الإنسان لا ينبغي أن يصل إلى طريقٍ مسدود، كنت أضرب هذا المثل: ارتكب إنسان جريمة قتل، حُكِم بالإعدام، وصُدِّق الحكم، سيق إلى حبل المشنقة، وهو على حبل المشنقة وصل إلى طريقٍ مسدود، إن أراد أن يبكي فليبكِ لابدَّ من أن يُشنَق، إن أراد أن يضحك فليضحك، إن أراد أن يستعطف فليستعطف، إن أراد أن يبقى جلداً فليبق جَلداً، أي شيءٍ يفعله لابدَّ من أن يشنق، هذا الحسم، فالبطولة أن تبقي لك مع الله صلة، أن ترجع إليه، أن تستغفره، أن تتوب إليه، أن تصطلح معه، لا أن تركب رأسك، لا أن تبالغ في الطغيان، لأن الله عزَّ وجل جبَّار، ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ وحسوماً أي رياحاً أفنتهم عن آخرهم، حسوماً: استأصلتهم من شأفتهم، والله عزَّ وجل يوجد عنده عذاب استئصال، عذاب هلاك، ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى﴾ والآن تسمع في بعض الأخبار خمسمئة ألف قتيل في جنوب أفريقيا خلال يومين، مئة ألف في مقبرة جماعية، شيء يتكرر، ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾ صرعى جمع صريع، أي: موتى من الريح، ﴿فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾ لا يوجد أحد، هل ترى لهم من فرقةٍ باقية؟ من نفسٍ باقية؟ هل ترى لهم من بقية؟ من بقاء؟ كانوا سبع ليالٍ وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر، فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم، والآن توجد قنبلة حديثة جداً إن ألقيت على مدينة لا تؤذي بناءً، ولا طريقاً، ولا جسراً بل تقتل الإنسان فقط.
أيها الإخوة؛ لابدَّ من الصلح مع الله، لابدَّ من طاعته، لابدَّ من معرفته قبل فوات الأوان.
الملف مدقق