الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلما، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخِلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، مع الدرس الأول من سورة التحريم.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(1)﴾
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
1 ـ ليس في القرآن خطاب للنبي بإسم محمد:
النبي كما تعلمون، صلى الله عليه وسلَّم سيد الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم، وهو حبيب الله وخليله، ما خاطبه الله في القرآن كله باسمه مباشرةً كما خاطب بقية الأنبياء، قال:
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)﴾
وقال:
﴿ يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)﴾
وقال:
﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا(7)﴾
ولم يقُل يا محمد، بل إنه قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)
وقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)﴾
2 ـ سبب نزول هذه الآية تحريمُ النبي مارية القبطية على نفسِه:
فالنبي عليه الصلاة والسلام في أوجه الروايات والتفاسير، حرَّم على نفسه مارية القبطيّة التي أهداها إليه المُقوقِس حاكم مصر، إرضاءً لزوجاته، لأنَّ الضرائر كما تعلمون، هُنَّ الضرائر في كل مكانٍ وفي كل زمان، والمرأة هي المرأة، تسمو إلى أعلى الدرجات، ولكن لا تتخلى عن طبيعتها الغَيورة، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، أو كأن الله عزَّ وجل يُرخِّص للنبي عليه الصلاة والسلام، الزواج بمارية القبطيّة، ولا ينبغي أن يجعل من إرضاء زوجاته، ما يُحرِّم عليه ما أحلَّ الله له، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
أي إن منهج الإسلام منهج متوازن ومتكامل، والإسلام يُلبّي حاجات الجسد كما يُلبّي حاجات الروح، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي ))
يقول عن نفسه صلى الله عليه وسلم: ( أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي)
فالنبي عليه الصلاة والسلام، ابتغاء مرضاة زوجاته حرَّم على نفسه مارية القبطيّة، فالله سبحانه وتعالى يُبيّن له لا ينبغي أن تفعل هذا، الحق حق، والباطل باطل.
3 ـ التحلُل من اليمين: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ
﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(2)﴾
هذه الآية يحتاجها كل مسلم، في أكثر الأحيان يتألَّم الإنسان من موضوعٍ ما، فيُقسِم يميناً مغلَّظةً أن لا يزور فُلانة أخته، أو أن لا يفعل خيراً، أو أن لا يُعطِ أُمّه، إلى آخره، الله سبحانه وتعالى رحمةً بنا شرع لنا كفَّارة اليمين، أو تَحِلَّة اليمين، تَحِلَّة اليمين تكون قبل الحَنث باليمين، أمّا كفَّارة اليمين فتكون بعد الحَنث باليمين، الحنث باليمين أن تفعل خلاف القسَم، فلو أن الإنسان قال: والله لا أزور أختي، فإمّا أن يدفع كفَّارة اليمين قبل أن يزور أخته، عندئذٍ تُسمّى هذه الكفَّارة تَحِلَّةً، وإمّا أن يدفع الكفَّارة بعد أن يزور أخته، عندئذٍ تُسمّى هذه التَحِلَّة كفَّارةً، فالتَحِلَّة قبل الحنث باليمين، والكفَّارة بعد الحنث باليمين، ولكن الشيء الثابت أنَّ الإنسان إذا حلف يميناً، ورأى الخير في الحنث باليمين، فعليه أن يَحنَث بيمينه، وأن يبتغي الخير، وأن يُكفِّر عن يمينه.
يعني لا حرج إطلاقاً، الإنسان في ساعة غضب حلف يميناً أن لا يفعل خيراً، أن لا يزور مريضاً، أن لا يمشي في جنازة، أن لا يعود مريضاً، أن لا يساعد إنساناً، واليمين مُنعقِدة، هناك يمين اللغو، وهناك يمين الغموس، وهناك اليمين المُنعقِدة، اليمين الغموس أن تحلف يميناً لتقتطع بها حقّ امرِئٍ مسلم، هذه اليمين لا كفَّارة لها، بل هي تُخرِج الإنسان من الدين، وتغمسه في النار، لذلك من حلف يميناً غموساً ليقتطع به حقَّ امرئٍ مسلم أمام القاضي فعليه أن يُعيد النطق بالشهادتين، لأنَّ هذه اليمين تُخرِجه من الإسلام، وتَغمسه في النار، والإنسان قبل أن يحلف يميناً غموساً، ينبغي أن يَعُدَّ للمليون، وفي بعض الآيات الكريمة، هناك فروق دقيقة بين ألفاظها:
﴿ لَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ (36)﴾
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)﴾
قد يأتي ردّ الإله العظيم على اليمين الغموس فوراً، فيُصاب الإنسان بمرض عضال أو بشلل، أو يأتي متأخراً، إذا كان في الإنسان بقية خير.
على كُلٍّ اليمين الغموس أعاذنا الله منها، اخسر أي شيء، وإيَّاك أن تحلف يميناً غموساً، اليمين الغموس لتغطّي الماضي، أمّا الأيْمان الأُخرى للمستقبل، والله لا أفعل هذا، والله لا أزور فلان، هذه للمستقبل، أمّا الغموس للماضي.
(( مَن حَلَفَ على يَمينٍ كاذبةٍ مَصبورةٍ مُتعمِّدًا فليَتبَوَّأْ بوَجهِه مَقعدَه مِن النَّارِ. ))
[ أخرجه أبو داوود وأحمد ]
التحلُل أو الكفَّارة إذا رأى المسلمُ الخيرَ في غير ما حلف عليه:
اليمين المُنعقِدة: هي أن تعقِد العزم موثقاً بقسَم أن لا تفعل هذا الشيء، فإن كان هذا الشيء خيراً فينبغي أن تُكفِّر عن يمينك، أو أن تتحلَّل من يمينك، وأن تفعل هذا الشيء، هذا حكمٌ شرعي، ينبغي أن تتحلَّل من يمينك أو أن تُكفِّر عن يمينك، وأن تفعل الشيء الذي تراه صحيحاً، وتراه خَيراً، ولم يكن ربنا جلَّ جلاله يريد أن يكون بينك وبين الخير، فلو حلفت بذاته، لو أقسمت يميناً مُعظَّمةً أن لا تفعل خيراً، احنث بيمينك، وكفِّر عنها أو تحلَّل منها، وافعل الخير، هذا أساس كبير في أُسُس الأَيمان.
أمّا إذا يمين مُنعقِدة أيضاً افعل الخير، ولا تلتزم بيمين تحرمك الخير الذي أراده الله لك، لكن العلماء قالوا: أنت حينما تستثني لا تحنَث بيمينك، فإذا قلت: إن شاء الله لن أزور أختي، فإن هذه يمين معه استثناء لا يقع فيه الحَنْث، فأنت تحفَّظ دائماً بكلمة إن شاء الله، والله لا أفعل هذا إن شاء الله، ما دام استثنيت بالمشيئة لا يقع الحنث باليمين في هذا الكلام (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) .
ورد في بعض الأحاديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَن نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فلا يَعْصِهِ ))
وأنا أقول هذه القاعدة: لأنّ كثرة الأيمان بين الناس علامة ضَعف إيمانهم، فأكثر ساعات الغضب تنتهي بيمين تَحْرِم صاحبها الخير، فالله سبحانه وتعالى لا يريد أن يكون اسمه الكريم حجاباً بينك وبين الخير، فافعل الخير دائماً، وكفِّر عن يمينك، أو تحلَّل منها.
4 ـ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) من لنا إلا الله؟ الإنسان دائماً مرجعه هو الله، وقد وصف المؤمِن بأنه أوَّاب، أي كثير الأوبة، كلَّما زلَّت قدمه يؤوب إلى الله، وكلَّما غفل عنه يؤوب إلى الله، هذا من شأن العبد أن يقع في التقصير، أو أن يقع في مزلَّة الأقدام، وليس له إلا الله ليتوب إليه.
﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ(3)﴾
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا
1 ـ الحديث الذي أسرّه النبي إلى بعض أزواجه هو عدم زواجه بمارية:
يعني المجالس بالأمانة، النبي عليه الصلاة والسلام أسرَّ إلى بعض أزواجه عَزمه على أن لا يتزوج بمارية القبطيّة، هي مباشرةً أنبأت به أخواتها، أزواج النبي عليه الصلاة والسلام
2 ـ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ
(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أخبره الله عن طريق جبريل أنَّها نبَّأت بهذا الحديث (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) يعني عاتب بعضهُن، وذكر بعض الذي قُلْنَهُ، وأعرَض عن بعضه الأخَر، وأعرَض عن ذكر بعض بقية الحديث.
لا تحرجوا الناسَ بأخطائهم:
يُستنبَط من هذا: إنسان انحرَج أمامك، واجهته بخطئه فانحرَج، فأنت اكتفِ بحدٍ معقول، لا تبالغ، هناك خطأ، واعترَف بخطئه، فلا تقل له: هناك خطأ ثانٍ، ما دام قد تراجع، ما دام قد استحى، ما دام قد خَجِل، ما دام قد اعتذر، فأنت عرِّفه ببعض أخطائه، وتجاوز عن بعض أخطائه الأُخرى، هذا من خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قيل: "لا تحمِّروا الوجوه" ، لا تُخجِّل إنسان، لا تحرِج إنسان، إياك أن تضع إنسان في زاوية ضيّقة، إيَّاك أن تدفع إنسان إلى أن يكذِب، شدَّة التضييق تدفع إلى الكذِب، هذا من أدب النبي عليه الصلاة والسلام.
سيدنا يوسف حينما التقى بإخوته، وكان عزيز مصر، وبإمكانه أن يُحرجهم، وأن يوبَّخهُم، وأن يُعنِّفهم، وبإمكانه أن يُذكِّرهم بجريمتهم، قال سيدنا يوسف:
﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)﴾
ولم يقُل: مِن الجُبِّ، والحقيقة أن الجُبّ أخطر من السجن، في السجن يكون السجين مضمونةٌ حياته ورزقه، أمّا الجُبّ فهو مُعرَّض للموت، لكن لئلا يُذكِّر إخوته بفعلتهم.
3 ـ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ
إذاً (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ) أي أنه إذا لم يتكلَّم الإنسان، لم يواجه الناس بأخطائهم، لم يُحرِج الناس، ليس معنى هذا أنه لا يعلم، أحياناً التغابي يكون قمَّة الذكاء، حتى إن بعضهم قال:
لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ في قَومِهِ لَكِنَّ سَيِّدَ قَومِهِ المُتَغابي
التجاهل وعدم السمع.
يُروى عن عالمٍ جليل في هذه البلدة، عاش قبل خمسين عاماً تقريباً، وكان قاضياً، جاءته امرأةٌ من أطراف المدينة، وفي أثناء صعودها إلى مكان المحاكمة صدر منها صوتٌ غير طيّب، فاحمرَّ وجهها خجلاً وحياءً، وتألَّمت أشدَّ الألم، فلمَّا وصلت إليه قال: ما اسمك يا أختي؟ قالت: فلانة، فقال: لم أسمع ارفعي صوتك، فقالت: فلانة، قال: لم أسمع، أنا سمعي ضعيف، قالت لأختها: الحمد لله، معنى ذلك أنه لم يسمعنا، فالإنسان كلَّما كان كاملاً يتجنَّب إحراج الناس، يتجنَّب التدقيق، تتجنَّب أن تضعهم في زاوية ضيِّقة، وتلتمِس لهم العذر، وتتعامى عن أخطائهم.
4 ـ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ
(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) فكان الوحي يأتيه بتفاصيل دقيقة جداً، وكانت هذه التفاصيل التي عاشها أصحاب النبي أحد أسباب إيمانهم بالوحي.
الإنباء أحد دلائل نبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام:
(( سيدنا عُمَيْر التقى مع صفوان بن أمية، وقال: << والله يا صفوان لولا ديون ركبتني، وأطفالٌ صغار أخشى عليهم العنَتَ من بعدي، لذهبت وقتلت محمداً، وأرحتكم منه، صفوان استغلَّها، وقال: أمّا أولادك فهم أولادي ما امتدت بهم الحياة، وأما ديونك فهي عليَّ بلغت ما بلغت، أنا ذو مالٍ كثير، فامضِ لما أردتَ، فعندما دخل عُمَير بن وهب على النبي مُقيّداً بحمَّالة سيفه قال له عمر: هذا عدو الله جاء يريد شرَّاً، قال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: يا عُمَير، ألم تقُل لصفوان بن أُمية: لولا ديون ركبتني، إلى آخره؟! فوقف، وقال: أشهد أنَّك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحدٌ إلا الله، وأنت رسوله>>. ))
هذا الإنباء أحد أدِلّة نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، اليهود أرادوا قتله كان عندهم، فأتمروا على أن يصعد أحدهم إلى الحائط، ويلقي عليه صخرةً، جاءه الوحي وبلَّغه ذلك.
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا
﴿ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ(4)﴾
صَغَت أي مالت، كان عليه الصلاة والسلام يُصغي الإناء للهرَّة، أي يُميِّل الإناء للهرَّة، فالإصغاء هو المَيل، والإنسان إذا استمع إلى كلامٍ رائع فإنه يُصغي، أي يميل إلى هذا الكلام الرائع فيعطيه أُذنه.
2 ـ علامة إصغاء القلب التوبةُ إلى الله:
إذاً: علامة المَيل التوبة، علامة الصدق التوبة، علامة الفهم التوبة، علامة السماع التوبة.
(إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) لو صغنا المعنى صياغةً أُخرى: تُصغي قلوبكما إلى الحق حينما تتوبا إلى الله، لا تُعَدّ مُصغياً للحق، مائلاً إليه، مُعجباً به إلا إذا تُبْتَ إلى الله، وإلا ما تدَّعيه من إعجابٍ بهذا الكلام، واهتمامٍ بهذا المضمون، وأنك مشدوهٌ بهذه الخطبة، وأنك مأخوذٌ بهذه القصَّة، هذا شيء لا قيمة له، فما لم تُطبِّق ما سمعت، فكل هذا الكلام لا يُقدِّم ولا يؤخِّر، ولا تكون مُصغياً حقَّ الإصغاء، مائلاً حقَّ المَيل، مُعجباً غاية الإعجاب، إلا إذا تُبْتَ إلى الله (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) .
مثلاً: إنسان معه مرض خطير، وله ثقة بإنسان عالِم بالطب، وأنبأه عن دواء ناجع ومُجرَّب، لمُجرَّد أن هذا المريض الذي يعاني من مرضه، لا يذهب ويشتري الدواء فوراً، فهو لم يُصغِ إلى الطبيب، أو لم يعبأ بعلمه، أو لم يهتمّ بكلامه، لا يُسمَّى مُصغياً مُقدِّراً مُحترِماً إلا إذا اشترى الدواء، فعلامة إصغائه، وعلامة تقديره، وعلامة إكباره، وعلامة إعجابه، المبادرة إلى شراء الدواء، أمّا الإعجاب الجَدَلي، والمديح الكاذِب، والنتيجة أنه لا يشتري الدواء .
هذه الآية دقيقة جداً (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، الإصغاء المَيل، لا تكون مائلاً للحقّ، لا تكون مُنيباً إلى الحقّ، لا تكون معجباً بالحقّ، لا تكون مُكْبِراً للحقّ إلا إذا طبَّقت الحقّ.
لا سمح الله إنسان مريض، ومرضه خطير، والدواء ناجح ورخيص، وميسور ومبذول، والمتكلِّم عندك صادق، إن لم تُبادر إلى شراء الدواء فأنت لم تستمِع، ولم تعقِل، ولم تُقدِّر، وقل ما شئت، فالمِحَكْ التطبيق.
(إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ) هذه الآية عجيبة جداً، فالموضوع امرأتان فقط، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
أي هاتان المرأتان الضعيفتان تحتاجان إلى هذا التضافر؟ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾
1 ـ كلُّ إنسانٍ يقف ضد الحق فإن الله وجبريل والمؤمنين جميعهم ضده:
قال بعض العلماء: "ليس المقصود أن هاتين المرأتين تحتاجان إلى كل هذا، ولكن المقصود أن أيّ إنسانٍ يفكِّر أن يُطفئ نور الله عزَّ وجل، أو أن يعارض الحقّ، أو أن يقف أمام الحقّ يجب أن يعلم أن الله وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة جميعهم ضدَّه" ، ولكي تعرف أنه قبل أن تقف أمام الحقّ مُعارِضاً، مَن هو الطرف الآخر.
أحياناً تُقام مناورات في بعض الدول، يقولون لك: الأسطول الفلاني قام بمناورة في الخليج الفلاني، لكي تعلم الجهة الثانية مَن هو الطرف الآخر، ما حجمه؟
العِبرة من هذه الآية: أن كل إنسان أراد أن يقف أمام الحقّ مُناهِضاً، أراد أن يُبطِل الحق، أراد أن يطعن في أهل الحقّ، أراد أن يُسَفِّه الحقّ، أراد أن يقلِّل من شأن الحقّ يجب أن يعلم سلفاً مَن هو الطرف الآخر﴿ فَإِنَّ اللَّهَ) ، خالق الأكوان (هُوَ مَوْلَاهُ) ، طبعاً معه رسول الله ( وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) .
مثلاً: إنسان عنده ألف جندي، وعنده مركبتان آليتان، وعنده عشر بنادق، هذا الإنسان مع عشر بنادق والمركبتين الآليتين هل يقدر أن يُعلِن الحرب على أكبر دولة في العالم؟ عندها قنابل تُبيد الأرض خمس مرَّات، هل هذا ممكن؟
ما هو القصد في هذه الآية ؟ أنَّ أي إنسان أراد أن يقف أمام الحقّ، مَن هو الطرف الآخر؟ الطرف الآخر هو خالق الكون، فعندما تريد أن تطعَن في الدين، أو أن تطعَن في أحقِّية القرآن، أو أن تطعَن في النبي عليه الصلاة والسلام، أو أن تُسفِّه التشريع، أو أن تقلِّل من قيمة هذا الإسلام يجب أن تعلم أنَّك تُحارب الكون كلَّه، تُحارب خالق الكون، وتُحارب رسول الله، وتُحارب جبريل، وتُحارب الملائكة جميعاً، فقبل أن تتحرَّك خطوةً نحو هذا الموقف، اعرِف من هو الطرف الآخر، اعرِف مَن هو الحقّ، لذلك أية معركةٍ بين باطلٍ وحقّ لا تدوم أبداً، لأنَّ الله مع الحقّ، أية معركةٍ بين حقَّين لا تكون، وأية معركةٍ بين باطلين لا تنتهي، وبين حقٍّ وباطل لا تطول (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ) .
2 ـ اعلمْ مَن هو الطرف الآخر:
الآن كل الناس تقريباً إذا كان في علاقاتهم خلافات يقولون لك: خصمي لا أقدِر عليه، الكلام البسيط، خصمي لست كُفأً له، فلان معه، وفلان معه، وفلان معه، وفلان معه، ويده طائلة، ومدعوم، وليس لي مصلحة أن أُخاصمه، وهذا من باب ما يجري بين الناس دائماً، فإذا كنت مع إنسان قوي تتحاشى أن تقف في وجهه، أيُعقل أن تقف في وجه الحقّ؟! أيُعقل أن تحاول أن تُسَفِّه الدين؟!
الذين سفَّهوا الدين أين هُم الآن؟ في مزابل التاريخ، هذا الكيان الذي ناهض الدين سبعين عاماً، ما مصيره اليوم؟ في الأوحال، لا يوجد مجتمع متمزِّق، متفكِّك، ضعيف، فقير، فيه كل أنواع الانحرافات، كل أنواع الجرائم، كهذا المجتمع الذي ناهض الدين سبعين عاماً، وهذا شيء بديهي.
هذه الآية دقيقة، دائماً فكِّر في الطرف الآخر، تُحارب مَن؟ تنتقد مَن؟ تُسفِّه مَن؟ تطعَن بمَن؟ تُقلِل من قيمة مَن؟ الطرف الثاني هو الحقّ، الله هو الحقّ، الله بيده كل شيء.
﴿ عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا(5)﴾
هذه الآية إن شاء الله تعالى نُرجئها إلى الدرس القادم، والحمد لله ربِّ العالمين.
الملف مدقق