الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
ما هو الشفق؟ قال بعض العلماء: الشفق حُمْرة الأفق قبل شروق الشمس وبعد غروبها. لماذا أقسم الله تعالى؟ أوْ لم يقسم؟ لماذا لفت نظرنا إلى الشفق؟ إنْ أقسم فبالنسبة إلينا، وإن لم يقسم فبالنسبة إليه، هناك آياتٌ فيها قسم:
هناك آياتٌ "فلا أقسم"، وبعض المفسرين قالوا: إن هذه - لا - زائدة لتوكيد القسم، على كلٍ إنْ كان هناك قسمٌ فبالنسبة إلينا، وإن لم يكن هناك قسمٌ فبالنسبة إليه سبحانه وتعالى، على كلٍ ما هذه الآية العظيمة الظاهرة التي هي الشفق.
بالمناسبة ليس في سطح القمر شفق، لماذا؟ لأنه ليس على القمر هواء، وحيث لا يكون هواء فلا شفق، فكأن الشفق إشارة إلى هذه الكتلة الهوائية الضخمة التي تصلُ إلى عشرات بل مئات الكيلو مترات، في القمر ليس هناك هواء، إذاً ليس هناك شفق، وفي الأرض هواء، فهذا الهواء له مهمة في نثر الضوء، لولا الهواء لكانت حالة الأرض إحدى حالتين؛ إما أشعة الشمس، وإما ظلامٌ دامس، وعن طريق الهواء هناك أشياء ثلاثة: هناك أشعة الشمس، وهناك ضياءٌ، وهناك ظلامٌ دامس، فلما ربنا عزَّ وجلَّ قال: ﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ﴾ أي هذه الحُمرة التي تبقى في الجوّ بعد غياب الشمس، أو هذه الحُمرة التي يتلوَّن بها الهواء قبل شروق الشمس، أمّا إذا كان في السماء سُحبٌ فالشفق له ألوانٌ تأخذ بالألباب، وأجمل منظر هو منظر الغروب في أيام الخريف والربيع، إذْ يتلون الشفق بألوان ساحرة، إذاً فالشفق دليلُ وجود الهواء، والشفق دليل وجود السحب وبخار الماء، والشفق دليل كروية الأرض، ولو كانت الأرض مكعبة، أو على شكل متوازي مستطيلات، أيْ لها حروف، وبالحروف تغيب الشمس فجأةً، وتشرق فجأةً، لكن هذا الشكل الكروي يجعل الشروق تدريجيّاً، عند الفجر ظهور الخط الأبيض في الأفق، هذا الخط يزداد ويزداد معه الضياء إلى أن تضيء الأرض، وبعدئذٍ تشرق الشمس، هذه من رحمة الله بنا:
كذلك تغيب الشمس، أيْ يغيب قرصها، وتبقى الأرض مضيئة، ويظهر الشفق عند الغروب، وهذا الشفق يتضاءل ويتضاءل حتى يغيب، فإذا غاب دخل وقت العشاء، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
لو دققت في الكتب العلمية لرأيت مصطلحاً علمياً اسمه الشفق القطبيّ، ما هو الشفق القطبيّ؟ قال العلماء: هناك كهارب ونُويّاتٌ تخرج من الشمس، وتتجه نحوَ الأرض على مسافة خمسة وستين ألف كيلو متراً من سطح الأرض، فتصطدم بالمجال المغناطيسي، وهذه الأشعة الكونية تنعكس عليها أشعة الشمس، فتبدو كأنها شفق، وهذا الشفق يُرى من القطبين بشكلٍ واضح، بل يُرى من المناطق القريبة من القطبَين، وقالوا في وصف هذا الشفق: إنّه حزامٌ يمنع عن الأرض الأشعة الكونية المؤذية، وكلما تقدم العلم اكتشف لآيات القرآن الكريم معنىً جديداً.
قد يُفهم من هذه الآية أنّ هذا الشفق حُمرة الأفق قبيل الشروق، وحمرة الأفق بُعَيْد الغروب، والشفق يعني الهواء، والشفق يعني السحاب وبخار الماء، والشفق يعني كروية الأرض، والشفق يعني تبدل غروب الشمس وتبدل شروقها، والشفق يعني أنَّ هناك أشعةً كونيةً تحمي الأرض من تأثيرات الإشعاعات الضارة، هذه تقبع على مسافة خمسة وستين ألف كيلو متراً حيث ينعدم الهواء، هناك آلات تصوير صورت هذا الشفق القطبيّ على شكل ستائر مُثنَّاة، هذا ما ورد في الكتب العلمية.
لا شك أن الإنسان أحياناً يمر بسوق مزدحم في الساعة الثانية عشرة ليلاً، تجد المحلات كلها مغلقة، والطريق فارغة، ويكون إلى جانب بيته مدرسة ثانوية أو إعدادية، وطوال النهار ضجيج، وفي المساء سكون، سِرْ في الطرقات في الساعة الثانية ليلاً لا حركة ولا ضجيج ولا صوت ولا صخب، فربنا عزَّ وجلَّ جعل من هذه آية، كيف أن كلَّ هذه المخلوقات تحتاج إلى النوم.
عندما يستيقظ الإنسان صباحاً فليعلمْ علمَ اليقين أن الله سبحانه وتعالى منحه يوماً جديداً في حياته، ليكون فرصةً ليسعد بها إلى أبد الآبدين ﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ﴾ .
[ سورة الحاقة ]
لأن الليل يتنقل من نصف الكرة الأول إلى نصفها الثاني، إذاً كلُّ ما على الأرض يحويه الليل، والبحرُ في الليل له وحشة، وكذا الغابات والجبال والطرقات في الليل لها وحشة، فأكثر الأماكن أُنساً تكون في الليل لها وحشة، سكونٍ رهيب.
﴿ فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ(16) وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ (18)﴾
ربنا عزَّ وجلَّ أقسم لنا بالقمر، وليس على الأرض كلها رجلٌ لا يعرف القمر، والقمر واحد، سواءٌ أقسم ربنا عزَّ وجلَّ أم لم يقسم بالقمر، فما في هذه الآية؟ القمر تابع من توابع الأرض، مساحته تعادل كما يقول العلماء مساحة أمريكا الشمالية والجنوبية، والقمر يبعد عنا ما يزيد عن ثلاثمئة وستين ألف كيلو متراً، فلو أنَّ للقمر قطاراً سريعاً لاحتجنا لنصل إليه إلى مئتي يوم، ومئتان تقسيم ثلاثين يساوي سبعة أشهر، فسبعة أشهر تركب قطاراً سريعاً كي تصل إلى القمر، والقمر لا يعدُّ في الفضاء، لكن هو في الفضاء، والعلماء الذين قالوا: غزونا القمر أو غزونا الفضاء، وربنا عزَّ وجلَّ قال:
﴿ يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ فَٱنفُذُواْ ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَٰنٍۢ(33)﴾
قال تعالى: ﴿مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ﴾
الآية التالية تثبت العمد لكن السماء مرفوعة بغير عمدٍ ترونها:
والآن قد اكتُشفت مجرة بُعْدُها عنا اثنا عشرة ألف مليون سنة ضوئية، هذا القطر، أما القمر فيبعد عنا ثانية ضوئية واحدة، ودائماً في القياس هناك وحدات قياس، نقيس الذهب بالغرامات، ونقيس القماش بالأمتار، ونقيس المسافات على الأرض بالكيلو مترات، فما هو متر السماء؟ وما الوحدة القياسية للسماء؟ قالوا: السنة الضوئية؛ أي عشرة آلاف مليون ملْيون كيلو متر، هذا هو متر السماء، وبيننا وبين القمر ليس سنة ضوئية؟ بل ثانية ضوئية، ثانية ضوئية واحدة، لذلك لا يُعدُّ القمر إلا تابعاً من توابع الأرض. فالقمر مرتبط بالأرض بجاذبية، وهذه الجاذبية محيِّرة، هل يمكن أن تتصوَّر أنَّ بناءً مؤلّفاً من عشرة طوابق بلا أعمدة؟
﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍۢ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2)﴾
لكن ترونها، إذاً هناك عمد، فهذه الآية تثبت العمد، لكن السماء مرفوعة بغير عمدٍ ترونها، فقد قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍۢ تَرَوْنَهَا﴾ لذلك قال العلماء: إنَّ القمر مرتبطٍ بالأرض بقوةٍ جاذبيةٍ تساوي كبلاً من الفولاذ قطره خمسون كيلو متراً، لكنَّ لطف الله عزَّ وجل جعل قوة الجذب هذه المتمثّلة بكبل من الفولاذ قطره خمسون كيلو متراً، هذه القوة موجودة لكنّها غير مرئية، هذه الأعمدة موجودة ولكنّها غير مرئية، وليست حاجباً، لا حاجب رؤية، ولا حاجب تنقُّل، الهواء سهل، لذلك القمر له أثر على الأرض، والأرض لها أثر على القمر، فما أثر القمر على الأرض أو في الأرض؟
أثر القمر على الأرض وأثر الأرض على القمر:
قال العلماء: لولا القمر لدارت الأرض حول نفسها في أربع ساعات، ولكان الليل ساعتين والنهار ساعتين، فما الذي يخفف من سرعة الأرض حول نفسها؟ القمر، أثر القمر في الأرض أنه بطّأ سرعتها، وجعل دورتها حول نفسها أربعاً وعشرين ساعة.
أما أثر الأرض في القمر فهي أنّها جذبته ولولا جاذبيتها لسار في خطٍ مستقيم ولبعُد عنها، فالقمر إذاً مرتبط بها.
وهناك أثر آخر للقمر في الأرض وهو المدُّ والجزر، فالمدُّ والجزر لا يُلمَح في اليابسة، مع أنَّ حقائق علمية تثبت أن اليابسة ترتفع قليلاً مقدار خمسة عشر سنتيمتراً باتجاه القمر حينما يقابلها، ولكنَّ الماء لأنه سائل ومتحرِّك ومرِن يرتفع حينما يقابل القمر الأرض، فيرتفع تقريباً عشرين متراً، لذلك فالموانئ الكبرى في المحيطات مصممة على المد والجزر، وقد يكون البحر في حالة الجزر ولا يحتمل بواخر ضخمة، فتدخل البواخر إلى الميناء في حالات المد، وتخرج منه قبل أن ينتهي المد، إذاً فالبحر يرتفع إلى ما يساوي عشرين متراً، وينخفض عشرين متراً بين النهار والليل، أو بين دورة القمر بين شروقه وغيابه، أما اليابسة فترتفع خمسة عشر سنتيمتر، أما البحر فيرتفع وينخفض، وظاهرة المد والجزر معروفة، ولا يجهلها أحد، ويراها الإنسان رأي العين إذا سافر إلى مدن تقع على المحيطات، كالمحيط الأطلسي والهادي والهندي.
شيء آخر، القمر يدور حول الأرض دورةً كل ثمانية وعشرين يوماً، أما هو فيدور حول نفسه دورةً كل ثمانيةٍ وعشرين يوماً، أي أن نهاره أربعة عشر يوماً، وليله أربعة عشر يوماً، ودورته حول الأرض في ثمانية وعشرين يوماً، لكن -سبحان الله!- الإنسان أحياناً يرى القمر يوم خمسة عشر من الشروق تماماً، فيشرق مع المغرب في اليوم الخامس عشر، وفي اليوم السادس عشر يشرق بعد خمسين دقيقة ونصف الدقيقة من غياب الشمس، وفي اليوم الذي بعده يشرق بعد خمسين دقيقة ونصف دقيقة من اليوم الأول، وكل يوم يتأخَّر شروقه خمسين دقيقة ونصف دقيقة، بعد أربع أو خمس أيام يظهر القمر في السماء بُعيد منتصف الليل، بعد خمسة أيام أُخَر يظهر في السماء قبيل الفجر إلى أن يغيب تماماً، فما سرُّ هذا الشروق المتأخِّر؟
هذه آيةٌ من آيات الله، هذه الأرض وهذا القمر، فلو أنَّ القمر دار حول الأرض بسرعة الأرض حول نفسها لثبت القمر في جهةٍ ما من جهات الأرض، هذه الأرض تدور حول نفسها، فلو أن دورة القمر حول الأرض كانت بسرعة دورة الأرض حول نفسها لصار القمر مقابلاً لمكانٍ واحدٍ في الأرض، ولحُرِم منه سكان الجهة المقابلة، لكن هذا التفاضل في السرعة بين سرعة القمر في دورانه حول الأرض وبين سرعة الأرض في دورانها حول نفسها، فتفاضُل السرعتين جعل أهل الأرض كلَّهم يتمتَّعون بالقمر، فشروق القمر متأخِّراً خمسين دقيقة ونصف كل يوم عن اليوم الذي سبق هذا معناه أنّه يدور حول الأرض، والأرض تدور حول نفسها، وبين السرعتين تفاضل، هذه آيةٌ من آيات الله، لولا أن هناك إلهاً حكيماً قديراً قدَّر كلَّ شيء لزالت الفائدة من القمر.
هناك شيء آخر؛ قالوا: لو أن القمر اقترب من الأرض إلى مئة ألف كيلو متراً، فهو يبعد عنا ثلاثمئة وستين ألف كيلو متراً، فربنا عزَّ وجل قال:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَٰهُ بِقَدَرٍۢ(49)﴾
﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5)﴾
لو أن القمر اقترب من الأرض، وكان على بعدٍ يساوي مئة ألف كيلو متراً فماذا يحصل؟ قد يقول أحد الناس لا يحصل شيء، نقول له: يزداد المد والجزر أربعة وستين ضعفاً، فإذا كان المد ارتفاعه عشرين متراً، فنضرب عشرين في أربعة وستين، أي يرتفع الماء حوالي ألف متر، أي أن المدن الساحلية كلّها، ومعظم ما حولها إلى ارتفاع ألف متر ينغمر بمياه البحر، فبيروت مثلاً على البحر، أما ظهر البيدر فارتفاعه حوالي ألفي متر، فتقريباً عند "عالِيه" يصبح كل هذا بحراً، لو أن القمر اقترب من الأرض إلى مسافة مئة ألف كيلو متراً، لتضاعف المد والجزر أربعة وستين مرة، أي ألف ومئتا متر ولغرقت جميع المدن الساحلية، وإلى ارتفاع ألف ومئتا متر تقريباً، فبعض الجبال الساحلية يبلغ ارتفاعها ألفاً ومئتي متر، أو ألفاً وخمسمئة، فبلودان ألف وخمسمئة، أي لوصل الماء إلى بلودان من البحر، هذا إذا اقترب القمر من الأرض إلى مسافة مئة ألف كيلو متراً.
جُعل القمر تقويماً في السماء بسبب تنوعه وتغيره من حال إلى حال:
هناك أشياء كثيرة عن القمر، والشيء الذي يُحيِّر العقول كيف أن القمر يُرى بدراً حيناً، وحيناً آخر لا يُرى، وحيناً ثالثاً يُرى بين بين، وكيف يكون محاقاً، ثم عُرجوناً، ثم بدراً؟ هذه الأرض وهذه الشمس إذا كان القمر في الجهة المقابلة للشمس يأخذ ضوءه من الشمس بكامله، فالقمر له وجهان أحدهما منيرٌ والآخر مظلمٌ، والأرض هنا والشمس هناك، إذا كان القمر في الجهة المقابلة للشمس نراه بدراً، فإذا كان في جهة الشمس لا نراه إطلاقاً، لأن القمر هنا، والشمس هناك، والأرض هنا، وجهه المظلم نحونا، والمنير نحو الشمس، فلا نراه، وإذا انتقل القمر إلى هذا المكان فهذا الوجه المنير وهذا المظلم، نحن نرى نصف القمر تقريباً، أي كنصف البرتقالة، إذاً تنوّع القمر من البدر، إلى وضع متوسِّط نصف دائري، إلى هلال، إلى محاق، هذا بتقدير قديرٍ حكيم، فهذا تقويم في السماء:
﴿ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِىَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ ۗ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189)﴾
لذلك، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ:
(( هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ ثَلَاثَ مـرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا. ))
أي هو خير لنا، ولكنه يرشدنا إلى الله عزَّ وجل، فكيف يشرق القمر كل يوم متأخراً خمسين دقيقة؟ لولا تفاضل السرعتين لاستفادت جهة واحدة من القمر، وبقيت جهات الأرض الأُخرى محرومة منه، أما هذا التفاضل بين سرعتي القمر والأرض جعلت القمر يعُمُّ الأرض كلها، ويراه جميع من في الأرض.
تنقُّل القمر حول الأرض من جهة الشمس إلى جهةٍ مقابلة إلى جهةٍ ثالثة ورابعة جعل القمر لا يبدو أبداً، أي محاقاً، ثم يبدو هلالاً، ثم يبدو نصف دائرة، ثم يبدو بدراً، إذاً جُعل القمر تقويماً في السماء.
الجاذبية من آيات الله الدالة على عظمته :
الحقيقة لو كان الإنسان يزن وهو على الأرض ستين كيلو غراماً، ووقف على القمر لكان وزنه عشر كيلوات فقط، ولو أمسك إنسان كرة، وألقاها في الأرض بكامل قوته، وكانت الكرة حديدية لارتفعت خمسة أمتار، ولو ألقى هذه الكرة على سطح القمر لاندفعت إلى ثلاثين متراً، إذاً الجاذبية شيء عظيم، وبعض المفسرين فسَّر قوله تعالى:
﴿ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ(4)﴾
أي انعدمت الجاذبية، فما الذي يجعل الأشياء مرتبطة بالأرض؟ الجاذبية، فأي شيء إذا تركته يسقط، فما هو السقوط؟ أي انجذاب هذا الشيء إلى الأرض، فما وزن الشيء؟ هو قوة انجذابه إلى الأرض، لذلك فالبحار في المحيط الجنوبي وفي نصف الكرة الجنوبي الإنسان بنظرة ساذجة يتساءل كيف متعلقة؟ أي إذا سافر شخصٌ إلى الأرجنتين فهل يجد السماء من تحته، والبحر من فوقه، كيف ينظر هذا؟ لو سافر شخص إلى بلاد تقع في نصف الكرة الجنوبي تبقى السماء نحو الأعلى، والبحر نحو الأسفل، إذاً ما تعريف السماء؟ هي جهةٌ مقابلةٌ لمركز الأرض، أينما ذهبت على سطح الأرض ترى السماء سماءً والأرض أرضاً، فالأرض هي كرة، لذلك هذه القوة التي ربطت كلَّ ما على الأرض من ماء ومن هواء، ومن أشياء بالأرض هي قوة الجذب القوية واللطيفة، ولا تراها، فارتباط القمر مع الأرض بقوة الجذب الهائلة، لكن ليست حبالاً أو أعمدة، قوة جذب لطيفة، قوية ولطيفة بآن واحد تخترقها.
فإذا كانت الأرض ساكنةً سكوناً مطلقاً وهي متحركة، فهذه آيةٌ كبيرة، هي متحركة وتنتقل مسافة ثلاثين كيلو متراً في الثانية، فهذه السرعة الدقيقة، وهذا السير على خط ثابت يفسِّره قوله تعالى:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(41)﴾
ومعنى ﴿تَزُولَا﴾ أي أن السماوات والأرض وكل الكواكب في السماء والنجوم والأجرام لها مسارات دقيقة لا تحيد عنها، كقطار له سكة لو حاد عنها يحتاج إلى آلات ضخمة حتى ترجعه إليها.
الهواء في الأرض نعمةٌ كبرى:
قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِهِۦ ﴾ هذا شيء مستحيل إذاً، اللهُ عز وجل عندما أوضح لنا هذه الآيات فالشفق يدل على وجود الهواء، يقول العلماء: إن بعض الكواكب ليس فيها هواء فما هو السبب؟ قالوا: لأن قوة الجذب خفيفة، وقوة الجذب الضئيلة تجعل الطبقات الهوائية تتفلت من على هذا الكوكب وتهجره، لذلك فحجم الأرض مناسب جداً، وهذا الحجم يعني جاذبية بحجم معين، وهذه الجاذبية ربطت البحار والهواء بالأرض ربطاً نهائياً.
قال العلماء: القمر يقدِّم إلى الأرض أشعة وحرارة تساوي واحداً على مئة وخمسة وثمانين ألف جزء من أشعة الشمس وحرارتها، أي أنه لطيف، وفي الليالي البيضاء المقمرة يُرى الطريق، حتى الحرارة فالقمر يقدم لنا حرارة مقدارها واحد على مئة وخمسة وثمانين ألف جزء من أشعة الشمس وحرارتها.
كما قلت قبل قليل أيضاً لولا الأرض لسار القمر في خطٍ مستقيم مبدئياً، ولكان له مدار طويل حول الشمس، ولكن الأرض واقترابها منه جعلته يرتبط بها، ولولا القمر لدارت الأرض حول نفسها في أربع ساعات، ولصار الليل ساعتين والنهار ساعتين، وهذا لا يُحتَمل.
إنّ سرعة القمر حول الأرض ثلاثة آلاف وخمسمئة كيلو متراً في الساعة، ولو تصورنا أن مِدفعاً أُطلق من على سطح القمر فلا يحتاج ضارب المدفع إلى أن يغلق أذنيه، إذْ لا صوت له، والقمر ليس فيه هواء، فما دام لا هواء فيه فليس له وسط ينقل الصوت، لذلك فإنّ الهواء في الأرض نعمةٌ كبرى، فكلامي مسموع بسبب الهواء، ولولا الهواء لما سَمِعَ أحدٌ من كلامي شيئاً.
أهمية الهواء في الأرض وفوائده :
إذاً فلا بد من وسطٍ مرنٍ ينقل الصوت، وينقل الحرارة، وينقل البرودة، التكييف مركزي، أي هواء بارد، تدفئة مركزية، أي ماء ساخن لامسَ الهواء فجعله ساخناً، والغرفة دافئة، فلو أن الإنسان فكَّر في الهواء فقط كيف ينقل الصوت والحرارة والبرودة والضوء لكفى ذلك دليلاً على الله، لكن على سطح القمر لا صوت يُسمع، ولا برودة تنتقل، ولا حرارة، وفي النهار ثلاثمئة وخمسون درجة، وفي الليل مئتان وخمسون درجة تحت الصفر، إذاً ما دور الهواء على سطح الأرض؟ دور ملطِّف، الهواء جهاز تكييف يحتفظ بالحرارة ويخفف البرودة، لذلك تجد الدرجات معقولة ما بين عليا عشرين ودنيا ثلاث، أو خمس وعشرين وعشرة درجات، أو عشرين وخمسة وثلاثين، فالدرجات معقولة جداً بين الليل والنهار بفضل الهواء، فهذه كذلك إشارات دقيقة جداً، أنَّ الهواء ينقل لكَ الصوت، ينقل لكَ الحرارة، ينقل لكَ البرودة، وينقل لك الضوء، ويلطِّف الجوّ، ويجعل درجات الحرارة متقاربة، وهذا كلّه بفضل الهواء، فلذلك ربنا عزَّ وجلَّ قال: ﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ*وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ*وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ﴾ ومعنى ﴿وَسَقَ﴾ أي ما احتوى، ومعنى ﴿ٱتَّسَقَ﴾ أي إذا تمَّت استدارته وأصبح بدراً.
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ (18) لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ (19)﴾
هذا جواب القسم: ﴿لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ .
الإنسان مجموعة أيام كلَّما انقضى منه يومٌ انقضى جزءٌ منه:
ما معنى هذه الآية؟ فعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
(( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ" حَالاً بَعْدَ حَالٍ، قَالَ هَذَا نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ))
فأنت شاب ليس لك خيار في الموضوع، لا بدَّ أن تصبح كهلاً، ولا بدَّ أن تصبح شيخاً، بمعنى التقدُّم في السنّ، ولا بدَّ أن تدخل القبر، ولا بدَّ أن تُبعَث، ولا بدَّ أن تقف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، ولا بدَّ أن تحاسَب على أعمالك، تكون نطفةً، ثمَّ جنيناً، ثمَّ مولوداً، ثمَّ طفلاً، ثمَّ شاباً، ثمّ رجلاً، ثمَّ كهلاً، ثمَّ شيخاً، ثمَّ ميْتاً تحت التراب، ثمَّ مبعوثاً حياً، ثمَّ واقفاً للحساب، ثمَّ إلى الجنّة أو إلى النار:
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ*وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ*وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ*لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ فلا بدَّ من أن تمروا بهذه المراحل، يقول لك الواحد باللغة الدارجة: بلمح البصر ولَّى الصيف، وبلمح البصر ولَّى الشتاء، فالإنسان يدخل الجامعة يستكثر الأربع سنوات، بلمح البصر انتهت الدراسة الجامعية، ثم هو قد تزوج، وجاء له أولاد، وزوّجهم وأصبح جدّاً: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ أي نحن نسير في اتجاه إجباري، وبسرعة ثابتة، ليس لنا خيار فيها، والأيام تدور، والسنوات تمر، والليل والنهار يُبلِيان كلَّ جديد، ويقربان كلَّ بعيد، والإنسان مجموعة أيام، كلَّما انقضى منه يومٌ انقضى جزءٌ منه.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ*وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ*وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ*لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ حالاً بعد حال، وهذا تفسير أوّل.
الإنسان ينتقل من حال إلى حال كل يوم لذلك عليه أنْ يتعلق بالله عزَّ وجلَّ:
وهناك تفسير آخر: ﴿طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ أيضاً حالاً بعد حال، قد ينتقل المرء من الفقر إلى الغنى إذا كان شاكراً، أو ينتقل من الغنى إلى الفقر، وقد ينتقل المرء من الرخاء إلى الشدة، أو من الشدة إلى الرخاء، ومن الصحة إلى المرض، أو من المرض إلى الصحة، أي كلُّ حالٍ يزول، فالإنسان لا يطمئن للدنيا، اليوم أنت شابّ وليس فيك من بأس، وفي خلال دقائق توقفت الحركة، وأصبح يحتاج إلى زحّافة، يريد من يحمله إلى المرحاض، أحياناً يبكي: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ وعلى الإنسان أنْ يتعلق بالله عزَّ وجلَّ، لا أنْ يتعلق بالدنيا، ويضع ثقته كلها بالله عز وجل، "إذا أردت أن تكون أقوى الناس فاتق الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله" .
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ الشفق أي الهواء والسحاب وبخار الماء، وكروية الأرض، وتبدل غروب الشمس.
﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ كل شيء وجميع الكائنات يحتويها الليل، وتسكن في الليل.
حسبنا الكون معجزة فالكون قرآنٌ صامت والقرآن كونٌ ناطق:
قال تعالى:
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ هذا التابع، التقويم، له فضل على الأرض في الجاذبية، وفي المد وفي الجزر، والأرض لها فضلٌ عليه - مجازاً فالفضل لله عزَّ وجل - في ارتباطه بها، والقمر بُعدُه عنا مناسبٌ جداً: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾
﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)﴾
من دون قمر يصبح النهار ساعتين، والليل ساعتين، وبوجود القمر يكون الليل والنهار أربعاً وعشرين ساعة.
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ(16) وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ (17)وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ (18)لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ (19)فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (20)﴾
كأنَّ الله سبحانه وتعالى يعجب منهم، فما الذي يمنعكم أن تؤمنوا؟ لقد أعطيتكم فكراً، وأعطيتكم كوناً، والكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى، فإذا أردت أن تعرف الله فدونك الكون، حسبكم الكون معجزة، الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، الإمام محمد عبده يقول: إن لله في أرضه كتابين؛ الكون والقرآن.
ليس في الأرض شيء أهم من معرفة الله عزَّ وجل:
قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ ما الذي يمنعهم من الإيمان، والمرءُ مشغول بماذا؟ هل في الأرض شيء أهم من معرفة الله عزَّ وجل؟ ما دمت سوف تكون مع الله إلى أبد الآبدين، فما دام الله سبحانه وتعالى إليه المصير، وإليه المنقلب، إلى أبد الآبدين، فما هذا الكلام إذْ تدّعي أنك مشغول، لماذا لا تحضر معنا؟ يجيب بأنه مشغول، وعندهم الآن موسم، أو حتى يرتاح بالي، بالك لن يرتاح أبداً: ﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ هل يوجد إنسان يأخذ الدكتوراه من دون جامعة؟ في البيت وحدي وأنا مستلقٍ على السرير أخذتها، هذا لا يصح أبداً، فالعلم يُؤتى، ومعرفة الله تحتاج إلى أن تحضر مجلس علم، فكيف تعرفه؟ وكيف تعرف آياته؟ وكيف تعرف أوامره؟ وكيف تعرف الحلال والحرام؟ وكيف تعرف الطريق إليه من دون أن يعلِّمك أحد؟
﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ ما الذي يشغلك؟ ومما جاء في الآثار القدسية في الكتب السماوية السابقة: "خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين -فلماذا تكون مشغولاً برزقك؟- وعِزَّتي وجلالي إن لم ترض بِما قسَمْتُهُ لك، فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ ركْض الوحش في البريّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي".
الله عزَّ وجل خلق الكونَ كلَّه شهادةً له فلا عذر لغير المؤمن يوم القيامة:
كنا نخوض ونلعب، فلا يوجد عذر، لأنّ الله عزَّ وجل خلق الكونَ كلَّه شهادةً له، خلقك من نطفة ثم سوَّاك بشراً سوياً، والقبر أمامك فما الذي يمنعك من أن تؤمن به؟
﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ فإذا وضع الأبُ ابنه في أحسن مدرسة، وفيها أحسن أساتذة، وأحضر له كتباً جديدة، وأقلاماً ودفاتر، وجميع اللوازم من أعلى مستوى، وخصَّص له غرفة مُدفّأة شتاءً، ومكيّفة صيفاً، ومكتباً، وإضاءة مخفية ومكتبة، وقدَّم له نفقات كبيرة، وأحضر له أساتذة خصوصيين، ودخل عليه ذات مرة فرآه لا يدرس، فقال له: يا بني لمَ لا تدرس؟ ما الذي يمنعك أن تدرس؟ هل قصَّرت بحقك؟ هل هناك شيء لم أقدِّمه لك؟
﴿ فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (20)وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا يَسۡجُدُونَۤ۩ (21)﴾
كتاب الله، قد حدثتكم اليوم في الخطبة كيف أن ربنا عزَّ وجل خلق غدّة دمعية، وهذه الغدة تفرز مادة قلوية من أجل تطهير القرنية، ومن أجل تسهيل عمل الأجفان -المسّاحات- وكيف تعمل هذه المسّاحات، أيْ الأجفان عن طريق حركة لا إرادية نوبية من أجل أن ترتاح، فلم يكلِّفك فيها عملاً، فلو كلَّفك فيها لوجدتَ أنّك وأنت تتكلَّم تقول لمن أمامك: انتظر سأمسح عيوني، وتقوم بمسحهما، ثم تقول لمحدثك: أكمل، أما الله فقد جعل لك هذه الأجفان نعمة كبرى، فحركة الأجفان حركة نوبية لا إرادية مع مادة قلوية تذيب الرمل، فلو دخلت حبة من الرمل في العين لأذابها الدمع، وهذا الدمع خرج من الغدة الدمعية بشكل معيَّر دقيق، نظَّف القرنية، وسهَّل عمل الأجفان، ثم انتهى إلى قناةٍ دمعيّةٍ لا تُرى بالعين لشدة دقتها.
هذا الدمع له وظيفة أُخرى، وهي ترطيب الأنف، فالأنف سطوح متداخلة، والهواء يمر عبرها، والله جعل هذه السطوح ساخنة، أرقى جهاز تسخين، وجعل هذه السطوح أيضاً مغطَّاة بطبقة مخاطية لزِجة رطِبة حتى الغبار العالق في الهواء والمواد الغريبة كلها تعلق عليها، وإذا استطاعت ذرة من الغبار أن تنتقل عبر الفراغات فقط، وهذا مستحيل فجعل لها أشعاراً تلتقطها، سطوح ساخنة متداخلة عليها طبقة لزجة رطبة وأشعار في الفراغات من أجل أن يصل الهواء إلى الرئتين ساخناً نقياً، فلو نام الإنسان على ظهره فسيتنفَّس من فمه، وكأنَّه عطَّل جهاز التسخين، وعطَّل جهاز التعقيم، فتنكشف اللثة، وهذا مرض يسمى - البوريه - أي انكشاف اللثة، يصاب برشوحات دائمة، ويأتيه الهواء بارداً مؤذياً ومعبّأ بالغبار أو الأجسام الغريبة. إذا ازداد الدمع فهو البكاء، ومعنى البكاء أن الغدد الدمعية تفرز كميَّات من الدمع تزيد على طاقة تصريف الدمع بالقنوات الدمعية فيسيل ويفيض الدمع.
ذكر الله في القرآن الكريم أن البكاء هو فيضان الدمع:
ربنا عزَّ وجل ذكر في كتابه الكريم:
﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ(83)﴾
هذه الأشياء كشفها العلم الآن، وكذلك موضوع الغدد الدمعية والتنظيف والتصريف، ولكن الله سبحانه وتعالى في موطنين من القرآن الكريم ذكر أن البكاء هو فيضان الدمع، قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ أليس هناك آياتٌ باهرات؟ في العين مئة وثلاثون مليون عصية ومخروط، ربع مليون شعرة، ولكل شعرة شريان ووريد وعصب وعضلة وغدة دهنية وغدة صبغية: ﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ .
المجرات والشمس وكل ما في الكون آيات باهرات على وجود الله سبحانه:
في المعدة خمسة وثلاثون مليون عصارة هاضمة تفرز مقدار ليتر ونصف، أيْ بقدر قِنِّينة بقين من حمض كلور الماء عند كل وجبة طعام: ﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ .
الشمس بُعدُها عنا مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، وهناك شموس حجمها يزيد على حجم الشمس بثلاثين مليون مرة، والشمس بينها وبين الأرض من الفرق مليون وثلاثمئة ألف مرة، وهناك كازارات شدة إضاءتها وحجمها يزيد على شمسنا بثلاثين مليون مرة.
وفي الكون توجد بقع سوداء وهذا الشيء لا يصدَّق، إذا دخلتها الأرض انضغطت إلى حجم البيضة، الأرض كلها، ففيها قِوى ضغط تزيد الفراغات البينية بين الذرات، فكل شيء تراه ثقيلاً وصامتاً فيه فراغات هائلة بين ذراته، هذه القوى الضخمة في البقع السوداء تجعل الأرض بكاملها بيضة، وهذه الأرض لو أُلقيتْ في الشمس لتبخَّرت كلها في ثانية واحدة، الأرض كلها: ﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ .
المجرَّات أعرف رقماً عن المجرات أن هناك حوالي عشرة آلاف مليون مجرة، أحدث مقالة قرأتها قبل يومين مليون ملْيون مجرة في الكون، هذا في حدود مراصدنا، وفي حدود تكهُّناتنا مليون مليون، وأحد المراصد أمريكا اسمه بالومار كشف منها ألف مليون، والباقي لم تُكشف، فالعين المجردة لا ترى إلا ثلاث مجرَّات فقط؛ هي المرأة المسلسلة، ومجرّتان، ومجرتنا فقط، قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ*وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا يَسۡجُدُونَۤ﴾ فليس هناك آية في هذا الكتاب إلا وتنطق بالكون، بل الكون كله في الكتاب.
الكافر من صفاته أنه يكذِّب بالحقّ ويؤمن بالباطل:
قال تعالى:
﴿ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22)﴾
إنّ الكافر من صفاته أنه يكذِّب بالحقّ ويؤمن بالباطل.
﴿ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)﴾
معنى يوعون أي يخبِّئون من نوايا شريرة للنبي صلَّى الله عليه وسلم ولأصحابه الكرام.
﴿ فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا يَسۡجُدُونَۤ۩ (21)بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(24)﴾
قال بعض علماء البلاغة: هذه استعارة تهكُّمية، كأن تقول مثلاً: فلان رسب عن جدارة، وأحرز درجة عالية في الرسوب، أو تقول لإنسان: قمّة في الغباء، فالغباء ليس له قمة، هذه استعارة تهكُّمية. وبعضهم قال: لا، بل هي على حقيقتها، ربما كان العذاب عذاب النار الذي يُحرِق الجلود أهون من عذاب النفس: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ثم قال تعالى:
﴿ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ (25)﴾
ما معنى ﴿غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ﴾ ؟ أي غير منقطع، وغير منقوص، وغير محسوب.
قال بعض المفسرين: غير ممنون، ليس مُمتناً عليهم، ولكنَّ هذا التفسير مرفوض، لأنَّ لله المنة والفضل دائماً، فيمكن ألّا يكون لإنسان على إنسان مِنَّة، أما ربنا عزَّ وجل فله المِنَّةُ والفضلُ على عباده جميعاً، فإذاً معنى ﴿غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ﴾ أي غير مقطوع، وغير منقوص، وغير محسوب عليهم، أيْ بغير حساب، فلا أحد من الناس يأخذ إلا بحساب، أما إذا أعطى ربنا عزَّ وجل أدهش، وهو المعطي فلا يسأل، وهو الكريم فلا يبخل، وهو الحليم فلا يعجز.
ملخص سريع لما ورد في درس اليوم :
درسنا كله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ تذكروا الشفق القطبي، هذا السُّور الذي وضعه الله في الفضاء الخارجي على بُعد خمسة وستين ألف كيلو متراً ليقِيَ الأرض من الأشعة الكونية الضارة، أو الشفق تلك الحمرة التي تكون بعد الغروب أو قبل الشروق، تعني الهواء، تعني السحاب، تعني البخار، تعني كروية الأرض: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ* وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ﴾ وما حوى: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ تمَّت استدارته ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ ليس لك خيار، فأنت الآن شاب، لكنك سائر في طريق الكهولة، وبعد الكهولة الشيخوخة، فإذا رأيت إنساناً يمشي متمهلاً فلا تنتقده، فسوف تكون كذلك: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ*فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ*وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا يَسۡجُدُونَۤ۩*بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ*وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ أي بما يخبّئون في نفوسهم من نوايا شريرة: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ﴾ أي غير منقوص، غير مقطوع، غير محسوب.
الملف مدقق