- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (021) سورة الأنبياء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيُّها الأخوة الكرام، الآيات الأخيرة من سورة الأنبياء، وهي قوله تعالى :
﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)﴾
هذه الآية شُرِحَت البارحة وتَتِمَّة هذه الآيات، قوله تعالى :
﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)﴾
تَوَلَّوا عنْ ماذا ؟ الآية الكريمة:
﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)﴾
إن لم يقْبَلوا عقيدة التوحيد، وإن لم يَقْبَلوا توْحيد الألوهِيَّة، وإن أصَرُّوا على أنَّ هناك شُركاء بِيَدِهم الأمْر ! أو تَوَلَّوا عن طاعة الله، ؛ لأنّ الآية الكريمة:
﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)﴾
فإمَّا أن تَوَلَّوا عن قَبول هذه العقيدة، أو أنَّهم تَوَلَّوا عن تَصديق هذا الأمر، فإما أحدهما أو الآخر أو كلاهما، فإن تَوَلَّوا فقُل يا محمَّد آذَنْتُكم على سواء ؛ أي أبْلغتكم جميعًا وانتَهَت مُهِمَّتي، قال تعالى:
﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(18)﴾
وقال تعالى:
﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾
وقال تعالى:
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56) ﴾
وقال تعالى:
﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)﴾
والله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة يقول:
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)﴾
دَعْهُ لي إن لم يسْتَجِب.
أيها الأخوة هناك موضوع دقيق جدًا ورَدَ في سورة الأعراف، قال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94)ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(95)﴾
هذا الموضوع دقيق جدًا، وهذه الآية تُبيِّن أنَّ سياسة الله مع عبادِهِ أساسُها أربعة مراحل، فأوَّل المراحل الدَّعْوة البيانِيَّة، وهي الكلام فالله جل جلاله يُرسِل الأنبياء، والمرسلين والعلماء والدُّعاة يُبَلِّغون الناس الحق بألْسِنَتِهِم، فإن لم يسْتجيبوا تَوَلَّى الله تأديبهم، قال تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)﴾
وقال تعالى:
﴿إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94(﴾
المرحلة الثانية ؛ هي الدَّعْوَة التأديبِيَّة عن طريق البأساء والضَّراء ماذا ينبغي أن يفْعَل الإنسان إذا ضيَّق الله عليه وشدَّدَ عليه ؟ عليه أن يضَّرَع إلى الله تعالى، فإن تضرَّع إلى الله تعالى انتهى الأمر.
فإن لم يتضرَّع دخَلَ بِمَرحلة ثالثة ؛ الإكرام الاسْتِدْراجي، قال تعالى:
﴿ثمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(95)﴾
جاءَتهم الدنيا واغْتَنَوا وفُرِّجَ عنهم، وشَعَروا بِحُرِيَّةٍ، فإذا جاء الإكرام الاسْتِدْراجي، لا بدّ أن يكون المَوْقف مَوْقِفَ شُكرٍ لله تعالى، ويتوب إليه، فإن لم يشكُر لم يبْقَ مِن المراحل إلا آخرها، وهي مرحلة القَصْم قال تعالى:
﴿ثمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(95)﴾
فهذه الآية مِن أدقِّ الآيات، مرحلة بيانيَّة ومرحلة تأديب، وإكرام اسْتِدراجي، وفي الأخير القَصْم.
لذلك الآن كما قال تعالى:
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾
أي لم يؤْمنوا بهذه العقيدة، كما أنَّهم لم يُسْلِموا لله عز وجل، قال تعالى :
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾
أبْلَغْتُكم، وانْتَهَتْ مُهِمَّتي، أما متى يأتي التأديب الإلهي ؟ فهذا لا أعْلَمُهُ ! يأتي بعد شهر أو شهرين أو سنة أو أكثر، فهذا لا أعلمهُ، وهل تقتضي حِكمة الله تقْتضي التأديب السريع أو الإمْهال، فهذا لا يعلمُهُ أحد، قال تعالى:
﴿وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)﴾
يعني لا أدري، وهذا مَتروك لِحِكمة الله، قال تعالى:
﴿طقُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ(42)﴾
فالفاء هنا تُفيد الترتيب على التعقيب، وفي آية ثانية قال تعالى:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)﴾
ثُمّ تُفيد الترتيب على التراخي، فقد يأتي العِلاج باكِرًا وحاسِمًا، وقد يأتي مُتأخِّرًا لِحِكمة يُريدُها الله تعالى، وهذه لا يعلمُها أحد.
ثمَّ يقول الله:
﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) ﴾
أحيانًا يعصي الإنسان، ولكن مَغلوبٌ على أمْرِهِ، وهوة يتمنَّى أن يُطيعُ فالله تعالى يُعطيه مُهلة، وأحْيانًا يعْصي ويتحدَّى ! ويفْتَخِرُ بِمَعْصِيَتِهِ.
قال تعالى:
﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)﴾
لعلَّ الله تعالى بِهذا الإمهال أراد أن يسْتَدرِجَهُ، أو لعلَّه أجَّل لكم أجلاً لا يتقدَّم ولا يتأخَّر وعلى كُلٍّ هنا بدَتْ عُبودِيَّة الله عز وجل، وأنَّ ما عليه إلا البلاغ، وهناك آية أخرى، وهي قوله تعالى:
﴿قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(144)﴾
مُهِمَّة النبي التَّبليغ وانتَهتْ مُهمَّتُهُ، ومُهِمَّة العبد التطبيق فالداعي تنتهي مُهِمَّتُهُ بالتبليغ، والمستمِع تنتهي مُهِمَّتُهُ بالتطبيق، والإنسان لا يحْمل السُّلَم بالعَرْض ! والله تعالى لم يُكَلِّفْكَ ما لا تُطيق، وإذا عَبَدْتَ الله تعالى وشَكَرْتَهُ على ما أولاهُ لك مِن نِعَم، فقد حقَّقْتَ العُبودِيَّة الكاملة.
قال تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) ﴾
فالنبي بيَّنَ وبيَّن، ووضَّحَ وبشَّر وحذَّر وأنْذَر، وأعاد وكرَّر حتَّى اسْتَنْفذَ كلّ الأسالي، والكفار كذَّبوا وسَخِروا وأتمروا، وأخرجوا ونكَّلوا وآذَوا، واسْتَنْفذوا كلّ الأساليب وما بَقِيَ إلا أن يتدخَّل الله تعالى، قال تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) ﴾
قال تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا(5)فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(6)وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7)﴾
فأنت ما عليك إلا التَّبيِين والتَّوضيح، والاستجابة ليْسَت عليك،قال تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) ﴾
فهم بالغوا في الإساءة من تَكذيب، وسُخريَة وما تركوا سبيل الشرّ إلا طبَّقوه.
قال تعالى:
﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) ﴾
قال أحدهم كلمة رائِعَة: الحمد لله على وُجود الله تعالى، يعلم السرّ وأخفى، يعلم مَن هو على الباطل، والمُفتري، ومَن هو على الحق، ومَن هو الطيِّب و من هو الحاقد و من هو البريء، الحمد لله على وجود الله، و من عرف نفسه ما ضرَّته مقالة الناس فيه، قال تعالى :
﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)﴾
ملخَّص الدين كله الكتاب كله ؛ لا إله إلا الله، فعليكم أن تعبدوه، قال تعالى:
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾
إما عن التصديق بألوهيته أو عن عبادته أو عن كليهما.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾
أنا بينت لكم و انتهت مهمتي، أمَّا متى يأتي العلاج فهذا ليس عندي،أمره إلى الله، قال تعالى:
﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) ﴾
ثم لما بالغ الناس في تكذيبه بالغ هو في دعوته، قال تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) ﴾
إذا قلت إن هذا الماء عكر وهو صافٍ، فكلامك لا يغيِّر من طبيعته القافلة تسير و الكلاب تنبح، و ما ضرَّ السحابَ في السماء نباحُ الكلاب، و ما ضر البحر العظيم أن ألق غلام فيه بحجر، ولو تحوَّل الناس كلهم إلى كنَّاسين لِيُغَبِّروا على الإسلام ما غبَّروا إلا على أنفسِهم، فهذا دينُ الله عز وجل، قال تعالى:
﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) ﴾
فلو كان معك كيلو غرا مِن الذَّهب، وقال لك الناس: هذا معْدن خسيس، لما كان لِكلامهم معنى وكذا لو أوْهَمْتَ الناس أنَّ هذا المعدن الذي معك من رصاص أو نحاس هو مِن الذَّهب، واقْتَنَعوا بِما قلتَ فقناعَتُهم لا تجْعلُهُ ذهبًا ! فَخَيْرُكَ مِنك وشرُّكَ مِنك، وأنت وحْدَكَ الرابِح، وأنت وحْدَك الخاسِر، وهنيئًا لِمن عرف ربَّه، وتقرَّب إليه.