وضع داكن
02-01-2025
Logo
الدرس : 49 - سورة آل عمران - تفسير الآيات 166 – 171 لكل مِحْنة حكمة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع والأربعين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية السادسة والستين بعد المائة، وهي قوله تعالى: 

﴿ وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (166) وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ وَقِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُواْۖ قَالُواْ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالًا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ (167)﴾

[ سورة آل عمران  ]


مقدمة: شتان بين فهم القرآن وقطف ثماره:


 أيها الإخوة، هناك حقيقة إنْ آمنت بها امتلأ قلبك أمْناً وأماناً، ولكن قبل الحديث عنها يجب أن تعلم علم اليقين أنّ آيات القرآن الكريم أنْ تفهم معانيها شيء، وأنْ تعيش معانيها شيء آخر، وشتان بين مَن يفهم معنى الآية، وبين من يعيشها ويقطف ثمارها، ولا أدلَّ على ذلك من قوله تعالى:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 لو أنّ مؤمناً طائعاً لله ورسوله وكان فقيراً، وله صديق عاصٍ لله ورسوله، وكان غنياً، الآية معناها واضح: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ ولكن بمجرد أنْ يقول: هنيئاً لصديقي فهو أسعد مني، إذًا ما عاش الآية، ولا قطف ثمارها، ولا استقرّ في قلبه شيء من معانيها إطلاقاً.
المشكلة أيها الإخوة أن آيات القرآن الكريم قد نفهمها، لكن لا نعيشها، حينما قال الله عز وجل: 

﴿ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦ ۗ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ(126)﴾

[ سورة آل عمران  ]

 المعنى واضح، لكنّ المسلمين اليوم لا يعيشون هذا المعنى، يرون النصر أنّ ترضى عنك جهة قوية فتنتصر، وإذا رفعت عنك الغطاء تنهزم، هناك شرك، فالبطولة لا أنْ تفهم المعنى، أن تعيش هذا المعنى.

موازين الترجيح في القرآن الكريم:


 هذه مقدمة مهمة جداً، القرآن الكريم فيه آيات كثيرة فيها قوانين، لكن الناس في وادٍ، وهذه الآيات في وادٍ آخر، أوضح مثل: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ هل ترى نفسك فائزاً إن صحت عقيدتك؟ وإن صح عملك؟ وإن انضبطت في حركاتك وسكناتك، أم ترى الفوز هو الغنى؟ أم ترى الفوز هو القوة؟ هناك قيم تعتمل في داخل الإنسان، قيم مُرجِّحة، من هو المؤمن الراقي؟ إذا توافقت قيمك في تقييم الأشياء، وتقييم الأشخاص، وتقييم ذاتك مع قِيَم القرآن الكريم، أما إذا كانت منظومة قيمك في واد، وقيم القرآن في وادٍ، القرآن رجّح العلم، قال تعالى: 

﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾

[ سورة النساء ]

 قال: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ٱلْمَجَٰلِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍۢ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)﴾

[ سورة المجادلة  ]

 وقال تعالى:

﴿ أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ ٱلْآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِۦ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ(9)﴾

[ سورة الزمر ]

 ورجح قيمة العمل فقال : 

﴿ وَلِكُلٍّۢ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)﴾

[ سورة الأنعام ]

 وقال تعالى :

﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا(110)﴾

[ سورة الكهف  ]

 فالغنى غنى العمل، والفقر فقر العمل، وتجد الناس يعظّمون الأغنياء لقيمة المال، ويعظمون الأقوياء لقيمة القوة، ويعظّمون الأذكياء لقيمة الذكاء، هذه قِيمٌ ليست في القرآن الكريم .

التوكل والأخذ بالأسباب:


 أردت من هذه المقدمة أن فهم الآية سهل جداً، لكن أنْ تعيش هذه الآية شيء صعب، فهل من الممكن لإنسان أنْ يضع زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرْع، لا ماء فيه، ويتوكل على الله! نحن نقول : 

﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾

[  سورة الطلاق ]

 لكن لا يمكن إلا أن نأخذ بالأسباب، السبب الذي نأخذ به يُطمئِننا، ولا يطمئننا أننا على الله متوكلون، ينبغي أن نأخذ بالأسباب ولا شك، لكن ما الذي يملأ قلبك طمأنينة؟ أنك أخذت بالأسباب، أم أنك توكلت على الله رب الأرباب؟ هنا المشكلة، فلذلك تجد العالَم الآن منقسم إلى قسمين؛ قسم أخذ بالأسباب واعتمد عليها، وألّهها فوقع في الشرك، وقسم لم يأخذ بها وتوكل على الله توكلاً غير صحيح سُمِّي تواكلاً وقع في المعصية، لكن أنْ تجمع بين الأطراف جميعاً هذه بطولة .

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ


 إذًا: هذه الآية آلام لا تنتهي ولا تعد، لو عقلنا هذه الآية لزالت من أنفسنا كل هذه الآلام: ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾

لا يقع في الكون إلا ما أراد الله:

 كل شيء وقع أراده الله، ولا يقع في كونه إلا ما يريده الله، لا يليق بمقام الألوهية أن يقع في ملكه شيء ما أراده، لا يستطيع الكافر أن يسبق الله عز وجل، قال تعالى: 

﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْ ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ(59)﴾

[ سورة الأنفال  ]

 لا يمكن لكافر مهما كان كفره كبيراً أن يفعل شيئاً ما أراده الله. 
﴿وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
 ليس في العالم المادي شرّ إطلاقاً، هل تقبلون هذه الكلمة؟ معي الدليل، العالم المادي فيه حوادث، ما دامت هذه الحوادث وقعت إذًا سمح الله بها، والله عز وجل قدرته مطلقة، لا يقع شيء في ملكه إلا إذا أراده، وإرادة الله متعلقة بحكمته المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق، ولكن عقولنا في الأعمّ الأغلب لا تستطيع أن تستوعب حكمة الله، وهذا الذي جرى في العالم ربما بعد سنوات، أو بعد عِقدٍ من الزمان، تنكشف الحكمة المطلقة في الذي حدث، وكأنه قفزة نوعية للمسلمين، وكأنه تمحيصٌ للمؤمنين، وكأنه فرزٌ للمسلمين، وكأنه دعوة إلى التمسك بهذا الدين، قد لا نجد الآن الحكمة واضحة، لكن المؤمن يقيس على ما سبق، قال بعضهم: 

كُن عـن همومك مُعرِضاً    وكِـلِ الأمورَ إلى القَضـا

وابشر بخيـــر عاجـــــلٍ    تنسى به مــا قد مضــى

فَرُبَّ أمـــــر مُسخــــــط    لــك فـــي عواقبه رضـا

ولربما ضـــاق المضيـق    ولربمـــــا اتَّسع الفضـــا

الله يفعل ما يشــــــــــاء    فلا تكــــــــن معترضـــا

الله عـوَّدك الجميــــــــل    فقِس على ما قد مضــى

[ صفي الدين الحلي ]

﴿وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ أي النبي كان يتمنى أن يبقى في المدينة، لكن أصحابه أشاروا عليه أن يخرج، فخرج بإذن الله، وخرج بمشيئة الله، وأمر الرماة ألّا يغادروا فغادروا، فالتفّ عليهم العدو من خلفهم بإذن الله.
﴿وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ يقع مرض أحياناً، يقع فقر مفاجئ، تأتي حالة لم تكن في الحسبان، يقع حَجر من بناء فيصيب إنسانًا ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾   سهل جداً أن نفهم معنى هذه الآية، ولكنه ليس من السهل أن نعيشها، ليس من السهل أن ترى يد الله تعمل في الخفاء، قال تعالى : 

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَنًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17)﴾

[ سورة الأنفال  ]

 اقرأ قوله تعالى: 

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)﴾

[ سورة الفتح  ]

﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾ هذا هو التوحيد، التوحيد يملأ قلبك أمناً وطمأنينة، مِحنةٌ قاسيةٌ أن ينهزم المسلمون، مِحنةٌ قاسيةٌ أن يعصي الرماة أمر النبي، مِحنةٌ قاسيةٌ أن يلتفّ العدوّ حول المسلمين، مِحنةٌ قاسيةٌ أن يُقتَل عددٌ كبيرٌ من صحابة رسول الله يوم أُحُد، لكن ما دام وقع فهو لصالح المؤمنين، ولحكمة كبيرة جداً، وقِس على معركة أُحُد أية معركة أخرى، وأيّ جفافٍ، وأيّ زلزالٍ، وأيّ صاعقةٍ، وأيّ حربٍ، وأيّ اجتياحٍ، وأيّ عدوانٍ.

إِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ:


 لكن إياكم ثم إياكم، ثم إياكم أن تفهموا أنه إذا جاء قضاء على يد البشر أن ترضاه، أو ألّا تقاومه، هذا يتناقض مع أصول العقيدة، لو أنّ عدواً اجتاح أرضنا نقول: هكذا يريد الله عز وجل، نحن راضون بمشيئته، لا، هذا عكس ما أراده الله عز وجل، فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: 

((  أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ))

[ رواه أبو داود  ]

 هذا حينما تُغلب، حينما تبذل كل ما تستطيع، ولا تأتي النتائج كما تتمنى، عندئذ تقول: حسبي الله ونعم الوكيل .

الحاجة ماسّة إلى هذه الآية بسبب طبيعة العصر:


 بالمناسبة أيها الإخوة، يبدو أننا نعيش عصراً غريباً جداً، هذا التواصل بين البشر، وارتباط المصالح بين المجتمعات جعلَ العالم بعد أن كان قرية صار العالم بيتاً، وبعد أن كان بيتاً صار غرفة، العالم الآن كله غرفة واحدة، من سلبيات هذا التشبيه أنّ كل شيء يحدث في طرف العالم يتأثر له المسلمون أيّما تأثر في الطرف الثاني، طبيعة هذا العصر عجيبة، هناك قطب واحد وقوي، ولا يرحم، وكل ما يجري في العالم ينتقل أثره إلى كل أنحاء الأرض، لذلك ما من حدث يقع في طرف الدنيا الآخر إلا وله انعكاس في أي مكان في العالم، لذلك هذه الآية نحن الآن في أمسّ الحاجة إليها: ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ .

كل شيء وقع عن علم وحكمة:


 شيء وقع، رهيب، غيّر مجرى التاريخ بإذن الله، زلزال هدم مدينة بإذن الله، بركان أحرق قرية بإذن الله، جفاف أماتَ الحَرث والنسل، بإذن الله، ليس معنى هذا ألّا نتألم نحن نتألم، ولكن لا نتهم الله في حكمته، نتألم، ونصبر، ونغيّر، ونصحّح، ونتوب، ولكن لا يحملنا ما جرى على أن نشك في حكمة الله ورحمته، وفي وحدانيته.
﴿وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ أرجو أن أضع بعض الأمثلة بين أيديكم: أب، ورحمة الأب لا يُشَك فيها إطلاقاً، وعالم، وطبيب جراح، وقد التهبت زائدة ابنه، ولا بد من إجراء عملية فورية، لو أنّ هذا الأب الطبيب الجراح أخذ ابنه إلى المستشفى، وأعطى أمراً لمساعديه أنْ يفتحوا بطن الابن، خدّروه، وجاؤوا بالمِشرط، وفُتِح البطن، وهو ينظر، لو أنّ واحداً يراقب لرأى أن سكوت الأب لحكمة بالغة جداً، لأن الأب عالم رحيم في آن واحد، قد تجد عالماً لا يرحمك، وقد تجد رحيماً لا يعلم حالك.
 أنا ضربت مثل الأب المثقف الطبيب الجراح يجتمع فيه العلم والرحمة، فحينما ترى الأب وابنه على طاولة العملية يرى ويسمع وهو صامت، معنى ذلك أن هذا الذي يجري بعلمه وتوجيهه، وبرحمته، ولحكمة بالغة بالغةٍ: ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ 

(( اللَّهمَّ إليكَ أشكو ضَعفَ قوَّتي، وقلَّةَ حيلَتي، وَهَواني علَى النَّاسِ، أنتَ أرحمُ الرَّاحمينَ، أنتَ ربُّ المستضعفينَ، وأنتَ ربِّي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجَهَّمُني أَمْ إلى عدُوٍّ ملَّكتَهُ أمري. إن لم يَكُن بِكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هيَ أوسعُ لي.. أعوذُ بنورِ وجهِكَ الَّذي أشرَقت لهُ الظُّلماتُ، وصلُحَ علَيهِ أمرُ الدُّنيا والآخرةِ، أن يحلَّ عليَّ غضبُكَ، أو أن ينزلَ بي سخطُكَ. لَكَ العُتبى حتَّى تَرضى، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بِكَ.))

[ الألباني بسند ضعيف ]

حجم أي مصيبة عند الله بأدق دقائقها، بأدق مِيزاتها، لماذا ساق الله هذه المصيبة؟ لأن الله عز وجل أول هدف من أهداف الدنيا أنها دار ابتلاء، لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا


 قال تعالى :﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ﴾ إذًا الموضوع موضوع فرز، قال تعالى:

﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُ ۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۚ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)﴾

[ سورة آل عمران  ]

ضرورة الفرز والامتحان كما في غزوة أُحُدٍ :

 الموضوع فرز.
 شيء آخر في هذا الفرز ينكشف الإنسان في وقت مبكر، فلعله يصحو، إذا ألِفَ طالبٌ أن يغش في الامتحان، ولم نكشفه، يستمرئ هذه الطريقة فلا يدرس، ويأخذ شهادة بشكل مزوّر، وقد يؤذي الناس بشهادته، فإذا كُشف الطالب الذي يغش في الامتحان في وقت مبكر، وتلقى عقاباً أليماً، وارتدع عن هذا، أليس في هذا خير له ولمجتمعه؟ طبعاً.
 إذًا: ﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ﴾ هناك منافقون ما كانوا ظاهرين، فلما ساق الله هذه المصيبة، فلما انهزم المنافقون في أحُد ظهر نفاقهم وجُبْنهم وتخليهم عن رسول الله.
﴿وَقِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُواْۖ قَالُواْ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالًا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ﴾ إذا كان عندك مكعبات إسمنتية، هي طبخات، وتريد أن تعمّر بناء شاهقاً، وخُيّرت أي هذه الطبخات تأخذ؟ ماذا تفعل أنت؟ ما دمت تنوي بناءَ بناءً شامخاً تحتاج إلى أعلى مواصفات في الإسمنت، فتأتي بآلة رأيتها في بعض معامل الإسمنت، كلما طُبِخت طبخة يُصَب منها مكعب، هذا المكعب يُربَط من أعلى، وفي أسفله كفة ميزان توضع فيه الأوزان بالتسلسل، على أي وزن انقطع هذا المكعب، فهذه مقاومة هذه الطبخة بالضبط، معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بالمؤمنين خيراً، وإذا أراد أن يكلّفهم عملاً عظيماً، وأن يستخلفهم في الأرض، وأن يجعلهم قادة للأمم، لا بد أن يمتحنهم، تأتي هذه الشدائد كي تمتحن المؤمنين.
 كان في القاهرة مثلاً ألف طبيب في المستشفيات فرضاً، لما جاء زلزال القاهرة -هكذا سمعت أو قرأت- هؤلاء الأطباء فُرزوا، منهم من هرب شطر الشمال حيث الأمن والدّعة، ومنهم من عمل عشرين ساعة في اليوم لإنقاذ الجرحى والمصابين، فلولا هذا الزلزال لم تكن الأمور منكشفة، كلهم أطباء.
 التجار: تأتي أزمة اقتصادية، فهناك من يركب هذه الأزمة، ويُثري ثراء فاحشاً على حساب مصالح المسلمين، وهناك من يقنع بالربح المحدود فلا يأخذ ما ليس له.
 إذا: الشدائد أو المصائب مِحَكّ الرجال، تظهر حقيقة الإنسان في المصيبة، وهذا شيء بديهي جداً، ما منكم واحد يمتحن مركبة في الطريق النازلة، لا تُمتَحن المركبة إلا في الطريق الصاعدة.

هذا حال المنافقين في غزوة أُحد:


 ﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ﴾ المنافقون انسحبوا، ولم يتابعوا السير مع رسول الله، فكانت هذه المعركة مناسبة كي يُمتَحن بها المؤمنون الصادقون، أو المنافقون.
﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْۚ وَقِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُواْۖ﴾ عن أنفسكم هذا العدوان.

حقيقة الأعذار لا يعلمها إلا الله:


 ﴿قَالُواْ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالًا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ﴾ الإنسان منطقي، ويعتذر دائماً، ولكن مصداقية هذا الاعتذار لا يعلمها إلا الله، يعتذر، وكل إنسان آتاه الله جدلاً بإمكانه أن يقدم آلاف المعاذير، ولكن مدى صدقها هذا لا يعلمه إلا الله.
﴿قَالُواْ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالًا لَّٱتَّبَعۡنَٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ﴾ كنت أقول دائماً: عوام الناس ما عندهم إلا حالتان متعاكستان؛ أبيض أو أسود، الأشخاص؛ وليّ أو منحرف، لم يتعودوا على أحكام معتدلة، أحكام بينَ بينَ، أحكام دقيقة، أحكام واقعية، فإذا قلت: هذا الشيء أبيض أو أسود؟ فأنت أخذت حالتين حادتين، لكن بين اللونين قد تجد مئات الألوان التي بينهما، فهذا حكم دقيق بينَ بينَ، قال: ﴿هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ﴾

هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ


تعلّم الموضوعية في الأحكام

 هو كافر؟ لا، مؤمن؟ لا، لكنه أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان، تأدّب بآداب القرآن، عوِّد نفسك أن تعطي حكماً متوازناً، نحن ليس عندنا إلا جيد جداً، أو سيئ جداً، هذا في شؤون الزواج، يخطب الخاطب من أسرة يمدحه مَن في هذه الأسرة، ويمدحه من يعرفه، ويثنون على أخلاقه، وعلى تقواه، وعلى ورعه، وعلى ذكائه...إلخ، ينشأ ظرف بين الأسرتين فيفسخ العقد، فإذا به أسوأ الناس، ورد عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال:

((  أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا. ))

[ البوصيري ]

 هذه الآية تعلمنا الحكم المتوازن، الحكم الموضوعي، الحكم ما له، وما عليه، المؤمن من صفاته أنّ رضاه لا يخرجه عن الحق، وأنّ غضبه لا يُدخِله في باطل، أما عامة الناس إذا أحبوا إنساناً تعامَوا عن كل أخطائه، وإذا أبغضوا إنساناً هدروا له كل أعماله الصالحة، والحالات الحادة من صفات العوام، هذه الحالات الحادة في الحكم هذه ليست من شأن المؤمن، بل المؤمن يذكر ما له وما عليه.
 سيدنا عمر لمّا ولّاه سيدنا الصديق قيل له: <<أتولّي أشد الصحابة علينا؟ قال: أتخوفونني بالله؟ لو سئلت يوم القيامة أقول: يا رب، وليت عليهم أرحمهم، هذا علمي به، فإن بدّل وغيّر فلا علم لي بالغيب>>.
 ما هذا الكلام الدقيق؟ <<هذا علمي به، فإن بدّل وغيّر فلا علم لي بالغيب>>
 أنا أقول من معاناة، حتى المثقفين يبالغون، أي إذا توسّموا الصلاح في جهة أسبغوا عليها العصمة، فإذا عانت ما عانت من أعدائها عتبوا على الله، وإذا كرهوا جهة يجعلونها في أسفل سافلين، فعوّد نفسك أن تعطي الشيء ما له، وما عليه، أن يكون حكمك موضوعياً، فالموضوعية قيمة أخلاقية، وقيمة علمية في وقت واحد.
﴿هُمۡ لِلۡكُفۡرِ يَوۡمَئِذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِيمَٰنِۚ﴾ ليسوا كافرين، كما أنهم ليسوا مؤمنين، لكنهم أقرب إلى الكفر من الإيمان.

يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ 


الازدواجية مرض خطير :

 ﴿يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ﴾ هذا النفاق، ازدواجية، كلام يُعلَن، ومعنى يُبطَّن، ابتسامةٌ في وجه شخص، وحقدٌ عليه في القلب، أمام الناس يظهر ورعاً، وإذا خلا في بيته ارتكب معصية، وآفة المسلمين الازدواجية، يظهرون ما لا يُبطِنون، يعلنون ما لا يخفون، حالتهم في خلوتهم غير حالتهم في جلوتهم، هم مع الناس في حال، وفي خلوتهم في حال آخر.
﴿يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ﴾ شخص ركّب في بيته جهاز نقل صوت بين المطبخ وغرفة الضيوف، بنيّة أنه إذا كان مع الضيوف ينادي زوجته: اصنعي لنا شيئاً، فجاءه ضيوف ثُقلاء، فجاملهم، وجاملهم، وجاملهم، وابتسم في وجوههم، وأثنى عليهم، فلما وصل إلى المطبخ، وكان الجهاز مفتوحاً فسبّهم، وكالَ لهم كل شيء، هذه سريرته نُقِلت إليهم، هذه حالة حادة جداً، لكن الإنسان أحياناً يبطن شيئاً، ويظهر شيئاً، هذه حالة مرَضية.

لا ازدواجية  عند المؤمن:


 ما في قلب المؤمن على لسانه، وما ينطق به في قلبه، ليس عنده ازدواجية، سريرته كعلانيته، خلوته كجلوته، باطنه كظاهره، فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : 

(( وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ. ))

[ رواه أحمد ]

 الإسلام دين الله، لا يحتاج إلى أقبية، يُتحدَّث عنه تحت ضوء الشمس، لأنه الحق، والحق لا يخشى البحث، والحق لا يحتاج أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، ولا أن تقلّل من خصومه، ولا أن تبالغ به، لا تستحِ به، والحق لا يخشى البحث، وليس بحاجة إلى مبالغة ولا إلى كذب عليه أو له، فلذلك المؤمن علاقته واضحة.
 واللهِ أكاد أقول: ليس في حياة المؤمن سر، كل أموره واضحة، ليس عنده شيء يستحي أن يعرضه على الناس، وشيء يعرضه.
 إذًا: ﴿يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ﴾ لرجل فقير جداً عمّة تملك الملايين، فتوفيت فجأة، وهو وريثها، الكل يقول: عظّم الله أجركم، وشكر الله سعيكم، وإن شاء الله خاتمة الأحزان، جاءه صديق قال له: تهانينا، يبدو أن الصديق حكى الحقيقة، فنحن عندنا كلام نقوله كثيراً لا نعنيه إطلاقاً، بل نعني عكسه، ولكن التقاليد الاجتماعية تسير على هذا، قال له: <<أتحبني؟ قالها رجلٌ لسيدنا عمر، فقال: والله لا أحبك، قال له: هل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي؟ قال: لا والله، قال له: إذًا إنما يأسف على الحب النساء>> .
 المؤمن واضح، إن أحب إنساناً أحبه، وإن رآه منحرفاً لا يحبه، ولا يقول له: أنا أحبك، صار تضليلاً، أما الآن فيُعدّون الشخصية الجذابة هي الشخصية المنافقة، التي ترضي جميع الناس، بل إنهم قالوا عن مصطلح حديث نستخدمه أحيانا جاءنا من الغرب: "الدبلوماسية" وهي تعبير عن أسوأ النيات بأحلى الألفاظ. هؤلاء: ﴿يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ﴾ ومَن أسرّ سريرةً ألبسه الله إياها.
 قال تعالى: 

﴿ ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (168)﴾

[ سورة آل عمران  ]


الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا


الكافر يشمت بالمؤمن حين المصيبة:

 وهذا شأن البعيد عن الله، يترصّد المؤمن، فإذا وقع في مشكلة قال: نصحتك أنه لا ينبغي أن تكون كذا، وأنت ما طبقت نصيحتي، وأكبر شامِت بالمؤمن الكافر، لذلك المؤمن الصادق لا يستشير كافراً، ولا يهتدي بنصائحه، ولا يتضعضع أمامه، ولا يعرض عليه مشكلته، ومن اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، لا تضعضع أمام كافر، كن متماسكا، لأنه يشمت بك.
﴿ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ﴾ هم ما قاتلوا، لما انهزم المسلمون قالوا: ﴿لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ﴾ نحن رأينا ألاّ نخرج من المدينة. 
﴿قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ هناك صحابة قُتِلوا في المعركة، هؤلاء الشامتون لا يموتون؟ لذلك قالوا: لا شماتة في الموت، هذا قدرٌ إلهي على كل العباد، بما فيهم الأنبياء والمرسلون.

حقيقةُ الشهيد في سبيل الله:


 قال تعالى: 

﴿ ٱلَّذِينَ قَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ وَقَعَدُواْ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُواْ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (168) وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ (169)﴾  

[ سورة آل عمران  ]

الشهيد حيٌّ يُرزَق عند ربه:

 إياك، ثم إياك ثم إياك أن تقول عن الميت: فقيد، إذا مات على الإيمان، بل إذا مات شهيداً يحيا حياة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، والدليل هذه الآية: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ﴾ علامة الحياة أنك تُرزَق، تأكل وتشرب، والمؤمن بنمط آخر، بآلية أخرى، بنظامٍ آخر، بقوانين أخرى بعد أن يموت حيّ يُرزَق، بل حيّ بأوسع ما في هذه الكلمة من معنى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ﴾

الشهيد فرِحٌ بفضل الله:

 ليسوا أحياء فقط، بل هم فرحون. 

﴿ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ (170)﴾

[  سورة آل عمران  ]

 لكن لا تقل لي: كشفنا عن هذا الميت في القبر فقد فَنِيَ، هذا الذي في القبر وعاؤه الذي احتواه في الدنيا، أما هو فشيء آخر، النفس لا تموت، أما الذي يموت هو الجسم، فهذا الذي تراه في القبر وقد لُفّ بالأكفان فهذا وعاؤه، أما هو إن كان مؤمناً في أعلى عليين، إن كان مؤمناً في روضة من رياض الجنة، إن كان مؤمناً كما قال الله عز وجل: 

﴿  كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ(41)﴾

[ سورة المدثر  ]

 فالمؤمن طليق، أما الكافر رهينُ عمله السيئ.
﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ﴾   لكن عند ربهم، لا في هذه الدنيا الفانية، لا في هذه الدنيا المتعبة، التي كلها هموم ومتاعب ومصائب، لذلك فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: 

((  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ. ))

[ صحيح البخاري ]

يستبشر بإخوانه الذين لم يلحقوا به:

﴿فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ فهؤلاء حينما عرفوا ما عند الله من نعيم لا يزالون في القبر، قبل الجنة، القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، هو حينما توفاه الله على الإيمان، كان في جنة، كان قبره جنة، لذلك فرح بما آتاه الله من فضله، واستبشر بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، مؤمن توفاه الله، له أصدقاء مؤمنون، رأى ما رأى من عطاء الله وكرمه ففرح، واستبشر لإخوانه الذين لم يموتوا بعد.

لا يخاف من المستقبل ولا يحزن على ما فاته: 

﴿أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ هكذا الدنيا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل نِعَم الدنيا متصلة بنِعَم الآخرة.

﴿ يَسۡتَبۡشِرُونَ بِنِعۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (171)﴾

[ سورة آل عمران  ]

 هؤلاء المؤمنون الذين توفّاهم الله عز وجل، أو الذين استُشهدوا في قبورهم في جنة، بل إنهم في جنة يتمنون معها لو أن المؤمنين الذين تركوهم يعلمون حقيقتهم، فهم يستبشرون لهم بهذه الجنة.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور