الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس التاسع والخمسين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية السادسة والتسعين بعد المئة، يقول الله عز وجل:
الكافر خاسر، والكافر في مزبلة التاريخ، والكافر مصيره إلى النار، ولو أعجبك من الكافر ماله، وشكله، وبيته، ومدينته، الكافر غفَل عن المهمة التي جاء من أجلها، الكافر لم يحقق الهدف من خلْقه، الكافر خسر الآخرة:
أيها الإخوة، الدنيا مهما طالت فهي أمام الآخرة صفر، ذلك أن الرقم، أي رقم واحد في الأرض وأصفار إلى الشمس، وكل ميليمتر صفر، كم هذا الرقم؟ تصور أمامك مئة وستة وخمسين مليون كيلو متراً، وكل ميليمتر صفر، هذا الرقم إذا نُسِب إلى اللانهاية فهو صفر، الآخرة لا نهاية، الآخرة أبد، والدنيا مهما طالت فهي محدودة، كل مخلوق يموت، غني أو فقير، قوي أو ضعيف، مثقف أو غير مثقف، صحيح أو مريض، كل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
أنا أؤكد أيها الإخوة أن كل إنسان شاء أم أبى في أعماقه مقياس للتفوق، وهذا المقياس مُنتزَع من عقيدته، ومنتزع من إيمانه، ومنتزع من مفاهيمه، ومنتزع من رؤيته، فحينما ترى المال قيمة كبيرة جداً تسعى إليه ولو على حساب دينك، وحينما تعطي المال حجماً كما حجّمه القرآن، قال عز وجل:
كأن الله عز وجل يقول: يا عبادي، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، المال حظ قيمته موقوفة على طريقة استخدامه، إذا أُنفِق في طاعة الله كان سُلّماً ترقى به، وإذا أُنفِق في معصية الله كان دركات تهوي بها، المال، والصحة، والذكاء، والحظ، والقدرة التي منحك الله إياها، قد يمنح الله إنساناً وسامة وجمالاً، هذا النبي رأى صورته في المرآة فقال:
[ البيهقي في شعب الإيمان ]
هناك إنسان يستخدم شكله الوسيم لإغواء الفتيات مثلاً، إنسان يستخدم ذكاءه للبحث عن الحقيقة، ولإشاعتها بين الناس، وإنسان يستخدم ذكاءه كي يُشيع الضلال بين الناس، فيربح من الضلال أموالاً طائلة، وما من خصيصة، ما من قدرة، ما من حظ، ما من شيء منحك الله إياه إلا واعتقِد أنه حيادي يمكن أن ترقى به، ويمكن أن تهوي به، عدِّد إن شئت حظوظ الدنيا؛ المال حظ، والوسامة حظ، والصحة حظ، والذكاء حظ، وطلاقة اللسان حظ، والزوجة حظ، والأولاد حظ، والمنزل الواسع حظ، والمركبة حظ، النبي ذكر الخيل قال:
(( الخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أجْرٌ، ولِرَجُلٍ سِتْرٌ، وعلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. ))
عندك خيل، ولتكن مركبة الآن؛ إما أن تكون مسخرة في خدمة الحق، وإما أن تسترك أنت وأهلك، وإما أن تكون وزراً عليك إن استخدمتها في معصية الله، أجرٌ وسِترٌ ووزرٌ، والخيل يقاس عليها المركبات.
هذه فكرة دقيقة: الحظوظ حيادية تُقيَّم بعد استعمالك لها، تُقيَّم وفق توظيفك لها، تُقيَّم وفق استخدامك لها، فلذلك أيها الإخوة هذا الكافر عنده من حظوظ الدنيا ما شاء، الحقيقة أن الله عز وجل نهانا أن نُعجَب بأموالهم وأولادهم، ويُقاس على أموالهم بيوتهم، ومركباتهم، ومكاتبهم، ورحلاتهم، وحفلاتهم، وسهراتهم، وندواتهم، ولقاءاتهم، هذا كله مؤقت، قال تعالى:
﴿ مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (197)﴾
والله عز وجل نصحنا، وهو خالق الأكوان قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلَآ أَخَّرْتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ قَرِيبٍۢ ۗ قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا(77)﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾
لا تعتر بدنيا الكافر وبهجتها:
فالكافر قد يبدو غنياً جداً، وقد يقيم عقد قران لابنته بمئة مليون، الله قال: ﴿قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ﴾ لا تغترّ بتقلُّبهم، لا تغتر بأحوالهم، ولا بأموالهم، ولا بأولادهم، ولا بعقود قرانهم، ولا بزواجهم، ولا بسفراتهم...إلخ، الكافر غفل عن المهمة التي خُلِق من أجلها، الكافر غفل أن الدنيا دار ابتلاء، فظنها دار جزاء، الكافر غفل عن أن الدنيا دار عمل فظنها دار أمل، الكافر غفل عن أن الدنيا مزرعة للآخرة، جعلها نهاية المطاف، وجعلها مبلغ علمه، وجعلها منتهى طموحه، وهذه مشكلة كبيرة، فلذلك قال تعالى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ﴾ قد يتقلبون من منصب إلى منصب، ومن مكانة إلى مكانة، ومن بيت إلى بيت، ومن مركبة إلى مركبة، ومن مستوى إلى مستوى، لا تغترّ أي لهم حجم عند الله أقل مما تراهم.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
نِعم عطاء الدنيا للعبد الصالح المستقيم:
لكن إذا جاءت الدنيا، وأنت مؤمن فهذه من نعمة الله الكبرى، نعمة لأنك توظفها في الحق، لو أنك مؤمن إيماناً حقيقياً وآتاك الله مالاً أصبحت خيارات العمل الصالح أمامك واسعة.
الآن موضوع آخر، كل ما أرجوه أيها الإخوة ألا تفهموا من كلامي أن الذي آتاه الله مالاً وكان مؤمناً ليس رابحاً، لا، إن كنت مؤمناً وآتاك الله مالاً ارتقيت به إلى أعلى عليين، المال قيمة إن استُخدِم في طاعة الله كان صاحبه في أعلى عِليّين، النبي تمنى أن يكون له مثل جبل أحد لا تأتي عليه ثلاث إلا وقد أنفقها في سبيل الله، فإذا شخص الله آتاه شكلاً وسيماً، آتاه غنى، آتاه علماً، آتاه طلاقة لسان، آتاه زوجة صالحة، وأولاداً أبراراً، آتاه اختصاصاً نادراً، له دخل وفير، هذا من نِعم الله لا شك، أنا أتحدث عن الغنى مع الكفر، عن الوسامة مع الكفر، عن القوة مع الكفر، ألا ترون أن القوة من دون إيمان ماذا تفعل في الدنيا الآن؟ هل رأيتم فيما سمعتم ظلماً كهذا الظلم؟ أي الذين يحاربون ما يسمونه بالإرهاب هم أكبر بلد إرهابي في العالم، يستخدمون الإرهاب المنظَّم، الإرهاب القوي، فهذا الذي ترونه لا يمكن أن يُقبَل عند الله عز وجل، قال:
﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ(55)﴾
ولو ذهبت إلى بلادهم فلا ينبغي أن تُعجَب بهم، ولا بأبنيتهم العالية، ولا بوسائل مواصلاتهم، ولا باتصالاتهم، ولا بحدائقهم، ولا بأماكن البيع عندهم، هذه الدنيا محدودة: ﴿قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ قال ربنا:
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ(22)﴾
لا توازِنْ بين الناس بالماديات:
عندنا قاعدة في العاطفة، هناك عاطفة عميقة، وهناك عاطفة سطحية.
مثلاً: لو دخلت إلى بيت أحد تجار المخدرات، ورأيت بيتاً يزيد على أربعمئة متراً، وفيه من الأثاث ما لا يُوصَف، وفيه من وسائل الترفيه، والأجهزة الكهربائية ما لا تعرف، هل تعجب بهذا البيت، وتعلم أن صاحبه تاجر مخدرات؟
لو دخلت إلى بيت موظف مستقيم على أمر الله تسعين متراً، وأثاثه متواضع جداً، لكن هذا الإنسان يعمل في نشر الخير، في التعليم أي عنصر خير للأمة هل تزدريه على بيته الصغير؟
إن عظّمت تاجر المخدرات فعاطفتك سطحية، وإن احتقرت الإنسان المستقيم الفقير فعاطفتك سطحية، أما إذا احتقرت مَن جمّع هذا المال على حساب شبابنا، وسلامة جيلنا إذا احتقرته فأنت تملك عاطفة عميقة، فربنا عز وجل يقول: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُهُمْ﴾ لأنه:
(( كل نفس تحشر على هواها، فمن هوي الكفر فهو مع الكفرة ولا ينفعه عمله شيئاً. ))
[ أخرجه الطبراني بسند ضعيف ]
والحقيقة أن هذا الذي حدث والذي آلم المسلمين أيّما إيلام له إيجابية واحدة، وقد تكون إيجابيتان، الإيجابية الوحيدة أن مجتمع الكفر خطف أبصار الناس إليه من قبل، هناك الحرية والديمقراطية، والإنسان مُكرَّم هناك، هذه أقنعة كلها مزيفة، والحمد لله كُشِفت، هذه أقنعة كلها مزيفة، كلها كاذبة، كلها مُزوَّرة، وحينما هُدِّدت مصالحهم انقلبوا إلى وحوش، أليس كذلك؟
إذاً: دائماً فكِّر في الإيجابيات، المؤمن متوازن، هناك سلبيات، هناك آلام، لكن هناك إيجابيات، (فمن هوي الكفر فهو مع الكفرة ولا ينفعه عمله شيئاً) ، قال الله تعالى:
﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)﴾
لم يقل: فمن يؤمن بالله فقط، لا بد أن يسبق الإيمان بالله كفرٌ بالطاغوت، أن تكفر بهم وبحضارتهم، وبنُظُمهم، وبمنطلقاتهم، وبأساليبهم، وبكذبهم، ودجلهم: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ*مَتَٰعٌ قَلِيلٌ﴾ يوجد آية أخرى: ﴿قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ إلهنا، ربنا، مولانا، خالقنا، بارئنا، مصورنا، الذي مصيرنا إليه يقول لك: ﴿قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾
ويقول لك:
﴿ كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ (185)﴾
ويقول لك:
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾
يقول لك:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾
هذه مقاييس التفوق في القرآن الكريم، مقياس التفوق أن تزكّي نفسك، أن تعرّفها بربها، أن تحملها على طاعته، أن تتقرّب إليه بخدمة خلقه، مقياس التفوق أن تطيع الله ورسوله، مقياس التفوق أن تنجو من النار.
﴿قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ هذه أشياء خطيرة جداً، لأنك إذا اعتقدت هذا الاعتقاد ترتاح نفسك، وترى نفسك فائزاً، أما إذا كنت غافلاً عن الله تعيش مقاييس أهل الكفر، مقاييسهم المال فقط، القوة فقط، أين بيتك؟ في أيّ حيّ، ما مساحته؟ كم كلّفك، هل زَيَّنته؟ ما نوع الأثاث الذي فيه؟ ما نوع مركبتك؟ لو ذكرت له أعلى نوع يقول لك: رقمها ستمائة أم خمسمائة وخمسون، أم مئتان وثمانون، أم مئة وتسعون؟ "في آخر الزمان قيمة المرء متاعه فقط"، هكذا قال سيدنا علي، فلذلك: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ﴾ لا تنظر إليهم، أنت في زمن فيه إعداد للآخرة: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ*مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾ .
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
العبرة بمن يضحك في آخر المطاف:
العبرة من يضحك آخراً، من يضحك أولاً يبكي كثيراً، ومن يضحك آخراً يضحك كثيراً، والإنسان يولَد كل من حوله يضحك إلا هو يبكي وحده، فإذا شارفَ الموت كل من حوله يبكي، فإذا كان مؤمناً يضحك وحده، والله قبل أيام قلت كلمة، شيّعت جنازة، ورأيت حالة الدفن، قلت: والله ما من إنسان على وجه الأرض أذكى وأعقل ممن يُعِدّ لهذه الساعة التي لا بد منها، أبداً، لا ينجو منها أحداً، عمرٌ مديد، تدخل بيتك، وتخرج منه منتصب القامة، وفي مرة واحدة لا بد أن تخرج منه محمولاً .
كل يوم تقرأ عشرات النعوات، ولا بد من يوم يقرأ الناس فيه نعيك، شئت أم أبيت، هكذا نحن جميعاً، ما من خروج من البيت إلا والأهل ينتظرونك، لم يأتِ بعد، الساعة الثانية عشرة، إلا بعد الدفن فلا أحد يقول: لم يأتِ فلان، انتهى، ذهب ولم يعد، فهذه الساعة التي لا بد منها ينبغي أن نعد لها: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ﴾
المؤمن محبوب ولو كان مِن أفقرِ الناس:
لا تستخدم مقاييسهم، أنت إنسان مستقيم تعرف الله عز وجل، قد يكون دخلك محدوداً، لو التقيت بواحد من أهل الدنيا لا يقيّمك إلا من دخلك، ماذا تعمل يا بني؟ والله أنا موظف، كم يعطونك؟ أنت تأخذ خمسة آلاف، تقول له: أنا آخذ عشرة، استر حالك، فقط عشرة، لا تكفي، كيف تعيش؟ مقياسه مادي محض، لا تصاحِب من لا يرى لك من الفضل مثلما ترى له، صاحِب أهل العلم، صاحب المؤمنين، يقدّرون فيك إيمانك، يقدرون فيك طاعتك لله، يقدرون فيك استقامتك، يقدرون فيك حرصك على الحق، يقدرون فيك طموحاتك، يقدرون فيك بطولتك، أما إن صاحبتَ أهل الدنيا فلا يقدرون فيك إلا مقاييسهم هم؛ أموالهم، لذلك ورد أنه من دخل على الأغنياء -طبعاً غير المؤمنين- والله لا أتكلم عن الأغنياء إلا إذا كانوا بعيدين عن الله، أما والله المؤمنون تشتهي أن تكون مثلهم، من تواضعهم، ومن سخائهم، ومن حبهم لله، وقد أكرمهم الله بهذا الغنى ليكون سُلّماً لهم إلى الجنة، أنا لا أتحدث إلا عن هؤلاء الشاردين، الغافلين، المستكبرين المتغطرسين، أما المؤمنون، والله المؤمن تحبّه غنياً من تواضعه وسخائه، وتحبه فقيراً من عِفته وتجمّله، وتحبه ذا دخل محدود، أو ذا دخل غير محدود، تحبه من الريف، كل الطُّهر والبراءة به، وتحبه إذا كان من المدينة، تحبه إن كان من أسرة عريقة متواضعاً، وتحبه إن كان من أسرة متواضعة، أنا أقول كلمة: لا يجوز في عالم الإيمان أن تضيف على كلمة مؤمن ولا كلمة، مؤمن حاجب تحبه، مؤمن مدير عام تحبه، كلاهما متواضع، كلاهما متجمّل، كلاهما يعرف حدود الله، كلاهما متأدِّب، فلذلك أيها الإخوة لا يمكن أن تقوم الحياة إلا على مقاييس القرآن.
كان شخص من التابعين قصير القامة، أسمر اللون، أحنف الرجل، مائل الذقن، ناتِئ الوجنتين، ضيّق المنكبين، غائر العينين، ليس شيء من قُبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، إذا غضِبَ غضبَ لغضبته مئة ألف سيف، لا يسألونه فيمَ غضب؟ و كان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه، بطل، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:
(( أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنْ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتْ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ. ))
سيدنا عمر كان يستقبل رسولاً من معركة نهاوند قال له: << حدثني ماذا جرى؟ قال له: والله مات خلقٌ كثير، قال: من هم؟ قال: إنك لا تعرفهم، لو ذكرت لك أسماءهم لا تعرفهم، فبكى عمر، وقال: وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم>> .
مجتمع الإيمان مجتمع إخلاص، مجتمع تواضع، مجتمع محبة، مجتمع بذل، مجتمع تضحية، وهذه الحياة الدنيا لا تصلح إلا بالإيمان، لذلك إذا عظّم الإنسان الكافر لماله، عظّمه لقوته، فقد أشرك مع الله، ينبغي أن تبجّل المؤمنين، ينبغي أن يكون قلبك مع المؤمنين، ولو كانوا ضعافاً وفقراء، وأن تتبرأ من الكفار، والمفسدين، ولو كانوا أقوياء وأغنياء، هذا الولاء والبراء، أن توالي أهل الإيمان، وأن تتبرّأ من أهل الكفر والفسق والفجور: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ*مَتَٰعٌ قَلِيلٌ﴾ ﴿قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ .
انظر متى يكون تألق الإنسان في دنياه؟
سنوات معدودة فدقق، حتى يستطيع الإنسان أن يتألق في الحياة قليلاً سيكون على الأقل في سن الأربعين، إذا عملَ عملاً دؤوباً، ومعه شهادات عليا، ودرس، أو كان ابن تاجر وعمل، حتى يتألق تألقه ذاك في الأربعين، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( أعمارُ أمتي ما بينَ الستِّينَ إلى السبعينَ وأقلُّهم من يجوزُ ذلِكَ. ))
اسأل أنت كل الذين توفاهم الله يقول لك: في الثامنة والخمسين، في الثالثة والستين، في السادسة والسبعين، ما شاء الله، أما أكثر الناس فبين الستين والسبعين، والآن أصبح بالثلاثينات، الموت المبكّر، أزمة قلبية بالثلاثين، بالخامسة والعشرين، بالاثنين والثلاثين، يوجد أورام، ويوجد أزمات قلبية تأخذ الشباب الآن، فلذلك هذه الحياة الدنيا ليست مُجديةً في التمتع بها، لأنها تحتاج إلى إعداد أربعين عاماً، والاستمتاع بها عشرون عاماً، هذا وكل أهل الأرض بحياتهم منغصات، فالإنسان لا يخلو من مشكلة في بيته؛ إما مع أهله، مع أولاده، بصحته، بعمله، برزقه، بدخله، إذا لم يوجد عنده ولا مشكلة معنى هذا أنه هو المشكلة، لأنه لا يحس هموم المسلمين أصبح هو مشكلة أيضاً، أيمكن أن تكون مرتاحاً، ومن حولك جميعاً يئِنّون من الجوع، وأن ترتاح أنت بينهم؟ إذاً أنت لست مسلماً، حتى لو لم تكن عندك مشكلة ما تسمع من أخبار المسلمين، ومن آلامهم، ومن قهرهم، ومن ظلمهم لا تحتمله.
والله حدثني أخ صادق قال لي: والله لا أطيق سماع الأخبار، لا أطيق رؤية هذه المآسي التي نراها كل يوم، فلذلك أيها الإخوة: إن هذه الدنيا دار ابتلاء، دار عمل، دار تضحية، دار كدح:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (200)﴾
﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ*مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾ كان سيدنا عمر بن عبد العزيز كلما دخل مقرّ عمله يقول:
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ(206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207)﴾
يقول الله:
﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِۦ ۗ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ (30)﴾
﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ (126)﴾
﴿ لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّٰتٌ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٌ لِّلۡأَبۡرَارِ (198)﴾
لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
هؤلاء الذين عرفوا ربهم واتقَوا أن يعصوه: ﴿لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّٰتٌ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٌ لِّلۡأَبۡرَارِ﴾ .
التقي هو الفائز، ولو كنت فقيراً، ولو كنت -لا سمح- الله مريضاً، ولو كنت بلا زوجة، وبلا ولد، ولو كان بيتك مستأجَراً، ولو كنت بوضع يُرثى له، ما دمت قد عرفت الله فأنت الفائز: ﴿لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّٰتٌ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٌ لِّلۡأَبۡرَارِ﴾
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ
تعلَّمْ من القرآن أدبَ الإنصافِ:
أيها الإخوة، ثم يقول الله عز وجل: ﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ دققوا، ﴿وَإِنَّ مِنۡ﴾ من للتبعيض، أرأيت إلى هذا الأدب الذي يعلمنا الله إياه، إياك أن تعمم، ﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ بعضهم: ﴿لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ﴾ النجاشي استقبل المسلمين، ورحّب بهم، وطمأنَهم، وأقاموا عنده آمنين، وقال: لو أُتيح لي أن ألقى النبي لغسلتُ عن قدميه، والنبي صلى عليه صلاة الغائب، وحينما أمرهم أن يصلوا عليه عجبَ بعض الصحابة من هذا الذي نصلي عليه؟ فجاء الرد الإلهي: ﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ الآن دققوا دخلنا في موضوع دقيق، أولاً: تعلّم من الله الموضوعية، تعلّمْ أنّ الموضوعية قيمة ثمينة، هي قيمة علمية، وقيمة أخلاقية في وقت واحد، لستَ عالماً إذا حشوت ذهنك بالمعلومات، ولكنك تعدّ عالماً إذا كنت منصفاً في أحكامك، لا تحكم حكماً ظالماً، لا تُغفِل الإيجابيات، وتُبرز السلبيات، هذا هو إمام السوء الذي إذا أحسنت لم يقبل، وإذا أسأت لم يغفر، هذا هو جار السوء الذي إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى شراً أذاعه، كن موضوعياً، إن سُئِلت عن إنسان فقل ما له وما عليه، إن سئلت عن جماعة فقل ما لها وما عليها، إن سئلت عن قريب فقل ما له وما عليه، إن سئلت عن صديق فقل ما له وما عليه، لا تعمم، لا تُغفِل الإيجابيات، وتُبرز السلبيات، هذا موقف لا أخلاقي.
بعض أهل الكتاب مؤمن بالله وبجميع أنبيائه:
﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ﴾ الإيمان الصحيح: ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ أي بشكل أو بآخر لعلّي أُوفَّق في هذا المثل: أنت مدير مؤسسة تابع لوزير، الملك غيّر الوزارة، وأصبحتَ تابعاً لوزير آخر، لا أقبل هذا الوزير، أنت بهذا تستعصي على أوامر الملك، الملك عَيَّن هذا الوزير، وأنت تابع له، لا يُقبَل، ولا يُعقَل أن ترفض أن تنتمي لوزير جديد عيَّنه الذي تعظّمه أنت، فالمؤمن يقبل أي رسول جديد، فأنت لك رسول جاء رسول آخر ينبغي أن تتبع الآخر، لذلك هؤلاء: ﴿لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ إليكم وإليهم، لأنهم قبلوا الرسالة الجديدة، معنى ذلك أنهم يعظّمون الله عز وجل، هذا التعظيم لله كان دليله أنهم آمنوا بما أُنزِل على محمد، وسأقول لكم كلمة دقيقة: أية معرفةٍ ترقى إلى درجة أنها بديهية، هل يوجد أب على وجه الأرض إذا دخل إلى البيت، وأنجب أولاداً من سبع سنوات، ووقف أمامه أحد أولاده يقول له: من أنت؟ هل سمعتم بهذا؟ مستحيل، أي لا يوجد معرفة أوضح، وأثبت وعفوية كمعرفة الأب بابنه، ماذا قال الله عز وجل؟ قال:
﴿ ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُۥ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146)﴾
يعرفون أنه رسول الله، يوجد أدلة، وعلامات، وشواهد، وإخبار عندهم في الكتب، هم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن لم يؤمنوا به، أما الذي آمن به الحقيقة إيمانه بالله قوي، الذي آمن به انطلق من إيمانه بالله، فلذلك: ﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ .
الخشوع صفة بعض أهل الكتاب:
هذا الإيمان بما أُنزِل إليهم، وما أنزل إليكم معاً، أي إيمانهم بالله قوي جداً، وهذا الإيمان بالله الصحيح حملَهم على خشية الله، وعلى طاعته، قال: ﴿خَٰشِعِينَ لِلَّهِ﴾ .
لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
أما الصفة الثانية رائعة، قال: ﴿لَا يَشۡتَرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًاۚ﴾ .
أنت لك دعوة، ولك جماعة، ولك مكانة بينهم، لو أنك آمنت برسول الله فرضاً يجب أن تتزحزح عن مكانتك، وتعد تابعاً له، هناك من آثر أن يبقى على مكانته مع إغفال هذه الحقائق، إذاً: اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.
لو فرضنا مثلاً أوضح من هذا؛ إنسان كُلِّف أن يفتي بموضوع، وله مكانه معينة، فإذا أفتى على خلاف ما طُلِب منه يخسر هذه المكانة، فأفتى بما يرضي مَن أمره أن يفتي مثلاً، هو ماذا فعل؟ اشترى بعلمه ثمناً قليلاً، أفتى بخلاف ما يعلم، المثل واضح؛ أنت بمكانة معينة، بدخل معين، بشكل معين، طُلِب منك أن تفتي فتوى، فإن لم تكن كما يريدون خسرت هذه المكانة، فالذي آثر هذه المكانة على أن يفتي بخلاف ما يعلم هذا اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً، والذي آثر طاعة الله على مكانته هذا هو المؤمن، فلماذا أنكر من أنكر؟ لأنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، هم في بحبوحة، وبمكانة كبيرة في مجتمعاتهم، فإذا آمنوا فقدوا هذه المكانة، فيما توهموا، لكن الذي حصل على عكس ذلك، الذين آمنوا من أهل الكتاب النبي أكرمهم إكراماً لا حدود له، ورفع شأنهم، وكسبوا الدنيا والآخرة.
إذاً: ﴿لَا يَشۡتَرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ﴾
إياك أن تفتي بعير علم ، وإياك أن تفتي بخلاف ما تعلم:
كتعقيب أخير على هذه الآية قبل الأخيرة: دعك من ملابسات هذه الآية، وأنت مسلم إذا سئلت سؤالاً، وتعرف الجواب الصحيح، لو وجدت أن مصلحتك تقتضي أن تقول جواباً غير هذا الجواب فأنت اشتريت بآيات الله ثمناً قليلاً، لو سُئلت من إنسان قوي عن شيء، وأدركت بالحاسة السادسة أنك إذا قلت له كما يهوى تعلو عنده فقد اشتريت بآيات الله ثمناً قليلاً، إن أفتيت بخلاف ما تعلم اشتريت بآيات الله ثمناً قليلاً، ضمن الدين الواحد إن نطقت بالباطل تقرباً إلى زيد، أو عبيد، أو إن سكت عن الحق اتقاءً لشيءٍ لا تريده، فقد اشتريت بآيات الله ثمناً قليلاً، فلذلك هذه آية دقيقة جداً: ﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَمَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ لأنهم آمنوا بالرسالتين، إذاً خشعت قلوبهم لله، اتصلوا بالله، شعروا أنهم قد أرضَوا ربهم، وأن هذا الرسول فيه إشارات في كتبهم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، أما الذين تشبّثوا بمناصبهم، ومكاسبهم الدنيوية من خلال زعاماتهم فهؤلاء اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، هؤلاء الذين آثروا الحقيقة، وطاعة الله، ومحبته، قال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ﴾ وإن شاء الله في الدرس القادم ننهي هذه السورة بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ .
الملف مدقق