وضع داكن
23-02-2025
Logo
الدرس : 53 - سورة آل عمران - تفسيرالآيات 176 – 179 عطاء الآخرة العطاء الحقيقي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث والخمسين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية السادسة والسبعين بعد المئة، وهو قوله تعالى: 

﴿ وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظًّا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)﴾

[ سورة آل عمران  ]


وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا


 ومن الأحاديث القدسية الصحيحة عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: 

((   يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. ))

[ مسلم ، الترمذي ، ابن ماجه ، أحمد ، الدارمي  ]


الله لا تنفعه طاعة مطيع ولا تضره معصية عاصٍ:


أي أن طاعتنا لله لا تنفع الله، ومعصيتنا له لا تضره، هو غني عنا، وعن طاعتنا، وعن عبادتنا، وعن صلاتنا، وصيامنا، وحجنا، وزكاتنا، لكنه ما أمرنا بهذا إلا من أجل أن يُسعِدنا بها، هي لنا، قال الله تعالى:

﴿ مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ(46)﴾

[ سورة فصلت ]

 فهؤلاء الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً، فضلاً عن ذلك فإن الكافر لا يستطيع أن يسبق الله، بمعنى أن يفعل شيئاً ما أراده الله، أو أن يتفلّت من عقاب الله، هو في قبضة الله، وكل أفعال الكافر سمح الله بها، لأن خطة الله استوعبت خطته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
 ورد في بعض الآثار القدسية: أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فإن أطاعني العباد حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن هم عصوني حولتها عليهم بالسُّخطة والنقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، وادعوا لهم بالصلاح، فإن صلاحهم بصلاحكم .
 إذاً: أن يسارع الإنسان بالكفر لا يعني هذا أنه يضر الله عز وجل، فلو فرضنا إنسانًا حطم زجاج مركبته، وثمنه سبعون ألفًا وارتاح، من الذي خسر؟ من انتكس فإنما ينتكس على نفسه، من مكر فإنما يُمكَر به، ومن خادع الله فإن الله يخدعه، فكل عمل ابن آدم يعود عليه في النهاية، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر. 
أكاد أقول: إنه من منطلق حبك لذاتك ينبغي أن تطيع الله، من منطلق حبك لذاتك ينبغي أن تعطي ما عليك، وأن تأخذ الذي لك فقط، أما إذا أخذت فوق الذي لك وقعت في إثم كبير.

الإضلال الجزائي:


 هناك شرح ضروري جداً حول هذه الآية، أية آية يُشَمّ منها أن الله أضلَّ زيداً، أو ما أراد له الهدى، أو ما سمح له أن يهتدي هذا التفسير هو الذي يليق بكمال الله عز وجل، العلماء قالوا: الإضلال إذا عُزِي إلى الله عز وجل فإنما هو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، استناداً لقوله تعالى:

﴿ إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(5)﴾

[  سورة الصف  ]


معنى الإرادة الإلهية :يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ


 معنى أولئك الذين لم يرد الله أن يجعل لهم حظاً في الآخرة، معنى الإرادة فقط السماح، أنت مخلوق مخير، فإذا طلبت شيئاً سمح الله لك به، لذلك قال علماء التوحيد: أراد، ولم يأمر، أراد ولم يرضَ، إنسان أصرَّ على السرقة، وهو مُخيَّر، وهو في دار ابتلاء، فإن منعه الله أن يحقق رغبته ألغى حريته، وألغى اختياره، وألغى الثواب والعقاب، لأن الله لو أنه أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هَمَلاً لكان عجزاً في القدرة .
 إذاً: كلمة إرادة ينبغي أن نفهمها بالمعنى الدقيق، أي سمح.
 أوضح مثل: أنت صيدلي تريد موظفاً ينوب عنك في بعض الأوقات ليبيع الأدوية، فلا بد من حد أدنى من خبرة بالأدوية، أردت أن تمتحنه، جئت بمجموعة أدوية منوّعة، وقلت له: هذه الخزانة للفيتامينات، وهذه للمضادات الحيوية، وهذه للسموم، وهذه للمقويات، وهذه للمغذيات، وهذه الأدوية التي أمامك وزِّعها بحسب خبرتك، لو أن هذا الذي تمتحنه أمسك دواءً في الفيتامينات، وذهب إلى السموم ليضعه هناك لو منعته ما امتحنته، هل أنت تريد الخطأ؟ لا، أنا أمتحنه الآن، فمن أجل أن ينجح الامتحان لا بد أن أعطيه حرية الحركة، أمسك دواءً في الفيتامينات ذهب ليضعه في السموم، فسكوتك عن حركته، وسماحك له أن يتحرك هذا إرادة، فكلمة إرادة سمحت له فقط، لماذا سمحت له؟ لأنه مخير، هو مخير، اختار هذا، إرادتك أنك سمحت له، فلذلك معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ﴾ أي سمح الله لهم أن يحققوا مرادهم في الاختيار، هم أرادوا الدنيا، وما أرادوا الآخرة، ما تركوا للآخرة من نصيب، أرادوا الدنيا وحدها، أصروا على الدنيا، كفروا بالآخرة، هذا اختيارهم، نفّذه الله لهم الآية أصبحت:  ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظًّا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ﴾ سمح الله لهم بناءً على اختيارهم أن يُحرَموا من الآخرة لأنه: 

﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصْلَىٰهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ ٱلْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا(19) كُلًّا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 الآية واضحة، كلمة ﴿يُرِيدُ﴾ إذا تعلقت بإنسان فينبغي أن تُفهَم فهم عقيدة صحيح، الإنسان مخير، ومعنى مخير أنه ينبغي أن يختار ما يشاء، وقد تعهّد الله له بتنفيذ اختياره، تنفيذ اختيار الله له إرادة. 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفْوَٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ۛ سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِنۢ بَعْدِ مَوَاضِعِهِۦ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ ۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُۥ فَلَن تَمْلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا ۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ ۖ وَلَهُمْ فِى ٱلْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(41)﴾

[  سورة المائدة ]

 هم اختاروا ألاّ يطهروا فنفذ الله لهم اختيارهم ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظًّا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ﴾ هم أرادوا الدنيا وحدها، وكفروا بالآخرة، وقد قال الله عن بعضهم: 

﴿ يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْآخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ(7)﴾

[  سورة الروم  ]

 من هو الأعور الدجال بالمفهوم الواسع؟ بالمفهوم الضيق هو إنسان يأتي في آخر الزمان، بالمفهوم الواسع هو الإنسان الذي رأى الدنيا فقط، وفعل عكس ما يقول، فدجّل على الناس.
 حينما يريد الإنسان الدنيا، ويُصِرّ عليها، ويكفر بالآخرة، ولا يعبأ بها، لأنه مخير، ولأنه في دار ابتلاء، ولأن عقده الإيماني مع الله يقتضي أن يفعل ما يريد تتعلق إرادة الله عز وجل بتحقيق مراده، فكأن الله حينما قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾ أي سمح الله لهم أن ينفّذوا اختيارهم، هذا هو المعنى، سمح الله لهم أن ينفذوا اختيارهم، لأن عقداً إيمانياً بين الإنسان وخالقه أن يأتي إلى الدنيا ليفعل ما يختار، لو ألغيت اختيار الإنسان لألغيت الثواب والعقاب، والجنة والنار، وألغيت المسؤولية، وألغيت التكليف، وفقد الإنسان قيمته، لأنه أصبح مسيّراً، والمُسيَّر لا أجر له، ولا عقاب عليه.
 << أكان مسيرنا إلى الشام يا إمام -سيدنا علي- بقضاء من الله وقدر؟ قال له: ويحك، لو كان قضاء لازماً، أو قدراً حاتماً إذاً لبطل الوعد والوعيد، ولانتفى الثواب والعقاب، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطَع مُكرَهاً>> .

لابد من فهم الآيات المتشابهات على الوجه الصحيح:


 هذه الآيات مشتبهات، من كان سيِّئ الظن بالله يفهمها فهماً لا يليق بكمال الله، ومن كان إيمانه بالله قوياً، وظنه بالله حسناً يفهمها فهماً آخر يتناسب مع كمال الله ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظًّا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ﴾ هناك آيات أخرى: 

﴿ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا(27)﴾

[  سورة النساء  ]

 الإرادة الابتدائية لله أن يتوب عليكم، أن يرحمكم، أن يغفر لكم، أن يسعدكم، أما الإرادة التي هي تحقيقٌ لإرادة الإنسان فهذه متعلقة باختيار الإنسان.
 أب عنده أبناء كُثر، طموحه أن يدرسوا، وأن يكونوا في أعلى مقام علمي، هناك ابن ما ترك الأب معه طريقة ، بالإكرام، والتهديد، والوعيد، وغرفة خاصة، وأساتذة مختصين، وأعفاه من كل عبء، وأعطاه المال، وأعطاه الكتب، ونسبه إلى دورات، وهيّأ له أجهزة، والابن مصر على ألاّ يدرس، بعد محاولات يائسة تيقّن الأب أنه لا يمكن أن يدرس، فسحب منه الكتب، ودفعه إلى العمل في وقت مبكر، هذا العمل تجسيد لرغبة الابن، وليس قهراً له ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظًّا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ﴾ لأنهم أرادوا الدنيا، ويريد الله لهم ذلك لأنهم اختاروا ذلك، وهنا إرادة الله ليست الابتدائية، والابتدائية: ﴿وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ أعطى طبيب مريضًا تعليمات مشددة في الحمية، والأدوية، وقال له: إن لم تأخذها فلا بد من عمل جراحي، المريض أهمل، وتابع الدخان، فأصابته أزمة، وتضيُّق شرايين، فلا بد من عمل جراحي، الطبيب أمر، وأخذ قراراً بعمل جراحي، من الذي اختار هذا القرار؟ المريض، لأنه تابع الدخان، وما تابع الحمية، وما مارس الرياضة، كان له أدوية تغنيه عن العمل الجراحي، فلما أهمل هذه الأدوية وتلك الحمية، وحينما تابع الدخان، فتضيَّقَ الشريان، وصارت حياته في خطر كان لابد من فتح القلب، وتبديل الشريان، هو في الظاهر، الطبيب أمر، وأخذ القرار، وأوقف المعالجة العادية، لأن هذا اختيار المريض، وهو اختار هذا، هذا اختياره . 

وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ


﴿وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هناك عذاب أليم، وهناك عذاب مهين، وعذاب عظيم، عذاب الدنيا أدنى، وعذاب الآخرة أكبر، قال تعالى: 

﴿  وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾

[  سورة السجدة  ]

قال تعالى:

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)﴾

[  سورة آل عمران  ]


إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ


بيع الدين بعرض قليل من الدنيا:

 هذا الذي يبيع دينه بدنياه، يبيع دينه بعرَض من الدنيا قليل، يحلف يميناً كاذباً كي يبيع هذه السلعة، يتكلم بما ليس مقتنعاً به من أجل أن يبقى في مكانه، هذا مشرك، هذا يرى أن الخير ليس من الله، ولكن من عباد الله، فيعبد العباد من دون الله، وأنت كعبد لا بد أن تعبد جهةً ما، فإما أن تعبد الله الواحد القهار، وإما أن تعبد عبداً لئيماً، وحينما يعبد الإنسان الله يكون حراً، أما حينما يعبد مَن دونه يكون عبداً، وحالة العبودية لغير الله شائعة جداً، أساسها الشرك بالله، لماذا اشترى الكفر؟ لأنه توهّم أن في الكفر خيراً له، وأن الكفر يجعله يرقى في مناصب معينة، وأنّ الكفر يجلب له المال الوفير، وأنّ الكفر يعزّز مكانته، وكل هذه أوهام. 

(( مَن حاول أمرًا بمعصيةٍ، كان أَبْعَدَ لِمَا رَجَا، وأَقْرَبَ لِمَجِيءِ ما اتَّقَى. ))

[ ضعيف الجامع ]

ومستحيل وألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، وأن تعصيه وتربح، وما عند الله لا يُنال بمعصية الله، قد يبيع أمته بعرَضٍ من الدنيا قليل، يؤيد الكافر على المؤمن، والذي يناصر الكافر على المؤمن هذا خرج من مِلة الإسلام.
 هذا الكافر مُعجَب بما عنده من الدنيا، يتوهم أنه متفوق، وأنه ذكي، وأنه فالح، وناجح، لأنه جمع أموالاً طائلة، وعاش حياةً رغيدة، لأنه ملك رقاب الناس، يفعلون ما يريد، وغاب عنه أن هذه الحياة الدنيا محدودة، وأن الفوز الحقيقي بعد الموت، لذلك قال الله عز وجل: 

﴿ وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٌ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمًاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178)﴾

[  سورة آل عمران  ]


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا


البيان أول أساليب الله مع خلقه:

 هذا اسمه استدراج، لأن الله سبحانه وتعالى يبدأ بهداية خلقه بالبيان، قال تعالى: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)﴾

[  سورة الأنفال  ]

التأديب التربوي :

 فإن لم يستجب الإنسان إلى الله فإنه يقع تحت أسلوب آخر، هو التأديب التربوي، قال تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ .

الإكرام الاستدراجي :

 فإن لم يرجع، ولم يتب خضع لمعالجة ثالثة، قال تعالى: 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام  ]

 هذا اسمه إكرام استدراجي، قال تعالى: ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٌ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمًاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ الصعود الحاد على غير طاعة الله وراءه سقوط مُريع، لذلك إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك، وأنت تعصيه فاحذره، هذا ليس إكراماً، إنما هو استدراج، قال تعالى: 

﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(182 (وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾

[  سورة الأعراف ]

 الكيد هو التدبير، الإنسان الشارد على الله في قبضة الله، وكأنه مربوط بحبل متين، لا يمكن أن ينقطع، والمتانة مقاومة قوى الشد، بينما القساوة مقاومة قوى الضغط، فالألماس أقصى عنصر، والفولاذ المبروم أمتن عنصر، لذلك يُصنَع من الفولاذ مركبات التلفريك (المصاعد)، لأن الحبل من الفولاذ أو خيط من الفولاذ إذا كان قطره ملم يحمل مئتي كيلو غرام، أمتن عنصر هو الفولاذ، وأقسى عنصر هو الألماس، وميناء الأسنان يأتي بعد الألماس، والإنسان خلق من نطفة من ماء مهين، ماء لزج، ويوجد على أسنانه مادة الميناء، تأتي بعد الألماس من حيث القساوة .
 أما: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أي أعطيهم المال والصحة، صحته من أعلى ما يكون، كله طبيعي، النبض، والضغط، والنسب، والسكر، كله طبيعي، ومال وفير، ونساء جميلات، وبيوت جميلة، ومركبات فارهة، غارق بالمُتَع والنعيم، ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ قال تعالى: ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٌ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمًاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أملى الله لهم لأنهم طلبوا الدنيا، وطلبوا الزيادة.
المؤمن يقول :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا

 لقد نصح الله عز وجل المؤمنين بهذا الدعاء: 


﴿ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰٓ إِلَيْكَ وَحْيُهُۥ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا (114)﴾

[  سورة طه ]

 أما لسان حال الكفار: وقل رب زدني مالاً، وقل رب زدني جاهاً، وقل رب زدني استمتاعاً في الحياة، وقل رب زدني انغماساً في الشهوات، هذا لسان حال الكافر، قال تعالى: ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾

الدنيا منقطعة لا تليق عطاءمن الله:


 أما العطاء الحقيقي هو العطاء الأبدي السرمدي، لأنه لا يليق بكرم الله أن يعطيك الدنيا فقط، لأنها محدودة جداً، ولها سقوف؛ سقف للطعام والشراب، فمهما كنت غنياً فلك وجبة، ولا تستطيع أن تأكل أكثر، وسقف للشهوة الجنسية، وسقف للثياب، بِذْلَة واحدة، سرير واحد، بيت واحد، مركبة واحدة، والآخرة ليس لها سقف، لذلك لا يليق بكرم الله أن يعطيك الدنيا، لأنها متاع قليل، وقد نصحنا الله بهذا، قال تعالى: 

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلَآ أَخَّرْتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ قَرِيبٍۢ ۗ قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا(77)﴾

[  سورة النساء  ]

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾

[  سورة التوبة  ]

﴿قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ ، وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

((  لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))

[ الترمذي  ]


الآخرة هي العطاءلأن الله يحقق فيها اسم العدل:


 ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٌ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمًاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ لكن أيها الإخوة، لا يمكن أن تكون الدنيا دار جزاء، إنما هي دار عمل، أما دار الجزاء في الآخرة، قد ترى أو تسمع جهة تقتل، وتذبح، وتستحيي النساء، وتُقتِّل الأطفال، وتهدم البيوت، وهي قوية، والعالم كله معها، وأكبر قوة في العالم تبارك عملها، وتتفهّم ما تفعل، ولا ترى إلا جانباً واحداً، وهم في عِزّ منيع، وفي قوة وغطرسةٍ وكِبْر، أنت حينما تنسى الآخرة يقفز أمامك آلاف الأسئلة التي تحيّر، أما حينما تؤمن بالآخرة تُحَلّ كل مشكلاتك الفكرية، حينما تؤمن بالتسوية بعد الموت، حينما تؤمن أن اسم الله العدل لا بد أن يُحقَّق في الآخرة، فهذا الاسم الوحيد لا يُحقَّق في الدنيا أبداً، تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، فيُقتَل الإنسان بلا سبب، بلا ذنب يرتكبه، يُكذَّب الصادق، ويُصدَّق الكاذب، يُكال بمكيالَين، القوي جرائمه دفاع عن النفس، والضعيف دفاعه عن حقوقه إرهاب، أليس كذلك؟
 عشرة آلاف إنسان مقتول في يومين في بلاد شرقي آسيا، قيل حينها: إنه دفاع عن النفس، أما لو قُتل إنسان واحد لقامت الدنيا، ولم تقعد، هذا هو الكفر، وما لم نكفر بالكفر لن نصل إلى الله. 

(( كلُّ نَفْسٍ تُحْشَرُ على هَوَاها، فمَن هَوِىَ الكفرةَ فهو مع الكفرةِ، ولا يَنْفَعُهُ من عملِه شيئًا. ))

[ ضعيف الجامع ]

من ظن بهم ظناً حسناً فقد كان مخطئاً، قال تعالى: 

﴿ هَٰٓأَنتُمْ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ(119)﴾

[  سورة آل عمران ]  

 فيا أيها الإخوة، هذه الآية الكريمة: ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٌ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمًاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ نملي لهم لأنهم طلبوا أن نملي لهم، ولأنهم اختاروا أن نملي لهم، ولأنهم لا يعبؤون بالإثم، ولا بالمعصية، فهم يريدون الشهوات.

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ


 حينما تختلط الأوراق يقول الله عز وجل: 

﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٌ (179)﴾

[  سورة آل عمران  ]


الدنيا دار فرزٍ وتصفية:


 طالب يرتدي ثياب المدرسة، هو عند الناس طالب علم، قد تكون كل علاماته أصفارًا، وبل قد يكون مطرودًا، أما عند الناس فيرتدي ثياب المدرسة، فالأمور مختلطة، هناك طالب مجتهد، وطالب غير مجتهد، طالب لا يداوم، وطالب يداوم، طالب لا يكتب، وطالب يكتب، طالب يغش في الامتحان، أما الامتحان هو الفرز الدقيق للطلاب، قال تعالى : 

﴿  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

 لا يُمتَحنون؟ لذلك قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ﴾ فالخبيث خبيث، والطيب طيب، الله يتكفّل أن يفعل شيئاً يفرِز به الناس، الهجرة كانت فرزاً للمؤمنين، فالذي هاجر كان مؤمناً، والذي آثر بيته، وعمله، وماله، ومَن حوله على طاعة الله سقط في الامتحان، معركة الخندق امتحان، وفرز للمؤمنين، فبينما ثبت المؤمنون الصادقون مع رسول الله، وقال ضعاف الإيمان: 

﴿ إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 معركة أحد فرز للمؤمنين، معركة حنين فرز، الإسراء والمعراج فرز، هناك من كفر بالنبي بعد الإسراء والمعراج، قالوا: هذا غير معقول، ما صدقوا، فرز، تكلم ما شئت، وادَّعِ ما شئت، وانسب لنفسك ما شئت، لكن الله متكفِّل أن يضعك في مكانك الطبيعي، أن يحجّمك، أن يعطيك ما تريد، إنسان لا يأكل درهماً حراماً، درهم لا يأكل، ولا مئة، ولا ألف، ولا مئة ألف، أما العرض خمسة ملايين! ضعف أمام هذا الرقم، فجاءت التبريرات، عندي أولاد، بلوى عامة، سقط، الله يعرف أين ينتهي يقينك، وأين ينتهي ورعك، وأين ينتهي إيمانك، فإذا أعطيت لنفسك حجماً كبيراً حجّمك الله، يفعل شيئاً يكشفك به على حقيقتك.
 إنسان يدّعي أنه بار لأمه سنوات طويلة، وأنها أغلى كائن في حياته، وأنها، وأنها، فإذا تزوج، ونشب خلاف بين امرأته وأمه انحاز إلى طرف امرأته، وقسا على أمه في الكلام، كل كلامه السابق مرفوض، دعوى، قال الشاعر: 

رَضُوا بالأماني وابتُلوا بحظُوظهم   وخاضوا بحار الحبّ دعوى فما ابتلّوا

[ ابن الفارض ]

تكلم عن نفسك ما شئت، لكن الله متكفل أن يحجِّمك، أي أن يضعك في مكانك الصحيح، قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ ٱللَّهُ﴾ مستحيل، لك أن تخدع معظم الناس لبعض الوقت، أما أن تخدع كل الناس لكل الوقت، هذا مستحيل، فلا بد أن يكشف الله عز وجل هذا الإنسان: ﴿حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ﴾ الله عز وجل سِتِّير، فإذا كان الشخص تحت المعالجة لا يكشفه الله عز وجل، ليعطيه فرصة كي يتوب.

وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ


﴿وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٌ﴾

الاصطفاء الكسبي والوهبي :

 الله يختار، الدليل: 

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ(33)﴾

[  سورة آل عمران  ]

 ثمّة اصطفاء، في الاصطفاء جانب كسْبي، وفي الاصطفاء جانب وهْبِي، فـ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ هؤلاء قِمَم البشر في إخلاصهم، ومعرفتهم، وطاعتهم لله عز وجل، فاصطفاهم الله على علم: ﴿وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٌ﴾

الإيمان والتقوى أجرهما عظيم:


 إن تؤمنوا بالله، وتتقوا أن تعصوه، لا يكفي أن تؤمنوا ﴿وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ وما دامت الأحداث خطيرة يقول الله عز وجل: 

﴿  وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)﴾

[ سورة إبراهيم  ]

 يقول الله عز وجل: 

﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًٔا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)﴾

[ سورة آل عمران  ]

 يُلغى هذا الكيد وذاك التفوق، وذاك التغطرُس، وهذا الاستعلاء، وهذه القوة الضاربة المخيفة، يُلغى جميعه: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًٔا﴾ نرجو الله سبحانه وتعالى في دروس قادمة أن نتابع هذه الآيات.
والحمد لله رب العالمين

دعاء الختام:


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطِنا ولا تحرمْنا، أكرِمْنا ولا تُهِنّا، آثرنا ولا تُؤثِر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور