الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن والأربعين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الخامسة والستين بعد المئة، ولكن قبل أن نشرَع بشرح هذه الآية بتوفيق الله وعونه لا بد أن نقف وقفة عند الآية السابقة، وهي قوله تعالى:
﴿ لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولًا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ (164)﴾
1 ـ هذه الآية أصل من أصول الدعوة:
بيّنت لكم أيها الإخوة -بتوفيق الله- في الدرس الماضي أن هذه الآية على قصرها تجمع أصول الدعوة إلى الله، بل تجمع حقيقة الدين، بل تجمع الأهداف الكبرى التي ينبغي أن تُحقَّق من خلال هذا الدين، فلا بد من معرفة بالله، وكل ما يعانيه العالم الإسلامي اليوم من مشكلات ما هي بسبب نقص في معرفة أمره ونهيه، الحق بيّن، الحلال بيّن، والحرام بيِّن، ولكن بسبب نقص في معرفة الله عز وجل.
هذه الآية أصل من أصول الدعوة
فحينما قال الله تعالى: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾ أي الدالة على عظمته، وحينما قال الله عز وجل يصف حال أهل النار:
﴿ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾
الإيمان بالله شيء، والإيمان بالله العظيم شيء آخر، فما لم تُعظِّم الله عز وجل لا تعظّم أمره، تعظيم الأمر يأتي من تعظيم الآمر، تعظيم الرسالة يأتي من تعظيم المرسِل: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ لعله آمن بالله، لكن ما آمن به عظيماً، قديراً، حكيماً، رحيماً، فعالاً، إليه يُرجَع الأمر كله، إذاً عصى أمره .
إذاً: مشكلة العالم الإسلامي الأولى نقص في معرفة الله، بدليل هذه الآية التي هي أصل من أصول الدعوة: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾ فتلاوة الآيات لا بد لها من ثمرة، إن أينع ثمرة لتلاوة الآيات التزكية، حينما تتلو آيات الله الدالة على عظمته، تعظّم الله عز وجل، وتُقبِل عليه، من خلال هذا الإقبال تكون التزكية، تصبح مصبوغاً بصِبغة الله، الرحمة مُهْجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسموّ حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك.
هناك من يعيش الناس له، وهناك من يعيش للناس، هناك من يعيش كي يتقرب إلى الله بخدمة خلقه، فالثمرة الأولى لتلاوة الآيات الدالة على عظمته أن تزكوَ نفسك، فإذا زكت كانت في معية الله عز وجل، ولا بد من معرفة تفصيلية بالكتاب والسنة كي تتقرب إلى الله بطاعته، هذا كان موضوع الدرس الماضي بفضل الله.
صيغ هذه الآية والحكمة في اختلافها:
ولكن هذه الآية وردت في ثلاث صيغ في القرآن الكريم.
الأولى: هي الآية الحالية: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولًا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ﴾ هذه آية الدرس الماضي.
هناك صيغة ثانية:
﴿ هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ(2)﴾
في الأولى: ﴿إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولًا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ﴾ المعنى واضح.
وفي الأولى أيضا: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾
وفي الثانية: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ﴾
وفي الأولى: ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ﴾
وفي الثانية : ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ﴾
الفرق بين الآيتين فقط أن الآية الأولى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾
وفي الآية الثانية: ﴿هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾ إذاً: الآيتان متطابقتان.
لكن الآية الثالثة، دعاء سيدنا إبراهيم:
﴿ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ(129)﴾
كالآيتين السابقتين: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ﴾ كالآيتين السابقتين، لكن: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ فهناك تقديم ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ﴾ وتأخير ﴿وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ﴾ ما حكمة تغيُّر ترتيب الآية الأولى عن الآيتين السابقتين؟
أيها الإخوة، الله عز وجل ذكر على لسان نبيّه إبراهيم هذا الكلام، هذا دعاء سيدنا إبراهيم، وعَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ، دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي. ))
الآية هذه من كلام سيدنا إبراهيم، سيدنا إبراهيم سلسلها قال: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ﴾ أي آياتك الدالة على عظمتك، الآيات الكونية والتكوينية: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ﴾ القرآن كلام الله ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ السنة ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أو بيان القرآن، لكن الله عز وجل قال في سورة آل عمران: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ .
لا قيمة لمعرفة الكتاب والحكمة من دون تزكية:
هذا كله كلام الله، لكن الفرق بين الآيتين السابقتين وهذه الآية التي على لسان سيدنا إبراهيم، وكلام سيدنا إبراهيم الذي جاء في القرآن الكريم هو أن التزكية تأخرت عند سيدنا إبراهيم، وقُدِّم عليها تعليم الكتاب والسنة، كأن الله عز وجل أراد أن يبين أن معرفة الكتاب والحكمة من دون تزكية لا قيمة لها، فالله قدّم التزكية على معرفة الكتاب والحكمة، فأي مؤمن لم تزكُ نفسه ما استفاد من إيمانه شيئاً، مؤمن لئيم مثلاً، مؤمن بالكتاب، وقارئ للسنة، ويفقه أحكام القرآن، ويتلوه تلاوة رائعة، ويحفظ أحاديث رسول الله، لكنه يأكل مالاً حراماً، يعتدي على حقوق الناس، لم تزكُ نفسه، إذاً معرفته بالكتاب لا قيمة لها، من هنا نعرف أن العلم في الدين ليس هدفاً في ذاته بل هو وسيلة.
لماذا كان تعليم القرآن قبل خلق الإنسان؟
أنقلكم إلى آية توضح هذه الفكرة حينما قال الله عز وجل:
﴿ الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْءان(2) خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنُ (3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)﴾
دقق: ﴿الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْءان﴾ بعد أن علم القرآن ﴿خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنُ﴾ ، لمن علمه؟ علمه للإنسان، أيعقل أن يعلّمه قبل أن يخلقه؟ مستحيل، أيعقل أن يُعلّم القرآن قبل أن يُخلَق الإنسان؟ مستحيل، إذاً: ما هذا الترتيب؟ قال علماء التفسير: هذا ترتيب رُتبي، وليس ترتيباً زمنياً، أي لا معنى لحياة الإنسان من دون منهج يسير عليه، المنهج مُقدّم على حياته في الأصل.
ولتوضيح هذه الفكرة: لو أن هناك جهاز حاسوب يحلل الدم آليًّا في ثوانٍ معدودة، كلما جاء إنسان يطلب التحليل تأخذ قطرة من دمه تضعها في هذا الحاسوب، وتضغط على بعض الأزرار فإذا الشاشة ممتلئة بتحليلات دقيقة، سبع عشرة تحليلاً في ضغطة زر واحدة، هذا جهاز مذهل، وغالٍ جداً، ورَيعه كبير جداً، لو أنك اشتريت هذا الجهاز، ونسيت الشركة الصانعة أن تبعث لك بكُتيّب عن طريقة استعماله، وتخاف عليه أن يعطب بين يديك، فلم تستخدمه خوفاً عليه، معنى ذلك أنك جمّدت ثمنه، إن استخدمته بلا تعليمات أعطَبْته، ومعنى ذلك أتلفته، أليس هذا الكُتيّب أهم من هذا الجهاز؟ إن لم تستخدم الكتيب أعطبته، وخسرت ثمنه، وإن خفت عليه جمّدت ثمنه، إذاً: قد تطير بالطائرة إلى الشركة الصانعة كي تستقدم تعليمات التشغيل.
لذلك حينما قدم الله تعليم القرآن على خلق الإنسان، أي أن وجود الإنسان في أصل وجوده لا معنى له من دون منهج يسير عليه، ذلك أن الله جل جلاله هو الخبير، قال سبحانه:
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ (14)﴾
فالنفس الإنسانية أودع الله فيها الشهوات، إن لم يكن معها تعليمات؛ افعل، ولا تفعل فسوف تتحرك بدافع من شهواتها حركة عشوائية، سوف تعتدي على أعراض الآخرين هذا ما يحصل في كل مكان بالعالم، سوف تعتدي على أموالهم، على أعراضهم، ستكون الفوضى، ستكون الجرائم، سيكون البغاء، سيكون العدوان، لذلك ما من فساد على وجه الأرض إلا بسبب حركة عشوائية بدوافع من الشهوة من دون منهج ينهجه الإنسان في حركته في الحياة.
إذاً: عندما قال سيدنا إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ فردّ الله عليه قال: ﴿هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ﴾ فتعليم الكتاب والحكمة يأتي بعد التزكية، أما أن يكون هو الأصل، وأن ننسى التزكية فلا.
ابحثوا كم دعوة إسلامية في العالم، والله وأنا أحترم كل الدعوات الإسلامية، تُبرِز عظمة الله عز وجل كي تنصاع لأمره، وتلحّ على تزكية النفس، على استقامتها، على عفتها، على طهارتها، على صفاء نيتها، على تواضعها، على رحمتها، على حكمتها، إسلام من دون تزكية لا معنى له إطلاقاً، إسلام من دون تزكية أصبح ثقافة لا غير، أصبح تقليداً، أصبح عادات، أصبح تقاليد، أصبح فلكلوراً، أصبح نزعة، اتجاهًا، اهتمامًا، أما أن يكون الإسلام ديناً فعالاً فهذا مفقود.
أيها الإخوة الكرام، كلكم يتابع ما يجري في العالم، أي هذا الدين العظيم الذي منّ الله به علينا، هذا الدين الذي هو قِوام سعادتنا، هذا الدين هو سبب نصرنا:
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ(173)﴾
هو سبب دفاع الله عنا:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍۢ كَفُورٍ(38)﴾
الإسلام الصافي هو سعادتنا وسلامتنا :
هذا الدين العظيم هو سبب سلامتنا في الدنيا، هو سبب سعادتنا في الدنيا، هو سبب توحّدنا في الدنيا، هو سبب انتصارنا على أعدائنا، هذا الدين العظيم بفضله انتقلنا من رعاة للغنم إلى سادة للأمم سابقاً. إذاً: هذا الدين العظيم:
﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ(55)﴾
أترون معي أن هناك تمكيناً في الأرض؟ لا والله، أن هناك استخلافاً في الأرض؟ لا والله، أن هناك اطمئناناً؟ لا والله، كونوا واقعيين، لا يمكن أن تقنع طفلاً إلا إذا كنت واقعياً، هل المسلمون اليوم مستخلَفون في الأرض، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ﴾ لا والله، هل هم مُمَكَّنون؟ لا والله، هل هم مُطمأَنون؟ لا والله؟ إذاً ما الجواب؟ الجواب الدقيق هو أنهم لم يزكّوا أنفسهم، هو أنهم لم يعظّموا ربهم، هانَ أمر الله عليهم فهانوا على الله.
حضرت قبل سنتين مؤتمراً في بلد عربي إسلامي حول الأسرة، وأمضينا في هذا المؤتمر أربعة أيام، شهِد الله أنه في اليوم الأول صباحاً ومساء، وفي اليوم الثاني صباحاً حتى المحاضرة الرابعة، والمؤتمر في بلد إسلامي، والمؤتمِرون نخبة من رجال الفكر في العالم العربي والإسلامي، والموضوع ألصق موضوع بالإسلام وبالقرآن، هو الأسرة، والله الذي لا إله إلا هو لم يُذكَر اسم الله، ولا كلمة الدين، ولا الإسلام، ولا مرة في اليومين الأوّلين، كل شيء طُرِح في هذا المؤتمر لا علاقة له لا بالدين، ولا بالقرآن، ولا بالإسلام، معنى ذلك:
﴿ فَخَلَفَ مِنۢ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(59)﴾
إذاً: دين من دون تزكية لا قيمة له إطلاقاً، لا يوجد مؤمن لئيم، ولا مؤمن محتال، ولا مؤمن كذاب، ولا مؤمن يملأ عينيه من الحرام، لا يمكن أن يكون هذا مؤمناً:
﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)﴾
وإطلاق البصر نوع من الزنا، فهذا الدين العظيم سبب نصرنا: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ﴾ .
سبب دفاع الله عنا: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ .
سبب وحدتنا:
﴿ إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ(92)﴾
سبب تفوقنا على أعدائنا:
﴿ وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(139)﴾
ترك التزكية سبب للهزيمة والغيّ :
هذا الدين إذا ألغينا منه التزكية، إنسان مسلم، لكنه قاسي القلب، يأخذ ما ليس له، يقيم دعوى كيدية على أخيه المؤمن، يتفلت من منهج الله، يُطلِق بصره في الحرام، يمد يده إلى الحرام، يقبل دخلاً حراماً، وهو يصلي في المسجد، إذا ألغينا التزكية من هذا الدين بسبب أننا لم نعرّف هذا الإنسان بالله عز وجل ماذا يصبح الدين؟ استمِعوا، يصبح الدين على عظمته ظاهرة صوتية، كيف؟ أنت قد تأتي بإذاعة، وتضع شريطاً، وتملأ ملعباً كبيراً صَخباً، وضجيجاً، بضغطة زر واحدة يلتغي الصوت، ظاهرة صوتية، هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿فَخَلَفَ مِنۢ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ وقد لقي المسلمون ذلك الغي، وأنتم تنظرون كيف أن المسلمين على أنهم يزيدون على مليار ومئتي مليون، ليس أمرهم بيدهم، وليست كلمتهم هي العليا، وللكفار عليهم ألف سبيل وسبيل.
إذاً: أيها الإخوة، هذه الآية التي تم شرحها في الدرس الماضي خطيرة جداً جداً، أساس هذا الدين أن تعرف الله، أساس هذا الدين أن تزكّي نفسك، فما الذي يجذب الناس إلى الإسلام؟ الصدق.
(( كنَّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ،ونَقطَعُ الأرحامَ ونُسيءُ الجِوارَ، ويَأكُلُ القَويُّ منَّا الضَّعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه. ))
[ تخريج سير أعلام النبلاء ]
هذا المؤمن، المؤمن مرتبة عالية جداً، المؤمن مرتبة علمية، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلّمه، اقرأ هذه الآية:
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾
الفضل العظيم أن تعرف الله، الفضل العظيم أن تعرف سر وجودك، الفضل العظيم أن تعرف غاية وجودك، الفضل العظيم أن توقع حركتك وفق منهج الله، الفضل العظيم أن يكون لك عمل صالح يصلح للعرض على الله، هذا الفضل العظيم، شُقَّ على صدر الناس الآن ما هو الفضل العظيم؟ يكون له دخل فلكي، يركب مركبة راقية جداً ثمنها أربعة وعشرون مليوناً، يسكن منزلاً فخمًا جداً، فيه كل وسائل الراحة، أن يكون له مكانة عليّة، هذا الفضل العظيم عنده، كل هذا الفضل عند الناس فضلٌ دنيوي ينتهي كلياً عند الموت، وكل شيء يجمّعه الإنسان في الدنيا يخسره في ثانية واحدة، لذلك هذا الدين حينما نلغي منه التزكية، ونلغي منه معرفة الله عز وجل، ويبقى أحكاماً، وأفكاراً، وكتباً، ومجلدات، ومؤتمرات، الحقيقة المظاهر قوية وصارخة، المظاهر الإسلامية قوية وصارخة.
والله دخلت إلى مسجد في الدار البيضاء كلّف مليار دولار، مئذنته جامعة، أعلى مئذنة في العالم، مساحة المئذنة جامعة، كل طابق قسم، هذه مئذنة، بُني على ساحل البحر، قالوا فيه :
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِنۢ بَعْدِ ٱلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنْ هَٰذَآ إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ(7)﴾
المصلي، وهو في الحرم يرى أمواج البحر في فتحات صغيرة في البلور، مسجد كلّف ألف مليون دولار، أي مليار دولار، أقسم لي أحدهم زار المغرب، وصلى الجمعة في هذا المسجد، أقسم لي بالله لا يوجد فيه نصف صف، في خطبة الجمعة، العبرة لا بهذه المظاهر، مظاهر إسلامية كبيرة جداً، مؤتمرات، حضرت عدة مؤتمرات، كل دولة لها علم، ولها مرافقة، ولها جناح في الفندق، شيء فخم جداً، ولكن المحصلة ليس أمرنا بيدنا، ولعدونا علينا ألف سبيل وسبيل، النتيجة لسنا مُمكَّنين في الأرض، لسنا مستخلفين، لسنا آمنين، تسمعون من حين لآخر كيف أن التهديدات تأتينا من كل جانب، هذا هو النصر العزيز؟
﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)﴾
﴿ ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَٰفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوٓاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۚ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾
صار الدين ظاهرة صوتية، خطابات، ولقاءات، وحوارات، وندوات بالفضائيات، ومظاهر دينية، ومساجد كبيرة، ومراكز إسلامية، ومكتبات إسلامية، ومؤتمرات إسلامية، لكن لا يوجد التزام بالدين، أُلغِي منه التزكية ومعرفة الله عز وجل، وبقي: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ .
هذه الآية خطيرة جداً، الله عز وجل حينما دعاه إبراهيم عليه السلام، سيدنا إبراهيم بشر على علوّ قدره، وهو أبو الأنبياء لكن قال له: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ فكان رد الله عليه: ﴿هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ﴾ .
الإيمان قبل القرآن، والمعرفة قبل الطاعة:
لذلك قال الصحابة الكرام: أُوتينا الإيمان قبل القرآن، ما لم تؤمن بهذا الخالق العظيم من خلال خلقه في السماوات والأرض، ومن خلال خلقه في النفس البشرية، لن تستطيع أن تعرف الله.
أيها الإخوة، سواء كنت مؤمناً عادياً فلا بد أن تعرف الله كي تحملك هذه المعرفة على طاعته، إذا كنت مؤمناً عادياً لا بد أن تزكو نفسك، هل تحقد؟ هل تتمنى أن تزول عن أخيك نعمة لتصبح لك؟ هل تأخذ ما ليس لك؟ هل تكذب؟ هل تحتال على أخذ ما ليس لك؟ هل تملأ عينيك من الحرام؟ إذاً أنت لست في المستوى الذي أراده الله.
أحياناً بعض المسلمين يعتبون على الله في أنفسهم، لماذا ربنا هكذا؟ لمَ لمْ يكن معنا؟ لمَ لا يظهرنا على أعدائنا؟ لمَ لا يحقق لنا نصراً مُؤزّراً؟ فالجواب: العباد جميعاً عباده، وهذا الذي ينتمي إلى الله، هذا الذي محسوب على الله، لا يمكن أن يتنزل عليه نصر الله إلا إذا كان كما يريد الله عز وجل: "عبدي، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، أنت تريد، وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد" .
لا لإيمان إبليس :
أتمنى على الله عز وجل أن تكون هذه الآية التي كانت محور الدرس الماضي، مع هذا التعليق اليوم أن تكون هذه الآية باعثاً لنا على معرفة الله، ثم على تزكية النفس، راقب نفسك، سيدنا عمر قال: <<تعهد قلبك>> راقب نفسك، حينما تعصي الله معنى ذلك أن إيمانك لم يكن كافياً بحيث يحملك على طاعة الله، سمّه إن شئت إيماناً إبليسياً، قال تعالى على لسان إبليس:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
قال: خلقتني، آمن بالله خالقاً، قال:
﴿ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)﴾
آمن بالآخرة، ومع ذلك مستوى إيمانه بهذه القضايا الكبرى أن الله خالق، وعزيز، ورب، والدار الآخرة، أن مستوى إيمانه بهذه القضايا الكبرى لم يكن كافياً ليحمل صاحبه على طاعة الله عز وجل، ثم يقول الله عز وجل:
﴿ أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ قَدِيرٌ (165)﴾
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم
العاقل يبحث عن سبب المصيبة:
والله لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفت: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ﴾ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
(( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. ))
[ مسلم، الترمذي، ابن ماجه، أحمد ]
هناك كلام دقيق سأقوله لكم، وقلته مراراً: لا يمكن لإنسان فيه ذرة عقل أن يتلقى ضربة بعصا، ثم يحقد على العصا، العصا لا علاقة لها، العصا أداة، إذا كان عاقلاً، وتلقى ضربة بعصا فالعصا لا يُحقد عليها، لأنها أداة ليس غير، ينبغي أن يحقد على الضارب الذي استخدم هذه الأداة، فإذا كان الضارب هو الله جل جلاله، وهو صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى رجعت الكُرة إلى ملعبه، عنده مشكلة، وكل إنسان على شيء من العقل ما من مصيبة تصيبه إلا ويبحث عن أسباب لها من عنده.
وهذه (لو) المسموح بها في العقيدة، لو لم آكل هذا المال الحرام لما دُمِّر مالي، لو لم أسترق النظر إلى النساء لمَا نشأ خلاف بيني وبين زوجتي، لو اعتنيت بأولادي عناية بالغة لما عقّوني الآن، كلام دقيق، كل أدوات الشر في الكون يمكن أن تصفها بأنها عِصيٌّ بيد الله، رجال أقوياء عِصيٌّ بيد الله، أمراض، جراثيم، فيروسات، هدم، حرق، جفاف، أي شيء يزعجنا هو أداة تأديبية بيد الله عز وجل.
التأديب الإلهي أنواع كثيرة :
المشكلة أن الإنسان حينما يستحق التأديب يأتيه التأديب من مصادر لا تعد ولا تحصى، لا قيمة لهذا التنوع في التأديب، القيمة والخطورة أن هذه الأمة فعلت ما يوجب التأديب، هذا على مستوى أمم، وعلى مستوى أفراد، أي يوجد عند الله عز وجل آلاف الأدوية المُرّة، يوجد مرض، والمرض مخيف، يوجد مشكلة زوجية، يوجد مشكلة مع أولادك، يوجد مشكلة في عملك، فالإنسان حينما يرتكب ما يوجِب التأديب مهما سدّ الثغرات يأتيه التأديب من حيث لا يشعر، وهذا الذي جرى قبل شهر تقريباً في العالم الغربي هو تأديب من الله عز وجل، لأنهم قالوا:
﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ(15)﴾
فالتأديب موجود في كل مكان في العالم، فالعبرة ألاّ تصل مع الله إلى مرحلة وجوب التأديب.
أنت في بحبوحتين؛ في بحبوحة تطبيق منهج الله:
﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(33)﴾
وفي بحبوحة الاستغفار، إن لم يكن هناك تطبيق، ولا استغفار، وفعلت ما يوجب التأديب فلا بد أن يكون التأديب:
﴿ لهُۥ مُعَقِّبَٰتٌ مِّنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ يَحْفَظُونَهُۥ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ(11)﴾
يؤتَى الحذر من مأمنه، لا ينفع حذرٌ من قدر، إذا أراد الله إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لبٍّ لُبَّه.
أحياناً الكافر على ذكائه الشديد يجمع، ويطرح، ويقسّم، ثم يجعل الله تدميره في تدبيره، أحياناً يستدرجه من الغرب إلى الشرق لتكون مصيبته في الشرق، فلا ينفع حذر من قدر، لا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ يا رب، مع الله لا يوجد ذكي، لا يوجد قوي معه، الله القوي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
(( الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ. ))
﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ﴾ وما أصابكم من، "من" هنا لها إعراب دقيق جداً، هذه "من" تفيد استغراق أفراد النوع، مثلاً: إذا قلت لأحدهم: أتدخل معي شريكاً في مشروع مدرسة خاصة؟ قال لك: كم تكلف؟ قلت له: عشرة ملايين، يقول لك: ما عندي مال لهذا المشروع، معنى ذلك أن ليس لديه خمسة ملايين، قد يكون معه مليون، فقد قال: ما عندي مالٌ لهذا المشروع، بينما لو قال لك: ما مِن مال عندي، أي ولا ليرة سورية، "من" تفيد استغراق أفراد النوع.
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ
دقق في قوله تعالى:
﴿ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍۢ(30)﴾
انتهى الأمر، الكرة رُدّت إليك، فلا تحقد على أحد، ولا تندب حظك، هناك أمهات كثيرا يقلن: مسكينة ابنتي، ليس لها حظ، ما هذا الحظ؟ لا يوجد حظ في الإسلام، هناك توفيق وعدم توفيق، هناك إكرام وتأديب فقط، وتيسير وتعسير، لا يوجد حظ، هناك حظ بمعنى آخر:
﴿ وَلَا تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُ ۚ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُۥ وَلِىٌّ حَمِيمٌ(34) وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍۢ (35)﴾
مَن كان له حظ عظيم مِن الله يمكن أن يصبر.
﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٌ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ قَدِيرٌ﴾ فالمؤمن دائماً، وأبداً كلما أصابته ضائقة يراجع حساباته الداخلية، لا مشكلة عنده، طبعاً يقف موقفاً حكيماً مع الناس، لو أن سائقاً أرعن أساء إلى ابنه يوقفه عند حدّه، ويشتكي عليه كي يردعه عن عنفوانه، وعن طيشه في القيادة، لكن لا يحقد عليه: ﴿ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ .
(( ما مِن عَثرةٍ ولا اختلاجِ عرقٍ، ولا خَدشِ عودٍ إلَّا بما قدَّمت أيديكُم، وما يغفِرُ اللهُ أكثرُ. ))
هذه الفكرة في الدين رائعة جداً، أي لم يعد هناك حقد، هناك شعور أن ثمة محاسبة ذاتية، لمَ كان ذلك؟ لأنك فعلت كذا، والله عز وجل كأنه تولى أن يُلقي في روع كل مؤمن سبب المصيبة:
﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ(11)﴾
إلى حكمتها، إلى سببها، والمؤمن على فطنة عالية، إن جاءته الأمور كما لا يشتهي يبحث عن سبب فيه، إن جاءته كما يشتهي يقول: الحمد لله، إن جاءت على ما لا يشتهي يسأل نفسه لماذا؟ لماذا حُرِمت هذا؟ لماذا تعسّر هذا؟ لماذا فقدت رزقي؟ طبعاً إن لم يجد سبباً عليه أن يستسلم، لكن في الأعمّ الأغلب يجد السبب.
الملف مدقق