الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع والأربعين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الرابعة والخمسين بعد المئة، وقد شُرِح بعضها، ووقفنا في ثناياها عند قوله سبحانه:
﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةً مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٌ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٍۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (154)﴾
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُم
يقول الله عز وجل في مطلع هذه الآية: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةً مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٌ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ﴾
1 ـ الأمن والخوف مرتبطان بطاعة الله:
فالذي أطاع رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألقى الله في قلبه الأمن، والذي لم يُطِع رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألقى الله في قلبه الخوف، إذاً الأمن والخوف متعلقان بطاعة الله عز وجل، ألم يقل الله عز وجل:
﴿ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ (173) فَٱنقَلَبُواْ بِنِعۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٍ لَّمۡ يَمۡسَسۡهُمۡ سُوٓءٌ وَٱتَّبَعُواْ رِضۡوَٰنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَظِيمٍ (174)﴾
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (175)﴾
إن خفت من الله لن تخاف من عبيده، وإن لم تخف منه أخافك من عبيده، انخلع قلبك من عبيده.
2 ـ ظن السوء بالله ينعكس سلبا على العقيدة والسلوك:
﴿وَطَآئِفَةٌ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ﴾ وقد بينت في درسين سابقين تفاصيل أن تظن بالله غير الحق، أن تظن أنه لا ينصر رسوله ولا المؤمنين، يضيّع على المؤمن عمله، ويستوي عنده الذي عصاه، والذي آمن به، هذا كله يُعد ظن سوء، ولو أنه ظنٌّ ليس غير لمَا كان هناك من مشكلة، ولكن هذا الظن سيُردي صاحبه، وسيهلكه، وما من شيء تعتقده خطأ إلا وله انعكاس خطير في سلوكك، المحاسبة على السلوك، أن تعتقد عقيدة زائغة، أو أن تتوهم وهماً هذا له انعكاس خطير في السلوك.
3 ـ اختلاف الصحابة في الخروج للقتال أو البقاء في المدينة:
﴿يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٍۗ﴾ بعضهم اقترح على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبقى في المدينة، ولكن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استجاب لنفر من أصحاب رسول الله الذين أرادوا أن يلقَوا العدو خارج المدينة، فارتدى درعه وخرج، لما شعروا أنهم طلبوا منه شيئاً لعله لا يريده، خجلوا، فكان عليه الصلاة والسلام إذا سار لم يلتفت، فخرج، والتقى بالعدو في أُحُد، هؤلاء المنافقون الذين آلمهم ما حصل قالوا: ﴿هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٍۗ﴾
4 ـ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
يعني ما سمع كلامنا، ولا استجاب لنصحنا.
﴿ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ﴾ الأمر كله لله، بالمناسبة هنا محل ذكر أنّ الشيء إذا وقع أراده الله، بصرف النظر عن أن الذي أوقعه كان مريداً، أو غير مريد، حكيماً كان، أو غير حكيم، صالحاً كان أو طالحاً، خيِّراً كان أو مجرماً، ما دام وقع الذي وقع فقد أراده الله، هذا نظام التوحيد، لا يقع شيء في ملكه إلا إذا أراده.
﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ﴾ هذه الفكرة وحدها أيها الإخوة تجعلك لا تندم أبداً، ما دام الشيء وقع أراده الله، لحكمة أعرفها أو لا أعرفها.
﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ﴾ لأن النبي خرج إليهم، والتقى بهم، ولم يحصل ما نريد من النصر، الله عز وجل قال:
﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ(140)﴾
لو أنّ الله كتب النصر المستمر للمسلمين إلى أبد الآبدين لدخل في الإسلام كلّ منافقي الأرض، ولو أنه كتب عليهم ألّا يتنصروا لانفضَّ عنه كل أهل الأرض، قال الله: ﴿وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ﴾ يعني في الحياة الدنيا تارة تنتصر، وإذا كان هناك خطأ لا تنتصر.
5 ـ إن لم ننتصر فهناك خلل فينا تجب مراجعته:
الآن محل الإشارة إلى فكرة خطيرة جداً: المؤمن لا يخاف، وحينما يخاف الله، ولا يخاف عباده أو عبيده، يلقي الله في قلبه الأمن ويحفظه، لكن لو أن إنسانًا فهِمَ هذا الكلام ولم يتعمق به فجاءت ضربت مؤلمة لمجتمع مسلم بعد هذه التهديدات ماذا نقول؟ نقول: الشيء الذي وقع أراده الله، ونصرُ الله يتنزل على المؤمنين الذين يستحقونه، أما أنصاف المؤمنين، أما أرباع المؤمنين، أما أثلاث المؤمنين، أما أخماس المؤمنين، أما أسداس المؤمنين، أما أعشار المؤمنين، أما أصفار المؤمنين فهؤلاء ليسوا أهلاً أن يتنزّل عليهم نصر الله، نقول لهم: راجِعوا إيمانكم، وراجِعوا عقيدتكم، راجعوا توحيدكم، ثم راجعوا سلوككم، ودققوا في حركاتكم، وسكَناتكم، دققوا في بيوتكم، في متاجركم، أنا أقول كلامًا أصوليًّا، إنّ الله عز وجل ينصر الذين آمنوا.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة.
﴿ ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَٰفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوٓاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۚ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)﴾
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ(173)﴾
هذه كلها وعود، وزوال الكون أهون على الله من ألاّ تُحقَّق، لكن لا تُحقَّق إلا لمن هو أهلٌ لها، هؤلاء الذين أهمَّتْهم أنفسهم: ﴿يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٍۗ﴾ يعنون أن النبي لم يستمع إلينا، فكان الذي كان، إذاً أدخلوا كلمة لو، وكلمة لو تفتح عمل الشيطان.
(( فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَني فَعَلْتُ كَذَا كانَ كَذَا وَكَذَا، وَ لَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَما شاء فَعَلَ فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ. ))
ولكن هناك لو إيجابية واحدة سُمِح بها، إنسان تعامل بالربا، فألتفَ الله ماله، فإذا قال: لو لم أتعامل بالربا لحفظَ الله مالي، هذا كلام صحيح، إنسان سمح بالاختلاط في بيته، فخانته زوجته، فإذا قال: لو لم أسمح لم تخنِّي زوجتي، هذا كلام صحيح، هذه سماها العلماء لو الإيجابية، وهي مسموح بها.
﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٍۗ﴾ جاء الجواب الإلهي: ﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ﴾
الجواب الإلهي : كل شيء بقضاء وقدَرٍ:
لو أنه استمع إلينا، ونفّذ نُصحنا: ﴿مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ﴾ هناك قصة رمزية، إنسان سيسافر إلى بلد بعيد بالطائرة، أمه رأت في المنام أن هذه الطائرة سوف تحترق، وتسقط، لذلك تعمدت ألا توقظه في الوقت المناسب، وعدته أن توقظَه، ولم توقظْه ليَسلمَ من هذا الحادث الأليم، بعد أن مضى بعضٌ من النهار دخلت إلى غرفته فرأته ميتًا، أرادت أن تخلّصه من موت مُحقق بالطائرة فمات في فراشه، لذلك قطع الله عز وجل سلطان البشر عن الرزق والأجل، من هنا نقول: كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرّب أجلاً.
سيدنا خالد رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ مات على فراشه، قال: <<خضت مئة معركة، وما في جسمي موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراش كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء>> .
﴿يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ إذاً: أمضينا درسين بفضل الله تعالى في الظن السوء، وظن السوء يقود إلى الكفر، وظن السوء يُردي الإنسان، والمؤمن يُحسِن الظن بالله عز وجل، والمؤمن يحسن الظن بالله، وبأوليائه، من الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، لذلك حينما توقن أن الله حكيم فلا تقع في حيرة من أمرك، حينما تسمع أخباراً مخيفة، لحكمة أرادها الله "ليبتلي" ليمتحن: ﴿وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ﴾ أي ليطهركم.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
﴿وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ إنّ الله يعلم، وأنت لا تعلم، قال بعض الصحابة: علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
﴿ وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِى ٱلْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3)﴾
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
الذي خفي عنك يعلمه الله عز وجل، والدليل قوله تعالى:
﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُ ۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۚ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)﴾
لا بد من امتحان للفرز والتمحيص:
لا بد أن يمتحن الله عز وجل، ومع الامتحان يكون الفرز، الهجرة امتحان وفرز، حديث الإسراء والمعراج الذي أخبر النبيُّ به أصحابَه امتحان وفرز، بعض من كان مع النبي ارتد عن الإسلام، غير معقول أن يذهب إلى بيت المقدس، وأن يصعد إلى السماء، وفراشه ساخن! فبعض الأحاديث هي امتحان وفرز، والهجرة امتحان وفرز، ومعركة الخندق امتحان وفرز، قال تعالى:
﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ(10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا(12)﴾
لابد أن يكون المؤمن واثقا في نصر الله له:
والله في هذه الأيام العصيبة هناك من يقول: انتهى الإسلام، الآن معركة ضد جميع المسلمين في العالم، والطرف القوي لا يرحم، قوي جداً معه من أنواع الأسلحة الذرية، والنووية، والكيمائية، والجرثومية، وما إلى ذلك، والمسلمون ضعاف، عزل، فقراء، عندهم جفاف، هكذا نستمع، هذا الذي إيمانه ضعيف يقول: انتهى الإسلام.
أما سراقة حينما اتبع النبي ليقتله، ولينال مئة ناقة كجائزة، قال له النبي الكريم، والنبي مطارد، وقد أُهدِر دمه، وقد وُضِع لمن يأتي به مئة ناقة، جائزة قال له: (كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى) ما هذا الكلام؟ إنسان مطارد، مهدور دمه، لعل يقتل بين ساعة أو أخرى (كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى) كأنه يقول: أنا سأصل المدينة، وسأنشئ دولة، وستحارب هذه الدولة أضخم دولة في العالم، وسوف ننتصر عليها، وسوف نأتي بكنوزها، ويا سراقة الذي تتبعني لتقتلني (كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى) ما معنى ذلك؟ أن النبي عليه الصلاة والسلام واثق من نصر الله له، وكذلك المؤمن، المؤمن لا يخضع لتضليلات إعلام الغرب، الإعلام الغربي يضلل، ويغسل الأدمغة، ويخيف، ويملأ القلوب خوفاً، كي نقعد، كي نستسلم، كي نبقى سوقاً لهم، كي يغتنوا عن طريقنا، ولكن المؤمن لا يخاف إلا من الله.
دقق مرة ثانية بقدر خوفك الله فأنت موحد، وبقدر خوفك من خلقه فأنت مشرك.
﴿ إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)﴾
يعني علامة إيمانكم أنكم تخافونني ولا تخافونهم، فإذا خفتوهم، ولم تخافوني، فهذا دليل الشرك.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
1 ـ الله يعاتب الذين تولوا في غزوة أُحد:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)﴾
الشيطان، كما قال الله عز وجل :
﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ(42)﴾
2 ـ الشيطان يتحيّن أدنى فرصةِ ضعفٍ في الإنسان:
الشيطان كبعض الحشرات يشم رائحة فيأتي، إن رأى في الإنسان ضعفاً، حباً للدنيا، تكاسلاً عن عبادة الله، خوفاً من غير الله، فبمخالفة بسيطة يأتي، وحينما يخالف الإنسان أمرَ الله يضعف، فإذا ضعف مكّن منه الشيطان.
مثلاً: تريد أن تصلي السنة والفرض، اترك السنة، يأتي وقت تترك الفرض، السنة حصن، إن رآك متهاونًا في السنة أغراك أن تترك الفرض، أما إن رآك محافظًا على السنة يئس من أن تتبعه.
3 ـ معنى : اسْتَزَلَّهُمْ
قال: ﴿إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ﴾ استزلهم الشيطان يعني جعلهم يزِلّون، جعلهم يخطئون.
4 ـ عفو الله عن الذين عصوا في غزو أحد:
﴿وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ هنا إشارة لطيفة إلى أن هؤلاء الذين عصوا أمر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لماذا صلى النبي عليهم، عصوا أمر النبي فقُتلوا طبعاً، لماذا صلى عليهم؟ قال علماء التفسير: لأنهم عصوا أمراً تنظيماً، ولم يعصوا أمراً تشريعياً، يعني اجتهدوا أن النبي أمرنا أن نقف هنا كي ندافع عن المسلمين فلما انتصرنا، وتوهموا أنهم قد انتصروا نزلوا، فليس هناك رغبة، أو نية في إيقاع الأذى بالمؤمنين، لكنهم عصَوا، وكان من جزاء عصيانهم أن الله لم ينصر مجموع المسلمين.
دائماً وأبداً أيها الإخوة نحن في قارب واحد، هذا كلام بليغ، والنبي من أحاديثه الرائعة أنه مَثّل لهذه الحقيقة، فعن النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :
(( مَثَلُ الْقَائمِ عَلَى حُدُودِ الله وَالمُدْهِنِ فِيهَا كَمثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ في الْبَحْرِ، فَأَصَابَ بَعْضِهُمْ أَعْلاَهَا وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الّذِينَ في أَسْفَلهَا يَصْعَدُونَ فَيَسْتَقُونَ الْمَاءَ فَيَصُبّونَ عَلَى الّذِينَ في أَعْلاَهَا، فَقَالَ الّذِينَ في أَعْلاَهَا: لاَ نَدَعُكُمْ تَصْعَدُونَ فَتُؤْذُونَنَا، فَقَالَ الّذِينَ في أَسْفَلِهَا: فَإِنّا نَنْقُبُهَا في أَسْفَلِهَا فَنَسْتَقِي، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ فَمَنَعُوهُمْ نَجَوْا جَمِيعاً، وإنْ تَرَكُوهُمْ غَرِقُوا جَمِيعاً. ))
ونحن في قارب واحد، إذاً: ينبغي أن نتعاون، وينبغي أن نتناصح، والطرف الآخَر لا تعنيه فئاتنا وجماعاتنا، بل يعنيه مجموعنا، لذلك ينبغي أن نكون متعاونين، كلما عصى الإنسان ربه دخل الشيطان، وأغراه بمعصية أكبر.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ ثم قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزًّى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةً فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ (156)﴾
لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا
1 ـ شنشنةٌ نعرفها من أخزم:
أحيانًا يعمل إنسان عملاً صالحًا، فتأتيه متاعب، المنافق يشمت به، نصحتك ألا تفعل هذا، نصحتك ألا تحضر درساً دينياً، نصحتك ألا تفعل كذا، نصحتك ألا تقول هذه الكلمة، نصحتك ألا تخطب، ما لك وللناس، المنافق شأنه أن يشمت، لذلك مَن اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، فإذا ألمّت بك -لا سمح الله ولا قدّر- مشكلة فإياك أن تشكو همك لكافر، أول كلمة يقولها لك: ألم أنصحك ألا تفعل هذا.
2 ـ شأن المنافق والكافر الشماتة بالمؤمنين:
أنا أرجو من أخ كريم إذا فعل خيراً ألا يندم، والله الذي لا إله إلا هو حينما أرى أخاً مؤمناً فعل خيرًا، ثم ندم أتألم عليه، أنت لا تعرف الله، تفعل خيراً وتندم، تكون عفيفاً وتندم، تكون ورِعاً وتندم، تدعُ شيئاً حراماً وتندم، كأنك فعلته، لذلك قالوا: من غاب عن معصية فأقرها كان كمن شهدها، ما قولك برجلٍ في (ألاسكا)، هذه بأعلى نقطة في الأرض، أو بأستراليا، أو بأخفض نقطة عمل عملاً لا يرضي الله، وأنت قلت، وأنت في الشام: والله دبّر أمره، عمل طيبًا، حينما أقررته على هذا العمل كأنك فعلته، ومن شهد معصية فأنكرها كان كمن غاب عنها، شأن الكافر والمنافق أنهما يشمتان بالمؤمن، لذلك لا تُرِ الطرف الآخر منك ضعفاً، لا تشكُ إليه همك، اشكُ همك لمؤمن، أما الطرف الآخر فكن قوياً أمامه، تجلّد، تجلّد أمامه، يمكن أن تشكو همّك لمؤمن، أما أن تنهار أمام كافر، ماذا يفعل معك؟ يشمت بك، ويعنّفك، ويلومك، ويحملك على أن تندم على عمل طيب، قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزًّى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ﴾
ضربوا في الأرض، أي سافروا ابتغاء فضل الله، الإنسان أحياناً يضيق رزقه في بلده، فيضرب في الأرض، ويسافر يبتغي الرزق، أو كانوا في غزوة لنشر الحق، إن رأيت إنسانًا سافر يبتغي الرزق الحلال، وقد ضاق به الرزق في بلده فهو ضارب في الأرض.
أهمية الولاء والبراء عند المؤمن:
لكن بالمناسبة، إذا كنت في بلد مسلم كهذا البلد الطيب، ولك دخلٌ يكفيك، وزوجتك وأولادك معك، وبإمكانك أن تؤدي شعائر الله أداء كاملاً، وأن يكون ابنك في المسجد، وأن تسمع الأذان، من أجل أن ترفع مستوى معيشتك، من أجل أن ترفع مستوى إنفاقك، تذهب إلى بلاد الكفر، وتقيم معهم إقامة دائمة، وتندمج بهم، وتثني عليهم، وتمدحهم، وبالمقابل تزدري أمتك، وتزدري وطنك، وتضيّع مستقبل أبنائك، وأنت في الأعم الأغلب لست ضامنًا أن يكون ابنك مسلمًا فضلاً عن أن يكون ابن ابنك مسلمًا، فضلاً عن أن يكون ابن ابْن ابنك مسلمًا، فهؤلاء ينبغي أن ينتبهوا، لذلك الولاء والبراء شيء مهم جداً في الدين، فينبغي أن توالي المؤمنين، ولو كانوا فقراء وضعفاء، وينبغي أن تتبرّأ من الكفار والمنافقين، ولو كانوا أقوياء وأغنياء، وهؤلاء الأقوياء يتمتعون بحياة راقية جداً في وهْمِ الناس، فلما أصابهم ما أصابهم انقلبوا وحوشاً.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزًّى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةً فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ (156)﴾
4 ـ إيّاك من كلمة ( لو )فإنها تحرق القلب ، ولا تغيّر من الواقع شيئا:
لذلك أشد حالات الألم حالات الندم ، كلمة (لو) من إنسان غير مؤمن هذه تحرق القلب، لو فعلت كذا، لو اشتريت هذا البيت، لو تزوجت هذه المرأة، لو لم أرتكب حماقة لكنت كذا وكذا، قال:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُواْ غُزًّى لَّوۡ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ حَسۡرَةً فِي قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡرٌ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ (157)﴾
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون
﴿وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ﴾ الآن دقق: إذا مات رجل في معركة في سبيل الله، أو مات في سفر، وكان مؤمناً، وكان مُوحِّداً، وكان مخلصاً، وله عمل طيب ﴿وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡرٌ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ﴾
دقق في كلمة ﴿يَجۡمَعُونَ﴾ الإنسان يتاجر، يربح، يشتري بيتًا، يشتري مركبة، يتزوج، يهيّئ أموره، بعد مراحل مديدة بالتجارة ينتقل إلى شيء اسمه الجمع، تجاوز موضوع رزقه، وموضوع تأمين بيت لأولاده، وتزويج أولاده، وتجاوزَ موضوع طعامه وشرابه، وموضوع ثيابه، هذا كله صار عنده منه ما يكفيه حتى الموت، يدخل في متاهة الجمع، يتنافس مع بقية التجار، أنت كم مئة مليون جمّعت هذه السنة؟ أنا جمّعت ثلاثة مئة مليون، هذا هو الجمع، والجمع هو الكسب، والكسب ليس لك، تُحاسَب عليه ولا تنتفع به، ما الذي لك؟ هو الرزق، ما الرزق؟ الذي أكلته، والذي لبسته، والذي تصدقت به:
(( وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلاّ ما تَصَدّقْتَ فأمْضَيْتَ؟ أَوْ أَكَلْتَ فأفْنَيْتَ؟ أَو لَبست فأبْلَيْتَ؟ ))
هذا هو الرزق، الذي تنتفع به، تنتفع بجزأين في الدنيا، وليس له أثر مستقبلي، أكلت، الآن إذا شخص عُزِم مئة عزيمة، وفي كل عزيمة أرقى أنواع الولائم، وفي إحدى الليالي آلمه سنه ألماً لا يُحتمل، لو أنه استرجع بذاكرته الطعام الذي أكله في الوليمة السابقة، والتي قبلها، والتي قبلها، هل يزول هذا الألم؟ أبداً، هو شيء آني،
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
ومتاع الدنيا قليل، والله عز وجل يخبرنا أنْ يا محمد قل لهم: متاع الدنيا قليل، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْـًٔا ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(39)﴾
فلذلك: ﴿وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡرٌ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ﴾
2 ـ جمعت كلَّ شيء من الدنيا ثم ماذا؟
هؤلاء الذين يجمعون، بعد أن جمعوا الأموال أين هم؟ في القبور، ما بعد هذا المال الكبير الكثير إلا القبر، لذلك مرة ألقيت درسًا من فضل الله عنونته: ثم ماذا، جمعت أكبر ثروة في الأرض، ثم ماذا؟ الموت بعدها، ارتقيت إلى أعلى مكانة في الأرض، ثم ماذا؟ الموت، جمعت أكثر الناس حولك، ثم ماذا؟ الموت، الموت ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، وصحة الصحيح، ومرض المريض، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، ينهي كل شيء.
﴿ وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡرٌ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ (158)﴾
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُون
1 ـ لسان حال المسلمين : وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين
أيها الإخوة الكرام، قبل أسبوعين أو أكثر، بيّنت أن التكذيب بالآخرة نوعان؛ تكذيب قولي، وتكذيب عملي، ربما لا تجد مسلمًا في العالم الإسلامي يكذب بالآخرة تكذيباً قولياً، ولكن والله الذي لا إله إلا هو، إنّ معظم المسلمين يكذبون بها تكذيباً عملياً، كيف؟ الذي يغش المسلمين ليزداد ربحه، هل أدخل الآخرة في حسابه؟ هل علم أن الله عز وجل سيوقفه ليسأله: لمَ فعلت هذا؟ الذي يفعل المعاصي والآثام، ويأكل الأموال الحرام، ويعتدي على الأعراض، ويغتاب الناس، ويصلي في المسجد، هذا الذي يسافر فيزني، يسافر فيشرب الخمر، وهو من المصلين في المسجد، هذا هل أدخل في حسابه الآخرة؟ أبداً، لذلك أحد العلماء قال كلمة أعجبتني: حينما ألتقي بالمسلمين وكأن لسان حالهم يقول:
﴿ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)﴾
لا يمكن أن تؤمن أن هناك حساب بالمثاقيل، وتغتصب هذا البيت، وتغتصب هذه الشركة، وتطلق امرأتك طلاقاً تعسفياً، هذا مستحيل، لذلك الشيء الخطير ليس التكذيب القولي، التكذيب العملي.
زرتَ طبيبًا، ولم تقنَع بعلمه، لكنك لطيف، اجتماعي ومهذب، أدّيتَ له الأجرة، وصافحته، وأثنيت عليه، وشددْتَ على يديه، وأثنيت على علمه، ولم تشترِ الدواء إطلاقاً، ولم تعبأ به، السلوك هو الأصل، هذا كلام مجاملة، كلام ذكاء، أما أنت لم تشترِ الدواء، لأنك لست قانعاً بعلمه، أنت تكذبه مع أنك تثني عليه.
دققوا في هذه الناحية، هذا الذي يأكل المال الحرام، يغش المسلمين، وأنواع الغش الآن لا تعد ولا تحصى، يبيع المواد المُحرّمة، يضع المواد المسرطنة الضارة كي يتضاعف ربحه، يتعامل مع الشيطان من أجل أن يربح، يعرض النساء كاسيات عاريات كمُعلِنات على بضاعته، من أجل أن يربح، هذا لو أنه صلى في المسجد، لسان حاله يقول: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ وما عنده إلا الدنيا، لا تعبأ بالتكذيب القولي، لا أحد يكذب بالآخرة قولياً، ولكن انظر إلى عمله، هذا الذي يسمح لابنته أن تكون في الطريق كاسية عارية، كاسية ترتدي ثيابًا ضيقة تصف حجم جسمها، أو ثيابًا رقيقة، وهي تثير الفتنة في الطريق، وهي مسلمة، وأبوها مسلم، وأخوها مسلم، هذا الذي يسمح لبناته أن يكنّ هكذا، هذا أدخل في حسابه الآخرة؟ علِم أن هذه الفتاة سوف تقف أمام الله يوم القيامة، وتقول: يا رب، لا أدخل النار حتى أُدخِل أبي قبلي، هو سبب فسادي.
هذه الأم المحجبة التي تمشي في الطريق، وابنتها شبه عارية تمشي إلى جانبها، لا سلطان لها عليها أبداً! أين التربية والتوجيه؟ أين تلقين العلم الشرعي، أين البيت المسلم الذي ضبطها؟
لذلك أيها الإخوة، قضية التكذيب بالآخرة قلّمَا تجد في العالم الإسلامي كله واحدًا يقول لك: ليس هناك آخرة، لا، لكن لا يعدّ مُصدّقاً بالآخرة إلا من كان عمله منسجمًا معها، وترك دانق من حرام خير من ثمانين حَجّةً بعد الإسلام.
فمن مشاكل المسلمين أن يكون لأحدهم لدى الآخر مثلاً: مئة ألف، ومئتا ألف، وخمسة ملايين، ولا يعطيه ما له، ولو شاء فليرفع قضية في المحكمة.
لذلك أيها الإخوة، لعل الله سبحانه وتعالى لا ينصرنا بما نحن فيه من ضياع، لعلكم تظنون أن الصلاة وحدها هي الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل دخل المسجد فصلى:
(( ارجع فصلِّ، فإنّك لمْ تُصلِّ. ))
لا تستطيع أن تتصل بالله إلا إذا كنت مستقيمًا على أمره، إلا إذا كنت وقّافًا عند حدود الله، إلا إذا كان دخلك حلالاً، وإنفاقك حلالاً، فلذلك: ﴿وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ﴾ .
2 ـ موتٌ أو قتل، بعده الرجوع إلى الله وحده:
مرة كنت في بلد إسلامي، وقرأت قصة عالم جليل، ألّف كُتيِّباً صغيراً عن تقليد الأعاجم، لغطاء الرأس (برنيطة) هذا الرجل منع ارتداء العمامة والثياب الإسلامية، فلما وُجد هذا الكتاب وُضع صاحبه في السجن، الكتاب أُلِّف بموافقة الحكومة، ونُشِر وطُبِع بموافقتها، لكن بعد حين مُنِع هذا الزّي، فعكفَ على كتابة مرافعة، هذا العالم الجليل وهو في السجن -الذي يتكلم هذه القصة من كان معه في السجن- عكف على كتابة مرافعة في ثمانين صفحة، يقول هذا الرجل: في أحد الأيام استيقظ هذا العالم الجليل، وهو في السجن مستبشراً، ومزق كل هذه المرافعة، ماذا فعلت؟ تكتبها من أسبوعين أو ثلاثة، قال: رأيت رسول الله، وقال لي: أنت ضيفنا غداً، ما لي ولها؟ في اليوم الثاني قُتل، أُعدم، فإذا كان لك عمل للآخرة فما هذه الدنيا؟ الشيء الغريب أن الصحابة الكرام كانت أسعد لحظات حياتهم عندما غادروا الدنيا، الآن اسأل طبيب قلبٍ، أو اسأل ركاب طائرةٍ كادت أن تسقط، تجد الهلع والجزع، إذا لم يكن عند الإنسان رصيد للآخرة ينخلع قلبه من ذكر ألفاظ الموت.
حدثني أخ مُضيف طائرة من إخواننا، كان في طائرة حلّقت فوق باريس، ودخلت في سحابة مُكهرَبة، وحُطِّمت مقدمتها، وتحطم جهاز الرادار فيها، وكُسِر بعض النوافذ، وكان احتمال سقوطها 99%، قال لي: دخلت على الركاب وهم يضربون وجوههم، ويندبون وجوههم، ويبكون على أولادهم وزوجاتهم، ويصرخون، قال له الطيار هدِّئهم، قال: لم يستمع لي أحد، فرأى رجلاً منهم هادئًا في أحد المقاعد، فقال: لعل هذا عنده أعصاب قوية، يهدئهم، ذهب إليه، فإذا هو مغمًى عليه، هذا الوحيد.
العبرة أن يكون لك عمل في الآخرة، بمال دفعته، بطاعة قدمتها، بدعوة أقمتها، بميتم بنيته، بكتاب ألفته، بتربية أولاد، فملامح الموت ترتعد منها مفاصله، وينهدّ كيانه، على كلمة: ﴿وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ﴾ ماذا بعد ذلك؟ قال: ﴿لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ﴾
3 ـ ساعة الموت أحلى لحظة عند المؤمن الصادق :
دقق في المؤمنين، عند موتهم أحلى ساعات حياتهم، الموت تحفة المؤمن.
مرة ركّبت مثلاً تركيبًا، قلنا لأحدهم: أنت فقير جداً، ائتِ بدكتوراه لتكون أغنى إنسان، وأرقى إنسان في هذا البلد، فذهب إلى بلاد الغرب، اشتغل حارسًا، اشتغل عاملاً في مطعم، أعمال مُهينة، مُتعِبة ومُشقية، والدخل قليل، ودرس عشر سنوات، أخذ دكتوراه، صدّق الشهادة، صدّقها بالخارجية، وصوّرها، وقطع تذكرة عودة، ودخل إلى المطار، وأُعطِي بطاقة الصعود، ووضع رِجله على سلّم الطائرة، انتهى زمن التعب، زمن الشقاء، زمن الفقر، زمن القهر، هذا كله انتهى الآن، الآن سيتسلّم أعلى منصب في بلده، سيكون أغنى إنسان، يسكن أجمل بيت، ويتزوج أجمل امرأة، ويركب أجمل مركبة، هو مَثَلٌ تركيبي، حينما يضع رِجله على سلّم الطائرة أليست هذه أسعد لحظات حياته، هذا الموت عند المؤمن، وكل هذا العمر لهذه الساعة، يغض بصره، يضبط لسانه، ينفق ماله، يصلي الفجر، يصلي قيام الليل، يتحمّل متاعب الناس، كله في سبيل الله، يحرم نفسه أشياء محببة جداً، لكن لا ترضي الله، والناس يعيشون لشهواتهم، هذه لا ترضي الله، يتركها، قد يأكل طعاماً خشناً، ويسكن بيتًا بأجرة، وكان بإمكانه لو مدّ يده للحرام أن يسكن أجمل بيت، وأن يركب أجمل مركبة، لكنه آثر طاعة الله عز وجل، هذا الإنسان إذا جاءه ملَك الموت، أو اقترب منه فهو في أسعد لحظات حياته، هذا معنى الآية: ﴿وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ﴾ .
يقول هذا الذي في السجن: ما رأيت في حياتي إنسانًا -له كتيب صغير قرأته- ما رأيت في حياتي إنسانًا سعيدًا، مستبشرًا، ومنطلقًا إلا هذا الإنسان، مزّق المُذكّرة ثمانين صفحة لم يعد في حاجة إليها، وفي اليوم الثاني غادر الدنيا إلى الله عز وجل.
كل بطولتك، كل ذكائك، كل توفيقك، أن تعمل عملاً يجعلك إذا جاء ملك الموت تكون أسعد الناس.
حينما وُلدتَ كلّ من حولك يضحك، وأنت تبكي وحدك، عند المغادرة كل من حولك يبكي، إلا حالات نادرة جداً.
مرة ورث أحدهم من عمته مبلغًا بالملايين، طبعاً الحزن جعله يُطيل لِحيَته، ويلبس الأسود، فجاء صديق له، وقال له: تهانينا، ما قال له: عظّم الله أجركم، هو حكى الحقيقة طبعاً، فمعظم الناس إذا وافته المنية كل من حوله يبكي، فإذا كان بطلاً يضحك وحده، لا ينفعك شيء.
4 ـ لابد من الإعداد لساعة الحقيقة:
﴿وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ﴾ تستطيع كل يوم أن تُعِدّ للآخرة، تدّخر عملاً صالحًا؛ خدمة إنسان، إنفاق مال، أمرًا بالمعروف، نهيًا عن منكر، تلبية حاجة إنسان، رعاية أرملة، إطعام يتيم، خدمة إنسان، تستطيع كل يوم أن تعمل عملاً صالحًا، تدخره عند الله، فإذا جاء ملك الموت كنت أسعد الناس، هذه مشكلة المشكلات، وأخطر حدَث على الإطلاق في المستقبل مغادرة الدنيا، وبحسب منظور الناس من كل شيء إلى لا شيء، هل هناك مَن لا سرير نظيف عنده؟ عليه ملاءة نظيفة، ينام مرتاحًا، وعنده غرفة طعام، ومطبخ، وأنواع من الطعام، أولاده أمامه، زوجته أمامه، هل يستمر هذا الشيء طيلة الحياة؟ لا، سوف يأتي يوم ويُتوفّى، ويصير مرحوماً، صار ذكرى، فإذا كان محسنًا يذكره الناس، وإلا قال لك: استرحنا منه، والميت مستريحٌ ومستراحٌ منه.
﴿وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ﴾ اجعل العمل للآخرة كلَّ همّك، حتى إذا اقترب الإنسان من الموت لا ينهار.
والله أيها الإخوة بحسب اطلاعي، أرى أناسًا إذا اقتربوا من الموت أصبحوا من الضعف كالأطفال، الموت حق، ولا يمكن أن يبقى منا أحد، ولكن البطولة أن تُحسِن مغادرة الدنيا، أن تغادرها إلى الجنة، فإذا تمكن الواحد أن يأتيه الموت وهو نقي فقد فاز.
سيدنا سعد بن الربيع تعقب النبي عقب معركة أحد، ما عرفوا مصيره، وكّل صحابي يتفقد حاله، ذهب إلى ساحة المعركة، فإذا هو بين القتلى، لكن فيه رمق، قال له: يا سعد إن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرني أن أتفقّدك، هل أنت مع الأحياء أم مع الأموات، قال: إنني مع الأموات، ولكن-الآن دقق، واحد مع الأموات، وسيغادر الدنيا، وهو شاب- قال له: << أبلغ رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام، وقل له: جزى الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل لأصحابه: لا عذر لكم إذا خُلِص إلى نبيكم، وفيكم عينٌ تطرُف>> ، ما لكم عذر أبداً، معنى ذلك أنه كان في أسعد لحظات حياته، على الإطلاق، فنحن جهدنا وتوفيقنا أن نجعل هذا اليوم الذي لا بد منه بَعُدَ أو اقترب أن نجعله أسعد لحظات حياتنا، طبعاً باستقامتنا، ومعرفتنا، وعملنا الصالح: ﴿وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ﴾
فإذا قلنا الآن لشخص: ألقينا القبض عليك، وسوف نسوقك إلى أمك، أمه كلها رحمة، لا يخاف إطلاقاً، ما دام سيذهب إلى الأم فلا مشكلة حينئذ، والآية الأولى: ﴿وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡرٌ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ*وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ﴾ .
الملف مدقق