- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠3الصلاة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
سجود الصلاة الطبيعي يغني عن سجود التلاوة بشرط ألا ينقطع فور التلاوة :
أيها الأخوة المؤمنون، كنا نتحدث في الأسبوع الماضي في موضوع الفقه عن سجود التلاوة، وسجود التلاوة يؤدى بركوع أو سجود في الصلاة، غير سجود وركوع الصلاة، فللصلاة ركوع وسجود طبيعي اعتيادي حكمي، وسجود التلاوة يؤدى بركوع أو بسجود غير ركوع الصلاة الأساسي وسجوده، ويجزئ عن هذا السجود، معنى يجزئ أي يغني، ركوع الصلاة الطبيعي، إن نواها، إذا نوى سجود التلاوة في ركوع الصلاة الطبيعي فركوع الصلاة الطبيعي يجزِئ أي يغني عن سجود التلاوة، وإن لم ينوها يجزِئ عنه السجود الطبيعي، فالركوع يجزئ بشرط النيّة، والسجود يجزئ من دون نيّة، فسجود الصلاة الطبيعي يغني عن سجود التلاوة بشرط ألا ينقطع فور التلاوة أي ينقطع استمرار التلاوة، فمثلاً قرأت آية السجدة فرفعت وسجدت فسجودك الطبيعي هو في الوقت نفسه سجود للتلاوة، ولك أن تقرأ آية بعدها ولا ينقطع الاستمرار، و لك أن تقرأ آيتين ولا ينقطع الاستمرار، أما إذا قرأت فوق آيتين فينقطع الاستمرار ويجب عليك عندئذٍ أن تسجد للتلاوة سجوداً مستقلاً.
متى يغني سجود الصلاة الطبيعي عن سجود التلاوة ؟
متى يغني سجود الصلاة الطبيعي عن سجود التلاوة؟ إذا كنت تقرأ الآيات فجاءت آية السجدة فقلت: الله أكبر، وركعت ركوع الصلاة، وسجدت سجود الصلاة، فهذا السجود يغني عن سجود التلاوة، أما إذا قرأت آيات كثيرة بعد آية السجدة فلا بد من أن تسجد للتلاوة سجوداً مستقلاً عن سجود الصلاة.
والآن: لو أن مسلماً قرأ آية السجدة، وقرأ آيتين أو ثلاث بعدها، فخرّ ساجداً سجود التلاوة لا سجود الصلاة، ثم وقف فلا ينبغي له أن يركع ويسجد، ينبغي له أن يتم قراءته، إذ كُرِهَ أن يركع ويسجد بعد سجود التلاوة لأنه بنى سجوداً على ركوع، وهذا في الصلاة غير وارد.
تقرأ الآية فتسجد للتلاوة تقف تتابع الآيات، أما إذا أنهيت القراءة عند آية السجدة فركوع الصلاة وسجودها يجزئان ويغنيان عن سجود التلاوة، والركوع يغني بنيّة، والسجود يغني من دون نيّة، فهل هذا واضح؟
الآن: لو سمع رجل من إمام لم يأتَّم به آية سجدة، أو ائتم به في ركعة أخرى فسمع آية السجدة من إمام يصلي وهو لم يأتَّم به، في الركعة الثانية ائتم به يجب أن يسجد خارج الصلاة، فالمستمع يسجد خارج الصلاة، والذي ائتم بهذا الإمام بعد أن ينهي الإمام صلاته يسجد هو سجدة التلاوة خارج الصلاة، وإن ائتم به قبل سجود إمامه لها سجد معه، فلو فرضنا قرأ آية السجدة، وقال: الله أكبر للسجود وائتم به في هذه الأثناء يأتَّم به ساجداً مباشرة.
وإن اقتدى به بعد سجودها في ركعتها فهذه حالة دقيقة: دخل رجل المسجد يوم الجمعة في الفجر فالإمام قرأ السجدة وسجد ثم وقف وتابع السورة فلما انتهى من السورة ركع فجاء هذا الرجل وائتم بالإمام في آخر تسبيحة من الركوع، هل عليه سجود التلاوة؟ الجواب لا! لأنه أدرك ركعة مع الإمام وإدراك جزء كإدراك الكل، وكأنه وقف واستمع إلى السورة، وسجد للتلاوة ووقف وركع.
قراءة القرآن خارج الصلاة لها سجود تلاوة وقراءة القرآن داخل الصلاة لها سجود تلاوة:
والآن: لو قرأت القرآن خارج الصلاة ومرّت بك آية سجدة وسجدت ثم قمت فصلَّيت وقرأت سورة فيها سجدة يجب أن تسجد مرة ثانية، فقراءة القرآن خارج الصلاة لها سجود تلاوة، وقراءة القرآن داخل الصلاة لها سجود تلاوة، ولو قرأ القرآن أولاً وفي قراءته سجدة ولم يسجد قام فصلّى وفي قراءته سجدة تغنيه السجدة الثانية عن الأولى، أما لو قرأت مجموعة آيات فيها سجدات في مجلس واحد تسجد سجدة واحدة.
المجلس لا يتبدل إذا غيّرت الغرفة :
أما إذا تبدل المجلس مثلاً غيّرت مكانك وغيرت الغرفة، إذا تبدل المجلس فعليك أن تسجد للتلاوة إذا قرأت آية التلاوة مرة أخرى.
قيل: إن المجلس لا يتبدل إذا غيّرت الغرفة، فإذا بدلت مكانك من زاوية لأخرى لا يتبدل المجلس، ولو بدلت مكانك من زاوية مسجد مهما كان فسيحاً فالأمر كله مجلس واحد ولو غيرت مكانك من شرقه إلى غربه فهذا مجلس واحد، وأنت في السفينة فتحركت معها فمجلس واحد، اتكأت وجلست وقمت وركبت ونزلت فهذا كله مجلس واحد.
تَبَدُل مجلس السامع يلزمه بتكرار السجود :
أما السامع إذا كان قارئاً يقرأ القرآن وكان فيها آية سجدة فعليه أن يسجد، خرج من مكانه فالسامع والقارئ مجلسه واحد ورجع وقرأ آية أخرى فيها سجدة فعليه أن يسجد مرة ثانية تَبَدُل مجلس السامع يلزمه بتكرار السجود، أما ثبات مجلس السامع فلا يلزمه بتكرار السجود.
قال: كُرِهَ أن يقرأ سورة ويدع آية السجدة فمكروه! ونُدِبَ ضم آية أو أكثر إليها، ونُدِبَ إخفاؤها! مثلاً: أنت كإمام لك إيقاع صوتي خاص بالتكبيرات، وإذا قلت: الله أكبر لسجود التلاوة فينبغي لك أن تغير هذا الإيقاع كي ينتبه الغافل، وهذا يحدث أكثر ما يحدث في صلاة الوتر جماعة في رمضان، إذ يكون المصلي غير منتبه، فيقول الإمام: الله أكبر فيركع نصف المصلين! هو قال: الله أكبر لدعاء القنوت، والأصول أن يكبّر هذه التكبيرة بصوت مختلف عن تكبيراته الاعتيادية، في صلاة العيد أيضاً هناك ثلاث تكبيرات قبل الركوع، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إذا قلت الرابعة مثل المرات الثلاثة يبقى المصلون واقفين، فعليك أن تقول الرابعة بإيقاع صوتي مختلف عن الثلاث كي يركعوا معك وهذه حكمة من الإمام.
من يقرأ القرآن و هو جالس فعليه أن يقف ثم يسجد إن مرت معه سجدة :
إذا إنسان جالس يقرأ قرآناً، فالسنّة ألا يسجد مباشرة بل أن يكون واقفاً ثم يسجد! لو فرضنا قارئاً يقرأ القرآن وحوله عشرة مستمعين ومرت آية سجدة لا يرفع السامع رأسه من سجود التلاوة حتى يرفع التالي الذي هو الإمام، ولو عشرة يجلسون في المجلس وتالي القرآن سجد للتلاوة، فالتالي إذا قال: الله أكبر يرفع الحاضرون كأنه إمامهم، لكن إذا كان التالي يقرأ القرآن جالساً في مجلس، والناس تجلس جلسات مختلفة، فلا ينبغي للتالي أن يتقدمهم، ولا ينبغي للمستمعين أن يصطَّفوا، لأن هذا السجود ليس صلاة! وكل مصلٍّ على وضعه كما هو طبعاً باتجاه القبلة، ولكن لا داعي للاصطفاف على التأخير.
وشُرِط لصحتها شرائط الصلاة من ستر للعورة، واستقبال القبلة، والطهارة من الحدث، وشروط الصلاة نفسها هي شروط سجود التلاوة، إلا التحريم وكيفيتها أن يسجد سجدة واحدة بين تكبيرتين هما سنتان بلا رفع يد ولا تشهد ولا تسليم.
* * *
آداب الطعام والشراب :
والآن إلى الفصل المختار من إحياء علوم الدين، ولا زلنا في آداب الطعام والشراب، والطعام والشراب سلوك يومي، مادام في الإنسان قلب ينبض فلا بد من أن يأكل، و هذا السلوك اليومي النبي عليه الصلاة والسلام شرّع له آداباً كثيرة، ما رأيت كتاباً يجمع بين دفتيه آداباً متناهية في الدقة كهذا الكتاب، والآن في بعض الدول الأجنبية يدرسون بعض السفراء مواد عن آداب الاستقبال، وعن آداب التوديع، وآداب الحديث مع الضيف، وآداب الطعام، وكيف تمسك الشوكة باليسار وكيف باليمين أو بالعكس لا أعرف، هذه أشياء دقيقة جداً، فهذه هي المعلومات التي يحتاجها المسلم، هذا بروفيسور إسلامي.
آداب الحضور في منزل الداعي والجلوس فيه :
1 ـ أن يدخل الدار ولا يتصدر فيأخذ أحسن الأماكن :
اليوم درسنا: آداب الحضور في منزل الداعي والجلوس فيه، أما الحضور فأدبه أن يدخل الدار ولا يتصدر فيأخذ أحسن الأماكن، مثلاً: الدعوة الساعة الثانية، جاء أخ الساعة الثانية جلس في صدر المنزل، لعل هذا المضيف داعٍ أشخاصاً أوزن من هذا الذي جاء فترك الصدر لبعض أشخاص من علية القوم، فأنت كضيف ليس لك الحق أن تجلس في أبهى مكان، ولك أن تجلس في مكان ما، فإذا رأى المضيف أن مكانك لا يليق بك فيغير لك المكان الذي انتقيته فهو يدعوك إلى الجلوس في مكان غيره، وهذا أول أدب.
2 ـ ألا يتأخر في الحضور :
الأدب الثاني: ألا يتأخر في الحضور، تصور أنك داعٍ عشرة أشخاص ومن تأخر منهم يجب أن يكون موجوداً والساعة أصبحت الثالثة ولم يصل بعد، والطعام سيبرد، والحضور انزعجوا، فكم تشعر بضيق وانزعاج من هذا التأخر؟
3 ـ ألا يأتي قبل الوقت المحدد :
و من آداب حضور المأدبة أو الوليمة أن تأتي في الوقت المحدد.
ومن آداب الحضور أيضاً: ألا تأتي قبل الوقت المحدد! مثلاً: أنت دعوت فلاناً من أقربائك وزوجته فجاء منذ الساعة التاسعة مع ست أولاد! فأنت لم تستطع أن تقوم بأي عمل في البيت، و بعض الناس لا تنتبه لهذه النواحي، هذا رتّب البيت، ونظفه، ومسّحه، ويريد أن يلتفت لتحضير الطعام، والحاجات، والأدوات، فجاء هذا الضيف وأولاده قبل الموعد بخمس ساعات هذا أصبح عبئاً، فالحضور في وقت غير مناسب ليس من السنّة، والتأخر ليس من السنّة، والجلوس في مكان أنت اخترته ليس من السنّة، دع صاحب البيت يجلسك في المكان الذي يرتئيه لك.
4 ـ إن أشار له صاحب البيت بمكان لا ينبغي له أن يخالفه فيه :
قال: إن أشار لك صاحب البيت بمكان لا ينبغي لك أن تخالفه فيه، قال لك: تفضل إلى هنا، لا لا هنا أنا مرتاح جداً، هنا مواجه الباب، إذا فتح الباب زوجته تناوله الطعام، فالمضيف أمير بيته، قال لك: تفضل إلى هنا، قل له: حاضر، لا، لا مرتاح هنا، أريح لي، تقع مشاحنات عند بعض الناس، قال: فإن أشار صاحب البيت بموضع فلا ينبغي لك أن تخالفه أبداً، قال صلى الله عليه وسلم:
(( إن من التواضع لله الرضا بالدون من شرف المجالس))
5 ـ الجلوس حيث ينتهي به المجلس :
أنت لك مكانة كبيرة فجلست بطرف الباب فهذا من التواضع لله، ولذلك فالإنسان لا يأخذ على خاطره أنه جلس على كرسي خيزران، والجميع يجلسون على كنبات، ألا يعرفون قيمته؟ لا هذا من السنّة، اجلس حيث ينتهي بك المجلس، يقولون: إن هارون الرشيد كان في الحج فطلب من بعض مرافقيه أحد كبار العلماء وأعتقد أنه مالك، وقديماً قالوا: لا يستوي مالك وعالم آخر في المدينة، فقيل لهذا العالم: لو ذهبت إلى أمير المؤمنين فتعظه، فقال مالك: قولوا له: يا هارون العلم يؤتى ولا يأتي، فقال: هارون الرشيد هذا الذي قاله حق، فلما جاءه قال: قولوا له لا أسمح له بتخطي رقاب الناس، قال: صدقت، فلما جلس أعطوه كرسياً يجلس عليه، طبعاً إذا إنسان جلس على كرسي في مسجد لغرض فهذا لا تثريب عليه إنه مضطر و معه ألم بظهره، أو ألم في مفاصله، و هذا مباح له، و لكن من دون سبب لا ينبغي أن يجلس الرجل في بيت الله على شيء متميز بداعي الكبر، فلما جلس على كرسيه قال له هذا الإمام –مالك-: من تواضع لله رفعه ومن تكبر وضعه، قال: خذوا عني هذا الكرسي وجلس في الأرض، و هذا من آداب المجلس حتى أن أعرابياً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أيكم محمد؟ لم أعرفه من هو؟ هذا دليل ماذا؟ أنه كان يجلس بين أصحابه كواحد منهم، ولم يكن له مكان فخم يجذب النظر.
شيء آخر: سيدنا عمر رضي الله عنه قال: أريد أن أعيِّن والياً إن كان مع أصحابه أميراً عليهم بدا وكأنه واحد منهم، وإن كان مع أصحابه واحداً منهم بدا وكأنه أمير عليهم، مقياس دقيق جداً فالإنسان إذا دخل لبيت المضيف يجب أن يجلس حيث ينتهي به المجلس وهذا من التواضع.
6 ـ لا ينبغي له أن يجلس مواجه باب الحجرة الخاصة بالنساء :
قال: ولا ينبغي له أن يجلس مواجه باب الحجرة الخاصة بالنساء وسترهم.
7 ـ لا يكثر النظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطعام :
ولا يكثر النظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطعام، وضعوا الطاولة حملوا أبناء صاحب البيت مثلاً طبقاً كبيراً، أحضروا الثاني نظر إليه، قال: هذا ليس من السنّة، تأكيد النظر بالطعام، وأن تتابعه بنظرك، وكيف وضعوه، وماذا طبخت لنا اليوم، وماذا فعلت، وهل الطعام دسِم أم أنه خفيف، هذا ليس من السنّة.
8 ـ عدم حدّ النظر في الطعام :
وأن تحدّ النظر في الطعام ليس من السنّة، قال: فإنه دليل الشرع.
9 ـ أن يخص بالتحية والسؤال من يقوم منهم إذا جلس :
ويخص بالتحية والسؤال من يقوم منهم إذا جلس، وأحياناً تدعو أربعة أو خمسة و كأنهم يجلسون في مأتم فجميعهم صامتون وهذا كبر، ليس من السنّة، فمن يجلس أمامك لا تعرفه تسأله: الاسم الكريم؟ عملكم؟ إن شاء الله أنت مرتاح؟ كيف صحتك؟ كم ولد عندك؟ هذا من المؤانسة، دعوته لتكون هناك مؤانسة أما إذا كان الجميع صامتين فهذا سكوت الكبر.
10 ـ أن يعرِّف صاحب البيت الضيف عن جهة القبلة :
أما إذا كان دخل ضيف إلى البيت ليبيت فيه، فيجب أن يعرِّف صاحب البيت الضيف عن جهة القبلة، فالوقت ليل ولم يعرف من أين القبلة فضّل أن يصلي قيام الليل أو العِشاء، فمن السنّة القبلة من هذه الجهة، وأن يعرفه بيت الخلاء، وموضع الماء، دخلت لبيت صاحبه كريم، خصص جناحاً مستقلاً للضيوف، غرفة جلوس، وغرفة نوم، ومرافق عامة كاملة، وأبواب مستقلة، فالضيف يأخذ راحته تماماً، فهنا تنام، وهذا هو الحمام، وهذا بيت الخلاء، وهنا الوضوء و القبلة في هذه الجهة، فهذا من السنّة.
11 ـ أن يغسل صاحب البيت يديه قبل الطعام أمام ضيوفه :
قال: من السنّة أيضاً أن تغسل يديك قبل الطعام أمام ضيوفك لكي يقتدوا بك وهذه من سنّة رسول الله، وبركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده، ومن السنّة أيضا أن تكون آخر من يغسل يديه من الطعام.
12 ـ إذا دخل الضيف ورأى منكراً فعليه أن يغيره بلسانه أو بيده :
قال: أما إذا دخل الضيف ورأى منكراً فعليه أن يغيره بلسانه أو بيده، فالمنكر فرش الديباج في استعمال أواني الفضة والذهب، والتصاوير على الجدران، و سماع الملاهي والمزامير، وحضور النسوة المتكشفات الوجوه، فالوجه فتنة، أم فلان أعطنا الطعام، أَحْضَرَت اخرج من البيت فوراً!
هذا الإنسان ليس أهلاً أن تلبّى دعوته، أو يطلب ابنته ليعرِّفه عليها، إنها في الصف الرابع الجامعي، ما هذا؟ مثل هذا الإنسان ليس أهلاً أن تجاب دعوته.
* * *
آداب إحضار الطعام :
1 ـ تعجيل إحضار الطعام :
الآن آداب إحضار الطعام: أول أدب تعجيل إحضار الطعام، دعوه الساعة الثالثة حتى الساعة الخامسة لم يجهز الطعام بعد، يردد قول: أهلاً وسهلاً بكم، كفاك تأهيلاً ضع الطعام! أيضاً هذا من سوء الأدب، المدعو قام بترتيب أنه سيتناول الطعام الساعة الثالثة، تناول فطوره منذ الساعة السادسة والنصف ثم ذهب لمدرسته أو لعمله، عليه القدوم في الثالثة حتى الخامسة يأكل هذا خلاف السنّة، قال: تعجيل الطعام فذلك من إكرام الضيف وقد قال صلى الله عليه وسلم:
((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ))
حق الحاضرين في التعجيل أولى من حق من تأخر :
قال: مهما حضر الأكثرون وغاب واحد أو اثنان وتأخروا عن الوقت الموعود فحق الحاضرين في التعجيل أولى من حق أولئك في التأخير، إذا كنت قد دعوت أربعة من أصهرتك، ودعوت أولاد عمومتك، وأقرباؤك، مجموعهم خمسة عشر، بقي اثنان لم يأتيا، الدعوة الساعة الثالثة حتى الثالثة والنصف لم يأتوا، السنّة أن تضع الطعام ويباشر الجميع بالأكل! فإذا تأخر تقول له: نحن دعوناك الساعة الثالثة، هناك أشخاص يؤخرون الناس كلهم من أجل واحد، يصبح هناك نقمة وانزعاج، قال: حق الحاضرين في التعجيل أولى من حق أولئك في التأخير إلا في حالة واحدة إذا كان المتأخر فقيراً فيصبح هناك كسر خاطر، ليس له قيمة أبداً؟ هو لا يفسرها تفسيراً نبوياً بل تفسيراً اجتماعياً، لا قيمة له، تناولوا الطعام وتركوه، إذا كان قد استأذنهم في أخ لم يأتِ حتى الآن خاطره غالٍ علينا، قال: إلا إذا كان المتأخر فقيراً ينكسر قلبه بذلك! فتؤخر الطعام مع الاستئذان من الضيوف فلا بأس في التأخير، قال تعالى:
﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ﴾
كيف أكرمهم سيدنا إبراهيم؟ قال تعالى:
﴿ قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾
لم يتأخر، إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى تعجيل إطعام الضيف، قال تعالى:
﴿ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾
الروغان الذهاب بسرعة، وهناك معنى آخر قال: الذهاب خُفية، تعال يا بني أحضر لنا فروجاً أمام الضيف، يمكن أن يقول لك: لا والله لا تحضر شيئاً، إذا كنت كريماً أخبر ابنك خارج الغرفة، أما أن تبلغ أوامرك لابنك عن الطعام أمام الضيف، الضيف يخجل ويقول لك: لا والله لست جائعاً، أو يخبرك بأي عذر، قال: راغ إلى أهله من معانيها أسرع خفية من دون أن يشعر الضيف، قال حاتم الأصم: العجلة من الشيطان إلا في خمسة فإنها من سنّة رسول الله، إطعام الضيف، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، لماذا أنت مستعجل على الدينات؟ العجلة من الشيطان، لا، أداء الدين يجب فيه التعجيل، والتوبة من الذنب، في هذه الأمور الخمس يجب التعجيل على التأخير. قال: الوليمة في اليوم الأول سنّة، وفي الثاني معروف، وفي الثالث رياء.
2 ـ ترتيب الأطعمة بتقديم الفاكهة أولاً إن كانت من غير إحراج ثم اللحم فالثريد :
الأدب الثاني في تقديم الطعام: ترتيب الأطعمة بتقديم الفاكهة أولاً إن كانت من غير إحراج، يقول الضيف للمضيف: أنا أرغب أن أمشي على السنّة، قدم لنا الفاكهة أولاً، لا يوجد عنده فواكه، قدمت له الوليمة وكأساً من الشاي.... فإن وجدت الفواكه فضعها أمامه، إذا سمحت أعطنا الفاكهة أولاً لا مانع، لأنه وضعها لتأكلها أنت، لقوله تعالى:
﴿ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾
ثم أفضل ما يقدم بعد الفاكهة اللحم والثريد قال عليه الصلاة والسلام:
((فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ ))
بعد ذلك قال: إن جمع إليه حلاوة بعده فقد جمع الطيبات كلها، أي أكمل شيء، الفاكهة فالطعام فالحلوى، و بالنسبة لموضوع اللحم، إذا ارتفع سعر لحم البشر ينقص سعر لحم الغنم دائماً، أما إن انخفض سعر لحم البشر أي أصبحت النساء كاسيات عاريات ارتفع سعر لحم الغنم دائماً، فهناك علاقة عكسية بين لحم البشر ولحم الغنم، إذا كانت النساء مبذولة في الطرقات، ولا يوجد شيء قد سُتِر، فعندئذٍ تصبح أسعار لحم الضأن غير معقولة، فوق طاقة الإنسان، أما إذا ارتفع سعر لحم البشر فهبطت لحوم الغنم، ورجل سأل الإمام الشافعي وهو أبو العلاء المعري قال له:
يدٌ بخمس مئينٍ عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار؟
***
سؤال عجيب، أي أن هذه اليد لو قطعت خطأً ديتها خمسمئة دينار ذهباً، وخمسمئة دينار أي خمسمئة ليرة ذهبية تقريباً، والليرة ثمنها ألف ليرة تقريباً، لأن هذه اليد أداة أولى في الحياة، ما بالها قطعت في ربع دينار؟ إذا سرقت هذه اليد نفسها ربع دينار تقطع عقاباً، فأجابه الإمام الشافعي:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
***
لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت.
ربع دينار قطعوها له، جاء مندوب شركة أجنبية إلى قطر عربي مسلم يطبق الشريعة الإسلامية في السرقة، فرأى منظراً كاد يصعق، رأى سيارة شحن وقـد حملت بصندوقها المكشوف أكثر من عشرين كيساً كل كيس فيه مليونا أو ثلاثة ملايين ريال، هذه السيارة متجهة من مكة إلى أبها، الطريق سبعمئة كيلو متر، والسائق وحده مكلف بنقل رواتب هذه المحافظة في بداية الشهر! في سيارة مكشوفة ريالات بأكياس من دون حراسة:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
***
لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت.
تقديم الماء البارد من إكرام الضيف :
وتتم هذه الطيبات بشرب الماء البارد وصب الماء الفاتر، وعندما يقول لك الضيف: أريد كأساً من الماء فلا تفتح الصنبور على أي فتحة فتملأ له كأساً ساخنة، فمن إكرام الضيف تقديم الماء البارد.
و رجل قدم ضيافة لحكماء، قال بعضهم: "لم نكن نحتاج لكل هذا إذا كان خبزك جيداً وماؤك بارداً وخلك حامضاً"، -وهذا هو القوام- وقال بعضهم: "الحلاوة بعد الطعام خيرٌ من كثرة الألوان"، والإنسان يشعر بحاجة بعد الطعام أن يأكل شيئاً مذاقه حلو، فأنت قد وضعت ثمانية ألوان من دون حلوى، فالغِ له لونين وأضف الحلوى، مما يؤدي لكمال الضيافة فالحلاوة بعد الطعام خيرٌ من كثرة الألوان.
3 ـ تقديم ألطف الألوان قبل الطعام :
و أن يقدِّم من الألوان ألطفها حتى يستوفي منها من يرد ولا يكثر الأكل بعده، وأحياناً تقدم للإنسان طعاماً وهو جائع يأكل منه كثيراً فإذا شارف على الشبع قدمت له الأطباق اللذيذة، لقد أحرجته، إذا أراد أن يكمل منها أكل خلاف السنة، وإذا لم يأكل منها أحرقت قلبه، فهذه مشكلة، فمن السنة أن تقدم ألطف الألوان قبل الطعام، حتى يأكل الإنسان حاجته من ألطف الأطباق، كأن يأخذوا إنساناً إلى بستان فيطعموه تيناً، ويوجد بين المضيف وابنه حركات سرية، يشير له: هل قشَّرَ؟ فيقول له: نعم، فيقول له: الآن اعزمه على الطعام، لقد انتهى من الطعام.
و يحكى عن بعض أصحاب المروءات أنه كان يكتب ما يستحضره من ألوان ويعرضه على الضيفان، هذا طعامنا، عرف الضيف فينتقي الطعام الذي فيه خضار مثلاً، لا يحب أكلات الرز لأنه متعب وهذا مبالغة بالإكرام.
قال بعض المشايخ: قدَّم لي بعض المشايخ لوناً في الشام من الطعام فقلت: عندنا في العراق يقدم هذا اللون مع آخر، قال: وكذا عندنا في الشام، ولم يكن عنده لون آخر فاستحيا مني.
التعليق على الطعام حرجٌ جداً، والله هذه الأكلة يناسبها أكلة ثانية، الثانية غير ميسرة فخجل، واحمرّ وجهه. لا تُحَمِّرُوا الوْجُوهَ، هذا هو الكمال، أخي أنا مسلم! مسلم صحيح، ظن نفسه مسلماً بترك الكبائر، والمسلم مطالب بهذه الدقائق ليكون ظله خفيفاً جداً، أي تعليق على الطعام يحرج صاحب البيت.
قال: كنا في ضيافة فقُدِّم إلينا ألوان من الرؤوس المشوية طبيخاً وقديداً، فكنا لا نأكل ننتظر بعدها لوناً أو حَمَلاً، فجاءنا صاحب البيت بوعاء التغسيل، ولم يقدم غيرها، فنظر بعضنا إلى بعض وكان بعض الشيوخ مزّاحاً فقال: إن الله سبحانه وتعالى يقدر أن يخلق رؤوساً بلا أبدان، قال: وبتنا تلك الليلة جياعاً.
قصة واقعية، حدثني شخص قال: كنت مسافراً ودعيت لغداءٍ نفيسٍ جداً، فوضعوا نوعاً من أنواع الأوزي لكن حجمها مثل خف الجمل كبير، وضعوا لكل شخص قطعتين، و هناك رجل تناولها بسرعة، فجاء صاحب المنزل وأكد عليه بتناول قطعة ثالثة، وتشديده شيء فوق التصور، وخاف صاحب البيت أن تتكرر هذه القصة، فقال أحدهم: أنا أنهي القطعة الأولى وأبتعد عن الطعام، ويحلف عليّ المضيف أن أتناول الثانية، وأكون بذلك قمت بحل وسط، وقال لي: إنه كان جائعاً جوعاً شديداً ومنذ عدة أيام لم يأكل، تناول القطعة الأولى وابتعد عن المائدة، قال له صاحب الطعام خير؟ قال: والله اكتفيت، فقال له: يا أهلاً وسهلاً! قال: ما ندمت على شيء كندمي على ترك الطعام قبل أن أشبع بهذه الطريقة.
4 ـ ألا يبادر إلى رفع الألوان قبل تمكن الضيفان من الاكتفاء :
الأدب الرابع: ألا يبادر إلى رفع الألوان قبل تمكن الضيفان من الاكتفاء، مثلاً يرفع الطبق ولم يأكل منه كل الحاضرين حتى يرفعوا الأيدي عنها، فلعل منهم من يكون بقية ذلك اللون أشهى عنده مما استحضره ثانياً، أو بقيت فيه حاجة إلى الأكل، فيتنغص عليه بالمبادرة.
5 ـ ألا يرفع صاحب المائدة يده قبل القوم :
ومن هذا الأدب أيضاً: ألا يرفع صاحب المائدة يده قبل القوم فإنهم يستحيون بل يجب عليه أن يكون آخرهم أكلاً، بل كان بعض الكرام يخبر القوم بجميع الألوان ويتركهم يستوفون، فإذا قاربوا من الفراغ جثا على ركبتيه ومدّ يده إلى الطعام وأكل وقال: بسم الله ساعدوني بارك الله فيكم وعليكم، وكان السلف يستحسنون هذا.
6 ـ أن يقدم من الطعام قدر الكفاية فإن التقليل عن الكفاية نقص في المروءة :
قال: أن يقدم من الطعام قدر الكفاية فإن التقليل عن الكفاية نقص في المروءة، والزيادة عليه تصنع ومراءاة، وفي الحالتين خلاف السنّة.
7 ـ يجب عليه أولاً أن يعجل نصيب أهل البيت :
والأدب الذي بعده: قال: يجب عليه أولاً أن يعجل نصيب أهل البيت حتى لا تكون أعينهم طامحة إلى رجوع شيء منه فلعله لا يرجع، وهذا أهم شرط، فعندك زوجة وعندك أولاد ووالدتك بالبيت والقادمون عشرة أو اثنا عشر والطعام لذيذ، والجماعة جياع، أول عملية تنزع حصة الأهل جانباً، فما الذي يحدث؟ إذا لم يأكل الأهل فأنت تتمزق، وإذا كان الضيوف جياعاً وأنت كريم وهم يأكلون وليس عندهم علم بشيء أو ما القصة، أن اعزل نصيب الأهل قبل كل شيء، فهذا من السنّة، قال: فتغوص صدورهم، وتنطلق في الضيفان ألسنتهم، وتسأل زوجتك ألم ينتهوا بعد من الطعام؟ فمعها حق لأنها تريد أن تأكل أيضاً صنعت طعاماً نفيساً لكثير من الناس ولم يبق منه شيء، ويكون قد أطعم الضيفان ما يشبعه كراهية القوم، فيجب أن تحدد طعام أهلك وحده أولاً، قال: وهذا خيانة في حق الضيفان، فالضيفان ليس عندهم علم، يأكلون طعامَ كريمٍ وهم جائعون، فطعام الكريم شفاء، وتناولوا كل الطعام.
8 ـ ما بقي من الأطعمة ليس للضيفان أخذه إلا بإذن صاحب البيت :
قال: وما بقي من الأطعمة ليس للضيفان أخذه، إلا إذا صرّح صاحب الطعام بالإذن فيه عن قلب راضٍ، وأحياناً هناك حالات نادرة، يكون المضيف قد دعا أخاً له وأهله قد يشتهون هذا الطعام، وأنت ليس عندك أحد في البيت، فأنت أكلت واكتفيت وفي اليوم الثاني مثلاً أنت مسافر، فإذا أعطيته الطعام المتبقي وقلت له هذا للأهل، لا مانع إذا كان لا يوجد جرح لمشاعره، فإذا كان هناك جرح لمشاعره أو إذا طلب ماذا سنأخذ معنا أيضاً؟ هذا لم يعد ضيفاً، فهذه بعض آداب تقديم الطعام، وبقي علينا إن شاء الله تعالى آداب الانصراف، ثم بعض المتفرقات، وتنتهي آداب الطعام، وننتقل منها إلى آداب الزواج، وبعدها ننتقل إلى آداب الكسب والمعاش، ثلاثة نشاطات أساسية، الطعام والزواج وكسب الرزق، فهذه الآداب الدقيقة، إذا صار للإنسان صلة بالله عز وجل يعرفها من دون أن يقرأها بالتأكيد، حسّه، إحساسه، وشعوره الرقيق، ورهافة حسّه، وذوقه العالي، وكماله المتصل يحجزه عن هذه السخافات، لكن إذا كان الإنسان تعلمها وطبقها ثم أصبح في مستواها نفسياً فهذا أكمل وجه.
* * *
عظيم شجاعته صلى الله عليه وسلم :
والآن إلى بعض شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، وسوف نختار شميلة واحدة، قال سيدنا علي رضي الله عنه في وصف النبي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس صدراً، وأشجعهم قلباً، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشرة، وقد تقدم هذا الحديث، عنوان الشمائل اليوم: عظيم شجاعته صلى الله عليه وسلم.
كان صلى الله عليه وسلم إذا اعترك أصحابه المخاوف أسرع بنفسه إلى كشفها وإزالتها.
((عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ سَـبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ))
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله"، قال: "وكان أصحابه الكرام إذا ألمَّت بهم المُلِمَّات، وأحاطت بهم المخاوف لاذوا بجنابه الرفيع، واحتموا بحماه المنيع صلى الله عليه وسلم"، وكان علي رضي الله عنه يقول: "كنا إذا حمي البأس، واشتد الوطيس، واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه".
وقد رأيت يوم بدر و نحن نلوذ بالنبي عليه الصلاة والسلام وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً على الأعداء، وعن البراء بن عازب كان يقول:
((قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ))
كان النبي صلى الله عليه و سلم أقرب إلى العدو ، وقد ثبت يوم حنين وثبتّ قلوب الصحابة! فهذه قصة شهيرة، المسمون بعد فتح مكة أصبحوا قوة لا يستهان بها، ولم يجتمع في الجزيرة تجمعاً كهذا التجمع، عشرة آلاف مقاتل، قالوا فيما بين أنفسهم وهذه الغلطة: لن نغلب اليوم من قلة نحن أقوياء:
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾
هؤلاء أصحاب شجعان أصبحت قلوبهم كفؤاد أم موسى معلقة في جناحي طائر تفرقوا وبقي النبي وحده صلى الله عليه وسلم، فقال بكل جرأة وثبات: أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عبد المطلب، وقال أيضاً:
((.... لَقَدْ رَأَى ابْنُ الأَكْوَعِ فَزَعًا، فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الأَرْضِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلا مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ))
قصة النبي الكريم مع أُبي بن خلف :
روى البيهقي في الدلائل عن عروة بن الزبير أن أُبَي بن خلف المشرك قال يوم أحد: أين محمد ما نجوت إن نجا؟ أثناء المعركة، هذه الكلمة لها ما قبلها، فقد قال للنبي صلى الله عليه و سلم حين افتدى يوم بدر عندي فرس أعلفها كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليها، فقال له عليه الصلاة والسلام: أنا أقتلك إن شاء الله، قال: فلما رآه هذا المشرك أُبي بن خلف، أي رأى أُبي النبي يوم أحد شدّ أُبَي على فرسه واتجه نحو رسول الله ليقتله فاعترضه المسلمون، فقال عليه الصلاة والسلام: تنحوا ولا تحولوا بيني وبينه، وتناول النبي عليه الصلاة والسلام حربة من الصحابي الحارث بن سلمة فانتفض النبي بها انتفاضة، تناولها وقفز، أي قام بالحربة قومة سريعة، تطايروا أي أُبي بن خلف ومن معه من الكفار تفرقوا فارين بسرعة كالطيور ثم استقبل النبي أُبي بن خلف بالحربة فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ، أي سقط منها عن فرسه، وقيل: بل كسر ضلع من أضلاعه، فرجع أبي بن خلف إلى قريش وهو يقول: قتلني محمد، فقالوا له: لا بأس بك، قال لهم: لو كان ما بي من الألم والشدة بجميع الناس لقتلهم، أليس قد قال: أنا أقـتلك؟ والله لو بصق علي لقتلني! موقف، لم يترك الصحابة يدافعون عنه لو تركهم لكان هذا جبناً، قال: دعوني تنحوا عني لا تحولوا بيني وبينه، وكان يُرى ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جدّ الجد فهو الليث عادياً.
رجل وصف صديقاً له قال: "لي صاحب كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، كان خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وَجَد، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة فلا يتكلم فيما لا يعلم، ولا يماري فيما علم، وكان أكثر دهره صامتاً، فإذا تكلم بذّ القائلين، وكان يُرى ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جدّ الجد فهو الليث عادياً".
فقال هذا المشرك: والله لو بصق علي لقتلني، حتى أن رسول الله لم يقتله وكان بإمكانه أن يقتله نهائياً لكن أرقى شيء بالإسلام أن الحرب هدفها هداية العدو لا قتله، وكزه فقط، قال: قتلني من شدة الخوف، إذاً كانت له هيبة كبيرة جداً.
ومن صفاته صلى الله عليه وسلم أنه من رآه بديهة هابه ومن عامله أحبه، بديهة له هيبة كبيرة، فهذا وكزه وكزة فكان يعوي كالكلاب، ويقول: لقد قتلني، قالوا له: ليس بك شيء، قال: بي من الألم والشدة ما لو كان بالناس جميعاً لقتلهم، والله لو بصق عليّ لقتلني قال: ثم مات أُبي بن خلف في طريق العودة إلى مكة أي فيما رجع الكفار إلى مكة، وهذه نبذة عن شجاعته صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام:
(( مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ رَجُلاً مُشْرِكًا قَدْ حَلَّ دَمُهُ ))
من قتل حية فيه شجاعة، لم يصرخ ويهرب، كما حصل برجل أمام أولاده فصغر شأنه، فالله عز وجل يحب الشجاعة ولو على قتل حية.