- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر .
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ملخص الخطبة السابقة :
أيها الأخوة المؤمنون ، في الخطبة السابقة بدأنا بموضوع دقيق دقيق يهتم له كل إنسان على وجه الأرض بعد وجوده ألا وهو الرزق ، وبينت لكم بفضل الله تعالى أن الإنسان يتوهم أحياناً أن الرزق يعني المال ، ولكن كلمة الرزق أوسع بكثير مما يتوهمه المتوهمون ، فهناك رزق القيم ، ورزق المعرفة ، ورزق السلامة ، ورزق السمعة الطيبة، ورزق الصحة، ورزق الزوجة الصالحة ، ورزق الأولاد الأبرار ، كل هذه أرزاق فلو قيمت بالمال كانت أغلى من المال ، فأول نقطة في الخطبة السابقة أن من الوهم والسذاجة وضيق الأفق أن نظن أن رزق الإنسان هو ماله ، وبينت لكم بفضل الله تعالى نقطة ثابتة هو أن هناك فرقاً دقيقاً بين الرزق وبين الكسب ، فالرزق هو الذي تنتفع به حصراً ، وأما الكسب فكل ما كان تحت يديك من مال ، إن انتفعت به فهو رزقك ، وإن لم تنتفع به فهو كسبك ، والرزق وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت ، بينما الكسب تحاسب عليه مرتين من أين اكتسبته ؟ وفيم أنفقته ؟ تحاسب عليه ولا تنتفع به ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام لثعلبة : " يا ثعلبة قليل يكفيك خير من كثير يطغيك " ، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تؤدي شكره ، قليل يدفعك إلى أبواب الله خير من كثير يصرفك عن أبواب الله .
تكفل الله تعالى برزق العباد :
هذا ملخص ما في الخطبة السابقة ، في هذه الخطبة أيها الأخوة الأكارم نقاط كثيرة ، من أبرز هذه النقاط أن الله سبحانه وتعالى متكفل برزق العباد ، وهو المسؤول في الرزق ، لذلك حينما حثنا على أن نعين بعضنا بعضاً ما سمى هذا العطاء من قبل إنسان لإنسان عطاءً ، ولا سماه منحة ، ولكن سماه قرضاً لله عز وجل ، قال تعالى :
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
إنك إن أعطيت إنساناً مالاً لتعينه على مشكلات الحياة ، لتسد حاجته ، لتستر عورته ، لتسد جوعته ، إنك ما فعلت هذا فضلاً ولا منة ، ولكنك أقرضت الله عز وجل .
أيها الأخوة الأكارم ، هذا المعنى إذا تمثلناه ، ووعيناه ، شعرنا بمدى ما نحن مدينون به إلى الله عز وجل ، الله جل جلاله خالق السموات والأرض يطلب منا أن نقرضه قرضاً حسناً ، كيف نقرضه ؟
(( مرضت فلم تعدني ، قال : كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : مرض عبدي فلان فلم تعده ، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ، ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ))
أيها الأخوة الأكارم ، إذا أحبّ الله عبداً جعل حوائج الناس إليه ، إذا أحبّ الله عبداً وجه الناس إليه ، طرقوا بابه ، سألوه ، فهذا العبد الفقير إذا أكرمه الله بالمال وطُرق بابه ليلاً نهاراً لا ينبغي أن يتأفف ، ولا ينبغي أن يضجر ، لأن رزق هؤلاء العباد أودعه الله عنده، رزق هؤلاء العباد السائلين أودعه عنده لتقوم العلاقات الطيبة ، وليرتقي الإنسان إلى الله عز و جل .
الحكمة من تسمية الزكاة بهذا الاسم :
قلت لكم سابقاً : إن الزكاة سماها الله زكاة لأسباب ثلاث ، لأن الفقير يزكو بالزكاة ، تزكو نفسه ، يشعر بقيمته في المجتمع ، يشعر أن المجتمع أسرة ، وأن هذا المجتمع لا ينسى الفقراء ، ترتفع معنوياته ، يشعر بأهميته ، يشعر بالعلاقات الإنسانية بينه وبين الآخرين .
سميت الزكاة زكاة لأن بها تزكو نفس الفقير ، وسميت الزكاة زكاة لأن الغني تزكو نفسه ، يرى نتائج علمه ، يرى أسرة تعلو البسمة على وجوه أفرادها ، لولا أنه أعانهم ، وكشف ما بهم ، ومسح عنهم عبراتهم ، لما علت البسمة الوجوه ، يشعر الغني بنمو في نفسه، يشعر الفقير بأهميته في مجتمعه ، وفوق هذا وذاك الزكاة تزكي المال ، أي تنميه ، بالقوانين التي وضعها الله عز وجل ، وبالعناية المباشرة التي لا تحكمها قوانين، وفضلاً عن هذا وذاك فإن الزكاة تطهر الغني من الشح ، وتطهر الفقير من الحقد، وتطهر المال من تعلق حق الناس به ، تطهير وتزكية للدافع والمدفوع له والمال نفسه .
الرزق السلبي والرزق الإيجابي :
أيها الأخوة الأكارم : نقطة دقيقة في الرزق قد لا نلتفت إليها ، سماها بعض العلماء : الرزق السلبي ، والرزق الإيجابي ، فالرزق السلبي ربنا جل جلاله قد يحفظك من نفقات كثيرة لا طائل لها ، إذا وفر عليك بعض النفقات فكأنه رزقك رزقاً ليس ملحوظاً لديك، فحينما تنفق المال في الطعام والشراب والكساء لا تنفقه في إتلاف ما فسد ، ولا في إصلاح ما اختل ، فهذا رزق سلبي ، لو أن الله عز وجل فتح على الإنسان النفقات قد لا يحتملها ، وقد ينوء ظهره بحملها ، وقد يعجز عن دفعها ، وقد يبيع بيته من أجل سدادها، فهناك عاهات وعاهات .. حدثني رجل أن ابنه لم يزل في العاشرة من عمره أجرى له تسع عمليات جراحية، كلفته مبالغ طائلة ، فحينما يهبك الله غلاماً سليماً صحيحاً معافى ، فهذا رزق سلبي.. حينما لا تشكو شيئاً في جسدك هذا رزق سلبي ، حينما يحفظ الله مالك هذا رزق سلبي ، فيجب أن تشكر الله مرتين ، أن رزقك مالاً ، وأن حفظك من نفقات أنت في غنى عندها .
الرزق مضمون و مقسوم :
أيها الأخوة الأكارم ، سؤال دقيق ، الرزق مضمون ومقسوم ، هل يزداد الرزق وينقص ؟ إن كان يزداد وينقص فما هي عوامل ازدياده ؟ وما هي عوامل نقصانه؟
من الثابت أن الرزق مضمون ، لقوله تعالى :
﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾
الرزق مضمون ، ولكنه مقسوم ، ومعنى أنه مقسوم يزداد وينقص .
عوامل ازدياد الرزق :
1 ـ الاستقامة :
في القرآن الكريم آيات دقيقة تؤكد أنه يزداد لقوله تعالى :﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
إذاً يزداد ، ما عوامل ازدياده ؟ أيها الأخوة الأكارم ، أول عامل من عوامل ازدياد الرزق كما نطق به القرآن الكريم هو الاستقامة، فمن استقام على أمر الله يستحق وعد الله القطعي في آيتين اثنتين ، بل في ثلاث آيات في القرآن الكريم .
الآية الأولى :
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
الآية الثانية :
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾
الآية الثالثة :
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾
أيها الأخوة الأكارم ، الاستقامة على أمر الله سبب ثابت في نص القرآن الكريم لازدياد الرزق . وليس معنى هذا أنه بمجرد أن تستقيم يسقط عليك من السماء سبائك الذهب ، هذا فهم ساذج ، الله جل جلاله لابد من أن يمتحنك ، ولكن في الوقت المناسب يأتي الرزق المناسب ، والعاقبة للمتقين .
2 ـ الأمانة :
شيء آخر : النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( الأمانة غنى ))
هذا قانون قننه الله عز وجل ، وهذه سنة سنها الله عز وجل ، الأمانة غنىً ، الإنسان إذا كان أميناً وثق الناس به ، وحينما يثق الناس به يقدمون له شقيق أرباحهم ، وهي أموالهم ، غنى بالمعنى المادي ، وإن كان الأمين يشعر بغنى في نفسه لا يوصف ، الغنى غنى النفس ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ما قصد من كلامه أنك إذا كنت أميناً فأمانتك سبب لرزقك وازدياد رزقك .
ألا ترون معي أن أية مؤسسة تجارية الموظف الأمين فيها يغدق عليه العطاء بغير حساب ، لأن الأمانة أثمن ما في العمل الوظيفي ، في أي عمل من الأعمال ، فالأمانة عامل من عوامل ازدياد الرزق كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكن أريد أن نفهم هذين العاملين فهماً دقيقاً ، لأنه إن استقمت على أمر الله وبقي الرزق قليلاً ، أو إذا كنت أميناً وبقي الرزق قليلاً فهذه حالة تفسر بحديث شريف آخر :
((إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر ، فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه ))
هذا الحديث الشريف يبين أن مراد الله عز وجل أن نصل إلى دار السلام بسلام ، خلقنا لجنة عرضها السموات والأرض ، فإذا كانت المقاومة هشة ، وإذا كانت طبيعة النفس - وقد لا يعلمها صاحبها - لا تحتمل الغنى ، فدخله المحدود أعون له على طاعة الله عز وجل، فإذا جاءه دخل غير محدود ربما حمله هذا الدخل على التفلت من قواعد الشرع ، هذا لا تعلمه، ولكن الله تعالى يعلمه لقوله تعالى :
﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾
أي ما كان سراً تضمره في نفسك ، وما خفي عنك وأنت لا تدري ، فلذلك في مثل هذه الحالة تقرأ قوله تعالى فتذوب نفسك إن كنت مؤمناً :
﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
والنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال :
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا : هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا .....))
قد عُدّ الغنى المطغي مصيبة من أكبر المصائب ، المال الذي يحمل صاحبه على المعاصي والآثام ، فهذا الذي آتاه الله رزقاً يكفيه أصابته دعوة النبي عليه الصلاة والسلام : " اللهم من أحبني فاجعل رزقه كفافاً " .
من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر .
القلب أحياناً لا يحتمل هذه الأموال الطائلة ، ولا إدارتها ، ولا استثمارها ، فإذا هو في همّ ، همّ وضيق وقلق إلى أن يُصاب قلبه لأنه لا يحتمل كل هذه الأمور ، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر .
3 ـ الصدقة :
أيها الأخوة الأكارم :
شيء آخر : النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( استنزلوا الرزق بالصدقة ))
الأمانة أحد أسباب ازدياد الرزق ، والاستقامة أحد أسباب زيادة الرزق ، وقد تنطوي الأمانة في الاستقامة، ولكن حينما تتصدق وفي نيتك أن تُرزق فهذه الصدقة أحد أسباب ازدياد الرزق ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( استنزلوا الرزق بالصدقة ))
أعرف رجلاً قل دخله إلى درجة غير معقولة ، إلى درجة أنه لا يكفيه ولا يكفي عشر ما يحتاجه ، فدُل على الصدقة ، دله عليها رجل بدأ يدفعها كل يوم ، وأقسم لي وهو صادق أن رزقه بدأ يزداد ويزداد إلى درجة أن الله كفاه وأغناه .
شيء معروف وثابت ، استنزلوا الرزق بالصدقة ، فلعل الله جل جلاله يفتح لك باب رزقه .
4 ـ الإتقان :
بقي عامل آخر : الأمانة ، الاستقامة ، الصدقة ، الإتقان .. هذا القانون أي إنسان طبقه قطف ثماره ولو كان كافراً ، وأي شركة ، أو مصنع ، أو حرفة أتقن صاحبها دخائلها وخوارجها إلا تهافت الناس عليه ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ))
أية مهنة ، وأية حرفة إذا كان الإتقان فيها هو الهدف جاء الرزق رغداً ، ويسيراً، ووفيراً ، أما إذا كان الهدف هو المال على حساب الإتقان انتهى هذا الإنسان ، فإذا أردت رزقاً وفيراً أتقن صنعتك ، أتقن تجارتك ، أتقن حرفتك ، الإتقان سبب أساسي في ازدياد الرزق .
من يعزو الرزق إلى الأسباب فقد أشرك :
أيها الأخوة الأكارم ، أفكار دقيقة متعلقة بالرزق ، الإنسان حينما يعزو الرزق إلى الأسباب فقد أشرك ، لأن الله عز وجل يرزق بأسباب ، ويرزق بلا أسباب ، ويرزق مع توقف الأسباب ، قد يأتي الرزق بأسباب ، وقد يأتي بلا أسباب ، وقد تعطل الأسباب ، كل هذا من أجل أن تؤمن أن السبب لا يخلق الرزق ، ولكنه مفتاح له ، من أجل ألا تعصي ربك من أجل الرزق ، من أجل ألا تعد للرزق أسباباً ثابتة فتأخذ بها وتنسى ربك ، هذه فكرة دقيقة في الموضوع . ربنا عز وجل يقول :
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾
هذا الفقر المتوقع ، قيل : أنت من خوف الفقر في فقر ، ومن خوف المرض في مرض ، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها .
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾
استنبط العلماء أن الأب الذي يعمل ، ويسعى ، ويشتري الطعام ، ويدفعه لأولاده، هذا كله في الظاهر ، لكن في الحقيقة الله جل جلاله يرزقهم عن طريقه ، أي أودع رزقهم عنده ، يسر له أسباب الرزق ليطعمهم ، فليس هو الذي يرزقهم ولكن الله الذي يرزقهم وما هو إلا سبب ظاهري .
الآية الثانية :
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ * ﴾
من إملاق : من فقر حاضر ، والآيتان في التقديم والتأخير تلفتان النظر ، الآية الأولى :
﴿ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾
والثانية :
﴿ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾
خشية الفقر يطمئن الله الإنسان إلى أن الله يرزق هذا الطفل الذي جاءك ولم تكن تريد ذلك ، والآية الثانية أنك إذا كنت في فقر حاضر فالله عز وجل يرزقك وإياهم .
علاقة الرزق بطريقة استقبال المولود :
أيها الأخوة الأكارم : قيل : إذا جاء المولود يتسع رزق الأب أو يضيق ، كيف تستقبل هذا المولود ؟ إن تشاءمت منه ، ورأيت أن دخلك محدود ، وأن بيتك ضيق ، وكيف سأنفق على هذا المولود ؟ والحياة صعبة ، كيف سأزوجه حينما يكبر ؟ كيف سأبحث لهذه الفتاة عن خاطب ؟ وسوق الزواج بائرة ، إذا استقبلت المولود بضيق وهم ..
((أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء ))
وإن استقبلت المولود بفرحة ورضى وتوكل على الله عز وجل النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءته فاطمة الزهراء أمسك بها وضمها وشمها وقال : "ريحانة أشمها وعلى الله رزقها ".
وقد تسمعون أن أسرة كان دخلها قليلاً ، جاءت بنت ، فاستقبلوها أحلى استقبال ، رحبوا بمقدمها ، تفاءلوا بمقدمها ، فإذا رزق الأب أصبح وفيراً.
يزداد الرزق حينما يأتيك مولود أو يضيق بحسب طريقة استقبالك لهذا المولود ، هذه حقيقة .
الله عز وجل جعل رزق عبده المؤمن من غير ما يحتسب :
شيء آخر : الله جل جلاله طمأن العبد فقال :
﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
..قد نفهم هذه الآية فهماً بسيطاً سطحياً ، ما معنى بغير حساب ؟ أي حينما تفقد كل أسباب الرزق لا تيئس من رحمة الله ، حينما يحترق المحل التجاري ، حينما تخسر رأسمالك كله ، حينما تنعدم كل أسباب الرزق ، لا وظيفة ، ولا عمل ، ولا رأسمال ، ولا شهادة ، ولا محل تجاري ، ولا إرث ، حينما تفقد كل أسباب الرزق ، لا تنس قوله تعالى :
﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
بغير حساب : من دون أسباب تعارفتم عليها ، أبى الله إلا أن يجعل رزق عبده المؤمن من غير ما يحتسب .
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾
5 ـ التوكل على الله والاستعانة به والتزام أمره :
أيها الأخوة الأكارم : شيء آخر : قدرة الله عز وجل لا يحدها شيء ، قد يكون التدمير في التدبير ، قد تدبر ، وتخطط ، وتهيئ ، وتتخذ الأسباب ، وتكون هذه الأسباب وبالاً عليك ، وقد يأتيك رزق رغيد بسبب يسير ، هذا التنوع في رزق العباد الهدف منه أن تؤمن أن الله وحده هو الرزاق ، وأن الأسباب أمرنا بها ، ولكن الأسباب التي أمرنا بها لا تخلق الأرزاق ، ولكنها مفتاح لها ، فإذا أعطاك الله مفتاح الرزق جاءك رزق وفير ، أما إذا صنعت أنت مفتاحاً فهذا المفتاح قد لا يفتح ، تبذل جهداً كبيراً من دون جدوى ، فلذلك التوكل على الله، والطلب من الله ، والاستعانة بالله ، والتزام أمر الله هذا كله سبب من أسباب الرزق ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفورًا له ))
أنت عليك أن تسعى وليس عليك إدراك النجاح .
يقول سيدنا عمر : " لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول : اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة " .
﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
.. أي حينما لا تملك الأسباب ترزق بلا أسباب .
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
القصد أن تبقى متعلقاً بالله ، أن تبقى موقناً أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، القصد ألا تعصي ربك من أجل الرزق ، ربما كان التدمير في التدبير ، القصد ألا تسلك طريقاً منحرفاً من أجل الرزق ، القصد ألا تطيع مخلوقاً في معصية الخالق من أجل الرزق .
الأخذ بالأسباب و الاعتماد على رب الأرباب :
أيها الأخوة الأكارم : من الثابت أننا نسعى في سبيل الرزق ولا نصيبه مع الأسباب ، ونصيبه بلا أسباب ، معنى ذلك أن الأسباب لا علاقة لها لكنها ترافق أمرنا بها ولكنها لا تخلق الأرزاق ، خيط دقيق بين الشرك وبين المعصية ، إن تركت الأسباب فقد عصيت ، وإن أخذت بها واعتمدت عليها فقد أشركت ، الإيمان الكامل أن تأخذ بها وأن تعتمد على الله وهذه بطولة ، أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد على رب الأرباب ، إن أخذت بها يأتي الشيطان فيقول : أنت أخذت بها الأمور كلها مضبوطة ، غطيت كل ثغرة ، الأسباب كلها بيدك ، لابد من أن تُرزق ، هذا هو الشرك ، إن أخذت بها واعتمدت عليها فقد أشركت وإن لم تأخذ بها فقد عصيت .
((إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا))
﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾
أيها الأخوة الأكارم : حتى لا يعتقد الإنسان أن الأسباب وحدها تزيد الرزق ، وحتى لا يظن أن الطمع وحده يزيد الرزق ، وحتى لا يعتقد أن المعصية إذا فعلها وأرضى مخلوقاً وعصى الخالق تزيد الرزق :
﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
لذلك ورد : " لا حيلة في الرزق " ، يعبر عنها التجار بألا نذكي مع الله أحداً ، مهما كان التاجر ذكياً قد يكون تدميره في تدبيره ، قد يُدمر من صفقة رآها رائجة ، لا حيلة في الرزق ولا شفاعة في الموت ..
ولو كانت الأرزاق تجري مع الحجا هلكن إذاً من جهلهنّ البهائم
***
الله هو الرزاق ذو القوة المتين و هو المسعر :
أيها الأخوة الأكارم : آية حاسمة في هذا الموضوع ، يقول الله عز وجل :
﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾
إذا كان عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فأن لا يملك لغيره من باب أولى ..
﴿ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾
إلا أن يشاء الله شيئاً .
﴿ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ﴾
هذا الكلام كلام الله عز وجل يتذوقه التجار كثيراً ، لو علم التاجر أن هذه البضاعة سيرتفع ثمنها أضعافاً مضاعفة لباع كل أملاكه واشترى منها ، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله ، في المستقبل ما الذي سيرتفع ؟ لا نعلم ، وما الذي سينخفض ؟ لا نعلم ، قد ترتفع أشياء يُرجح أنها سينخفض سعرها ، وقد تنخفض أشياء يُرجح أنها سيرتفع سعرها . لذلك الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، والله هو المسعر .
الرزق و الكسب :
الفكرة الأخيرة والأساسية ، هي أن الرزق ما انتفعت به ، وأن الكسب الذي لا تنتفع به ، حصلته بجهدك ، وعرق جبينك ، وسُجل عليك كيف حصلته ، باستقامة أم بانحراف ، بصدق أم بكذب ، بإخلاص أم بخيانة ، بيمين صادقة أم يمين كاذبة ، بإخفاء عيب أم بمعصية من معاصي البيع والشراء ، كسبت هذا المال الذي لا تستخدمه ولا تنتفع به ، ولا تنفق عليه ، لذلك قيل : شر الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً .
يا أهلي يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حل وحرم ، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم والتبعة علي .
عطاء الربوبية وعطاء الألوهية :
مرة ثانية وثالثة : قال العلماء : هناك عطاء الربوبية ، وعطاء الألوهية .. كلنا عباد الله عز وجل ، تكفل الله لنا بالرزق ، يطعمنا ويسقينا ، ويزوجنا ويؤوينا جميعاً ، هذا عطاء الربوبية ، هو ربنا ، ليس لنا رب سواه ، أما أن يتجلى علينا بالسكينة ، أما أن يهبنا العلم به ، أما أن يرزقنا العمل الصالح ، فهذا عطاء الألوهية . قد يعطي الله الإنسان مالاً وهو لا يحبه ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾
أنت كأب عندك أولاد كثر ، أحدهم بار بك ، أحدهم أديب معك ، أحدهم يعطف على أخوته ، وولد آخر شرس ، كذاب ، سيئ الخلق ، أنت تطعمهم جميعاً ، كل أولادك يجلسون على مائدتك ، وكل أولادك تلبسهم الثياب في كل موسم ، ولكن قلبك كأب متعلق بهذا الابن البار ، فأن نأكل ونشرب ، وان نسكن في البيوت ، وأن نتزوج ، هذا عطاء الربوبية ، عطاء رب العالمين ، ولكن أن يعلمنا الله عز وجل ، أن يعرفنا بذاته ، أن يعرفنا طريق الحق، طريق الخير ، طريق الاستقامة ، أن يتجلى علينا بالسكينة ، أن يتجلى علينا بالنور ، فنرى الخير خيراً والشر شراً هذا عطاء المؤمنين فقط ، فلذلك إن الله يعطي الصحة والذكاء والجمال والمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين.
فرعون قال :
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
آتاه الله ملكاً عريضاً وهو لا يحبه ، سيدنا سليمان آتاه الله ملكاً وهو يحبه . إذاً يؤتي الملك لمن يحبه ولمن لا يحبه ، يؤتي المال لمن يحبه ، سيدنا عبد الرحمن بن عوف ، قال : والله لأدخلن الجنة خبباً أي هرولة ، وما عليّ إن كنت أنفق مئة في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء ، سيدنا عبد الرحمن بن عوف يحبه الله عز وجل أعطاه مالاً ، لكن قارون لا يحبه ، إذاً يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب ، ويعطي القوة لمن يحب ولمن لا يحب ، لكن :
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
لكن الله عز وجل إذا علمك ما لم تكن تعلم ، إذا تجلى عليك ، إذا أعطاك ، إذا منحك من الحكمة والعلم والعمل الصالح ، فهذا عطاء الألوهية ، لذلك علينا أن نتنافس ، قال تعالى :
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
عطاء الربوبية ينتهي عند الموت ، وعطاء الألوهية يبدأ مع الموت وشتان بين عطاء ينتهي مع الموت ، وعطاء يبدأ بعد الموت .
المال عطاء حيادي :
أيها الأخوة الأكارم : أختم الخطبة بهذه الآية الدقيقة أذكرها على مسامعكم كثيراً لعلاقتها بهذا الموضوع .
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾
ابتلاه ربه بالمال ، بالصحة ، بالذكاء ، بالجمال ، بالوسامة ، بالقوة ، إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه بمقياس البشر ، ونعمه فيقول ، هو يقول ، هذه هذا مقولته ، هذا توهمه ، فيقول: ربي أكرمن ، ألا ترون أن بعض الناس الذين وهبهم الله المال الوفير ، يقبلون أيديهم، ويضعونها على جبهتهم ويقولون: الله يحبنا ، أعطانا هذا المال الوفير ، أعطانا هذه الصحة .
﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
هو يقول ، وهذا توهمه ، وهذه مقالته ليست صحيحة ،
﴿ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
﴿ كَلَّا ﴾
ردع وزجر ونفي ، كلا ليس عطائي إكراماً ، وليس منعي حرماناً ، إنما عطائي ابتلاء وحرماني دواء .
مثل بسيط ، أعطاك مالاً لا نعمة ولا نقمة ، عطاء حيادي ، موقوف على نوع التعامل معه ، عطاء حيادي ، ابتلاء موقوف على طريقة إنفاقه ، فإن أنفقته في طاعة الله وعادت خيراته في الآخرة ، انقلب هذا الابتلاء إلى نعمة ، الآن صار نعمة، وإذا أنفق في معصية الله ، وكان في الأصل حيادياً انقلب إلى نقمة ، فأهلك صاحبه في الدنيا والآخرة ، فأي عطاء من الله عز وجل لا يُسمى نعمة ، ولا يُسمى نقمة ، ابتلاء بحسب تعاملك مع هذا العطاء ، إن استخدمته في طاعة الله أصبح نعمة ، وإن استخدمته في معصية الله أصبح نقمة، لذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه : " الغنى والفقر بعد العرض على الله " .
الرزق و الحياة أخطر ما يعني الإنسان :
مرةً ثالثة : أخطر ما يعني الإنسان حياته ورزقه ، والله جل جلاله قطع الحياة والرزق عن أن تكون بيد العباد ، إنها بيد رب الأرباب ، لذلك كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرب أجلاً ، إذا أيقنت هذا انتهى النفاق ، وانتهى التزلف ، وانتهى التملق ، وانتهى الكذب ، وانتهى قبول الضغوط ، هذا كله ينتهي ، أما إذا اعتقد الإنسان أن زيداً يرزق ، وأن زيداً يمنع ، عاش في متاهة ، وانطبق عليه قول الله عز وجل :
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم فيا فوز المستغفرين .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العامين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، و أشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلّ و سلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
آثار الخمرة في الجسم :
أيها الأخوة الكرام : ربنا جل جلاله يقول :
﴿ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ﴾
أي الشيء الذي تطيب النفس به ، ويطيب الجسم به ، و تطمئن به ، و ترقى به هو الحلال ، والشيء الذي تخبث به النفس ، فتحتجب عن الله عز وجل ، ويخبث به الجسد هو الحرام . إذاً هناك علاقة علمية بين المعصية ونتائجها ، وبين الطاعة ونتائجها ، ليس هناك تحريم رمزي ، بل تحريم حقيقي ، كل طاعة فيها أسباب نتائجها ، وكل معصية فيها أسباب نتائجها ، فهناك علاقة علمية ، أي علاقة سبب بنتيجة بين ما حرم وبين النتيجة ، وبين ما أحل وبين النتيجة ، هذا شأن الدين ، لأن الذي أنزل هذا القرآن هو خالق الأكوان ، لأن الذي قنن القوانين ، وسن السنن ، وشرع الشرائع هو الذي أنزل هذا الكتاب ، فالتحريم يقبله العقل ، وترتاح له الفطرة ، ويؤكده الواقع ، وأتى به النص ، فالحق هو ما جاء به النص وأقره العقل ، وارتاحت له الفطرة وأيده الواقع ، لذلك الخمرة التي يتهافت الناس عليها وهم لا يعرفون الله عز وجل تسبب خطراً كبيراً على صحة الإنسان ، تسد الشرايين وتمزقها ، تصيب الإنسان بقصور في قلبه ، بذبحة في صدره ، بتشمع في كبده ، بالتهاب غشاء معدته، بصداع ، بالتهاب أعصابه ، بفقدان ذاكرته ، بضعف عقله ، بتشتت فكره ، بتغيير في تركيب دمه ، بضعف مقاومته للأمراض ، بفقدان رجولته ، بقرحة معدته ، بالتهاب كليتيه ، بالتهاب الاثني عشر ، بتقرح الكولون بالتشنج العصبي ، هذا ما جاء في بعض كتب الطب عن آثار الخمرة في الجسم ، فلما قال الله عز وجل :
﴿ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ﴾
معنى ذلك أن الله ما حرم هذا إلا لخبثه في الجسم وفي النفس ، يجب أن نعتقد أن الفوز كل الفوز ، وأن الفلاح كل الفلاح ، وأن التوفيق كل التوفيق ، وأن الذكاء كل الذكاء ، وأن العقل كل العقل في طاعة الله ، وأن الدمار والهلاك في معصية الله .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك .
اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، ارضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين .
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك .
اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين .
اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين .
اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء .
اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .