- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
العبادة علة وجود الإنسان في الدنيا :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ أمضينا أسابيع كثيرة في موضوع العبادة ، وأمْضينا أسابيع كثيرة في موضوع الصبر ، وإن شاء الله تعالى سيكون الموضوع لعِدّة أسابيع موضوع العِلْم . أما لماذا اختَرْتُ الصّبْر بعد العبادة ولماذا اخترْت العلم بعد الصبر فللأسباب التالية .
كلّكم يعلم أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
فالعبادة علّة وُجود الإنسان في الدّنيا ، وقد عُرِّفَت العبادة مرات كثيرة بأنّها طاعةٌ طَوْعيّة ممْزوجةٌ بِمَحبّة قلبيّة ، أساسها معرفةٌ يقينيّة ، تفضي إلى سعادةٍ أبديّة ، في العبادة أشياء ثلاثة ؛ معرفة وعملٌ وسعادة ، فالسعادةُ نتيجةٌ طبيعيّة حَتْميّة ، ولكنّ الشيء الأساسيّ هو الطاعة ، والطاعة تحتاج إلى الصّبر ، وقد وسَّعْتُ معنى الصّبر بحيث أنّ الإنسان رُكِّبَت فيه الشّهوات ، فإذا ضبطَ حركاته وسكناتِه ، وضبطَ جوارحهُ ، وحملَ نفسهُ على طاعة الله ، فقد حقّق الطاعة ، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال حينما سئل عن الإيمان ، قال : " إنّه الصّبْر" .
ولكنّ العبادة التي هي علّة وُجودنا في الدّنيا ، علّة خلْق الإنسان ، وسبب وُجوده، والغاية من خلقِهِ ، إنَّها مبنيّة على العلم ، وقَول الإمام الشافعي الذي أذكرهُ كثيرًا : " إذا أردْت الدّنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردْت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم " ، ولكنّ كلمة العلم كلمةٌ واسعةٌ جدًّا ، إنّ أيّ اكتشافٍ لأيّة علاقةٍ ثابتةٍ بين شيئين ، مقطوع بصِحّتها ، يؤكّدها الواقع ، عليها دليل ، هي علْم ، لذلك العلماء الأجلاء فرّقوا بين علم الحقيقة، وبين علم الخليقة ، وبين علم الشريعة ، أو بين العلم بالله ، والعلم بأمْره ، والعلم بخلقهِ .
العلم بالله :
فالحديث اليوم عن العلم بالله ، والعلم بأمره ، أما العلم بخلقه فهو أصْلٌ في صلاح الدّنيا ، إذا اكتشفنا القوانين ، وعرفنا العلاقات الثابتة ازدادَت فائدة الإنسان من هذا الكون، المقصود في موضوعنا العلم هو العلم بالله عز وجل ، فإذا عرف الإنسان ربّهُ عرفَ نفسهُ ، وإذا عرفَ نفسهُ عرف ربّه ، فبالعلم بالله يعرفُ نفسهُ ، ويعرفُ ربّهُ ، ويهتدي إلى غايته، ويكتشفُ طريقهُ ، ويعلمُ ما لهُ ، وما عليه .
العلم بالله يهديه إلى الحق ، وإلى صراط مستقيم ، ويهديه إلى الخير ، ويهديه إلى السعادة ، بالعلم بالله تحقق مصالحهُ ، وتُدرأ عنه مفاسده ، هناك علمٌ ممتع ، وأيّ علمٍ ممْتع مهما يكن موضوعهُ ، ومهما تكن درجته ، وهناك علمٌ ممتعٌ ونافعٌ ، فقد تختصّ باختصاصٍ دقيق يقبلُ عليك الناس من كلّ حدبٍ وصوب ، هذا علمٌ ممتعٌ ونافعٌ ، وهناك علمٌ ممتع ونافعٌ ومُسْعِد في الدنيا والآخرة ؛ إنَّه العلم بالله تعالى ، لذلك بعض العلماء يروْن أنّ كلمة العلم حيثما وردت في القرآن الكريم تعني العلم بالله الذي به نعرفُ أنفسنا ، وبه نعرف ربّنا ، وبه نهتدي إلى غايتنا ، وبه نكتشفُ طريقنا ، وبه نعلمُ ما لنا ، وما علينا ، هو يهدينا إلى الحق ، ويهدينا إلى الخير ، ويهدينا إلى السعادة ، به تتحقّق مصالحنا ، وبه تُدرأُ عنّا مفاسدنا .
طلب العلم أحبّ عمل إلى الله عز وجل :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ حسْبُكم الحديث الشريف الذي رواه الشيخان ، وهو أعلى درجة من الأحاديث الصحيحة ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))
ولكن كلمة الفقه في هذا الحديث لها معنًى أعْمق مِمَّا يتبادر إلى أذهاننا اليوم ، فلان تعلّم الفقه أي تعلّم الأحكام الشرعيّة ، تعلّم فرائض الصلاة ، وأركانها ، وشروطها ، واجبات الصلاة ، سنن الصلاة ، مستحبات الصلاة ، الفقه في هذا الحديث يعني أن تعلم ظاهر الدين ، ولُبّه معًا ، الفقه في الدِّين في هذا الحديث يعني أن تعلم وتعملَ ، أن تكون عالمًا مطبّقًا، عالمًا منفِّذًا ، عالمًا ملتزمًا ، من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين . والنبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم يقول :
((من سلكَ طريقًا يلْتمِسُ فيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ بهِ طريقًا إلى الجنَّة ، وما اِجْتَمعَ قومٌ في بيتٍ مِنْ بيُوتِ الله يتْلونَ كِتـابَ الله ، ويتَدَارسُونهُ بينهم إلا حفّتْهم الملائكة ، ونزلَتْ عليهم السكينة وغشِيَتْهم الرّحْمة ، وذَكَرهم الله فيمَن عندهُ ))
ألا تُحبّون أن تكونوا من هؤلاء ؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((إنّ الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رِضا بما يصْنع))
معنى تضَعُ أجنحتها لِطَالب العلم ، معنى الوَضْع في هذا الحديث أيْ تتواضَعُ له - وهي الملائكة - وتوقِّرُهُ ، وتبجّلهُ ، ومعنى حفّتْهم الملائكة أيْ حفّتْهم بالحِماية ، والحفظ ، والرّعاية ، والصّيانة :
((إنّ الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رِضا بما يصْنع))
ما من عملٍ أحبّ إلى الله عز وجل من أن تطلبَ العلم ، من أجل أن تعرفَ من أنت ؟ وأين كنت ؟ وإلى أين المصير ؟ وما سرّ وُجودك في الأرض ؟ وما أنفعُ شيءٍ تفعلهُ ؟ وما أجْدى شيءٍ تؤثرهُ ؟ ومتى يكون الإنسان خاسرًا ؟ ومتى يكون رابحًا ؟ وما قيمة المال ؟ وما قيمة اللّذائذ ؟ وما قيمة الأعمال الصالحة ؟ رضا بما يصْنعُ ، وإنّ العالم ليسْتغفرُ له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الأرض ، وفضْل العالم على العابد كفضْل القمر على سائر الكواكب .
العبادة هشّة تتساقط أمام أيّ إغراء ، تتهاوى أمام أيّ ضغط ، أيّ ضغْطٍ مهما ضؤُل تتهاوى العبادة أمامهُ ، أيّ إغراءٍ مهما صغر تتساقط العبادة أمامه ، عالمٌ واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد ، كُنْ عالمًا ، أو متعلّمًا ، أو مستَمِعًا ، أو مُحِبًّا ، ولا تكن الخامس فتهْلك ، وفضْل العالم على العابد كفضْل القمر على سائر الكواكب ، وإنّ العلماء ورثةُ الأنبياء ، ألا تُحِبّ أن تكون وريثًا للنبي عليـه الصلاة والسلام ؟ الطريق مفتوح ، والثّمن مبذول ، تعلَّم العلم فأنت من ورثة الأنبياء :
((إنّ الأنبياء لمْ يورّثوا درْهمًا ، ولا دينارًا ، إنّما ورّثوا العلم ، فمَن أخذهُ أخذَ بِحَظٍّ وافر))
العلم هو الطريق الوحيد إلى الله عز وجل :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قبل أن أُتابع الحديث في هذا الموضوع ، موضوع العلم خطيرٌ جدًّا ، معنى خطير أيْ أنّه مهمّ ، كلمة خطير تستخدمُ في معرض الحديث عن أهميّة الشيء ، في الخطب القادمة إن شاء الله تعالى سيكون الحديث عن العلم والإيمان ، وما علاقة العلم بالإيمان ؟ وعن العلم والعبادة ، وعن العلم والعمل ، وعن العلم والدنيا ، وعن العلم والآخرة، علاقة العلم بهذه الموضوعات الكبرى في حياة الإنسان .
سيّدنا عمر رضي الله عن سيّدنا عمر ، قال : " أيّها الناس ، عليكم بِطَلبِ العلم، فإنّ لله تعالى رِداءَ محبّة ، فمَن طلبَ العلم ردّاهُ الله بهذا الرّداء " ألا تحبّ أن يحبّك الله عز وجل ؟ ألا تتمنى أن تكون عند الله محبوبًا ؟ ألا تتمنى أن تكون عند الله مفضلاً ؟ ألا تتمنى أن تحتلّ عند الله مرتبةً عليّة ؟ اُطلب العلم ، تعلّم العلم .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أحدُ الرّجال سأل الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما عن الجهاد ، فقال ابن عباس الصحابيّ الجليل : " تبني لله مسجدًا ، وتعلّم فيه القرآن ، وسنن النبي عليه الصلاة والسلام ، والفقه في الدّين " هكذا فهِمَ سيّدنا ابن عباس الجهاد من بعض الزوايا ، من بعض المفاهيم المتعلّقة بالجهاد أن تنشر الحقّ ، ونشْرُ الحقّ وِقايةٌ ضِدّ الباطل ، وهل الجهاد إلا مكافحة الباطل ، ودرهمُ وقاية خيرٌ من قنطار عِلاج ، المهمّ أن ينتشر الحقّ في الأرض ، فإذا نشرْتهُ بالتعليم أغناك عن الجهاد .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الصحابيّ الجليل ابن مسعود رضي الله عنه يقول : " نعم المجلسُ مجلسٌ تُنشرُ فيه الحكمة ، وتنشرُ فيه الرحمة ، إنّه مجلسُ العلم " .
وسيّدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول :" تعلَّموا العلم ، فإنّ تعلّمه لله خَشْيَة" والدليل قول الله عز وجل :
﴿كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
طريق الخشية الوحيد أن تكون عالمًا ، طريق الطاعة الوحيد أن تكون عالمًا ، طريق القُرْب الوحيد أن تكون عالمًا ، الطريق إلى الله الوحيد هو العلم ، فإنّ تعلّمه لله خَشية، وطلبهُ عبادة ، وكأنّك تصلّي وتصوم ، ومُدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، والدليل قوله تعالى :
﴿جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾
أي جاهدوا في البحث عن الحقّ وأهله ، لأن البحث عن الحق وأهله نوعٌ من الجهاد ، والبحثُ عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمهُ صدقة ، لو أنّك تقاضَيْت على ساعة تعليم العلم مئة ألف ليرة ، لا تساوي شيئًا يسيرًا من إكرام الله لك ، لذلك تعليم العلم لا يقدّر بِثَمَن ، لأنّ الله سبحانه وتعالى في عَليائِهِ يتولّى مكافأة من يعلّمك الخير ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام : " خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه ".
وتعليمه لمن لا يعلمهُ صدقة ، وبذْلهُ لأهله قُربةٌ إلى الله عز وجل ، هذا قول الصحابي الجليل معاذ بن جبل ، وهو الأنيسُ في الوحدة ، المتعلّم لا يشكو الوحدة ، أنيسهُ العلم، لا يشكو طول الوقت ، أنيسهُ العلم ، حافظ القرآن ، الفقيه في الدِّين ، الذي يطلب العلم لا يشكو الوحشة أبدًا ، فالاستئناس بالناس من علامات الإفلاس . وهو الأنيسُ في الوحدة ، والصاحبُ في الخَلوة ، والدليل على الدِّين ، والنصيرُ في السّراء والضّراء ، والوزير عند الأخلاء - أي المعين - والقريب عند القرباء ، منار سبيل الجنّة ، يُنيرُ لك سبيل الجنّة ، يرفعُ الله به أقوامًا ، قال تعالى :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
ما من رتبة أعلى في الدنيا و الآخرة من رتبة العلم :
من منَّا يذكرُ رجلاً من صاحب الأموال الطائلة عاش في القرن الثامن عشر ؟ إنّكم جميعًا لا تذكرون هذا الإنسان ، وأنا لا أعرفه معكم ، ولكنّ العلماء الذين هم ورثة الأنبياء على كلّ لسانٍ في كلّ يوم ، وفي كلّ مكان ، يا بنيّ - كما قال الإمام عليّ - مات خُزّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدّهْر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة ، يرفع الله به أقوامًا ، إذا أردْت الرِّفْعة الحقيقيّة ، والرّفعة المشروعة ، إذا أردت المكانة المرموقة ، من دون أن تكون مبنيّة على أنقاض الآخرين ، ولا على مشكلاتهم فتعلّم العلم ، ما من رتبة أعلى في الدنيا ، وفي الآخرة من رتبة العلم ، العالم شيخٌ ولو كان حدثًا ، والجاهل الشيخ كأنّه حَدَث ، الحَدَث العالم كأنّه شيخ والجاهل الشيخ كأنّه حَدَث ، يرفع الله به أقوامًا فيجعلهم في الخير قادة ، ويجعلهم سادة ، ويجعلهم قُدوةً يُقتدى بهم ، به تقتفى آثارهم ، به ترمق أفعالهم ، ترغب الملائكة في صحبتهم ، تمسحهم بأجنحتها ، ويستغفر لهم كلّ رطْبٍ ويابسٍ ، وطلب العلم مبذول ، والعلم مبذول بلا ثمَن ، اُدْخُل إلى المسجد ، وتعلّم تفسير القرآن ، تعلّم سنّة النبي العدنان ، تعلّم أحكام الفقه .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ نتابع قول سيّدنا معاذ بن جبل : " حتى حيتان البحر وهوامه ، وسباع البرّ وأنعامه ، والسماء ونجومها ، تصلّي على معلِّم الناس الخير" .
بالعلم يُطاع الله عز وجل و يُعْبد و يُوحّد :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ بِهِ أيْ بالعلم يُطاع الله عز وجل ، وبه يُعْبد ، وبه يُوحّد ، وبه يمجّد ، وبه يتورّع ، وبه توصَلُ الأرحام ، وبه يعرف الحلال والحرام ، هو إمامٌ والعمل تابعُه، يلهمهُ الله السّعداء ، ويحرمه الأشقياء ، يكفي أنّ الشقيّ من حُرِمَ العلم ، إنّ الله يعطي المال لمن يحبّ ولمن لا يحبّ ، قال تعالى :
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾
وإنّ الله يعطي القوّة لمن يحبّ ولمن لا يحبّ ، أعطى المُلك لِسَيّدنا سليمان وأعطاه لفرعون ، لمن يحبّ ولمن لا يحبّ ، يعطي المال لمن يحبّ ولمن لا يحبّ ، ولكنّه لا يعطي العلم والحِكمة إلا لمن يحبّ ، قال تعالى :
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ يحيى بن معاذ قال : " العلماء أرْحم بِأُمّة محمّد من آبائهم وأمّهاتهم ، قيل : وكيف ؟ قال : لأنّ الآباء والأمّهات يحفظونهم من نار الدّنيا ، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة " سُئِلَ ابن المبارك : من الناس ؟ قال : العلماء ، كأنّه يريد أن يقول: من لم يطلب العلم فليس من الناس ، قال : فمَن الملوك ؟ قال : الزّهاد ، اِزْهَد بما في أيدي الناس تكن ملكًا ، اسْتَغْنِ عن الرّجل تكن أميرهُ ، واحْتَج إليه تكن أسيرهُ ، تكن عبدًا له ، فإذا زهِدْت في الدنيا أحبّك الناس ، وأصبحْت كالملِك ، الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ، حجّة الإسلام أبو حامد قال : " لمْ يجعل الإمام ابن المبارك غير العالم من الناس " لأنّ الناحيَة التي يتميّز بها الناس عن سائر البهائم هي العلم ، الإنسان يأكل ويشرب ، والبهيمة تأكل وتشرب ، والإنسان ينام ، والبهيمة تنام ، الإنسان يتوالد ، والبهائــم تتوالد ، ما الذي يرفعك عن مستوى البهيمة ؟ أن تكون عالمًا ، فالإنسان - كما قال الإمام أبو حامد - إنسانٌ بما هو شريفٌ لأهله وليس بقوّة جِسْمه فالجمل أقوى ، وليس بِعظمهِ فالفيل أعظم منه ، ولا بِشَجاعته فالسبع أشجع منه ، ولا بأكله فالثَّوْر آكلُ منه ، ولا لأنّه يُجامع فأخسّ أنواع العصافير أقوى على السّفاد منه ، بل لم يُخلق إلا للعلم " ورد هذا في إحياء علوم الدِّين .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يقول :" حاجة الإنسان إلى العلم أكثر من حاجته إلى الطعام والشراب " ، النبي عليه الصلاة والسلام رفعَ يديه إلى السماء ، ابن عباسٍ كان شابًا صغيرًا يافعًا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ، جهَّزَ له وَضوءهُ ، فلمّا سأل النبي : من فعَلَ هذا ؟ قالوا : ابن عبّاس ، فرفع يديه إلى السماء ، وقال : " اللهمّ فقّهه في الدِّين وعلّمه التأويل " وضمّه مرَّةً ، وقال : " اللهمّ علّمه الحكمة " ودعا له ثالثة فقال : " اللهمّ بارك فيه وانْشر الخير منه ".
دعاء النبي الكريم لابن عباس بِتَعَلّم العلم والتأويل والفقه في الدِّين :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ سيّدنا عمر رضي الله عن عمر كان من حينٍ لآخر يأذنُ لأهل بدر ، ويأذن لي معهم ، هكذا قال ابن عباس رضي الله عنه ، فقال بعض أصحاب النبي: أتأذن لهذا الفتى ومن أبنائنا من هو في سِنِّه ؟ فقال سيّدنا عمر : إنّه مِمَّن قد علمْتم ؛ إنّه ابن عباس ، مِمَّن دعا له النبي بِتَعَلّم العلم ، وتعلّم التأويل ، والفقه في الدِّين ، والحِكمة ، والبركة ، والخير . أذِنَ لهم يومًا ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة ، قال تعالى :
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾
فقالوا : إذا فتَحَ الله على النبي صلى الله عليه وسلّم فقد أمره الله أن يستغفر ويتوب ، فالْتفتَ إلى ابن عباس وقال : يا بن عباس ما تقول أنت في هذه السورة ؟ قال : أخبرَ الله نبيَّهُ بِدُنوّ أجله إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، انتَهَتْ مهمّتك ، والعظماء لا يعيشون للطعام والشراب ، يعيشون للرسالة ، فإذا تحقّقتْ انتَهَت مهمّتهم ، فقال : بها أخبر الله نبيّه أنّه قد اقترب أجله .
أيها الأخوة الأكارم ؛ وُصِفَ ابن عباس رضي الله عنه فقالوا : إنّه فتى الكهول ، له لسانٌ سؤول ، وقلبٌ عقول ، وقد سئِلَ مرَّة : بمَ أصبْت هذا العلم ؟ فقال : بلِسان سؤول ، وقلب عقول .
سئلَ مرَّةً عن تفسير قوله تعالى :
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾
فأجاب بالحرف الواحد : كانت السموات والأرض رتقًا ، وكانت السماء رتقًا فلا تمطر ، والأرض رتقًا فلا تنبت ، ففتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالإنبات .
أيها الأخوة الأكارم ؛ بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام سمّاه البحر لِكَثرة علمه ، ولِعُمْق فهمه ، ولإدراكه السليم .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ باب العلم مفتوح ، وباب العلم مبذول ، وما علينا إلا أن نطلبهُ حتى نستحقّ رضا الله عز وجل .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا ، فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
آلية الطيران وآية الله في الطائر :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ اسْتوقفتني كلمةٌ قرأتها في بعض المجلات العلميّة هذه الكلمة تقول : إنّ أعظم طائرةٍ حديثة صنعها الإنسان لا ترقى بل لا تقترب من مستوى الطائر ، في القرآن الكريم آيةٌ كريمة وهي قوله تعالى :
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾
فما هذه الآليّة ؟ فما هذه الخصائص الفنيّة التي يتمتّع بها الطائر حتى أصبح فوق أعلى طائرة صنعها الإنسان ؟ موضوع طويل ، موضوع معقّد ، ولكن سآخُذ منه شيئًا واحدًا من مقوِّمات الطيران تِلك الريشة التي جهَّز الله بها الطائر .
أولاً : للريش وظيفتان :
1- المحافظة على حرارة الجسم .
2- الطيران .
الكثير من المواد والاجسام لها وظيفة العازل للحرارة مثل فرو الثديات ولكن الريش يقوم بهذه الوظيفة بطريقة انجع بكثير من الفرو ، لذلك ترى الذين يتجولون في المناطق الباردة يستعملون لباس من الريش .
صفة العازل الناجع التي يحظى بها الريش ، والحفاظ على درجة حرارة الجسم تمكن الطيور من النشاط بشكل أوسع من ناحية المساحة والزمن معا ، فهي تتواجد بأماكن كثيرة ومختلفة
(( يمكن أن نجدها بالصحراء الحارة حتى القطب البارد وفي المحيطات وحتى الجبال ))
وأيضا فهي فعالة ونشيطة في الليل والنهار .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، واصرف عنا شر الأعمال لا يصرفها عنا إلا أنت .