- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، و ما توفيقي و لا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدناً محمداً صلَّى الله عليه وسلم رسولُ الله سِّيدُ الخلق والبشر ، ما اتَّصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذرِّيته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تعريف الصّبر :
في القرآن الكريم مئة آية تتحدَّث عن الصبر ، و الشيء الذي يلفت النظر أن النبي عليه الصلاة و السلام سُئل عن الإيمان فقال : هو الصبر . . . يا سبحان الله أيُختصر الإيمان كله في الصبر ؟! كيف ذلك ؟ في بعض الأحاديث الشريفة :
(( الإيمان نصفان نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ ))
وفي حديث آخر :
(( الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان ..))
أيها الأخوة الأكارم ؛ موضوع خطبتنا اليوم هو الصبر ، لأن النبي عليه الصلاة و السلام يختصر الإيمان كلَّه في الصبر ، فقد ورد في القرآن الكريم ما يزيد عن مئة آية تتحدث عن الصبر ، فما الصبر ؟ وهل هو ضرورة من ضرورات الإيمان ؟ بعد قليل تعرفون أهمية الصبر إن شاء الله تعالى من خلال الآيات القرآنية التي تتحدث عن الصبر ، الصبر في أصل اللغة الحبس و الكف ، قال تعالى :
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
اصبر نفسك معهم ، أي : احبس نفسك معهم ، كن معهم ، احضر مجالسهم ، استمع منهم ، تعلم منهم ، اقتبس منهم ، رافقهم ، قال تعالى :
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ماذا يقابل الصبر ؟ إن لم نصبر فماذا نكون ؟ الله سبحانه وتعالى يجيبنا عن هذا السؤال ، قال تعالى :
﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾
فإن لم تصبر فلا بد من الجزع ، إما أن تكون جازعاً أو جزوعاً على المبالغة ، و إما أن تكون صابراً أو صبوراً ، ولكن الصبر الذي أراده الله عز وجل في الآيات المئة هو حبس النفس على ما تكره ابتغاء مرضاة الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾
صبروا ابتغاء وجه ربهم ، لم يصبروا قهراً ، لم يصبروا ابتغاء وجه زيد أو عبيد ، أو فلان أو علان ، لم يصبروا حرماناً ، لم يصبروا سياسة ، لم يصبروا مداراة ، لم يصبروا ذكاء، صبروا ابتغاء وجه ربهم ، و أقاموا الصلاة ، وأمرهم شورى بينهم ، إذا حبست نفسك على ما تكره ابتغاء وجه الله عز وجل فهذا هو الصبر الذي أراده الله في مئة آية و نيف في كتاب الله عز وجل .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لعل الصبر في تعريفه الدقيق ، وفي مفهومه الشمولي هو حبس النفس عن مشتهيات الطبع و مقتضيات الهوى ، حمل النفس على طاعة الله وزجرها عن معصية الله هو ما يعنيه الصبر في القرآن الكريم .
فروع الصّبر :
و لكن النبي عليه الصلاة والسلام حينما يلخِّص الإيمان كله حينما يلخصه في الصبر ، فلا بد من أن الصبر له فروع كثيرة ، وهو سمة عميقة لأخلاق كثيرة ، لا بد من ذلك ، فمن صبر عن شهوة البطن والفرج ابتغاء وجه الله عز وجل فهذه هي العفة ، قال عليه الصلاة و السلام :
(( الإيمان عفيف عن المحارم ، الإيمان عفيف عن المطامع . . .))
فالعفة صبرٌ عن شهوة البطن وشهوة الفرج ، فالذي يغضُّ بصره عن محارم الله ، إنما هو صابر ، يعاكس شهوته ، يعاكس ميله الفطري إلى المرأة ، يعاكس داعي الإثارة، فالعفيف صابر ، والذي يصبر عن مغريات المال ، من ملك المال هناك دوافع كثيرة تدفعه إلى أماكن معينة ، وإلى مواقف معينة ، وإلى طرائق معينة في الحياة ، فهذا الذي يستجيب لهوى نفسه إذا كان قد أكرمه الله بالمال سَّماه العلماء البطر ، بطر الغنى أن تأكل ما تشتهي ، وتفعل ما تشتهي ، وتجلس في المكان الذي تشتهي ، وأن تستعلي على عباد الله ، لكن الذي يضبط نفسه وهو غني فيحملها على طاعة الله ، ويحملها على العبادة ، ويحملها على التواضع ، ويحملها على السخاء ، فهذا أيضاً من الصابرين ، صبر عن مغريات المال ، ضبط نفسه ، ولم يكن بطراً ، والذي يصبر في الحرب هو الشجاع ، و نقيضه الجبان ، و الشجاعة صبر ، الضبط في حالة الغنى صبر ، و الشجاعة صبر ، و العفة عن شهوة البطن و الفرج صبر ، و إذا استفزَّك إنسان وبإمكانك أن تسحقه فكظمت غيظك لوجه الله عز وجل ، فأنت صابر ، فكظم الغيظ من الصبر ، وإذا جهل عليك إنسان أنت قادر على أن تكيل له الصاع صاعين ، لكنك اتَّسمت بسعة الصدر فأنت صابر ، و إذا أفشى لك إنسان سرَّه ، وغالبت نفسك وهواك في إذاعته فكتمت هذا السر فأنت صابر ، وإذا عرضت لك الدنيا بزينتها ، وتراقصت أمام عينيك ، فعففت عنها ، وآثرت الله ورسوله فأنت صابر ، إذا حباك الله برزق قليل محدود ورضيت به ، وقنعت به فأنت صابر ، فالقنوع صابر ، والزاهد صابر ، وكاتم السر صابر ، و الحليم صابر ، وواسع الصدر صابر ، والشجاع صابر ، ومن ضبط نفسه و المال بين يديه إنه من الصابرين ، و من صبر عن شهوة البطن و الفرج فهو من الصابرين .
أرأيتم يا أيها الأخوة الإيمان كيف أن معظم أخلاق المؤمن مردُّها إلى الصبر ، إن معظم أخلاق المؤمن مردُّها إلى الصبر .
الحكمة من أن الإنسان وحده كلف بالصبر :
حقيقة دقيقة من حقائق العقيدة ، هل كُلِّف الملائكة بالصبر ؟ لا ، لماذا ؟ لأن فيهم نزوعاً إلى الله عز وجل ، ليس غير ، ليس هناك قوة أخرى تعاكس هذه القوة ، الملائكة رُكِّبوا من عقل بلا شهوة ، فهم مدفوعون إلى الله عز وجل في بنيتهم و فطرتهم
فالصبر ليس له وجود في حياتهم ، و الحيوان رُكِّبت فيه الشهوة ، و لم يُكلَّف حمل الأمانة ، و لم يُكلَّف معرفة الله عز وجل ، و لم يكلف تطهير نفسه ، ليس في حياة الحيوان قوتان متعاكستان ، لذلك لا يكلف الحيوان بالصبر ، إن الإنسان وحده كلف بالصبر لأن الله عز وجل أودع فيه نوازع مادية ، كحب الطعام و الشراب ، وحب النساء ، و حب الذكر و العلو في الأرض ، هذه دوافع أرضية ، و حمَّله الأمانة و كلَّفه أن يطهِّر نفسه ، سخِّر له الكون ، و منحه نعمة العقل ، كلفه بالشرع ، أعطاه حرية الاختيار ، فالإنسان بين قوتين ، قوة تدعوه إلى الأرض ، تدعوه إلى قضاء الشهوة ، تدعوه إلى الاستمتاع بالمادة ، تدعوه إلى اللَّذة ، وقوة تدعوه إلى الله ، تدعوه إلى السموّ ، تدعوه إلى الرقي ، تدعوه إلى أن يكون أخلاقياً ، تدعوه لمعرفة ربه ، الإنسان مركَّب من عقل وشهوة ، العقل يدعوه إلى الله ، والشهوة تدعوه إلى الأرض ، لذلك أنت بين قوتين ، كل أخلاق المؤمن في أساسها أن الباعث الديني يغلب الباعث الشهواني ، و كل أخلاق الكافر في أساسها أن الباعث الشهواني يغلب الدافع الديني ، فأنت في صراع بين الشهوة و بين العقل ، بين الدنيا و بين الآخرة ، وجنود الشهوة هم شياطين الجن والإنس ، يوسوسون للإنسان بفعل المعاصي ، و جنود الحق هم الملائكة الذين يلهمون الإنسان فعل الخيرات ، و المؤمنون الذين ينصحون الناسَ بطاعة الرحمن ، فهذا الصراع بين الباعث الديني و بين الباعث الشهواني ، هو في أساسه يحتاج إلى صبر ، يحتاج إلى أن تسكت الباعث الشهواني استجابة للباعث الديني ، أن تؤثر الآخرة الباقية على الدنيا الزائلة ، لذلك حينما سُئل عليه الصلاة و السلام عن الإيمان فقال : " هو الصبر " .
الصّبر وحده مناط الفلاح في الآخرة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من منا يصدِق أن القرآن الكريم في آيات ثلاث جعل ثمن الجنة كله الصبر ، بل إن الصبر بمعناه الواسع ، الحليم صبور ، الزاهد صبور ، و القنوع صبور ، و الرحيم صبور ، والعفيف صبور ، و الشجاع صبور ، إن الصبر سمة عميقة في النفس ، تظهر على ساحة السلوك بالعفة و الشجاعة و الحلم و ضبط النفس والزهد
و القناعة ، لذلك جعل القرآنُ الكريم الصبرَ وحده مناط الفلاح في الآخرة
قال تعالى :
﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾
في آية ثانية قال تعالى :
﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً﴾
في آية ثالثة قال تعالى :
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾
إذًا أنت في الدنيا بين أن ترضي نوازعك الشهوانية و بين أن ترضي نوازعك الروحية ، بين أن تكون مع الله و بين أن تكون مع الشيطان ، بين أن تسعى إلى اللذة الآنية و بين أن تسعى إلى السعادة الأبدية ، أنت بين هذا و ذاك .
الصّبر ثبات لداعي الحق :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الصبر ثبات لداعي الحق ، و عدم الصبر انحراف عن الحق ، لذلك قال تعالى :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾
هذا الذي اتصل بالله وذاق طعم القرب ، ذاق حلاوة الإيمان ، ذاق معنى الرضوان ، هذا الذي اتصل بالله و عرف الدنيا ، وكيف أنها زائلة ، و كيف أنها مزرعة الآخرة ، و كيف أنها دار ابتلاء ، وكيف أنها دار تكليف ، هذا الذي عرف حقيقة الدنيا ، عرف سرعة زوالها ، عرف تفاهة قيمتها ، عرف أنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، آثر ما يبقى على ما يفنى ، آثر الجنة التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، على الدنيا المحفوفة بالهموم ، المحفوفة بالقلق ، المحفوفة بالمكاره .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :
(( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا ، فَأَوْمَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلَاثًا ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ، وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا ))
أي لمجرد أن تستسلم لشهوتك ، وتسير مع رغبتك ، وتميل مع الهوى فقد سرت في طريق النار ، و لمجرد أن تسعى إلى الله و رسوله ، وإلى الدار الآخرة ، وأن تكافح رغبتك ، وأن تعاكس شهوتك ، و أن تعصي هواك فقد سرت في طريق الجنة ، يلخِّص هذا قوله تعالى :
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾
نهى النفس عن الهوى ، داعي الهوى يدعوك ، وداعي الرحمن يدعوك ، الملَك يلهم ، و الشيطان يوسوس ، الجسد يطلب ، و الروح تطلب ، وأنت مع من ؟
الصّبر من لوازم النجاح في الدنيا قبل الآخرة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيء آخر ، من منكم يصدِّق أن الصبر من لوازم النجاح في الدنيا قبل الآخرة ، ما من إنسان حقَّق في الدنيا نجاحاً كبيراً إلا و السببُ هو صبره على متاعب العمل في أوله ، فلولا صبر الزارع على بذره لما حصد ، ولولا صبر الغارس على غرسه لما جنى ، ولولا صبر الطالب على درسه لما نجح ، ولولا صبر المقاتل على عدوه لما انتصر .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كلُّ الناجحين حقَّقوا آمالهم ، وبلغوا مُناهم بالصبر ، إذا كانت الدنيا الدنية التي لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، لا بد للنجاح فيها من الصبر ، هذا الطبيب الذي يجلس وراء مكتبه ليعطي الملاحظات و يصف الوصفات ، لولا أنه درس سنوات طويلة ، و سهر إلى قبيل الفجر ، وتعب من الامتحان لما جلس هذه الجِلسة ، وهذا التاجر الذي يحقق أرباحاً طائلة بهاتف أو بتوقيع أو بإيجاب أو بقبول ، لولا أنه عمل صانعاً بجهد كبير، وأجر قليل لما وصل إلى هذه المكانة ، وما من إنسان في عالم المال ، أو في عالم التجارة ، أو في عالم الصناعة ، أو في حقل العلم ، أو في حقل الخبرة ، ما من إنسان حقَّق نجاحاً إلا بثمن باهظ ، ألا وهو الصبر ، إذا كان هذا قانون الدنيا الدنية من أجل سنوات معدودة أفلا يجب أن يكون هذا القانون مطبَّقاً على الآخرة الأبدية ؟ لذلك ادخلوا الجنة بما صبرتم ، و قال تعالى :
﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كل الناجحين - كما قلت قبل قليل - حقَّقوا آمالهم بالصبر ، و استمرؤوا المرَّ ، و استعذبوا العذاب ، و استهانوا بالصعاب ، و مشوا على الشوك ، و حفروا الصخور بالأظافر ، و لم يبالوا بالأحجار تقف في طريقهم ، و لم يبالوا بالطعنات تُغرس في ظهورهم ، و بالشراك تُنصب للإيقاع بهم ، و لم يبالوا بالكلاب تنبح من حولهم ، هؤلاء الناجحون في الدنيا ، قال تعالى :
﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾
أهل الباطل يصبرون على أهدافهم ؟ قال تعالى :
﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾
أيُعقل أن يصبر الكافرُ ليحقِّق هدفه ؟ والمؤمن صاحب الرسالة العظمى ، صاحب الهدف الكبير ، يستمرئ الرخاء ، و الراحة ، و المتعة ، و يطلب الجنة من غير عمل؟ لذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه : " طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب " ذنب عظيم ، إنه استهزاء بالله عز وجل ، قال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
قال تعالى :
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
و قال تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾
و قال تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
و قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
و قال تعالى :
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
الصّبر على المكاره و الشهوات سبب دخول الجنة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا كانت الرفعة في الدنيا وتحقيق النجاح فيها يحتاج إلى جهد كبير ، وإلى صبر طويل ، فما بالك بالآخرة التي تنعم بها في الجنة إلى أبد الآبدين ؟ لذلك سئل أحد المخترعين عن حقيقة الاختراع فقال : تسعة وتسعون في المئة منه عرق ، أي بذل جهد ، وواحد بالمئة إلهام ، و قديماً قالوا : لا بد دون الشَّهد من إبر النحل ، لكن الجيل الجديد يريد كل شيء من دون شيء ، من دون أن يدفع شيئاً ، يريد أن يصل إلى كل شيء وهو في أتمّ حالات الرخاء و الدَّعة ، إن هذا لن يكون .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ابن سيرين العالِم الذي عُرف بتفسير المنام سأله رجل قال : "يا إمام رأيت في النوم أنني أسبح في غير ماء ، وأطير بغير جناح ، فقال ابن سيرين : أنت رجل كثير الأماني ، و الأحلام ، تتمنى ما لا يقع ، و تحلم بما لم يتحقَّق " ، هذا الذي يقول : اللهم أدخلنا الجنة ، ماذا فعلت من أجلها ؟ ماذا قدَّمت من عمل ؟ ما الموقف الذي وقفته من أجل الجنة ؟ و ما الشيء الذي تركته ؟ ما الشيء الذي دفعته ؟ ما الشيء الذي قبضته ؟ عن أي شيء امتنعت ؟ ماذا وصلت وماذا قطعت ؟ ماذا أعطيت وماذا منعت ؟ لمن غضبت ولمن رضيت ؟ هذا الذي يقول : ربنا أدخلنا الجنة ، وهو على ما هو عليه ، لا يفعل شيئاً ، هذا يضيف إلى ذنوبه ذنباً جديداً .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أحد علماء القلوب ، يقول : الصبر سبب دخول الجنة، قيل له : و كيف ؟ قال : لأن النبي عليه الصلاة و السلام يقول ، كما في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ))
ولا بد من أن تصبر على المكاره ، و ان تصبر عن الشهوات ، حتى يُسمح لك بدخول الجنة ، وما هي أسباب المعاصي ؟ قلة الصبر ، قلة الصبر على ما يكره ، وقلة الصبر عما يحب ، يبتعد عما يكره ، و يقبل على ما يحب ، من هنا تأتي المعاصي ، و النبي عليه الصلاة أصاب كبد الحقيقة حينما قال :
(( الإيمان هو الصبر ))
استغلال الأشياء بطريقتين :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الشيء الأخير في هذه الخطبة قول الله عز وجل :
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾
و في آية أخرى :
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾
و في آية ثالثة :
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
فالابتلاء أن تقف من الشيء موقفاً تجعله سُلَّماً لك إلى الآخرة ، أو أن تقف منه موقفاً تجعله سلماً إلى النار ، سلماً تنزل عليه ، لا تصعد عليه ، فالمرأة إذا تعاملت معها وفق الشرع كانت المرأة سلماً إلى الله عز وجل ، والمال إن تعاملت معه وفق ما أمر الله عز وجل كان المال سلماً إلى الجنة ، فإذا تعاملت معه خلاف الشرع كان سلماً تهوي به إلى النار ، كل شيء في الدنيا إما أن ترقى به و إما أن تهوي به ، إما أن يرفعك إلى أعلى عليين ، وإما أن يهبط بك إلى أسفل سافلين ، الأشياء يمكن أن تُستغل بطريقتين ، إما بالشهوة - كما قلت في الأسبوع الماضي - شهوة محرِّكة نافعة ، وإما أن تكون قوة مدمِّرة مهلكة ، بحسب طريقة استعمالها .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كل شيء في الدنيا مادة تُمتحن به من قِبَل المولى جل وعلا ، و الشيء الذي خصَّك الله به مادة خاصة ، هناك مواد عامة ، و هناك مواد خاصة ، كل شيء ، امرأة في الطريق ، تخرج سافرة ، إنها مادة امتحان ، إما أن تملأ عينيك منها ، فتكون هذه المرأة سلماً تهوي به ، و إما أن تغضَّ بصرك عنها فتكون هذه المرأة سلماً .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .