- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيّدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومَن والاه ومَن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
مهمة الأنبياء والمرسلين تصحيح الوجهة إلى الله عزَّ وجل :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الاتجاه إلى الله سبحانه وتعالى ، الاتجاه إلى الخالق جلَّ وعلا مركوزٌ في الفطرة البشرية ، نابعٌ من أعماق النفس ، هكذا فطرها الله عزَّ وجل..
﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا الشعور الأصيل بالاتجاه إلى الله عزَّ وجل قد يخطئ الطريق ، فيَعْبُد غير الله ، من هنا يأتي الشرك ، الاتجاه إلى الخالق ، الاتجاه إلى الله عزَّ وجل مركوزٌ في فطرة الإنسان ، نابعٌ من أعماقه ، فإذا اتجه الإنسان لغير الله فقد ضلَّ الطريق ، وأخطأ الهدف ، مهمة الأنبياء والمرسلين ، والعلماء العاملين ، والدعاة المخلصين تصحيح الوجهة إلى الله عزَّ وجل ، لفت الإنسان إلى ربّه الذي خلقه من قبل ولم يكُ شيئاً .
ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حدَّثنا عن أقوامٍ عبدوا غير الله ، فقال تعالى متحدِّثاً على لسان الهُدْهُد :
﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾
في آيةِ أخرى :
﴿ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴾
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنه : أن ودَّاً ، وسواعَاً ، ويغوثَ ، ويعوقَ ، ونسرَاً، كانت صوراً لبعض موتاهم الصالحين ، اتخذوها لتذكِّرهم بالله عزَّ وجل ، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوها .
في فطرة الإنسان اتجاهٌ إلى الله ، اتجاهٌ إلى الخالق ، هذا الشيء مركوزٌ في فطرتك ، نابعٌ من أعماقك ، فإذا ضلَّ الطريق ، أو أخطأ الهدف ، عبد غير الله .
مهمة الأنبياء والمرسلين ، والعلماء العاملين ، والدعاة المخلصين توجيه النفوس إلى الله عزَّ وجل ، بحسب الفطرة التي فطر الناس عليها .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ابن اسحاقٍ يروي في تاريخه أنه في الجاهلية ، وقبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كان كل أهل دارٍ يتَّخذون صنماً يعبدونه مِن دون الله ، فإذا أراد الإنسان سفراً تَمَسَّح به ، وإذا آب من السفر تمسَّح به بحثاً عن أمنه وسلامته .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حتى أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله .
والنبي عليه الصلاة والسلام لمَّا فتح مكة ، وجد في فناء الكعبة ثلاثمئةٍ وستين صنماً ، كسَّرها جميعاً ، وكان يتلو قوله تعالى :
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
الدّين كله إياك نعبد و إياك نستعين :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ بحسب الفطرة التي فُطِرْنا عليها ، بحسب ما أودعه الله في أعماق نفوسنا ، لابدَّ مِن أن نعبد الله وحده . لذلك قال بعض العلماء : جمع الدين كله في القرآن ، وجمع القرآن في الفاتحة ، وجُمِعَت الفاتحة في :
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾
﴿ إياك نعبد﴾
لو أن الله عزَّ وجل قال : نعبد إياك . هذا التركيب لا يفيد القصر ، نعبد إياك ونعبد غيرك ، ولكن إذا قدَّمنا المفعول به على الفعل ، هذا التقديم يفيد القصر ، إيَّاك نعبد ولا نعبد أحداً سواك . .
﴿ وإياك نستعين ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ الدين كله . .
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾
واللهُ سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول :
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
والمشكلة أن الإنسان إذا لم يعبد الله لابدَّ مِن أن يعبد سواه ، فشيئان لا ثالث لهما: إما أن تعبد الله وحده ، وإما أن تعبد سواه ، فكل ما سوى الله عزَّ وجل سمَّاه الله في القرآن الكريم الطاغوت .
البشر نوعان أناسٌ يعبدون الله وأناسٌ يعبدون الطاغوت :
فالبشر نوعان أناسٌ يعبدون الله ، وأناسٌ يعبدون الطاغوت ، فكل مَن استكبر عن عبادة الله سقط في عبادة غير الله ، أما أن تكون هناك حالةٌ أخرى - لا عبادة - فهذا شيءٌ مستحيل ، إما أن يعبد ذاته ، وإما أن يعبد شهوته ، وإما أن يعبد صنماً ، وإما أن يعبد شيئاً ، وإما أن يعبد شخصاً . إما أن تعبد الله وإما أن تسقط في عبادة غير الله . .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا الكلام مُلَخَّص الأديان كلها :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
فحوى دعوة الأنبياء جميعاً ، مضمون الرسالات السماوية كلِّها . .
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾
﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾
﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً ﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري ، عن ابن مسعود أنه قال :
(( من مات وهو يدعو من دون الله ندَّاً دخل النار ))
وقد جاء في صحيح مسلم ، عن سيدنا جابر رضي الله عنه ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( مَن لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ، ومَن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ))
وفي الحديث القدسي :
(( عبدي لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ))
الشرك انحطاط و فِسْق :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الشرك انحطاط ، الشرك فِسْق ، أي أنه يؤدي إلى الفسق، يؤدي إلى الانحطاط ، يؤدي إلى المعصية ، يؤدي إلى المخالفة ، يؤدي إلى السقوط .
الشرك أيها الأخوة المؤمنون فضلاً عن أنه انحطاطٌ وقذارةٌ هو كذبٌ على الحقيقة، لأن هذا الذي يشرك يعتقد شيئاً لا أصل له ، يعتقد وهماً ، يعتقد شيئاً خلاف الواقع ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم جمع بين الشرك وبين كلمة الزور ، فقال تعالى :
﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾
أي مَن عبد غير الله فقد عبد شيئاً لا أصل له ، تماماً ككلمة الزور . .
﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾
العبادة نوعٌ من الخضوع لا يستحقه إلا الله عز وجل :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ عودةٌ إلى موضوع العبادة ، العبادة نوعٌ من الخضوع لا يستحقه إلا الله سبحانه وتعالى ، غاية الخضوع مع غاية المحبة ، هذا النوع من الخضوع لا يستحقه إلا المُنْعِم بأعلى أجناس النعَم ، الذي أنعم عليك بنعمة الوجود هو وحده يستحق العبادة، الذي أنعم عليك بنعمة الحياة يستحق العبادة ، الذي أنعم عليك بنعمة الإمداد يستحق العبادة ، الذي أنعم عليك بنعمة السمع والبصر ، والعقل والإدراك ، يستحق العبادة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله تعالى مخاطباً الإنسان :
﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كلُّ ما في الكون مُسَخرٌ للإنسان ، والمسخر له أعلى شأناً ، وأعلى مقاماً ، وأعلى رتبةً مِن المُسَخَّر . .
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾
فيا أيها الإنسان كيف تخضع لما هو مُسَخَّرٌ لك في الأصل ؟ الشرك أن تخضع لغير الله ، أن تخضع خضوعاً تامَّاً لما هو في الأصل مسخرٌ لك .
الذرائع التي سدَّها النبي عليه الصلاة والسلام تفادياً للوقوع في الشرك :
1 ـ نهي الناس عن المبالغة في مدحه :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الآن ننتقل في هذه الخطبة إلى الذرائع التي سدَّها النبي عليه الصلاة والسلام تفادياً للوقوع في الشرك . . . النبي عليه الصلاة والسلام رفض كل مبالغةٍ في تعظيمه تظهره في غير مظهر العبودية لله عزَّ وجل ، بدأ بشخصه ، النبي عليه الصلاة والسلام سيِّد الخلق وحبيب الحق ، سيد الأنبياء والمرسلين ، سيد ولد آدم ، على ما هو عليه مِن جلال القَدْر ، ومِن عظيم الأمر ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا تطروني - أي لا تمدحوني - كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وقولوا: عبد الله ورسوله ))
أي رواه البخاري ومسلم ، أي اتفق عليه البخاري ومسلم .
(( لا تطروني - أي لا تمدحوني - كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وقولوا : عبد الله ورسوله ))
النبي عليه الصلاة والسلام خشي أن يعظِّمه الناس تعظيماً يصلون به إلى الشرك؛ إنه عبدٌ لله ، إنه سيِّد العابدين ، ومع ذلك :
(( . . . قولوا : عبد الله ورسوله ))
نحن في الصلاة ؛ في كل فريضةٍ ، وفي كل سُنَّةٍ نقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله .
جاء النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً ، فقال للنبي الكريم : ما شاء الله وشئت .
فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أجعلتني لله نداً ؟ قل : ما شاء الله وحده ))
منافقٌ كان يؤذي المؤمنين ، فقال بعضهم للآخر : تعالوا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم مِن هذا المنافق . فحينما سمع النبي مقالَتَهُم قال عليه الصلاة والسلام :
(( إنه لا يستغاث بي ، إنما يستغاث بالله ، العبد عبدٌ والرب ربٌ ))
روى النَسَائيُّ عن أنسٍ رضي الله عنه أن نفراً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جاؤوا رسول الله ، فقالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، يا سيدنا وابن سيدنا . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( يا أيها الناس قولوا بقولكم ، ولا تقولوا فوق ما أنزلني الله به ، السيِّد هو الله عزَّ وجل ))
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ بهذه الأحاديث الشريفة النبي عليه الصلاة والسلام سدَّ باب الذَريعة إلى الشرك ، أي أن العبد عبدٌ والرب ربٌ ، الناس يميلون إلى تعظيم مَن يعلِّمونهم، إما تعظيم إخلاص ، أو تعظيم مَلَق ، أو تعظيم مَنْفَعَة ، النبي عليه الصلاة والسلام وضع حداً لتعظيم الإخلاص الذي أساسه الجهل ، وتعظيم المال ، وتعظيم المنفعة وقال :
(( إنما أن عبد الله ورسوله ))
2 ـ النهي عن عدم اتباع سنته صلى الله عليه وسلم :
شيءٌ آخر : عن علي بن الحسين زين العابدين ، رأى رجلاً يجيء إلى فُرْجَةٍ كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخل فيها ، فيدعو النبي عليه الصلاة والسلام ، فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته مِن أبي ، عن جدي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن تسليمكم عليَّ ليبلغني أينما كنتم ".
أي أن هؤلاء الذين لا يتَّبعون السُنَّة في زيارة النبي عليه الصلاة والسلام ، يجب أن تقف بأدبِ ، وخشوعٍ ، وأن يكون بينك وبينه مسافة كما لو أنك واقفٌ أمامه حياً . أما التعلُّق بالنافذة ، والتمسُّح بها ، فهذا شيءٌ ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام ، فأينما كنت فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد تكفَّل الله أن يُبْلِغَهُ سلامك ، وصلاتك ، وتحيَّتك ، ودعاءك.
أحد أصحاب سيدنا عمر رضي الله عنه ، قال : صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح ، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب شتَّى ، فقال رضي الله عنه :
أين يذهب هؤلاء ؟ فقيل له : إنهم يذهبون ليصلّوا في مكانٍ صلَّى فيه النبي . فقال عمر بن الخطاب : إنما هَلَكَ مَن كان قبلكم بمثل هذا ، مَن أدركته الصلاة مِنكم في هذه المساجد فليصلِّ بها ، ومَن لا ، فليمض ولا يتعمَّدها . وماذا فعل عمر بن الخطاب ؟ أمر بقطع الشجرة التي بايع أصحاب النبي نبيهم عندها ، البيعة الشهيرة التي رضي الله عنهم بها ، لماذا قطعها ؟ خاف أن تُعْبَد مِن دون الله ، خاف أن تُتَّخَذَ صنماً يعبد من دون الله .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ سيدنا أبو بكرٍ رضي الله عنه ، وهو أول المؤمنين بعد النبي عليه الصلاة والسلام . . .
(( ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ))
قال : " من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت ".
3 ـ النهي عن الذبح أو النذر لغير الله :
أيها الأخوة الأكارم ؛ شيءٌ آخر يؤدي إلى الشرك ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا ذبح ولا نذر إلا لله ))
فمن ذبح لغير الله أو نذر لغير الله فقد أشرك .
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري :
(( لعن الله من ذبح لغير الله ))
أي كمن يقول : هذا يذبح على شرفكم ، لا . يجب أن يذبح لله عزَّ وجل ، وجعل النبي عليه الصلاة والسلام من الأطعمة المحرَّمة طعامٌ أهلَّ به لغير الله . أي حينما ذبح هذا الخروف ، رفع الصوت عند ذبحه باسمٍ غير اسم الله ، هذا الطعام حرامٌ أكله لأن الشِرْك قد خالَطَه .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هناك شركٌ أكبر ، وهناك شركٌ أصغر ، وهناك شركٌ جليّ ، وهناك شركٌ خفي ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على شيء من الجور ، وتبغض على شيء من العدل ))
أي أن تحب إنساناً مُتَلَبِّساً بمعصية الله ، أن تحبه لا لله ولكن لما يأتيك منه مِن نفع ، هذا أحد أنواع الشرك ، أو أن تكره نصيحةً وجِّهت إليك ، في الحالة الأولى : إنك تعبده وأنت لا تدري ، تتغاضى عن معصيته ، وفي الحالة الثانية : إنك تعبد ذاته وأنت لا تدري .
(( الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على شيء من الجور ، وتبغض على شيء من العدل ))
النبي عليه الصلاة والسلام عَدَّ الرياء شركاً ، الرياء ؛ أن تعمل عملاً ليراك الناس، أن تعمل عملاً من أجل فلان ، أن تقيم هذه الوليمة من أجل زيد أو عُبَيْد ، أن تبتعد عن هذا المكان إرضاءً لزيدٍ أو عبيد ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إن أخوف ما أخاف على أمتي الإشراك بالله ، أما إني لست أقول تعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ، ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية ))
(( من أقسم بغير الله فقد أشرك ))
لأن في القَسَم تعظيماً ، ومَن يُقْسم بغير الله فهو يعظم غير الله ، وهذا نوعٌ مِن الشرك .
من قال : هذه لله ولك - استخدم واو العطف- الذي تفضل عليّ هو الله وأنت، يجب أن يقول : ثم أنت ، إذا استخدم الواو فقد أشرك . هذا الذي يجمع مع الله نداً ، فقد وقع في الشرك وهو لا يدري ، لذلك قال الله عزَّ وجل في الحديث القدسي :
(( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ))
4 ـ النهي عن اتباع الهوى :
وهناك شيءٌ آخر يغفل عنه الناس ؛ إنهم يتخذون الهوى إلهاً مِن دون الله يعبدونه..
﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾
أي حينما تفعل هذا بدافع الهوى ، وتعصي الله عزَّ وجل ، فهذا الهوى الذي استحوذ على قلبك أغلى عندك مِن الله عزَّ وجل ، لقد عبدَّته وأنت لا تدري ، حينما تصرُّ على معصيةٍ ، حينما تفعل شيئاً يرضي شهواتك ، أو يحقق مَيْلَك ، وهو في معصية الله ، فهذا أحد أنواع الشرك .
وفي الخلاصة : أن كل شيءٍ تعبده ، تتوجه إليه ، ترجو خيره ، تخشى شره مِن دون الله ، فهو شركٌ كما أجمع عليه العلماء .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾
مَن اعتمد على الأسباب فهو مشرك ، لكن الشرك - كما قلت قبل قليل - شركٌ كبير ، وشركٌ صغير ، وشركٌ جليّ ، وشركٌ خفي .
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـَن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
النّية :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ من فضل الله علينا أن الله سبحانه وتعالى يحاسبنا على النيّة ، وعلى القصد ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( إنما الأعمال بالنيات ))
أي لو أن إنساناً رأى في الطريق مبلغاً من المال ، فانحنى عليه وأخذه ، وإنسانٌ آخر رأى مبلغاً من المال ، فانحنى عليه وأخذه ، إن هذين العملين متشابهان تشابهاً تامّاً ، ومع ذلك قد يكتب للأول أجرٌ ، وقد يلقى الثاني عقاباً على هذا العمل . هذا الذي انحنى على هذا المبلغ ليأخذه ، وفي نيته أن يبحث عن صاحبه ليرده إلى صاحبه ، مع أنه انحنى وأخذه ، فهذا عند الله عملٌ طيِّب ، وهذا الذي انحنى على هذا المبلغ ، وأخذه ليأخذه اغتصاباً ، من دون أن يبحث عن صاحبه ، فهذا عملٌ سيئ .
لذلك الأعمال أحياناً في صورها تتشابه ، ولكن تختلف في مضمونها ، تختلف في نية صاحبها ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى ...))
أردت من هذا الكلام أنه أحياناً تحتاج أن تتخذ الأسباب ، واتخاذ الأسباب واردٌ شرعاً ، فتذهب إلى فلان ، وترجوه أن يحل لك هذه القضيَّة ، لا يعلم إلا الله ما إذا كنت معتمداً عليه أو على الله . إذا ذهبت إليه وأنت معتمد عليه ، وأنت متكلٌ عليه ، وأنت ترى أنه يفعل ، وأنه بإمكانه أن ينفعك ، وأنَّه إذا أراد نَفَعَك ، فهذا شرك . .
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾
(( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك))
فالأخذ بالأسباب وارد ، اتخاذ الأسباب وارد ، ولكن بين أن تعتمد عليها ، فهذا هو الشرك ، أو أن تتخذها وأن تعتمد على الله عزَّ وجل ، فهذا هو التوحيد ، لذلك :
(( إنما الأعمال بالنيات ))
لا يعقل أن يكون الإنسان مجمداً مخافة الشرك ، لك أن تسعى ، ولك أن تسأل ، ولك أن تتخذ الأسباب ، ولك أن ترجو زيداً ، ولك أن تسترضي عُبَيداً مِن دون أن تعتمد على الأشخاص ، إنك تتخذ الأسباب وتعتمد على رب الأرباب .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .