- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً بمن جحد به وكفر .
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذُريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهمَّ ارحمنا فإنَّك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ورد في الأثر أنه : مِن ساعة أن يوضَع المِّيت على الجنازة إلى أن يوضع على شَفير القَبر ، يسأل الله بعظمته أربعين سؤالاً ، ويقول الله عزَّ وجل :
(( عبدي طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة ، وكل يومٍ أنظر إلى قلبِك وأقول : ما تصنعُ لغيري وأنت محفوفٌ بخيري ؟! أما أنت فأصم لا تسمع ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يُطَهِّر الإنسـان منظرُ الخلق ، يُحسِّن بيته ، يعتني بهندامه ، ينظِّف متجره ، يطلي بيته ، يشتري أثاثاً جديداً ، يتعطَّر ، يتطيَّب ، هذا مَنْظر الخَلق ، فماذا فعلت بمنظر الحَق ؛ وهو القلب ؟ أفيه غِل ؟ أفيه حسد ؟ أفيه ضغينة ؟ أفيه شرك ؟ أفيه حقد ؟ أفيه بغضاء .
((طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة ، وماذا تصنع لغيري وأنت محفوفٌ بخيري ؟! أما أنت فأصمُّ لا تسمع ))
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
أيها الإخوة الأكارم ؛ طهِّروا مَنظر الله عزَّ وجل ، ألا وهو القلب ، لأن الله ينظرُ إليه في كل حين ؛ قد يرى محبوباً غيره فيُعرض عنه ، قد يرى شِركاً ، قد يرى تعلُّقاً بالدنيا ، قد يرى الدنيا أكبر همِّ القلب ومبلغ علمه .
(( ما استرذل الله عبداً إلا حظر عليه العلم والأدب ))
(( طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة))
ماذا تصنع ؟ ماذا تنتظر ؟ ما الذي سيأتي بعد أيام ؟ أليس الموت هدفَ كلّ إنسان ؟ أليس الموت نهاية كل مخلوق ، ماذا بعد الموت ؟ أيكون الموت نهاية الحياة ؟ ليته ذلك ، ولكنَّ الموت بداية حياةٍ أبديَّة ، بداية حياةٍ سرمديَّة .
﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾
(( طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة))
وتطهير القلب يحتاج إلى صلةٍ مُحْكمةٍ بالله عزَّ وجل ، والصَّلة المحكمة بالله عزَّ وجل تحتاج إلى استقامةٍ على أمره وفعلٍ للصَّالحات .
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
ولا يشرك بعبادة ربه أحداً هي الاستقامة
﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾
هي العمل الصالح ، شرطان أساسيَّان كي يحقِّقا الصِلة التي بها تشفى القلوب ، وتُمحى بها الذنوب ، وتذهب الأدران ، ويصبغ القلب بصبغة الله الكريم .
أيها الإخوة المؤمنون ... لا تنسوا هذا القول :
(( عبدي طهَّرت منظر الخلق سنين وما طهَّرت منظري ساعة ، وكل يومٍ أنظر إلى قلبك وأقول : ما تصنع لغيري وأنت محفوفٌ بخيري ))
برُّ الوالدين :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في الخُطبة موضوعان ، الأول : برُّ الوالدين ، فالله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾
الآية واضحةٌ كالشمس ، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق ، العبادة لله وحده ، ولا مخلوق في الأرض ـ كائناً من كان ـ يُطاع بمعصية الخالق ..
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
الطاعة لله والإحسان للوالدَين ، ولكنَّ الحالات الصَعبة التي ينبغي أن يحتَمِلَها المؤمن .
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾
بلغ الأب مِن الكِبَرِ عتيَّا ؛ ضعفت ذاكرته ، ضاقت نفسه ، صارت طلباته كثيرة ، وهو عندك في البيت ، عندك وقد كبرت سِنه ، عندك وقد ضاقت نَفسه .
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( ما برَّ أباه من شدَّ طرفه إليه ))
نظر إليه هكذا ، ما برَّ أباه .
لو أنَّ فـي اللغة كلـمةً أقلَّ من كلمة "أفٍ" لقالها الله عزَّ وجل ، أقل كلمة تبرُّم في اللغة كلمة " أف " هي حرامٌ ، نهى الله عنها ، فما قولك يا أخي المؤمن بما فوقها ؟ فما قولك بمَن يُقيم دعوى على أمه أو على أبيه ؟ ما قولك بمن يسُبُّ والديه ؟ ..
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾
قال عليه الصلاة والسلام :
(( إذا ترك العبد الدعاء للوالدين فإنه ينقطع عنه الرزق ))
وقال عليه الصلاة والسلام :
(( من هجر أحد والديه ساعةً من نهار ))
لا يوماً بكامله ، لا أسبوعاً بكامله ، لا شهراً بكامله بل ساعةً من نهار .
(( كان من أهل النار حتى يتوب ))
عن أبو بكرة رضي الله عنه قال : كُنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
(( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلاثًا ))
هناك صغائر ، وهناك كبائر ، وهناك أكبر الكبائر
(( قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلا وَقَوْلُ الزُّور ))
هذه أكبر الكبائر ، كيف أن الله سبحانه وتعالى قَرَنَ الإحسان إلى الوالدين مع عبادة الله عزَّ وجل ..
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
كذلك النبي صلى الله عليه وسلَّم قال :
((الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلا وَقَوْلُ الزُّور ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( ليعمل العاقُّ ما شاء أن يعمل فلن يغفر له ))
(( ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ))
عن أبو هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ ))
واجب الآباء اتجاه أبنائهم :
أيها الإخوة المؤمنون ، هذا الكلام نقولُه للأبناء ، فماذا يجب أن نقول للآباء ؟ قال عليه الصلاة والسلام :
(( رحم الله والداً أعان ولده على برِّه ))
عن خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة رحمه الله :
(( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ))
أن يضيع من يقوت من أولاده ..
(( ليس منَّا من وسَّع الله عليه ثم قتَّر على عياله ))
عليك إذا وسَّع الله عليك أن توسِّع على عيالك ، عليك أن تتعاهد أولادك ، أن تُراقب سيرتهم ، أن تُراقب اتجاهاتهم ، أن تراقب مَن يصحبون ، عند مَن يسهرون ، مَن يزورون ، مَن يرافقون لأن الرفيق السيئ خطرٌ وبيلٌ على الابن .
صحابيٌ سـأل النبي عليه الصلاة والسلام قال :
يا رسول الله ما حقُّ ابني هذا ؟
قال :
(( أن تحسن اسمه وأدبه وأن تضعه موضعاً حسناً ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( لاعب ولدك سبعاً ، وأدِّبه سبعاً ، وراقبه سـبعاً ثم اترك حبله على غاربه ))
لاعبه سبعاً ، وأدِّبه سبعاً ؛ من واحد إلى سبعة لا يُجدي معه التأديب ، من السابِعة حتى الرابعة عشر أدِّبه ، علِّمه الأمانة ، والصِدق ، والاستقامة ، من الرابعة عشر وحتى الواحدَ والعشرين راقبه ، لا هو شابٌ فيكونُ حكيماً ، ولا هو طفلٌ فيرضى أن يؤنَّب ، وبعد الواحدَ والعشرين اجعله صديقاً لك لأنه قد عرف الخير من الشر ، وبلغ رشده .
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( من قبَّل ولده كتب الله له حسـنة ، ومن فرَّحه فرَّحه الله يـوم القيامة ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( أحبُّوا الصبيان وارحموهم فإذا وعدتموهم ففوا لهم ، فإنهم لا يرون إلا أنكم ترزقونهم ))
وينبغي للرَجل أن ينزل عن بُرْجِهِ العاجيّ إلى مستوى أولاده الصغار ، فيقول عليه الصلاة والسلام :
(( من كان عنده صبيٌ فليتصاب له ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلادِكُمْ ))
(( وسـووا بين أولادكم في العَطية ، فلو كنتُ مفضلاً أحداً لفضَّلت النساء ))
ويقول عليه أتم الصلاة والتسليم :
(( ميراث الله عزَّ وجل من عبده المؤمن ولدُه يعبده من بعده ))
ماذا يرث الله منك ؟ هل يرث الله بيتَك ؟ أم أثاث بيتِك ؟ أم المبلغ الذي تركته في الصندوق ؟ الله سبحانه وتعالى يرثُ مِنك ولدك الصالح المؤمن ، الذي يعبده من بعدك . فإذا خَلَّفت عالِماً فالأجر أكبر ، ومن نعمة الله على عبده أن يشبَهَهُ ولده ، إن كنت أخلاقياً وأنعم الله عليك بولدٍ أخلاقي ، إن كنت ديِّناً وأنعم الله عليك بولدٍ ديِّن ، إن كنت مستقيماً وأنعم الله عليك بولدٍ مستقيم ، إن كنت محباً لله ورسله وأنعَم الله عليك بولدٍ محبٍ لله ورسوله ، إن كُنت تحب القرآن وأنعم الله عليك بولدٍ يحب القرآن فهذه نعمةٌ لا تقدَّر بثمن .
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل ، فقال :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالا وَوَلَدًا وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي فَقَالَ أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ ))
هذا حُكْمُ الشرع ، لكنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم وجَّه الآباء توجيهاً لطيفاً ، قال :
(( يأكل الوالدان من مال ولدِهما بالمعروف ))
لأن هذا الشاب يعمل وسوف يبني مُستقبله ؛ عليه أن يشتري بيتاً ، عليه أن يتزوَّج ، أن يدفع مهرَ زوجته ، خُذ من دخله ما يسمح له بتأسيس أسرةٍ في المستقبل ..
(( يأكل الوالدان من مال ولدهما بالمعروف ، وليس للولد أن يأكل من مال والديه إلا بإذنهما ))
العكس غير صحيح ، أنت ومالُك لأبيك صحيح ، أما أن تقول : مال أبي لي . لا !!؟
(( ليس للولد أن يأكل من مال والديه إلا بإذنهما ))
عن أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(( مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
فهذا الكلام موجَّه للزوجات ، أحياناً تريد أن تَسْتَأثر بزوجها وتحرمه من أمه ، وتحرم أمّه منه . قُل لهذه المرأة العاتية ، الظالمة .
(( مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
منزلة الخالة والأخ :
من متَمِّمات هذا الموضوع قال عليه الصلاة والسلام :
(( الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ ، والأخ الأكبر بمنزلة الأب ))
هذا هو الأدب . لذلك :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا ))
الخالة بمنزلة الأم ، والعم والد ، والأخ الأكبر بمنزلة الأب .
أيها الإخوة الأكارم ؛ وجِّهوا أبناؤكم الصغار أن يوقِّروا إخوتَهُم الكبار توقيراً يُشبه توقير الآباء ، لأن الأخ الأكبر بمنزلة الوالد ، فإذا غاب الأب ـ مسافراً ـ أتيح لهذا الأخ الأكبر أن يوجِّه إخوته ، وأن يُرشدَهم إلى الطريق الصحيح .
روي عن أبي أمامة أن رجلاً قال :
(( يَا رَسُـولَ اللهِ ! مَاحَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهمَا ؟ قَالَ : هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ ))
إما أن تدخل ببرهما الجنة ، وإما أن يدخُل بعقوقهما النار .
وهذا الحديث قاله النبي عليه الصلاة والسلام للزوجة ، قال :
(( انظري أين أنتِ منه ، إنما هو جنَّتكِ ونارك ))
إن أطعته وأحسنت تبعُّله فهو جنتكِ ، أيْ أنَّ طاعتك له وحسن تبعلك له يدخلكِ الجنة ، وإذا عصيته وخرجتِ من غير إذنه ولم تحسني معاشرته قد تدخلين النار بسبب هذا ..
(( انظري أين أنتِ منه ، إنما هو جنَّتكِ ونارك ))
عن عبد الله بن مسعود سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال :
(( أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ))
أحب الأعمال إلى الله الصلاة في وقتها وبَرُّ الوالدين .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
((إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه . قال : هل بقى من والديك أحد ؟ قال : أمي . قال قابل الله في برها ، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد ))
عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
(( يا رسول الله شَهِدُّتُ أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصلَّيت الخمس ، وأدَّيت زكاة مالي ، وصُمت رمضان ، ما ليَ ؟ أي مالي من الأجر هل بقي شيء ؟ ـ فقال عليه الصلاة والسلام - اسمعوا ودقِّقوا -ـ مَن مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا ، وشابك بين أصابعه ، ما لم يعقَّ والديه ))
فإذا عَقَّ والديه لا تنفعه لا صلاته ، ولا صيامُه ، ولا حجُّه ، ولا زكاته ، ولا شهادته .
وروي عن أبي بكرِ الصِدِّيق رضي الله عنه ، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :
(( كل الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة ))
أيْ أنَّ هناك ذنوب يؤخِّر الله عزَّ وجل عقابها إلى يوم القيامة
(( إلا عقوق الوالدين فإن الله سبحانه وتعالى يعجِّله لصاحبه في الحياة قبل الممات ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ روي عن عبد الله رضي الله عنه بن أوفى قال :
(( كنَّا عند النبي صلى الله عليه وسلَّم فأتاه آتٍ قال : يا رسول الله شابٌ يجود بنفسه - أي أنه ينازع - فقيل له : قل لا إله إلا الله فلم يستطع . فقال عليه الصلاة والسلام : أكان يُصلي ؟ قالوا : نعم . فنهض النبيُّ الكريم ونهضنا معه فدخل على الشاب ، وقال : قل لا إله إلا الله . فقال: لا أستطيع . قال : لِمَ ؟ قيل له : كان يَعُقُّ والدته ، فقال النبيُّ : أحيَّةٌ والدته ؟ قالوا : نعم . قال : ادعوها . فدعوها فجاءت فقال النبيٌّ الكريم: أهذا ابنكِ ؟ قالت : نعم . قال لها : أرأيتِ إن أُجِّجَت نارٌ ضخمة فقيل لكِ إن شفعت له خلَّينا عنه ، وإلا أحرقناه بهذه النار ، أَكُنتِ تشفعين له ؟ قالت : يا رسول الله إذاً أشفع له . فقال : فأشهدِ الله وأشهديني أنكِ قد رضيت عنه . قالت : اللهمَّ إني أشهدك وأشـهد رسولك أني قد رضيت عنه . فقال عليه الصلاة والسلام : يا غلام قُل لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله . فقالها الغلام . فقال عليه الصلاة والسلام : الحمدُ لله الذي أنقذه من النار ))
ربَّما كان عقوق الوالدين يُفْضِي بصاحبه إلى النار .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم .
قصة سيدنا عثمان بن مظعون مع نفسه .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ قالت أُمهات المؤمنين : دخلت علينا زوجة عُثمان بن مظعون ، وكان عثمان بن مظعون أغنى رجلٍ في قريش ، فرأَيْنَها في هيئةٍ لا تُرضي ـ هيئةٍ رثَّة ـ فسألنها كيف حالكِ على هذا وأنتِ زوجة أغنى رجلٍ في قريش ؟ قالت هذه الزوجة لهن : وماذا أفعل بغناه إنه قَوامٌ في الليل صَوامٌ في النهار .
إنها عبارةٌ مهذبة ، وشكوى مؤدَّبة ، وكنايةٌ لطيفة ، وفي التلميح ما يُغني عن التصريح ـ وماذا أفعل بغناه إنه قوامٌ في الليل صوامٌ في النهار ـ لقد أدرَكت أمهات المؤمنين أن أحد بيوت المؤمنين فيه اضطرابٌ وشكوى ، فشكَوْنَ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فلقيه النبي الكريم وقال :
(( يا عثمان ))
وكان عثمان أخاه من الرضاعة .
(( أليس لك فيَّ أسوةٌ حسنة ؟ ))
قال عثمان :
نفسي لك الفِداء يا رسول الله .
(( يا عثمان فماذا أنت فاعل ؟ ))
فقال :
يا رسول الله نفسي تُحَدِّثني بأشياء ـ لم يفعلها بعد ـ
قال :
(( وما هي يا عثمان ؟ ))
قال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أختصي ؛ أيْ أَن أبتعد عن هذا الموضوع كُلياً .
فقال عليه الصلاة والسلام :
(( مهلاً يا عثمان فإنَّ خِصِيَّ أمتي الصيام ))
كان النبي الكريم يصوم يوم الاثنين والخميس ، ويقول للشباب :
(( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ))
والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾
هذه واحدة .. قال :
(( ماذا أنت فاعلٌ يا عثمان ؟ ))
فقال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أسيح في الأرض ؛ أَظل ماشياً حتى يدركني الموت .
فقال :
(( مهلاً يا عثمان فإن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله والحج والعمرة ))
هذه سياحة أمته
(( وماذا أنت فاعلٌ أيضاً يا عثمان ؟ ))
قال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أعتكف في الجبال ؛ آوي إلى مغارةٍ أتعبَّد الله فيها .
فقال :
(( مهلاً يا عثمان فإنَّ رهبانية أمتي ))
فقال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أهجر زوجتي .
قال :
(( مهلاً يا عثمان فإن خيركم من أتاني يوم القيامة وله زوجة ، وإن شراركم عذابكم ، وأراذل موتاكم عذَّابكم فبما تحدثك نفسك يا عثمان أيضاً ))
قال :
يا رسول الله نفسي تحدثني أن أطلِّق زوجتي .
قال :
(( مهلاً يا عثمان تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتزُّ منه عرش الرحمن ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( ملعونٌ من حلَّف بالطلاق أو حلف به ))
(( فبما تحدثك نفسك يا عثمان ؟ ))
قال :
نفسي تحدثني ألا آكل اللحم .
فقال :
(( مهلاً يا عثمان إني أحب اللحم وآكله . فبما تحدثك نفسك يا عثمان ؟ ))
قال :
نفسي تحدثني ألا أستعمل المسك .
قال :
(( مهلاً يا عثمان فإن جبريل أمرني أن أستعمله . يا عثمان لا ترغَب عن سنَّتي ، فإنه من رغب عن سنتي فمات قبل أن يتوب صَرَفَت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة ))
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))
* * *
تزوج ، واسكن في بيت ، واعمل عملاً ينفع عباد الله ، وفكِّر في خلق السماوات والأرض ، اعمل أعمالاً صالحة تَرقى بها عند الله ، ماذا يفعل أن تسكن في رأس الجبل ؟ ماذا تفعل للناس ؟ هذا موقفٌ سلبي ، هذا هروبٌ من المجتمع ، المؤمن يواجه مصاعب الحياة ، المؤمن عنصرٌ إيجابيٌ في المجتمع ، المؤمن يفعل الخيرات ، يعمل الصالحات ، يأمر بالمعروف ، ينهى عن المُنكر ، يعطي الفقير ، يواسي المسكين ، يعودُ المريض ، يحسن إلى الزوجة ، يربِّي أولاده ، هذا هو المؤمن . النبي صلى الله عليه وسلَّم نهى عن هذا كلِّه ، وإن صَحَّت هذه القصة عن عثمان بن مظعون فهذا موقف النبي الكريم عليه الصلاة والسلام .
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك .
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنا .
اللهمَّ إننا بالعلم ، وزينا بالحلم ، وأكرمنا بالتقوى ، وجمِّلنا بالعافية ، وطهِّر قلوبنا من النفاق ، وأعمالنا من الرياء ، وألسنتنا من الكذب ، وأعيننا من الخيانة ، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
اللهمَّ اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفُكَّ أسرنا ، واحسن خلاصنا ، وبلِّغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا يا أكرم الأكرمين .
اللهمَّ استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رَخياً وسائر بلاد المسلمين .
اللهمَّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين ، اللهمَّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين ، اللهمَّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين يا رب العالمين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسـلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحِب وترضى إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .