- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الدعوة إلى الله أشرف الأعمال على الإطلاق :
أيها الأخوة الكرام ؛ نحن في شهر مولد النبي عليه الصلاة والسلام ، والنبي عليه الصلاة والسلام كما وصفه الله عز وجل حيث قال :
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾
لو وقفنا عند كلمة : وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، لقد وصف الله النبي صلى الله عليه وسلم بأنه داعٍ إلى الله ، والحقيقة أيها الأخوة الدعوة إلى الله أشرف الأعمال على الإطلاق ، إنها صنعة الأنبياء . قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
هؤلاء الذين يبحثون عن التفوق ، وعن الفوز ، وعن النجاح ، وعن الفلاح ، وعن التميز عليهم أن يسلكوا سبيل التفوق ، وسبيل التميز ، وسبيل النجاح ، وسبيل الفلاح . قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
فالنبي عليه الصلاة والسلام داع إلى الله ، والمؤمنون الصادقون العاملون من بعده يجب أن يكونوا دعاة إلى الله . أي إذا أردتم أن تحتفلوا بعيد مولد نبيكم عليه الصلاة والسلام فسيروا وفق سنته ، واقتفوا أثره ، واتبعوا منهجه ، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين .
فالنبي عليه الصلاة والسلام داع إلى الله ، داع إلى الله بأقواله ، وداع إلى الله بأعماله ، وداع إلى الله بجهاده ، فكل مؤمن ينبغي أن يقتدي برسول الله ، أن يكون لسانه ذاكراً لله ، وأن يكون عمله وفق منهج الله ، وأن يبذل الوسع والجهد في تعريف الناس بالله ، وتعريفهم بمنهجه ، وإحداث موقف عنده . هناك من يحدث عن الآخرين قناعة ، وهناك من يحدث موقفاً ، المؤمن الصادق ينبغي أن يحدث قناعة بالعلم والدليل والتعليل ، وينبغي أن يحدث موقفاً لشدة اتصاله بالله ؛ لأن أولياء أمتي إذا رؤوا ذُكر الله بهم .
حزب الله هم المفلحون :
أيها الأخوة الكرام ؛ النبي عليه الصلاة والسلام داع إلى الله ذلك لأن الله جلّ جلاله يدعو إلى دار السلام ، ومعنى أن الله يدعو إلى دار السلام ، أي أنه جلّ جلاله يدعو عباده إلى الأخذ بأسباب دخول الجنة ، النبي عليه الصلاة والسلام من دعائه الشريف : " اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك " . فإذا دعا الله الناس إلى دار السلام أي دعاهم إلى الأخذ بالأسباب التي تؤهلهم كي يدخلوا دار السلام .
أيها الأخوة الكرام ؛ دعوة الله إلى دار السلام كدعوة الرجل من حوله إلى مأدبة نفيسة ، إن الله سبحانه وتعالى خلقنا للجنة ، وخلقنا ليرحمنا ، ودعانا إليها ، وأمرنا أن نأخذ بأسبابها .
هؤلاء الذين يستجيبون لدعوة الله ، هؤلاء الذين يطيعون الله ، هؤلاء الذين ينفذون أمر الله ، هؤلاء الذين تجدهم عند الحلال والحرام ، هؤلاء الذين استجابوا لربهم ، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون . هؤلاء من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ، هؤلاء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، هؤلاء المفلحون، قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، هؤلاء الذين هم الفائزون ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ، هؤلاء الذين يعزهم الله في الدنيا وفي الآخرة ، لله العزة ولرسوله وللمؤمنين .
من لم يستجب لله فهو ميت القلب :
أما الذين لم يستجيبوا . أما الذين أعرضوا عن ذكر ربهم ، أعرضوا عن الدار الآخرة ، أعرضوا عن طاعة ربهم ، أولئك حزب الشيطان ، يقول الله عز وجل :
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
المعنى الدقيق المستنبط من هذه الآية أن الإنسان إن لم يستجب فهو ميت من الأموات ، ميت القلب ، قال تعالى:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحيـــاء .
أيها الأخوة الكرام ؛ علينا أن نستجيب لله ولرسوله ، لئلا نكون ممن ذكرهم الله عز وجل حينما يأتيهم الموت يقولون :
﴿ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ﴾
الدعاة إلى الله هم خواص خلق الله وأفضلهم منزلة وأعلاهم قدراً :
أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح ، ودققوا في هذا الحديث فهو أصل في هذا الموضوع:
(( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا - لك أن تقول : لا يَنقص من أجورهم شيئاً أو لا يُنقص من أجورهم شيئاً- وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا ))
أي أنت إذا دللت على الله ، هذا الذي دللته على الله كل أعماله الصالحة في صحيفتك ، وهل من تجارة كهذه التجارة ؟ أي إذا دللت إنساناً على أن يضع ماله في جهة ما ، وربح هذا المال مليون بالمئة لك مثل هذه النسبة ، هذا شيء غير معقول في عالم الدنيا ، أما عند الله فهو الواقع .
((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا))
بعض العلماء المجددين لهذا الدين يقول حول الدعاة إلى الله : الدعاة إلى الله الذين يدعون الناس إلى دينه ، وإلى عبادته ، وإلى معرفته ، وإلى محبته ، هؤلاء هم خواص خلق الله، هم النخبة ، هم الصفوة ، هم يتربعون على قمم المراتب ، هم خواص خلق الله وأفضلهم عند الله منزلة ، وأعلاهم قدراً ، فالداعي إلى الله هو الذي يحاول دعوة الناس إلى الله بالقول ، وبالعمل ، وإلى تطبيق منهج الله عز وجل ، واعتناق العقيدة الصحيحة ، وتنفيذ الشريعة . ولقد أهمل المسلمون الدعوة إلى الله ، وانشغلوا بحظوظهم من الدنيا ، بمصالحهم ، بمكاسبهم المادية ، ونسوا أن أكبر مهمة أوكلهم الله إياها أن يدعوا إلى الله عز وجل .
أيها الأخوة الكرام ؛ إن الدعوة إلى الله فريضة حملها رسل الله صلوات الله عليهم وسلامه ، وحملها أتباعهم السابقون الذين اقتفوا أثرهم من بعدهم ، واقتدوا بهم في منهجهم ، وسلكوا سبيلهم ، ولم يتقاعسوا عن السير بها في طريقها الذي حدده المولى لهم .
ما منا واحد إلا ويحب الفوز ، يحب التفوق ، يحب النجاح ، يحب الفلاح ، الله عز وجل يدلك على أسباب الفوز ، يدلك على أسباب النجاح ، على أسباب الفلاح ، قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
الانضباط بمنهج الله يحقق سعادة الدنيا والآخرة :
أيها الأخوة الكرام ؛ يتعلق بالدعوة صلاح الأسرة ، وسعادتها ، والوفاق بين الزوجين، وحسن تربية الأولاد ، وإذا صلحت الأسرة ، صلح المجتمع ، وإذا صلحت المجتمعات صلحت الأمم ، وسعدت في دنياها وآخرتها ، لذلك يا أيها الأخوة الكرام ، أدرك الأنبياء والرسل ثقل المسؤولية التي حملهم الله إياها ، وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذا المعنى ، فقال تعالى:
﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾
أي هذا القول تتعلق به سعادة الأمة ، هذا القول لو أهملَته تصير الأمة إلى شقاء ما بعده من شقاء ، ألا ترون أيها الأخوة إلى الشعوب الأخرى التي ضلت ، وتاهت ، وشردت، وانحرفت ، وألقت بالقيم الأخلاقية عرض الطريق ، واتبعت شهواتها المنحطة ، كيف آلت إلى أمراض فتاكة ؟ وإلى علاقات شائنة ؟ وإلى تبادل زوجات ؟ وإلى زنا محارم ؟ وإلى انفصام الزواج ؟ تقول الإحصاءات الدقيقة إن كل ألف حالة زواج لا يبقى منها إلا اثنان بالألف ، بينما الزواج في ظل الشريعة الإسلامية ستون بالمئة من حالات الزواج يبقى مستمراً إلى نهاية الحياة، إن الانضباط بمنهج الله يحقق سعادة الدنيا والآخرة ، لذلك:
﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾
بعض العلماء أيها الأخوة يفرقون في الدعوة إلى الله بين دعوة الطرف الآخر إلى الإسلام ، وبين إصلاح شأن المسلمين ، وبين ترسيخ السلوك الكامل عند المسلمين المنضبطين.
مهمات الداعية :
أيها الأخوة الكرام ؛ لعل أولى مهمات الداعية إلى الله إذا كان في مجتمع مسلم أن يصلح أحوال المسلمين ، أن يدلهم على الطريق القويم ، أن يبصِّرهم بمزلات الأقدام ، أن يعرِّفهم بالمخالفات التي لا يعبؤون بها مع أنها تحجزهم عن الله عز وجل ، فإصلاح المسلمين المعتقدين بخالقهم ومربيهم وإلههم ، ولكنهم قصَّروا ، أو انحرفوا ، أو ارتكبوا أعمالاً لا يعرفون حجمها الكبير وخطورة مآلها .
يا أيها الأخوة الكرام ؛ هناك في الدعوة إلى الله شيء خطير ، هو أن الدعوة باللسان سهل جداً ، بل إن حجم دعوة النبي كمُبلِّغ أقلُّ بكثير من حجم دعوته كقدوة ، الدعوة باللسان لا تكلف إلا النطق ، لكن الدعوة بالقدوة تكلف جهاد النفس والهوى ، والناس لا يخضعون إلى أقوال منمقة ، بل يخضعون إلى إنسان مطبق لما يقول ، ألم يقل الإمام علي كرم الله وجهه : " قوام الدين والدنيا أربعة رجال ؛ عالم مستعمل علمه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره ، فإذا ضيع العالم علمه ، استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره" ، فالقدوة قبل كل شيء .
من دعا إلى الله مخلصاً ارتقى عمله إلى أخطر عمل على الإطلاق :
أيها الأخوة ؛ كن مكان الطرف الآخر ، الذي لا يؤمن بالإسلام منهجاً ، ولا ديناً قويماً ، يؤمن بمذهب وضعي ، كن مكان الطرف الآخر - لا سمح الله - وانظر إلى داعية مسلم يتكلم كلاماً طيباً ، فإذا دققت في أحواله لن تجده في هذا المستوى ، ماذا يقول هذا الطرف الآخر ؟ له قولان لا ثالث لهما ؛ القول الأول : لو أن هذا المنهج واقعي لطبقه هذا الداعية على نفسه ، إذاً هو منهج غير واقعي ، فإذا ثبت له أنه منهج واقعي ، إذاً هذا الذي يدعو إليه ولا يطبقه مقصر ، والمقصر لا يستأهل أن نصغي إليه .
أي إن لم يطبق الذي يدعو إلى الله تفاصيل الدعوة والمنهج هو متهم مرتين ، إما أن منهجه متهم بغير الواقعية ، أو أنه متهم بالتقصير ، وفي كلا الحالين ليس مؤهلاً أن يُصغى إليه ، لذلك ما من عمل يتذبذب بين الخطورة والتفاهة كالدعوة إلى الله ، فإذا اتُخِذت مهنة ، أو حرفة ، أو وسيلة للتكسب كانت من التفاهة بمكان . أما إذا كانت الدعوة خالصة لله عز وجل ، والذي دعا إلى الله مطبق لما يقول ، مخلص في عمله ، ارتقت إلى أخطر عمل على الإطلاق، إنها صنعة الأنبياء .
الدعوة إلى الله فرض عين :
يا أيها الأخوة الكرام ؛ يتوهم بعض الأخوة أن الدعوة اختصاص ، يقول : ما لي وللدعوة من نصيب ، إنها من اختصاص الخطباء ، والعلماء ، والمرشدين ، والمدرسين ، وما لي منها من حظ . . لا ، الدعوة إلى الله فرض عين ، واطلب مني الدليل . ألم يقل الله عز وجل :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
هذه السورة كما قال عنها الإمام الشافعي لو تدبرها الناس لكفتهم ، إن ربع أركان النجاة التواصي بالحق ، ليس معنى ذلك أن تكون فريد عصرك ، ولا وحيد زمانك ، ولا جهبذاً ، ولا عالماً فرداً لا مثيل لك . يقول عليه الصلاة والسلام :
(( بلغوا عني ولو آية ))
آية واحدة . ألا تحضر أيها الأخ خطب الجمعة على مرِّ الأسابيع ؟ ألم تستفد من خطبة ؟ من حديث شريف ؟ من آية محكمة ؟ من معنى دقيق ؟ من حكم شرعي ؟ من موقف بطولي لأحد أصحاب رسول الله ؟ هذه الآية ، أو الحديث ، أو الحكم الفقهي ، أو الموقف البطولي ، هذا لو أنك نقلته لواحد في الأسبوع كله لكنت من الدعاة إلى الله ، لو نقلت معنى جميلاً ، أو معنى محكماً في آية كريمة ، أو معنى دقيقاً في حديث صحيح ، أو حكماً فقهياً تتعلق به مصالح الأمة ، أو نقلت موقفاً بطولياً يشد النفس إليه ، هذا الذي تفعله في الأسبوع كله يجعلك داعية إلى الله ، يجعلك من الذين تواصوا بالحق . ما الذي تفعله خلال الأسبوع بأكمله ؟ يأتي أحدنا إلى المسجد ليستمع إلى خطبة الجمعة ، وقد يأتي معظمكم إلى مجلس علم ليستمع إلى درس التفسير ، أو درس الحديث ، أو درس السيرة ، أو درس أسماء الله الحسنى ، هذا الجلوس والإصغاء ألا يكسبكم أيها الأخوة بعض الحقائق التي تستوعبونها ؟ هذه الحقائق التي ينبغي أن تكون مدار حديثكم في الأسبوع كله ، حتى تحققوا فريضة الله عز وجل .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من فرائض الإسلام :
أيها الأخوة الكرام ؛ الآن دققوا في الآيات الكريمة ، هذا قرآن ، هذا كلام خالق الأكوان ، هذا كلام ينبغي أن نتدبره ، ينبغي أن نعيه ، ينبغي أن نكون في مستواه ، يقول الله عز وجل :
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
ماذا نعرب اللام في : "ولتكن" هذه لام الأمر ، والفعل المضارع إذا اقترن بلام الأمر أصبح بمعنى فعل الأمر ، وكل فعل أمر يقتضي الوجوب ، الله يأمرنا : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ . كن من هؤلاء أنت . آية ثالثة:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾
هذا الذي يعرف الحقيقة ، يعرف الحكم الشرعي ، يعرف الوجه الصحيح ، يعرف العقيدة الصحيحة ، وهو في مجلس ، تكلم الناس بخلافها ، وطرحوا أفكاراً تناقضها ، هو قال : ما لي ولهم ، لم يعبأ بهم ولم يتجشم مشقة النطق بالحق ، ولا إلقاء الأمر بالمعروف ، ولا النهي عن المنكر ، هذا الإنسان تنطبق عليه هذه الآية ، وما أخطرها .
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾
قال لي رجل مرة : أنا كنت مدمن خمر ، وسبب توبتي على يد سائق سيارة ، صعدت إلى سيارته فرأى في جعبتي الخمر ، فأوقف المركبة وقال : انزل ، أنا لا أسمح لأحد أن يركب في سيارتي ومعه شيء محرم ، قال : وقفت ساعة ولم أجد من ينقلني إلى بيتي ، فدمعت عيناي وتبت من توي .
سائق سيارة ببساطة أنزل راكباً يحمل زجاجة خمر . حمله على التوبة . الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة ، تُعد الفريضة السادسة في الإسلام .
البلاء عاقبة من لم يأمر بالمعروف و لم ينهَ عن المنكر :
أيها الأخوة الكرام :
﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
قال ابن جرير الطبري : ما من آية أشدّ توبيخاً من هذه الآية ، لبئس ما كانوا يصنعون ، كل إنسان عليه أن يقيم الإسلام في بيته ، في مملكته الصغيرة ، وفي عمله ، وانتهت مهمتك . إذا أقمت الإسلام أولاً في عقلك ، وفي قلبك ، ثم أقمته في بيتك ، ثم أقمته في عملك ، انتهت مهمتك وعذرك الله عز وجل ، وعندئذ لا نشعر إلا وقد عمَّ الإسلام الناس جميعاً. إذا عاهد أحدكم ربه أن يقيم الإسلام في بيته ، وفي عمله ، وبيته مملكته ، وعمله مملكته ، الله جل جلاله يرفع البلاء عن هذه الأمة ، لأنه ما لم نأتمر بالمعروف ، ونتناهى عن المنكر فإن البلاء يعمُّ الناس جميعاً .
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
الدعوة إلى الله يجب أن تكون خالصة لوجهه :
دققوا في الدليل الثالث والرابع:
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾
وفي آية رابعة :
﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
لا تدع إلى غير الله ، لا تدع مع الله أحداً ، اجعل دعوتك خالصةً لله ، وابتغ بها وجه الله ، واطلب جنة الله من خلال هذه الدعوة . لا تنسوا أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى- وأنا أذكر كلامه لأنه شديد التأثير - يقول: " لأن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين" .
لا تجعلها مهنة ، لا تجعلها حرفة ، إن جعلتها حرفة ومهنة كنت أنت في واد والدعوة في واد ، عندئذ تُعد الدعوة تافهة لا ترقى بك إلى الله عز وجل .
أيها الأخوة الكرام ؛ يقول الإمام علي كرم الله وجهه :
(( أيها الناس إنما أُهلك من قبلكم بركوبهم المعاصي ، ولم ينههم الربانيون والأحبار ، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات ، فائمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم ))
تعريف النفس بمنهج الله و حملها على طاعته :
وأما الصّديق فيتحدث عن آية ربما فهمها الناس فهماً ما أراده الله قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
لعل بعض الناس يفهمون هذه الآية على غير ما أراد الله . عليكم أنفسكم : اسم فعل أمر ، أي الزموا أنفسكم ، الزموا أنفسكم عرفوها بربها ، الزموا أنفسكم زكوها ، فقد أفلح من زكاها ، إن عرفتموها بربها ، وعرفتموها بمنهج ربها ، وحملتموها على طاعة ربها ، عندئذ لا يستطيع أن يضركم من ضلّ . لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم . أما إذا لم تعرفوها ، وأقمتم على المعاصي الضالون يصلون إليكم ، ويؤدبونكم بإذن الله عز وجل ، والظالم سوط الله ، ينتقم به وينتقم منه . يقول الصديق رضي الله عنه :
(( يا أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها في غير موضعها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بالبلاء ))
الدعوة إلى الله بالبرهان العقلي وبالدليل النقلي و الفطري :
أيها الأخوة الكرام :
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
قال بعض العلماء : الدعوة إلى الله على بصيرة ، أي بالبرهان العقلي ، وبالدليل النقلي ، وبالدليل الفطري ، وبالبرهان الواقعي ، يجب أن تجتمع أدلة النقل والعقل والفطرة والواقع، وهذا معنى قول الله عز وجل :
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
لكن أيها الأخوة الدعوة إلى الله بالمعنى الواسع كل مؤمن عليه أن يدعو إلى الله ، في حدود ما علَّمه الله ، أنت لا تُعفى ، ما من واحد من الأخوة الحاضرين إلا ويلتقي مع أقربائه، وإخوته ، وزملائه ، وجيرانه في النهار ، وفي الليل ، وفي الأمسية ، وفي السهرة ، وفي الصباح ، وفي الظهيرة ، وفي العمل ، وفي الطريق ، وفي المركبة ، وفي سهرة دورية ، وفي لقاء عابر ، ما من واحد منا إلا وله لقاءات كثيرة في بحر الأسبوع ، عن أي شيء تتحدثون ؟ عن الدنيا ؟ الدنيا تفرق ، والدنيا تنقبض لها النفس . اجعلوا من دروس العلم ، ومن خطب الجمعة التي تحضرونها موضوعاً لحديثكم في أيام الأسبوع ، إن فعلتم هذا كنتم من الداعين إلى الله بالمعنى الموسع ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( بلغوا عني ولو آية ))
((فرب مبلغ أوعى من سامع ))
قد يكون هذا الذي بلغته يتفوق تفوقاً كبيراً وهو في صحيفتك ، هذا هو المعنى الموسع ، أما أن ترد على الشبهات التي يفتريها أعداء الدين ، أما أن تقيم الدليل التفصيلي ، أن ترد على كل طرح يناقض الدين فهذا اختصاص ، لذلك أشارت الآية الكريمة إلى هذا المعنى ، قالت:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
من للتبعيض ، وليكن بعضكم ، من المتخصصين في الدعوة ، إذا نشب حوار حاد بين فئات متعددة لابد من داعية متخصص ، لابد من داعية متبحر في العلم . هناك معنى موسع للدعوة ، وهناك معنى ضيق ، المعنى الضيق ؛ الدعاة المتخصصون ، الذين يأتون بالأدلة التفصيلية ، ويردون على الشبه الماكرة التي يفتريها أعداء الدين ، أما أن تستمع إلى تفسير آية أو تفسير حديث أو حكم فقهي فتنقله كما سمعته ، فأنت من الدعاة إلى الله بالمعنى الموسع .
خصيصة المؤمنين الأولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
أيها الأخوة الكرام ؛ دققوا في هذه الآية :
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
هذه من أخص خصائصهم ، أنهم يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويطيعون الله ورسوله ، سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
الآن:
﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾
إذاً تكاد تكون خصيصة المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتكاد تكون خصيصة المنافقين الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف .
أيها الأخوة الكرام ؛ حينما شُرِّفنا بأننا خير أمة أخرجت للناس ، هذا الشرف مقيد بعلة هذه الشرفية ، قال تعالى :
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
علة الخيرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
أيها الأخوة الكرام ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ))
لكن الله لا يقبل إطلاقاً من مُنكر للمنكَر بلسانه إذا كان قادراً أن ينكره بيده ، ولا يقبل من منكر للمنكر بقلبه إذا كان قادراً أن ينكره بلسانه ، والله يعلم حقائق الأمور ، قال تعالى:
﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
احتفالنا بعيد مولد النبي هو تطبيق أمره واقتفاء سنته :
أردت من هذه الخطبة ، ونحن في عيد المولد ، أن يكون احتفالنا بعيد مولد النبي عليه الصلاة والسلام تطبيق أمره ، واقتفاء سنته ، وأن ندعو إلى الله وفق منهجه ، ووفق توجيهه، فمن دعا إلى الله انطبقت عليه الآية الكريمة:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ أختم خطبتي بقول النبي لسيدنا علي كرم الله وجهه:
((يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها))
((فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))
(( يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس))
هذا الحديث ألا يدفعنا إلى الدعوة إلى الله ؟ هذا الحديث ألا يحرك فينا أعمق المشاعر ؟
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اختلاط الأوهام بالحقائق في آخر الزمان :
أيها الأخوة الكرام ؛ وصف النبي آخر الزمان بأن فيه فتناً كقطع الليل المظلم ، من هذه الفتن في العقيدة ، أن يختلط الحابل بالنابل كما يقولون ، أن تختلط الحقائق بالأوهام ، أن يختلط الحق بالباطل . فالمسلمون اليوم يخلطون بين الاجتهاد وبين الخروج من الدين ، هل هناك ضابط دقيق يفصل الاجتهاد الذي أمرنا به عن الخروج من الدين ؟ هناك من يظن أنه مجتهد ، وهو في اجتهاده قد خرج من الدين ، يمرقون من الدين مروقاً .
الحقيقة أيها الأخوة التي لابد أن تكون واضحةً في أذهان الأخوة المؤمنين ، هو أن الاجتهاد أن يبذل العالم المؤهل ، العالم بالعقيدة الصحيحة ، وبأصول التفسير ، وبورود الحديث، وبعلم أصول الفقه ، وبعلم الحديث ، وبالتاريخ الإسلامي ، هذا العالم المؤهل إذا بذل جهداً في استنباط الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي في الكتاب والسنة أو كليهما فهو مجتهد يعمل في إطار النص ، ولهذا المجتهد أجران إن أصاب ، وأجر إن أخطأ . عالم مؤهل تنطبق عليه شروط الاجتهاد ، يبذل وسعه وجهده لاستنباط حكم شرعي من دليل تفصيلي في الكتاب والسنة ، له أجران إن أصاب ، وله أجر إن أخطأ . أما حينما ننكر النص فلسنا مجتهدين ، بل مارقين من الدين ، أما حينما ننكر آية من كتاب الله فهذا خروج من الدين وليس اجتهاداً في الدين ، أو حينما نقيد آية بمرحلة معينة فهذا خروج من الدين وليس اجتهاداً في الدين ، أما حينما نقيد آية بعلة ما ذكرها الله عز وجل ، بعلة نبتدعها من عندنا ، وليس في الآية قرينة قاطعة الدلالة على أن هذه الآية مقيدة بمرحلة ، أو بفئة من الناس ، أو بعلة نحن استنبطناها . إذاً حينما ننكر آية ، أو نقيد آية بمرحلة ، أو بجهة ، أو بعلة ، ليست هذه العلة ، وهذه الجهة ، وهذه المرحلة مذكورة بنص الآية بقرينة محكمة فهذا مروق من الدين ، وخروج من الدين ، وليس اجتهاداً في الدين .
منهج البحث في الدين :
أيها الأخوة الكرام ؛ أعداء الدين لا يستطيعون أن ينكروا آية في كتاب الله ، كيف يحتالون إذاً ؟ يؤولونها تأويلاً بخلاف أصول الفقه ، أو يقيدونها بمرحلة زمنية مضت ، أو يقيدونها بتعلقها بفئة من الناس مضت ، أو يقيدونها بعلة نحن ابتدعناها ، حينا قال الله عز وجل :
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾
ابتدع بعضهم أن هناك رباً استثمارياً ، ورباً استهلاكياً ، فالاستهلاكي هو المحرم ، هذه العلة ما وردت في كتاب الله ، حينما يغفل الله علة التحريم فالتحريم مطلق على إطلاقه ، فحينما نحتال فنقيد آية بمرحلة زمنية ، أو بجهة تتعلق بها ، أو بعلة لم ترد في نص الآية ، فنحن لا نجتهد الآن ، لكننا مرقنا من الدين وخرجنا من الدين .
أيها الأخوة الكرام ؛ إذا أنكرنا النص الشرعي ، أو قيدناه بمرحلة زمنية ، أو بعلة اجتهادية ، أو بجهة تتعلق به ، فهذا خروج من الدين وليس اجتهاداً في الدين .
أيها الأخوة ؛ الكلام الفيصل في هذا الموضوع : الدين في الأصل نقل ، ودور العقل قبل النقل إثبات صحة النقل ، وبعد النقل فهم النقل ؛ إثبات صحة النقل وفق علم الحديث، وفهم النقل وفق علم الأصول ، لابد من أن نتقن علم الحديث وعلم الأصول ، حتى إذا درسنا نصاً تحققنا من صحته ، ثم فهمناه وفق علم الأصول ، هذا دور العقل ، أما أن يُسمح للعقل برد النص ، أو تأويله تأويلاً مخالفاً لعلم الأصول ، أو تقييده بمرحلة ، أو بفئة معينة ، أو بعلة نحن ابتدعناها ، فهذا اسمه خروج من الدين ومروق من الدين ، وليس هو من الاجتهاد في شيء .
هذا الضابط ، أو المقياس ضروري جداً للتفرقة بين كتب تدّعي أنها كتب معاصرة تفهم القرآن فهماً جديداً ، وبين كتب أصيلة ، تفهم كلام الله وفق المقاييس التي جاء بها علماء الأصول .
أيها الأخوة الكرام ؛ في ختام هذا الموضوع ، أنت أمام ثلاثة نصوص :
نص من كتاب الله لا تملك إلا أن تفهمه فقط ، قطعي الثبوت .
ونص من حديث رسول الله لك أن تتحقق من صحته ؛ لأن بعض الأحاديث التي تُنسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضعيفة ، وبعضها موضوع ، فإذا كنت أمام نص نبوي لك أن تتحقق من صحته أولاً ، ثم تفهمه وفق ما أراد النبي عليه الصلاة والسلام .
أما إذا كنت أمام نص آخر لأي إنسان على الإطلاق هذا النص لك أن تتحقق من صحة نسبته إلى قائله ، ولك أن تتحقق من المعنى الذي أراده قائله ، ولك أن تقيم بينه وبين الكتاب والسنة موازنة ، فإذا انطبق على الكتاب والسنة نقبله ، وإلا نركله بأقدامنا ولا شيء علينا .
ما جاءنا عن صاحب هذه القبة الخضراء فعلى العين والرأس ، وما جاءنا عن سواه فهم رجال ونحن رجال ، وكل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذه القبة الخضراء . هذا منهج البحث في الدين ، ما ذكرت هذا على المنبر ـ ولعل هذا مكانه في درس عام ، أو في درس علم لما أجد من كتب فيها ضلالات كثيرة منتشرة بين أيدي الناس وهم يحسبون أنها اجتهاد معاصر ، وأنها قفزة نوعية في فهم كتاب الله ، إنها خروج من الدين ، واتباع للهوى ، وصب الدين في قالب من قوالب الإباحية ، وقالب من قالب السلوك الإباحي المعاصر .
أيها الأخوة الكرام ؛ أعداء الدين يئسوا أن يصادموا الدين مباشرة ، لكنهم أرادوا أن يفجروه من الداخل ، عن طريق هذه الفتن ، وعن طريق هذه المبادئ الهدامة التي يصطنعونها .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ماقضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم ارزقنا التأدب ونحن في بيوتك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .