الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله سيد الخلق والبشر ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغرّ الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
قيمة الإنسان عند الله وعلة وجوده:
أيها الإخوة الأكارم؛ قيل: "من عرف نفسه عرف ربه" فمن أنت أيها الإنسان؟ هل تعلم أنك المخلوق الأول عند الله؟ المخلوق الأول رتبةً لأن الله -جلّ جلاله-عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقنَ منها وحملها الإنسان، لأن الإنسان قبِل حمل الأمانة كان عند الله المخلوق الأول؛ لذلك سخّر الله له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه تسخير تعريف وتسخير تكريم، موقف الإنسان الكامل من تسخير التعريف أن يؤمن، وموقفه الكامل من تسخير التكليف أن يشكر، فإذا آمن وشكر حقق الهدف من وجوده، لذلك قال تعالى:
﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ كلكم يعلم أن معظم الطلاب درسوا في المدارس أن الكون جماد ونبات وحيوان وإنسان، أليس كذلك؟ الجماد شيء مادي يشغل حيزاً من الفراغ، له وزن، وله حجم، وله أبعادٌ ثلاثة، وأما النبات فشيء مادي أيضًا يشغل حيزاً في الفراغ، وله أبعادٌ ثلاثة، وله وزن، وله حجم لكنه ينمو، اختلف عن الجماد بالنمو، وأما الحيوان فشيء مادي له أبعادٌ ثلاثة، وله وزن، وله حجم، وينمو كالنبات لكنه يتحرك، اختلف عن النبات بالحركة، وأما الإنسان فشيء مادي يشغل حيزاً في الفراغ، وله وزن، وله حجم، وله أبعادٌ ثلاثة، وينمو، ويتحرك لكنه يفكر، إذًا أودع الله في الإنسان قوةٌ إدراكية تميّز بها عن بقية المخلوقات، هذه القوة الإدراكية جعلته فوق المخلوقات جميعاً؛ لذلك الموقف الكامل من هذه القوة الإدراكية أن يؤمن، أن يتعرّف إلى الله، أن يتعرّف إلى حقيقة الكون، أن يتعرّف إلى حقيقة الحياة الدنيا، أن يتعرّف إلى حقيقة وجوده، فإذا تعرّف إلى الله حقق الهدف من وجوده بل أكّد إنسانيته، الله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
علة وجودنا في الدنيا العبادة، لو أن أباً أرسل ابنه إلى باريس لينال الدكتوراة من السوربون، مدينة كبيرة مترامية الأطراف عملاقة، نقول: هذا الطالب الموجود في هذه المدينة علة وجوده في هذه المدينة شيء واحد الدراسة ونيل الدكتوراة، يجب أن نعتقد جميعاً أن علة وجودنا في الدنيا شيء واحد: أن نعبد الله، والعبادة لا كما يتوهمها معظم الناس أن نصلي فقط، وأن نصوم، وأن نحج البيت، وأن نؤدي زكاة أموالنا، وأن ننطق بالشهادة؛ هذه عبادات شعائرية، لكن البطولة أن نخضع لمنهج الله -عزَّ وجلَّ- الذي قد يزيد عن خمسمئة ألف بند، يبدأ هذا المنهج من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، هذا المنهج كبير، كيف تأكل؟ كيف تشرب؟ كيف تتزوج؟ كيف تربي أولادك؟ كيف تتعامل مع الأقوياء، مع الضعفاء؟ هناك أسئلة لا تنتهي، فأنت الكائن الأول بل أنت أعقد آلة في الكون، ولهذه الآلة البالغة التعقيد صانع عظيم هو الله، ولهذا الصانع العظيم تعليمات التشغيل والصيانة، فالجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتّبع تعليماتها هي الجهة الصانعة لأنها الجهة الخبيرة، قال تعالى:
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
انطلاقاً من حرصك على سلامتك، أحدث إحصاء بسكان الأرض تسعة مليارات، أؤكد لكم أن تسعة مليارات إنسان -لا يُستثنى واحد منهم- حريصون على سلامة وجودهم، وحريصون على كمال وجودهم، وحريصون على استمرار وجودهم، سلامة وجودك بالاستقامة، فالاستقامة تحقق السلامة، وكمال وجودك بالعمل الصالح، والعمل الصالح يحقق لك اتصالاً مع الله.
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾
واستمرار وجودك بتربية أولادك، فلو جمعت أكبر ثروة في الأرض، وارتقيت إلى أعلى منصب فيها، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس، لذلك الإخوة الكرام الأعزاء الجالية الإسلامية في هذا البلد المشكلة الأولى تربية أولادهم، لأن الإهمال إذا حصل نشأ الابن نشأة تتناقض مع منهج أبيه، ومع عقيدته، ومع طموحه، وما لم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس، إذًا سلامة الوجود بالاستقامة على تعليمات الصانع وهي القرآن والسنة، وكمال الوجود بالعمل الصالح، واستمرار الوجود بتربية الأولاد؛ لذلك الله -عزَّ وجلَّ- جعل للإنسان عمراً، وما من تعريف جامع مانع للإنسان كهذا التعريف الذي ذكره الإمام الجليل والتابعي الكبير الإمام الحسن البصري، قال: "الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بِضع منه"، فأنت زمن ورأس مالك هو الزمن، هذا الزمن إما أن تنفقه إنفاقاً استهلاكياً كشأن معظم سكان الأرض، نأكل ونشرب ونسمر ونتمتع ثم نُفاجأ بالموت، فإما أن يُنفق إنفاقاً استهلاكياً أو أن ينفق هذا الزمن الذي هو أنت وهو رأس مالك إنفاقاً استثمارياً، بمعنى أن تفعل في الزمن الذي سينقضي عملاً ينفعك بعد انقضاء الزمن، لذلك لأن الإنسان زمن، ولأن رأس ماله هو الزمن أقسم الله له بمطلق الزمن فقال:
جواب القسم قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ قسم إلهي، أقسم الله له بمطلق الزمن، لأنه زمن، وجواب القسم:
﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2)﴾
خاسر! لماذا يا رب هو خاسر؟! العلماء قالوا: لأن مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان، سبت أحد اثنين ثلاثاء أربعاء خميس مضى الأسبوع، أسبوع ثانٍ وثالث ورابع مضى شهر، شهر ثانٍ وثالث ورابع مضى فصل، أربعة فصول مضى عام، مضى عشرة أعوام عقد، حياة الإنسان بضعة عقود، يفاجأ أنه صار على مشارف الموت، الإنسان لو كان عمره أربعين عاماً، لو سألناه كيف مضت هذه الأعوام؟ يقول لك: والله لا أدري، مضت، فإذا مضت الأربعون -والأعم الأغلب أن الذي بقي أقل مما مضى- فإذا مضت الأربعون فالأعوام التي بقيت تمضي كالأربعين، وفجأة الإنسان سيحاسب عن كل كلمة قالها، وعن كل خطوة خطاها، وعن كل ابتسامة، وعن كل عطاء، وعن كل منع، وعن كل صلة، وعن كل قطيعة.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْـَٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (93)﴾
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ (3)﴾
نجاة الإنسان بالإيمان والعمل الصالح:
قد يقول معظم أهل الأرض من المسلمين: نحن مؤمنون، الجواب علامة الإيمان الاستقامة على أمر الله، وأي إيمان لا ينتج عنه استقامة لا شأن له عند الله، الدليل إبليس اللعين مؤمن، ما الدليل؟ قال:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
آمن به رباً وآمن به عزيزاً، وقال:
﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِىٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)﴾
وآمن بالآخرة وهو إبليس اللعين، لذلك –دققوا- الآية الكريمة:
﴿ إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ (33)﴾
هنا الشاهد: ما آمن بالله العظيم، آمن بالله خالقاً لكن ما آمن به عظيماً، لو آمن به عظيماً لامتنع عن معصيته، فلذلك نصيحة لكل مؤمن: لا تقس إيمانك بمعلومات تعرفها، قس إيمانك باستقامتك، فإذا كنت مستقيماً فأنت مؤمن ورب الكعبة، فلذلك سألت مرة أحدهم: هل بإمكانك أن تضغط لي التجارة كلها بكلمة واحدة؟ مليون نوع، مئة مليون نوع، ألف مليون مستوى، يمكن أن تُضغط التجارة كلها بكلمة واحدة، إنها الربح، فإن لم تربح فلست تاجراً، كذلك الدين كله بعقائده، بعباداته، بمعاملاته، بتاريخه، بمؤلفاته، بأسسه، الدين كله يُضغط بكلمة واحدة إنها الاستقامة، فإن لم تستقم على أمر الله لن تقطف من الدين شيئاً، دين من دون استقامة اسمه (تراث)، يقول لك: عنده خلفية إسلامية، عنده أرضية إسلامية، عنده نشاط إسلامي، عنده منطلقات إسلامية، الإسلام شيء آخر، الإسلام منهج يبدأ من فراش الزوجية ويتنهي بالعلاقات الدولية، فإذا خضعت لمنهج الله في كسب مالك، في إنفاق مالك، في طريقة اختيار زواجك، في طريقة تربية أولادك، في حالات الضعف، وفي حالات القوة، في علاقاتك، إذا اعتمدت منهج الله -عزَّ وجلَّ- في كل حركاتك وسكناتك فأنت مؤمن ورب الكعبة، لذلك: ﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ* إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ﴾ ، الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول: "هذه أركان النجاة"، ننجو بإيمان يحملنا على طاعة الله، مقياس الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، وننجو بالعمل الصالح، فحجمك عند الله بحجم عملك الصالح.
﴿ وَلِكُلٍّۢ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۖ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)﴾
ننجو بالإيمان والعمل الصالح: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾ ، فحجمك عند الله بحجم عملك الصالح ﴿وَلِكُلٍّۢ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾ ، الإيمان والعمل الصالح: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾
الآن دققوا: ﴿وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ﴾ ، هل تصدقون أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم؟! الصلاة مثلاً فرض على كل مسلم، وكذلك الدعوة إلى الله من خلال سورة العصر فرض على كل مسلم، ولكن الدعوة إلى الله كفرض في حدود ما تعلم ومع من تعرف.
(( بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً، وَحَدِّثُوا عن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ))
[ أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو ]
﴿ قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (108)﴾
فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة ليس متّبعاً لرسول الله، والدليل:
﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)﴾
الدعوة إلى الله كفرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف، حضرتَ خطبة تأثرت بها أبلغها إلى زوجتك، إلى أولادك، إلى جيرانك بلقاء، إلى شركائك في العمل، انقل الحقائق التي تلقيتها إلى من حولك، هذه الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم في حدود ما تعلم ومع من تعرف، أما الدعوة إلى الله التي هي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل فتحتاج إلى تفرغ، وإلى تعمّق، وإلى تبحّر، وإلى توسع، وتقتضي هذه الدعوة أن تجيب على كل سؤال، هذه الدعوة التي هي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الكل، إذاً: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ﴾﴿وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ﴾ تعني الدعوة إلى الله، ﴿وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ﴾ الصبر على الإيمان بالله، والصبر على العمل الصالح، والصبر على الدعوة إلى الله، فهذه السورة كان أصحاب النبي -عليهم رضوان الله- لا يتفرقون بعد اجتماعهم إلا بعد تلاوة هذه السورة: ﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ*إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ﴾ ، سيدنا سعد بن معاذ له كلمة دقيقة، قال: "ثلاثٌ أنا فيهنَّ رجلٌ" كلمة (رجل) في الكتاب والسنة لا تعني أنه ذكر تعني أنه بطل.
﴿ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلْأَبْصَٰرُ (37)﴾
قال: "ثلاثٌ أنا فيهنَّ رجلٌ وفيما سوَى ذلك فأنا واحدٌ من النَّاسِ - ما هذه الثلاثة؟ قال: ما سمِعتُ من رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حديثًا قطُّ إلَّا علِمتُ أنَّه حقٌّ من اللهِ، ولا كنتُ في صلاةٍ قطُّ فشغلتُ نفسي بغيرِها حتَّى أقضيَها، ولا كنتُ في جِنازةٍ قطُّ فحدَّثتُ نفسي بغيرِ ما يقولُ أو يُقالُ لها حتَّى أنصرفَ عنها" ، خالق الأكوان أرسل النبي العدنان، فالكتاب والسنة هما الدين.
(( تركتُ فيكم أَمْرَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُمْ بهما: كتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ))
[ أخرجه مالك في (الموطأ) عن مالك بن أنس ]
أي لا بد في كل بيت من كتاب حديث، أي كتاب، هذا الكتاب اقرأ به سنة النبي الكريم، فقضية الجنة تحتاج إلى جهد، وإلى التزام، وإلى طلب علم، ولأن الله -سبحانه وتعالى- أودع فيك قوة إدراكية، فلذلك لتلبية هذه القوة الإدراكية أعلى عمل تفعله أن تطلب العلم لتعرف من أنت؟ ولماذا جاء الله بك إلى الدنيا؟ وما حقيقة الدنيا؟ وما حقيقة الكون؟ وما حقيقة الدار الآخرة؟ هذه معلومات دقيقة، لذلك قالوا - دققوا-: ما كل ذكي بعاقل، أحدهم قد يتمتع بذكاء عالٍ، وهو الأول في الجامعة، عمل دكتوراة في الفيزياء النووية -هذا أخطر موضوع- ولم يؤمن بالله لا يُعد عاقلاً، ما كل ذكي بعاقل، من هو العاقل؟ الذي عرف سر وجوده، وغاية وجوده، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الدار الآخرة، ثم تحرك وفق منهج الله، هذا هو العاقل، الإنسان -كما قلت لكم- حريص على سلامة وجوده، وكمال وجوده، واستمرار وجوده، السلامة بالاستقامة، والكمال بالعمل الصالح، والاستمرار بتربية الأولاد، لكن بعضهم قالوا: الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب، فإذا غذيت عقلك بالعلم، وقلبك بالحب الذي يسمو بك؛ أن تحب الله مثلاً، وجسمك بالطعام والشراب تفوقت، أما إذا اكتفيت بواحدة تطرفت، لذلك قال تعالى يصف أهل الدنيا:
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَٱلْأَنْعَٰمِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51)﴾
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ ۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4)﴾
وصف كلام الله -عزَّ وجلَّ-، ياأيها الأخوة الكرام؛ الحديث خطير متعلق بالمصير، متعلق بسعادة أبدية أو بشقاء أبدي، والإنسان -كما قلت قبل قليل- هو المخلوق الأول، والمخلوق المكرم.
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
والإنسان هو المخلوق المكلف بعبادة الله -عزَّ وجلَّ-، والعبادة طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
أيها الإخوة الكرام؛ كلكم يعلم أن الله -عزَّ وجلَّ-حينما قال:
﴿ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ يُؤْمِنُونَ (6)﴾
الآيات التي هي قنوات سالكة لمعرفة الله أنواع ثلاثة: آيات كونية، وآيات تكوينية، وآيات قرآنية،
فالآيات الكونية خلقه، والآيات التكوينية أفعاله، والآيات القرآنية كلامه، فإذا أردت أن تعرفه فعليك أن تسلك هذه القنوات، الكون ثم أفعال الله -عزَّ وجلَّ-ثم القرآن، العلماء قالوا: بين الأرض وبين أقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئية، ما معنى سنة ضوئية؟ يقطع الضوء في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلومتر، في الدقيقة ضرب ستين، في الساعة ضرب ستين، في اليوم ضرب أربع وعشرين، في العام ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، بأربعة أعوام ضرب أربعة، فابنك الصغير مع آلة حاسبة بدقيقتين يحسب لك المسافة بين الأرض وبين أقرب نجم ملتهب، ثلاثمئة ألف كيلو متر ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربع وعشرين ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ضرب أربعة، لو كان هناك طريق لهذا النجم، وأردنا أن نصل إليه بمركبة أرضية نحتاج إلى خمسين مليون عام، خمسون مليون عام كي نصل إلى أقرب نجم ملتهب! نجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية، المرأة المسلسلة مليونا سنة ضوئية، إحدى المجرات بموسوعة (لايف) أربعة وعشرون ألف مليون سنة ضوئية، افتح القرآن اقرأ قوله تعالى:
﴿ فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ (75)﴾
مواقع النجوم المسافات بين النجوم:
﴿ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾
فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كُلّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معا، بينما الجاهل يؤثر الدنيا عن الآخرة فيخسرهما معاً.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً، أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم احقن دماء المسملين في كل مكان، واحقن دماءهم في الشام يا رب العالمين.
الملف مدقق