- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا
وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين . اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
العاقل من يعمل لما بعد الموت :
أيها الأخوة الكرام ؛ قيل من عرف نفسه عرف ربه ، فمن أنت أيها الإنسان ؟
تأكل وتشرب وتتزوج وتنجب ولك عمل وعندك مهمات ، لكن ما حقيقتك ؟ ما مرتبتك بين المخلوقات ؟ لماذا خلقت ؟ هذه أسئلة كبرى ، هذه كليات الدين ، نحن في معظم الأحيان نغرق في جزيئات الحياة ، أكلنا وشربنا وتزوجنا وأنجبنا وزوجنا أولادنا ثم ماذا ؟ ماذا بعد الحياة ؟ ماذا بعد الموت ؟ ماذا في القبر ؟ ماذا في البرزخ ؟ ماذا في الآخرة ؟ هذه أسئلة كلية ، لذلك قالوا : ما كل ذكي بعاقل ، الذكاء متعلق بالجزئيات ، فقد تحمل أعلى شهادة دكتوراه في الفيزياء النووية ولأنك ما عرفت الله أنت لست بعاقل ، الجزئيات شيء والكليات شيء ، الكليات متعلقة بفلسفة وجودك ، بهويتك ، من أنت ؟ لماذا أنت في الدنيا ؟ ما الموت؟ ماذا بعد الموت ؟ ما الجنة ؟ ما النار ؟ ما الآخرة ؟ ما حقيقة هذا الكون ؟ من خلقه؟ لماذا خلقه ؟ هذه كليات الدين ، فالذي يغرق في الجزئيات يغرق في شيء تافه ، إذا جاء الموت أنهى كل شيء ، الموت ينهي الغنى والفقر ، ينهي القوة والضعف ، ينهي الذكاء والغباء ، ينهي الوسامة والدمامة ، الموت ينهي كل شيء ، ما الذي يبقى بعد الموت ؟ هذا هو العقل أن تعمل للنهاية ، أن تعمل لما بعد الموت .
الإنسان هو المخلوق الأول عند الله :
لذلك أيها الأخوة،
الشيء الدقيق والأساسي في هذا اللقاء الطيب أن الإنسان هو المخلوق الأول عند الله ، لأن الله عز وجل حينما عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال في عالم الأزل أبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، قال : يا رب أنا لها ، فلما قبِل الإنسان حمل الأمانة سخر الله له ما في السموات وما في الأرض تسخير تعريف وتكريم ، موقف المؤمن من تسخير التعريف أن يؤمن ، موقف الإنسان من تسخير التكريم أن يشكر ، أنت إذا آمنت بالله خالقاً ورباً ومسيراً ، أسماؤه حسنى ، صفاته علا ، واتبعت منهجه وعبدته تستحق الأبد ، وأنت مخلوق للأبد ، لست مخلوقاً لسنوات محدودة ، مخلوق لجنة عرضها السموات والأرض فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
طلب العلم فرض على كلّ مسلم :
أنت مخلوق للجنة ، فالذي ظنّ أنه مخلوق للدنيا أكبر خاسر ، قال تعالى :
﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
أن تأتي إلى الدنيا ، وأن تظن أن المال هو كل شيء ، أو أن الشهوة هي كل شيء، أو أن المكانة هي كل شيء ، وتغادر هذه الدنيا ، وقد غفلت عن سرّ وجودك وغاية وجودك ، أنت أكبر خاسر .
فلذلك طلب العلم فرض على كل مسلم ، ليس وردة أتزين بها ، العلم هواء تستنشقه فإن لم تستنشق العلم فأنت ميت ، دققوا في آيات دقيقة جداً تصف الذي أعرض عن ذكر الله ، قال تعالى :
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾
عند الله ميت ، قال تعالى :
﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾
أوصاف القرآن الكريم لمن أعرض عن ذكر الرحمن ، فالقضية ليست شيئاً ثانوياً نتزين به أو لا شيء مرتبط بوجودك ، مرتبط بعلة وجودك ، مرتبط بغاية وجودك ، مرتبط بمستقبلك في الدنيا والآخرة ، فالبطولة أن نعرف الله .
(( ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء إليك ))
أخوتي الكرام ؛ الإنسان هو المخلوق الأول من بين جميع المخلوقات ، والدليل قال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾
على الإطلاق فوق الملائكة ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾
بين أن تكون فوق الملائكة وبين أن تكون دون الحيوان ، أن تعرف الله ، معرفة الله مرة ثانية ليست وردة تتزين بها ، هواء تستنشقه ، أنت بالإيمان حي ، من دون إيمان ميت ، قال تعالى :
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
***
الإنسان عقل يدرك وقلب يحب وجسم يتحرك :
أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، غذاء العقل العلم ، وغذاء القلب الحب ، وغذاء الجسم الطعام والشراب ، فإذا غذيت عقلك بالعلم ، بحثت عن الحقيقة ، بحثت عن كليات الحياة ، بحثت عن سرّ وجودك ، عن غاية وجودك ، عن علة وجودك ، عن مصيرك ، بحثت عما بعد الموت ، بحثت عن الجنة والنار ، حققت الهدف من وجودك ، فإذا غفلت عن هذه الأشياء وقعت في شر كبير ، الآية الدقيقة جداً :
﴿ وَالْعَصْرِ ﴾
أنت عقل يدرك ، غذاؤه العلم ، وقلب يحب ، غذاؤه الحب ، وجسم يتحرك ، غذاؤه الطعام والشراب .
الإنسان خاسر لأن مضي الوقت وحده يستهلكه :
وأنت في الأدق الأدق بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، أنت إذاً زمن ، أنت زمن ولأنك زمن أقسم الله لك بمطلق الزمن ، فقال تعالى :
﴿ وَالْعَصْرِ ﴾
العصر مطلق الزمن .
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
إله يقسم لك أيها الإنسان وفي جواب القسم شيء ينخلع له القلب ، قال تعالى :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ِ ﴾
ما معنى في خسر ؟ أن مضي الوقت وحده يستهلكك ، قبل أن تقول : مؤمن وغير مؤمن ، أول عقد عشر سنوات ، ثاني عقد ، الثالث ، الرابع الأوج ، الخامس فيه متاعب صحية، السادس متاعب أكثر بعد ذلك تأتي النعوة .
معترك المنايا بين الستين والسبعين ، هل يستطيع إنسان أن يقول : أنا لا أموت ؟ هل يقدر إنسان أن يستيقظ كل يوم كاليوم السابق ؟ أبداً هناك موت ، هذا الموت ماذا أعددنا له؟ هنا الذكاء ، ليس الذكاء في جمع الأموال ، الأموال تنتهي مع وقف دقات القلب ، القلب ينبض إذا توقف القلب بناء مئة طابق ليس لك ، تنتهي الملكية ، الأراضي والعمارات والشركات والمكانة الاجتماعية والمناصب كل هذا منوط بضربات القلب ، توقف القلب انتهى كل شيء ، وكأن الإنسان في خط بياني صاعد ولد ، دخل المدرسة ، تخرج ، نال ليسانس ، توظف ، تزوج، أنجب أولاداً ، خط صاعد ، يأتي الموت يرجعه إلى الصفر ، كل شيء جمعه الإنسان بثمانين سنة يخسره في ثانية واحدة مع وقف ضربات القلب ، إلا المؤمن خطه البياني صاعد بعد الموت ، والصعود مستمر بل إن موت المؤمن نقطة على خطه البياني الصاعد ، من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام : " اللهم اجعل نِعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة ".
تمتع بالدنيا بصحة طيبة ، وأهل أطهار ، وأولاد نجباء ، ومكانة اجتماعية ، جاء ملك الموت إلى الجنة ، اللهم اجعل نِعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة ، والآية تقول :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
جنة في الدنيا وجنة في الآخرة ، الجنة في الدنيا كما قال بعض العلماء هي جنة القرب ، أحد كبار العلماء يقول : ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري ، إن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة .
لمجرد أن تعرف الله أنت أسعد الناس حياً وميتاً ، غنياً وفقيراً ، قوياً وضعيفاً ، صحيحاً ومريضاً .
أركان النجاة :
أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان بضعة أيام ، لأنه بضعة أيام أقسم الله له بالزمن ، والزمن هو العصر وجاء جواب القسم :
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
إلا أن رحمة الله في إلا ، حرف استثناء :
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
أربعة أشياء سماها الإمام الغزالي أركان النجاة ، لذلك ورد في بعض الآثار النبوية: " لا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله علماً ، ولا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله قرباً ".
بطولتك ، تفوقك ، ذكاؤك ، توفيقك ، نجاحك ، فلاحك ، أن تزداد علماً وقرباً مع مضي الأيام والليالي ، فذلك هذه الجنة :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
شيء ما رأيته في حياتك ، ما لا عين رأت ، أنت مثلاً زرت عشرين دولة في العالم لكن يوجد مدينة بألاسكا ما زرتها سمعت بها :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
هذه الجنة التي عرضها السموات والأرض نزهد بها ؟ لا نسعى إليها ؟
طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً :
أخواننا الكرام ؛ من هو الله ؟ خالق السموات والأرض ، أقرب نجم إلى الأرض ملتهب يبعد عنا أربع سنوات ضوئية ، ما معنى أربع سنوات ضوئية ؟ الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر ، في الدقيقة ضرب ستين ، بالساعة ضرب ستين ، باليوم ضرب أربع وعشرين ، بالسنة ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ، ضرب أربع سنوات، هذا الرقم رقم كيلو متري
لو أردنا أن نصل إليه بسيارة لاحتجنا إلى خمسين مليون عام ، خمسون مليون عام من أجل أن نقطع أربع سنوات ضوئية ، بعد الأرض عن نجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية ، بعد الأرض عن مجرة المرأة المسلسلة مليونا سنة ضوئية ، بعض المجرات الحديثة أربعة وعشرون ألف مليون سنة ضوئية ، اقرأ قوله تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
لو تعلمون ؟ إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل ، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً ، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً .
أخواننا الكرام ؛ مرة ثانية : طلب العلم فريضة على كل مسلم ، ما معنى فريضة ؟ للتقريب ، تنفس الهواء فريضة على وجودك ، فإن لم تتنفس خسرت وجودك ، أنت وجودك بالإيمان ، وجودك بالإسلام ، وجودك بمعرفة الواحد الديان ، هذا وجودك ، فإذا عرفت الله عرفت كل شيء ، تأتيك الدنيا عندئذ وهي راغمة ، إن لم تقل كمؤمن ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني ، عندك مشكلة بإيمانك ، لأنك مع من ؟ مع الخالق ، مع القوي ، مع العزيز، مع الرحيم ، مع اللطيف .
من يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه :
لذلك أخواننا الكرام ؛ مرة ثالثة : ليس الدين وردة تتزين بها ، الدين هواء نستنشقه ، هذه الحقيقة الأولى ، الإنسان لأنه زمن ، لأنه بضعة أيام ، والله ما قرأت تعريفاً للإنسان جامعاً مانعاً بحياتي كتعريف الإمام الحسن البصري ، قال : الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه .
كلما مضى يوم مضى جزء منك ، إنسان يمشي بطريق النهاية محددة ، كلما قطع كيلو متراً هذا الكليو قربه من النهاية ، لو نظر إلى ساعته كلما تحرك العقرب ، عقرب الثواني ثانية واحدة اقترب من النهاية ، نحن جميعاً إلى نهاية محددة ، هذه النهاية المحددة هي الموت إما أن تعد له الإعداد الكافي ، والإعداد ضمن إمكانيتك أن تستقيم على أمر الله ، الآية الدقيقة:
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
المعنى المخالف عند علماء الأصول ، من اتبع هواه و شهوته وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه ، اشتهى المرأة تزوج ، اشتهى المال عمل عملاً معيناً كسب منه المال ، ما من شهوة أودعها الله فينا إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها ، المؤمن ليس محروماً من شيء لكن كل أموره ضمن المنهج ، وفق هدى الله ، وفق طاعة الله ، وفق رضوانه .
أربعة أشياء تنجي الإنسان من الخسارة :
الإنسان، قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
الذي ينجينا من الخسارة أربعة أشياء ، أن نعرف الحقيقة ، هل تستطيع أن تكتب دكتور على البطاقة التي تخصك وأنت أمي ؟ أن تعرف الحقيقة لا بد من وقت ، لا بد من طلب علم ، لا بد من حضور درس في مسجد ، لا بد من قراءة كتاب ، فهم تفسير ، لا بد لطلب العلم من أن تعرف الحقيقة أولاً ، وأن تطبقها ثانياً ، وأن تدعو إليها ثالثاً ، وأن تصبر على معرفتها والعمل بها والدعوة إليها رابعاً ، وهذه السورة سورة العصر جامعة مانعة ، قال عنها الإمام الشافعي : "لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم ".
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
إله يقسم لك ، وهذه أسباب النجاة .
اللهو و التكاثر :
أخواننا الكرام، لكن ما هو اللهو؟ قال تعالى:
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾
أي الإنسان بعد ما يؤمن حاجاته الأساسية ، بيت ومسكن ومأوى وزوجة وأولاد يدخل بحالة اسمها التكاثر ، الجمع ، قال تعالى :
﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
الذي تجمعه تخسره في ثانية واحدة مع وقف ضربات القلب ، كل شيء جمعته في حياتك تخسره في ثانية واحدة ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
أما الذي تعمله للجنة فيبقى .
القلب السليم لا يشتهي شهوة لا ترضي الله :
لذلك قال تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
ما القلب السليم ؟ القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله ، والقلب السليم هو القلب الذي لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله ، والقلب السليم هو القلب الذي لا يعبد غير الله، لذلك هؤلاء البشر على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وطوائفهم ، وأنسابهم ، كل هذه التقسيمات أرضية ، دول الشمال دول الجنوب ، الدول الصناعية الدول النامية المتخلفة ، الدول المستعمِرَة الدول المستعمَرة ، تصنيفات الأرض ، أما الله عز وجل فقد قال :
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾
تصنيف الله عز وجل للبشر :
على الأرض الآن سبعة مليارات ومئتا مليون ، كل واحد يتحرك بجهة ، لكن الله عز وجل جمع كل هذه الحركات في حقلين اثنين ، قال تعالى :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
الصنف الأول الناجح الناجي ، صدَّق أنه مخلوق للجنة ، بعد هذا التصديق اتقى أن يعصي الله ، وبنى حياته على العطاء ، أعطى واتقى وصدق بالحسنى ، تركيب معكوس لحكمة ، صدق بالحسنى هي الجنة فاتقى أن يعصي الله فبنى حياته على العطاء ، والثاني :
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾
كذب بالآخرة ، آمن بالدنيا ، استغنى عن طاعة الله ، بنى حياته على الأخذ ، لذلك هؤلاء البشر السبعة مليارات على رأسهم زمرتان كبيرتان ، الأقوياء والأنبياء ، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، الأقوياء ملكوا الرقاب ، والأنبياء ملكوا القلوب ، الأقوياء يمدحون في حضرتهم ، والأنبياء يمدحون في غيبتهم ، الأقوياء عاش الناس لهم ، كل البشر تبع لقوي أو نبي ، إن كنت تابعاً للأنبياء تعطي عطاء كثيراً ، وترحم ، وتتواضع ، وتحسن ، إن كنت تابعاً للأقوياء تأخذ ، تظلم ، فالبطولة أن تكون أحد أتباع الأنبياء .
أخواننا الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
توجيهات النبي و التفكر في خلق الله عز وجل :
أخواننا الكرام ؛ هذا النبي الأمي الذي بعثه الله إلينا قبل ألف وأربعمئة عام ، من توجيهاته الدنيوية أنه ينبغي قبل أن نأكل الذبيحة ألا نقطع رأسها عند الذبح ، لم ؟ لو زرت بلاد العالم تعلق الدابة من رجليها وتقطع رؤوسها إلا أن هذا النبي الكريم نهى عن قطع رأس الدابة ، بل أمر بقطع أوداجها فقط ، لا أحد يعلم ، لا في حياته أحد يعلم ولا بعد مئة عام أحد يعلم ولا بعد خمسمئة عام أحد يعلم ، ولا بعد ألف وأربعمئة عام أحد يعلم إلا الآن .
تبين أن هذا القلب ينبض ثمانين نبضة ، بهذه النبضات يصل الدم إلى كل أنحاء الجسم ، لكن حينما يواجه الإنسان طريقاً صاعداً ، جهداً بالغاً يحتاج إلى مئة وثمانين نبضة ، كيف ينبض القلب مئة وثمانين نبضة ؟
قال : هناك إدراك للخطر ، يمشي بطريق وجد ثعبان أدرك الخطر يجب أن يهرب أو أن يقتله ، إدراك الخطر أحد البنود ، هناك غدة بالدماغ اسمها النخامية وزنها نصف غرام تقوم بإفراز تسعة هرمونات ، لولا أحدها لكانت حياة الإنسان جحيماً لا يطاق ، أحد هذه الهرمونات هذا الهرمون ، لما رأى الثعبان أدرك الخطر ، الدماغ أرسل رسالة هرمونية إلى الكظر فوق الكلية ، هذا الكظر غدة صغيرة ، ترسل له رسالة من الملكة النخامية ملكة الغدد ، هناك خطر تصرف ، الكظر يعطي خمسة أوامر ، أول أمر يرفع النبض إلى مئة وثمانين ، النبض مرتفع جداً يجب أن يقابله وجيب رئتين مرتفع ، ويرفع وجيب الرئتين ، فلو قسنا نبض إنسان خائف لوجدته مئة وثمانين مئة وستين ويلهث ، يعطي أمراً ثانياً للأوعية الدموية تضيق لمعتها ويصفر لونه ، لأنه خائف يوفر الدم للعضلات ، يعطي أمراً ثالثاً للكبد يفرز هرمون التجلط إذا صار في جرح الدم لا يسيح كله يتجلط ، يغلق الفتحة ، وهناك أوامر كثيرة خمسة أوامر تنفذ في ثوان ، ما هذا الخلق ؟ هذا خلق الله .
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾
لذلك قال تعالى :
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾
التفكر في الآفاق باب واسع ، في المجرات ، في الشموس ، في النجوم ، في المذنبات ، والتفكر في النفس ، في الدماغ مئة وأربعون مليار خية سمراء استنادية لم تعرف وظيفتها بعد حتى الآن ، بالقشرة أربعة عشر مليار خلية ، العين والله لو أمضينا عاماً بأكمله لا ننتهي من العين ، قال تعالى :
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾
الأذن ، الحنجرة ، الرئتان ، المعدة ، الكليتان ، الدم يمشي في اليوم بالكلية مئة كيلو متر، الأوعية الدموية طولها مئة كيلو متر كي يصفى الدم ، لو تفكرتم في خلق الإنسان ، قال تعالى :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾
من نطفة لا ترى بالعين ، وبويضة بعد تسعة أشهر دماغ وشعر ، وأسنان ورئتان وقلب وأعضاء ، شيء مذهل ، خلق الإنسان وحده يدل على الله .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى ، هيئ لهم بطانة خير يا رب العالمين.