- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (008) سورة الأنفال
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
المعنى الحقيقي للهجرة :
أيها الأخوة الكرام ؛ الآية الثانية والسبعون من سورة الأنفال قوله تعالى :
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
الهجرة أيها الأخوة ؛ ونحن هذه الأيام نعيش ذكرى الهجرة ، الهجرة هي المظهر العملي للإيمان .الإيمان : ما وقر في القلب ، وأقره اللسان ، وصدقه العمل .
فالإنسان أيها الأخوة إذا آمن بالله ، آمن بالله ولكنْ من دون حركة نحو الله فذلك مستحيل ، آمن بالله من دون تطوير لنمط حياته فهذا مستحيل ، آمن بالله من دون تغيير لطريقة كسب المال فهذا ليس إيماناً . فكأن الله سبحانه وتعالى أراد من الهجرة معناها الواسع ، والهجرة لها معنى ضيق ، ولها معنى واسع ، فمعناها الضيق الانتقال من مكة إلى المدينة في عهد النبي، لكن باب الهجرة أغلق بعد الفتح ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :
((عن بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا))
لكن باب الهجرة مفتوح إلى يوم القيامة بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة ، باب الهجرة مفتوح من دار الكفر إلى دار الإسلام ، ويبقى هذا هو المعنى الضيق .لكن المعنى الواسع : المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ، عندما يرتاد الإنسانُ بيوتَ الله ، ويدع الأماكن الموبوءة فقد هاجر إلى الله ، عندما ينضم الإنسان إلى المؤمنين ، ويأنس بهم ، ويدع الفسقة والفجار ، فقد هاجر إلى الله ، عندما يأوي الإنسان إلى بيته ويجعله كهفه في زمن الفتن ، والانحرافات ، والضلال فقد هاجر إلى الله ، وحينما يدع الإنسان الحرام ، ويأخذ الحلال فقد هاجر إلى الله .
فالهجرة بمعناها الواسع الانتقال من المعصية إلى الإيمان ، من التفلُّت إلى الانضباط، من مجتمع الكفار إلى مجتمع المؤمنين ، من تقليد الكفار إلى تقليد المؤمنين ، من التخلي عن أهل الدنيا والانضمام إلى أهل الدين ، هذا المعنى الواسع ، وهذا المعنى يسع الناس في كل زمان ، وفي كل مكان ، وأجمل ما في الموضوع الحديث القدسي الذي يقول الله جل جلاله فيه :
((عبادةٌ في الهرج كهجرةٍ إليّ ))
الهرج الفتن ، أي إذا كان الطريق مليئًا بالكاسيات العاريات ، فغضُّ البصر حينئذٍ هجرة ، ولزومُ مجالس العلم هجرة ، والالتجاء إلى بيوت الله هجرة ، والانضمام إلى المؤمنين الصادقين هجرة .((عبادةٌ في الهرج كهجرةٍ إليّ ))
هذا ما يقوله الله عز وجل في الحديث القدسي . لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال مرةً :((اشتقت لأحبابي قالوا أو لسنا أحبابك ؟ قال لا : أنتم أصحابي ، أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان ، القابض منهم على دينه كالقابض على جمر أجره كأجر سبعين ، قالوا: منا أم منهم قال : بل منكم ، قالوا : ولِمَ ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون))
الشعور بالغربة علامة صادقة على الإيمان :
الإنسان إذا تديّن حقًّا ، وإذا استقام حورِب من كل الناس ، حتى من أهله ، وزوجته ، وأولاده ، حتى من أقرب الناس إليه . هكذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( بدأ الدين غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء أناسٌ صالحون في قوم سوءٍ كثير ))
فإذا شعرت بالغربة فهي علامة صادقة على إيمانك ، يقول بعضهم : أخي الناس كلهم فسقة ، الناس كلهم منحرفون ، وأنا منهم ، وإلا فأين أذهب ؟ ثم يعايشهم ، أمّا أنت إن شعرت بالغربة فهذه علامة طيبة ، لأن الله عز وجل قال :
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
دروس الهجرة :
1 ـ من تعارضت مصالحه مع مبادئه فعليه بالمبادئ :
أخواننا الكرام ؛ إنّ الأحداث التي مرت بعهد النبي أحداثٌ ساقها الله عز وجل لحكمةٍ بالغةٍ بالغة ، ليقف النبي منها موقفاً كاملاً ، ليكون هذا الموقف تشريعاً إلى يوم القيامة ، لأن هذه الأحداث تتكرر .
الأحداث التي وقعت في عهد النبي ليست أحداثاً تاريخية وقعت ولن تقع ، وقعت وسوف تقع ، وسوف تقع دائماً ، لذلك جاءت في عهد النبي ، ووقف منها النبي موقفاً كاملاً ، ليكون هذا الموقف موقفاً تشريعياً لمَن كان في عصره ، ولمَن بعده إلى يوم القيامة .
أول درس أيها الأخوة من الهجرة ؛ أن الهجرة تعلمنا أنه إذا تعارضت مصالحك مع مبادئك فعليك بالمبادئ ، إذا تعارض حبُّك لبلدك ولمكان إقامتك مع طاعتك لله عز وجل ، فابحث عن مكانٍ تطيع فيه الله عز وجل .
﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾
طبعا هناك كثير من الأقطار أو القرى أو المدن تلجأ إليها ، ففي العصور الوسطى حدَث اضطهاد ديني ، فالذين رضوا بالاضطهاد الديني تفلَّتتْ أمورهم ، وتركوا عباداتهم ، وأطلقوا لبناتهم العنان إرضاءً للمضطهدين ، ضيعوا دينهم وآخرتهم ، لكن الذين فروا بدينهم هم كثيرٌ ، فرُّوا بدينهم من الاضطهاد الديني فأنقذوا آخرتهم .فالإنسان إذا كان الخيار صعبًا لديه ، بين أن يقيم شرع الله وبين أن يترك ، عليه أن يطيع الله في أي مكان آخر ، هذا أول درس .
2 ـ الأخذ الأسباب لا يتناقض مع التوكل :
الدرس الثاني أيها الأخوة ؛ النبي عليه الصلاة والسلام علمنا بحادثة الهجرة أنّ الأخذ الأسباب لا يتناقض مع التوكل ، فقد رَسَمَ خطّةً محكمة ، وغطّى كل الثغرات ، أولاً : سار باتجاه البحر ، وربض في غار ثور ، وكلف إنسانًا لتقصي الأخبار ، وإنسانًا ليمحو الآثار ، وإنسانًا ليأتي له بالزاد والأخبار ، واستأجر خبيرًا في الطريق ، لقد هيَّأَ كلَّ شيء ، هذا هو الأخذ بالأسباب ، ومع ذلك كان متوكِّلاً صادقًا .
أيها الأخوة ؛ المسلم الصادق يأخذ بالأسباب ، ويتوكل على رب الأرباب ، لأنّ عنده منزلقين .
أول منزلق : أن يأخذ بالأسباب وأن يعتمد عليها فيقع في الشرك .
ثاني منزلق : إنْ لم يأخذ بها وقع في المعصية . فأنت أيها المسلم بين معصيتين ، أن تأخذ بالأسباب وتقع في الشرك ، أو أن تدع الأخذ بالأسباب فتقع في المعصية ، وما سبب تخلف المسلمين إلا أنهم أخذوا بالأسباب ، واعتمدوا عليها ، فأشركوا ، فأحبط الله أعمالهم ، أو أنهم تركوا الأخذ بالأسباب لفهمٍ ساذجٍ للتوكل ، فوقعوا في المعصية ، فلم يستحقوا نصر الله عز وجل .
هذا درسٌ بليغ ، يجب أن يضعه كل مسلم نصب عينيه في حياته اليومية كلها ، في كل شأنٍ من شؤون حياته ، حتى في شأن صحته ، سمِّ الله وكُلْ لكن التفاحة ليست مغسولة ، هذا ليس توكلاً ، هذا عدم أخذ بالأسباب ، ألا تلقح أولادك ؟ يا أخي أنا متوكل على الله ، هذه غفلة ومعصية ، عدم الأخذ بالأسباب معصية ، وأن تأخذ بالأسباب وتقول : لا يوجد شيء ، وأنا عملت مراجعة للسيارة وهي جاهزة للسفر ، لن يحدث معي شيء يسوءني ، هذا شرك ، لأنّك اعتمدت عليها ، الله عز وجل قادر أنْ يخلق لك مشكلة ، وأنت آخذ بكل الأسباب .
أيها الأخوة : من لم يأخذ بالأسباب فقد عصى ، ومن أخذ بها واعتمد عليها فقد أشرك ، والنبي علمنا بالهجرة كيف أنه أخذ بالأسباب ، فلما جاؤوا إليه توكل على الله ، وصلوا له رغم كل الأسباب ، وصلوا إلى غار حراء ، فلأنه لم يعتمد عليها ، ولو أنه اعتمد عليها لانهار ، لكنه أخذ بها طاعةً لله ، ولم يعتمد عليها ، بل اعتمد على الله عز وجل ، لذلك لم يخف أبدًا ، قال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ قال أبو بكر : لقد رأونا ، قال : يا أبا بكر ، ألم تقرأ قول الله تعالى :
﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾
يبدو أن أحد المطاردين وقعت عينه على عين أبي بكر رضي الله عنه ، قال له : لقد رأونا ، فقال له عليه الصلاة والسلام : ألم تقرأ قوله تعالى :﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾
أنت حينما تأخذ بالأسباب ، ولا تكفي الأسباب ، فالله يرمم لك إياها ، أنت حينما تأخذ بالأسباب ، ولا تكفي الأسباب ، فالله يتولى الباقي ، أما إن لم تأخذ بها فهذه استهانةٌ بنظام الكون ، وهذا استخفافٌ بنظام الله عز وجل ، أما إذا أخذتها واعتمدت عليها ونسيت الله فقد أشركت ، وهذا الدرس الثاني .3 ـ من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه :
الدرس الثالث أيها الأخوة ؛ هذا الحديث الشريف ، والله أتمنى عليكم أن يكون أمامكم في كل ساعة .
(( ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلاّ عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))
أقسم بذات الله زوال الكون أهون على الله من أن يدع مؤمنٌ شيئًا لله ثم يخسر .(( ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلاّ عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))
أحد الصحابة حينما بايع النبي بيعة الهجرة - عقبة بن عامر الجهني - وعنده غنيمات يحرص عليها حرصاً بالغاً ، فكان يقول لأصحابه : اذهبوا أنتم إلى رسول الله ، ودعوني مع الغنمات ، يخاف عليها ، لأنّها كلها رأس ماله ، لكنه لم يلبث أنْ أجرى محاكمة مع نفسه ، أنا إلى متى أسمع عن النبي ولم أسمع منه مباشرةً ؟ فترك الغنيمات وذهب إلى النبي يسمع منه بنفسه وتصحبه سحابة يومه ، هذا الإنسان صار فاتح مصر ، وفاتح الشام ، وفاتح جزيرة رودس في البحر المتوسط ، وصار أكبر عالم من علماء الصحابة ، وأكبر قارئ قرآن ، لمَّا ترك الغنيمات ، وكان مجرد راعٍ ، فصار عالمًا جليلاً ، وصار واليَ مصر ، وفاتح الشام ، وفاتح رودس .(( ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلاّ عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))
أنا لن أقول لك : جرِّب الله ، ولا أقول لك : شارِط الله ، ولكن أنقلُ لك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، تركُ أمرٍ لله ، تركُ مبلغ لله ، إذا لم تأخذه أضعافًا مضاعفة بطريق حلال فإنّ الدين يكون باطلاً .(( ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلاّ عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))
دائماً كن مع الله ، دائماً كن مع الحق ، ضع مصلحتك تحت قدمك ، قل : يا ربِّ أنا أبتغي رضاك ، والله عز وجل لا ينساك .تلخيص لما سبق :
الخلاصة في الهجرة ثلاثة دروس : أول درس ، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو كلفني ترك بلدي ، فإذا مُنِع المسلم من الصلاة ، مُنِع أن يقيم شعائر الله .
﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾
فلا عذر لك أبداً ، لكن نحن والحمد لله نقيم شعائر الله بشكلٍ رائع ، وما من بلدةٍ في العالم كهذه البلدة الطيبة ، كما قال النبي :(( إنِّي رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ قَدِ انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ، فَعُمِدَ بِهَ إِلَى الشَّامِ، أَلاَ وَإِنَّ الإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتْ الْفِتنُ بِالشَّام ))
هذه نعمة كبيرة ، وإن شاء الله في درس قادم نتحدث عن الهجرة المعاكسة ، كيف أنّ الإنسان عندما يترك بلدًا فيه مجالس علم ، وتقام فيه شعائر الله عز وجل ، من أجل الدرهم والدينار ، يضيع دينه ، وعرضه ، وأولاده ، هذه هجرة معاكسة ، في سبيل الشيطان .