- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (008) سورة الأنفال
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
القصر والحصر :
أيها الأخوة الكرام ؛ الآيات الثانية والثالثة والرابعة من سورة الأنفال ، وهي قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ*﴾
هذه التعريفات للمؤمن لها وظيفتان .الوظيفة الأولى : أنْ تعرف نفسك من خلالها .
الوظيفة الثانية : أنها تحدد الهدف أمامك .
تعرف وتتجه ، فلو قلت لك مثلاً : إن الوردة الطبيعية تنمو ، وهي ذات رائحة فوّاحة، وأنت عندك وردة لا تنمو ، وليس لها رائحة فواحة ، فمعنى ذلك أنّها مِن البلاستيك ، فهذا التعريف الدقيق للورد الطبيعي يجعلك تقيِّم ما عندك ، فـ "إنما" أداة قصر وحصر ، أي المؤمن هكذا ، وخلاف ذلك ليس بمؤمن ، تقول : إنما العلم بالتعلم ، أي ليس ثمّة طريقة أخرى لكسب العلم إلا بالتعلم ، إنما تفيد القصر ، مثلاً تقول :
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾
أي العلماء وحدهم يخشون الله ، وليس أحدٌ سواهم . يجب أن نعرف ماذا تعني "إنما"؟ إنما أداة قصر ، وأداة حصر ، إذا قلنا : شوقي شاعر ، فقد يكون شوقي كاتبًا كذلك ، وتاجرًا ، وحقوقيًا ، وقاضيًا .أما إذا قلنا إنما شوقي شاعر فهذا يعني أنّه شاعر فقط ، قصرنا شوقي على الشعر، لو قلنا : إنما الشاعر شوقي ، أي ليس هناك شاعر آخر ، هو وحده الشاعر ، فإذا المؤمن عرف ماذا تعني كلمة "إنما" ، وقرأها في القرآن الكريم يصبح فهمه للآية دقيقاً . قال لك:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ﴾
أي إن لم تشعر بهذه الأخوة مع المؤمنين فلست مؤمناً ، إذا كنت تبغضهم ، وتحسدهم ، وتتمنى أن يفشو الخبر السيئ عنهم ، وتتمنى تدميرهم ، فلست مؤمناً قطعاً ، لقوله تعالى :﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) ﴾
فقد صاروا منافقين ، فحيثما قرأت "إنما" في القرآن الكريم مثل :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
ومثل :﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
ونحو :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
إن لم يكونوا كذلك فليسوا مؤمنين ، أما لو قلنا : المؤمنون وجلت قلوبهم ، فليس في الآية قصر ، وجلتْ قلوبهم أَو لا ، وغيرهم قد وجلت قلوبهم ، أما إذا قلنا :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
قصرنا هذا الحال النفسي على المؤمنين ، فمن لم يشعر بهذا الحال النفسي فليس مؤمناً ، ولقد أردت من هذه اللقطة ، أو من هذه النظرة اللغوية أنكم كلما قرأتم آيةً قرآنيةً فيها كلمة : " إنما" فاعلموا أنّ "إنما" تفيد القصر والحصر ، ولو أنّ الله عز وجل قال : العلماء يخشون الله ، يعني هذا الكلام أن غير العلماء كذلك يخشون الله ، أما إذا قلت :﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
أي العلماء وحدهم وليس أحد سواهم يخشـون الله ، إذا قلت : المؤمنون إخوة ، هذا لا يمنع أن يكون الكفار إخوة أيضًا ، والمنافقون إخوة ، أما إذا قلت :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
أي الأخوّة محصورةٌ ومقصورةٌ بين المؤمنين ، ومن لم يشعر بهذه الأخوّة فليس مؤمناً ، والكلام واضح .حاجة الإنسان إلى الذكر :
آيات اليوم التي نحن بصدد الاستفادة منها :
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
أي أنّ الله عز وجل يذكِّر بآياته الكونية ، يذكِّر بآياته التكوينية ، يذكر بآياته القرآنية ، وتذكر أيضًا أسماءه الحسنى ، تذكر صفاته العظمى ، تذكر فضله ، تذكر عظمته ، تذكر حلمه ، تذكر رحمته ، تذكر قدرته ، ثم لا تضطرب ، ولا تهتز لك حاسة ، ولا تشعر بقشعريرة بجلدك ؟ لا تشعر بوجلٍ في قلبك ؟ لا تضطرب ؟ لا تبكي ؟ لا تتأثر ؟ فلست مؤمناً ، والقلب ميت .﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) ﴾
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميت الأحياء
***
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
لذلك العلم غذاء العقل ، والذكر غذاء القلب ، والطعام والشراب غذاء الجسم .أنت أيها الأخ الكريم بحاجة ماسة إلى أغذية ثلاث ؛ غذاء لجسمك ، هذا شيء معروف ، وغذاء لعقلك ، وهو العلم ، وغذاء لقلبك ، وهو الذكر .واستمع إلى قوله تعالى :
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) ﴾
استمع إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام :((إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء ، قيل : وما جلاؤها ؟ قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن ))
فإذا أردت أن تطمئن ، أن تستقر ، أن ترتاح نفسك أن تسعد ، فأكثر من ذكر الله :(( ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند ملككم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم ، فيضربوا أعناقكم وتضربوا أعناقهم ؟ قالوا : بلى ، قال : ذكر ال))
لذلك نحن بحاجة إلى الذكر ، كي يغذى القلب ، وكي يذهب عنه القلق والخوف والقهر .﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
.الدين اتصال بالخالق وإحسانٌ للمخلوق :
الآن :
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾
العقل يؤمن ، لكن كلما رأى برهانًا جديداً وآية جديدة ازداد إيماناً ، لذلك قال العلماء : الإيمان يزيد وينقص ، يزيد بالأدلة والآيات والروائع القرآنية ، وينقص بالإهمال ، إذا توقف الإنسان عن طلب العلم ، مثلاً طبيب ، إذا بقي على معلومات الجامعة ، بعد عشر سنوات ينسى معظمها ، يبقى على معلومات بسيطة ، فالطبيب إذا لم يتلقَّ العلم بشكل مستمر فلن يواكب العصر ، فمن لم يكن في زيادة فهو في نقصان ، إذاً أنت بحاجة إلى غذاء للقلب :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
وبحاجة إلى غذاء للعقل :﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾
محصلة غذاء القلب مع غذاء العقل : وعلى ربهم يتوكلون ، حال التوكل لا يعرفه إلا من ذاقه ، أي ملك الملوك يدافع عنك ، يحبهم ويحبونه .﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96)﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) ﴾
فربنا عز وجل يحفظ المؤمن قال سبحانه :﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
هذا الدين كله إحسان واتصال ، حركة أفقية نحو الخلق بالإحسان إليهم ، وحركة علوية نحو الله بالاتصال به ، هذا الدين ، هذا الدين في أدق تعاريفه ، وفي أوجز تعريفاته ، اتصال بالخالق ، وإحسانٌ للمخلوق .﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
يصلي وينفق ، ويذكر الله ويزداد علماً ، العلم غذاءٌ لعقله ، والذكر غذاءٌ لقلبه ، ويخدم الناس ، ويتصل بالله .آيات القرآن تعريف وتحجيم وتقييم وقياس وهدف :
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾
لهم درجات عند ربهم ومغفرةٌ للماضي ، ورزقٌ كريم ، ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، آيات موجزات عرفتك بالإيمان ، الإيمان غذاء للعقل ، بالآيات الكونية ، والتكوينية ، والقرآنية ، والإيمان ذكر للقلب ، للطمأنينة ، والإيمان اتصال بالخالق ، وإحسان للمخلوق .النتائج ، التوكل ، وعلى ربهم يتوكلون ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ، هذا الطريق ، أي أنّ شخصًا معه عملة ، بعضها مزور ، أخذ مقياسًا ليفحصها ، فوجد ثلاثة أرباعها مزورًا ، انتبهْ هذا مقياس لفحص العملة ، وهذه الآية مقياس فحص ، وتحديد هدف ، تُعرفك من أنت ، تحجم نفسك ، لأنّ كل إنسان لا يرضى عن رزقه لكنه يرضى عن عقله ، يظن نفسه أعقل الناس ، ويرضى عن إيمانه ، ويظن أنه في صفّ الصديق ، لكن لا شي في حياته العملية يؤكد ذلك .
إذاً هذه الآيات تعريف ، تحجيم ، تقييم ، قياس ، وهدف ، اجعلها هدفًا ، اجعل هدفك أنك إذا ذكرت الله طَرِبَ قلبك ، وإذا تلوتَ آياته ازداد إيمانك ، واجعل همك الأول الاتصال بالخالق ، والإحسان إلى المخلوق ، عندئذٍ يحسن توكلك على الله ، ويغفر الله لك ما سلف منك ، ويرزقك رزقاً كريماً .