وضع داكن
19-04-2024
Logo
موضوعات إسلامية - متفرقة : 008 - الهجرة - 3 - هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علَّمتنا، و زدنا علماً، وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلاً و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.

من آثر أخاه على نفسه كمُل إيمانه :

 أيها الأخوة الأكارم، لا زلنا في دروس السيرة، و لا زلنا في هجرة النبيِّ صلى الله عليه و سلم، و كما بيَّنتُ لكم من قبل إن أبرز ما في هذه الدروس الدلالات والاستنباطات التي يمكن أن نستنبطها من وقائع السيرة لتكون نوراً لنا في طريق الحياة. كما تكلمتُ في الدرس الماضي: في الأيام الثلاثة الأولى قامت قريشٌ و لم تقعد، و تحركت في كل مكان، و سخَّرت كلَّ رجالها، و أرادت أن تلقيَ القبض على النبيِّ صلى الله عليه و سلم، و أن تمنعه من أن يصل إلى المدينة، و لكن مسعاها باء بالإخفاق، ولم تستطع أن تصل إليه، و قد نفَّذ النبي صلى الله عليه و سلم الخطَّة التي رسمها تنفيذاً دقيقاً، فحينما اشتدَّ عليه الطلبُ كان في غار ثور، و لما مرَّت أيامٌ ثلاثة أيقنت قريشٌ أن النبي لا يمكن أن يبقى في مكة، لا بدَّ من أنه قد ارتحل عنها، لذلك خفَّ عليه الطلب، و خفَّت وطأة الملاحقة، و جاء الدليلُ الذي استأجره النبيُّ صلى الله عليه و سلم في الوقت المعلوم مع ناقتين لسيِّدنا الصديق و ناقة له، ووصل بهذه الرواحل إلى باب غار ثور وفق الوقت المحدَّد، و يروي ابنُ إسحاق قال: لما قرَّب أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قدَّم له أفضلهما- هنا الوقفة- النبيُّ علَّمنا أن نؤثر إخواننا في كل شيء، مرة أُعطِي سواكين أحدهما مستقيم و الآخر أعوج، فلما أراد أن يقدِّم أحدهما لأحد أصحابه قدَّم له المستقيم هنا استنباط أولٌ، لا يصحُّ إيمانك و لا يكمل إيمانُك إلا إذا آثرت أخاك بالشيء الذي تختاره لنفسك، لقوله تعالى:

﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾

[سورة الحشر: 9]

 التفاحة الكبيرة قدِّمها لأخيك، و المكان جانب النافذة في السيارة قدِّمه لأخيك، أنت وطِّن نفسك أن تؤثر إخوانك في كل شيء، وهم يوطِّنون أنفسهم على أن يؤثروك في كل شيء، و عندئذ تشتبك النفوس، و يصبح المؤمنون كالبنيان المرصوص، عندئذ تشعر أنك في أسرة كبيرة، و تشعر أن مجتمع المؤمنين مجتمع عظيم، مجتمع فيه المودَّة و الرحمة، مجتمع فيه النصح و الإرشاد.
أيها الأخوة الأكارم ؛ دقِّقوا في هذه الآية، قال تعالى:

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾

[سورة التوبة: 71]

 و قال تعالى:

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾

[سورة التوبة: 71]

 ما قال : أولياء بعض، قال : بعضهم من بعض، دقّة القرآن الكريم:

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾

[سورة التوبة: 71]

﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾

[ سورة التوبة : 67]

 من طينة واحدة، و من خيانة واحدة، و من عداء واحد، و من تشتُّت، أي بين المنافقين عداء كبير، أما المؤمنون فبعضهم أولياء بعض.

مؤاثرة الصّدّيق النبي الكريم على نفسه :

 أنا أقول لكم: اللهُ سبحانه و تعالى لا يحبُّنا إلا إذا أحببنا بعضنا، و إلا إذا آثرنا بعضنا في كل شيء، و اللهِ الذي لا إله إلا هو لو أنك آثرت أخاك في كل شيء تحبُّه لنفسك، لأعطاك اللهُ خيراً منه أضعافاً مضاعفة تكشف عن معدنك الطيِّب، طبعاً النبيُّ عليه الصلاة و السلام حينما قدَّم السواك المستقيم لصاحبه كان لنا قدوةً، سيِّدنا الصدِّيق قدَّم أفضلهما لرسول الله، عوِّد نفسك أن تختار الأحسن لإخوانك، و إخوانك كذلك أشخاص عندهم حساسية، و عندهم أخلاق، و عندهم نظر، و عندهم عقل، إن رأوك خصصتهم بالأحسن، هم أيضا يبادرون إلى أن يخصوك بالأحسن، نشأت المودَّة و المحبة و التعاون و التكاتف.
 إذًا قدَّم له أفضلهما ثم قال:" اركب فداك أبي و أمي " أنا لا أعتقد أن في الأرض كلها رجلاً أحبَّ رجلاً كهذا الصديق الجليل، إذ أحبَّ النبيَّ عليه الصلاة و السلام، و لا أكتمكم أن تسعة أعشار الإيمان حبٌّ، ألا لا إيمان لمن المحبة له.

(( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به))

[البغوي في شرح السنة عن عبد الله بن عمرو]

 عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ))

[ البخاري عن أنس ]

 قال له:" اركب يا رسول الله فداك أبي و أمي" هذا الذي دلَّك على الله، هذا الذي عرَّفك بالله، هذا الذي دلَّك على سعادة أبدية لا تنقطع، هذا الذي منحك علماً و حلماً و رأفةً و رحمةً و أخلاقاً واسعةً و معرفة بالله عز وجل، مَنَ مِنَ البشر يستحقُّ الشكر كرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال تعالى:

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة التوبة :128]

 قال:" اركب فداك أبي و أمي " فقال عليه الصلاة و السلام:

((إني لا أركب بعيراً ليست لي ))

[السيرة النبوية لابن هشام: قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الغار]

 يريد النبيُّ أن يدفع ثمنها، لا أركب بعيراً ليست لي، كن عفيفاً، لا تقبل العطيةَ بسهولة، اِدفع ثمنها، تعفَّف عن أن تُقدَّم إليك، لتكن يدُك هي العليا، اكسب المال الحلال، هذا استنباط دقيق جداً، قال عليه الصلاة و السلام:

((إني لا أركب بعيراً ليست لي ))

[السيرة النبوية لابن هشام: قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الغار]

 فقال سيدنا الصدِّيق رضي الله عنه: هي لك يا رسول الله- هبة- هي لك يا رسول الله بأبي أنت و أمي، قال: لا، و لكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ يريد النبيُّ عليه الصلاة و السلام أن يدفع ثمن الناقة التي ركبها في الهجرة، مع أن سيدنا الصدِّيق يتمنى أن يقدِّم له لا ناقته بل روحه، الشيء الذي يلفِت النظر في أصحاب رسول الله بقدر ما أن بعضهم أسخياء بقدر ما أن بعضهم أعفَّاء، قال: دونك نصف مالي، بارك الله لك في مالك، دُلَّني على السوق، لا تنسوا الفضل بينكم، هو قدَّم لك هذه، أنت انقُده الثمنَ، قال: " هي لك يا رسول الله، بأبي أنت و أمي قال: لا و لكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟" هنا الآن صار امتثال، و الامتثال خير من الأدب، قال: ابتعتها بكذا و كذا، قال: قد أخذتها به، لك عندي هذا المبلغ ثمن الناقة التي أركبها، أتلاحظون كيف أن النبيَّ عليه الصلاة و السلام مع أنه سيد الخلق يعامل أصحابه و كأنه واحد منهم، هو الذي يقول: " إن الله يكره أحد عباده متميِّزاً على أقرانه...." يكرهه الله عز وجل، هذا الموقف رائع جداً، قدَّم أفضلهما للنبيِّ و قال: " اركب فداك أبي و أمي" فقال عليه الصلاة و السلام:

((إني لا أركب بعيراً ليست لي ))

[السيرة النبوية لابن هشام: قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الغار]

 فقال: " هي لك يا رسول الله بأبي أنت و أمي، قال: لا و لكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا و كذا، قال: قد أخذتها به - اشتريتها بهذا الثمن- و لك عندي ثمنها، قال: هي لك يا رسو ل الله، فركبا و انطلقا، و أردف أبو بكر الصديق رضي الله عنه عامرَ بن فهيرة مولاه خلفه، ليخدمهما في الطريق، مولاه جعله سيدنا الصديق خلفه ليكون مِعواناً للنبيِّ عليه الصلاة و السلام و صاحبه في أثناء طريق الهجرة، و كانت أسماءُ بنتُ أبي بكر قد أتتهما بسفرة من الطعام يتبلَّغان بها في سفرهما، قد وضعتها في جراب، و لكن الوقت أعجلها أن تجعل للسفرة عِصاماً، أي رباطاً، تعلِّقها به في الرحل، فلما أرادت أن تعلِّقها لم تجد غير نطاقها الذي تشدُّ به وسطها، فشقَّته نصفين و علَّقت السفرة بشِقٍّ و تنطَّقت هي بالشق الآخر فسُمِّيي أسماءُ بنت أبي بكر ذات النطاقين، سيدنا الصدِّيق و الرواحل و مولاه و ابنته و كل كيانه و كل ماله و كل وقته و كل خبرته و كل مكانته في خدمة النبي عليه الصلاة و السلام، من هو النبيُّ ؟ رسول الله، فإذا الإنسان أكرم أخاه المؤمن فكأنما أكرم ربَّه، فكيف إذا أكرم النبيَّ عليه الصلاة و السلام؟

المؤمن كيِّس فطِن حذِق :

 يقول ابنُ سعدٍ في الطبقات: إن عبد الله بن أرقط هذا الدليل الذي كان خبيراً بالطريق، أخذ بهم في السير و هو يرتجز، في العادة الهارب لا يرتجز، الهارب ساكت، انظُر إلى الذكاء، ما دام النبيُّ الكريم و صاحبه الصدِّيق يتخفَّيان في السفر فقد يُلحقان، أما هذا الدليل فصار يرتجز في الطريق و ينشد، ليوهم الناسَ أو من يسمعه أن هذه قافلة عادية، و من صفات المؤمن أنه كيَّس، من صفات الأنبياء أنهم فَطنون، من صفات المؤمنين أن المؤمن كيِّس فطِن حذِق، مرة أحد الصحابة أرسله النبيُّ عليه الصلاة و السلام إلى صفوف المشركين في معركة الخندق ليتفقَّد أحوالهم، يبدو أن أبا سفيان شعر أن فيما بين المقاتلين أشخاصاً غرباء، فأعطى توجيهه لجنوده أن يتفقد كلٌّ منهم صاحبه فكان هذا الصحابي الجليل نبيهاً و فطِناً و ذكياً، ما إن انتهى أبو سفيان من كلامه حتى وضع يده على يد من جانبه، و قال له: من أنت ؟ هو الغريب قال: أنا فلان، المؤمن من صفاته الذكاء و الفطانة و الكياسة.
اطَّلعتُ على أهل الجنة فرأيت عامة أهلها من البُله ، هذا يحتاج إلى تفسير آخر، أي الإنسان أحياناً يؤثر طاعة الله عز وجل على الدنيا فيُعدُّ عند البُله أبلهَاً، أما الذي يؤثر طاعة الله عز وجل على معصيته، يؤثر طاعته على الدنيا، هذا في قمة الذكاء، و هذا في قمة الكياسة، و هذا في قمة العقل، و على كلٍّ هذا الدليل كان يرتجز في أثناء السير ليضلِّل الناس من حوله، لأن الذي يهرب و يتخفَّى لا يرتجز.

تتمة أحداث الهجرة النبوية الشريفة :

 روى البخاري بسند عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: " أُخذ علينا بالرصد، أي على النبي عليه الصلاة و السلام و صاحبه الصدِّيق رصدٌ شديد، مراقبة شديدة، و تتبُّع، فخرجنا ليلاً، فأحففنا، أي عجَّلنا ليلتنا و يومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رُفعت لنا صخرةٌ- أي وجدنا صخرة- فأتيناها و لها شيء من الظل، قال الصدِّيق رضي الله عنه: ففرشتُ لرسول الله صلى الله عليه و سلم فروةً معي، ثم اضطجع عليه صلى الله عليه و سلم، فأطلقت أنفض ما حولها- أنظِّف ما حولها- فإذا أنا براعٍ قد أقبل في غنمه- مع بعض الغنمات- يريد هذه الصخرة مثل الذي أردنا، فسألته: لمن أنت يا غلام؟ قال: أنا لفلان، فقلت له: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت له: هل أنت حالبٌ؟ قال: نعم، فأخذ شاةً من غنمه فقلت له: انفُض الضرع، - أي امسحه جيَّدا- فحلب كثبة- أي آنيةً - من لبنٍ و معي إداوة- الإداوة سقاء الماء، قربة ماء- و معي إداوة من ماء عليها خرقة لتبرد، طبعا مثل أفعال بعض السائقين الآن، يجعل قربة ماء عليها قماش، هكذا كان سيدنا الصدِّيق كان يجهِّز للنبيِّ الكريم ماءً بارداً في هذه الرحلة، إداوة من ماء عليها خرقة، قد روأْتها لرسول الله- روأتها أي شددت عليها هذه الخرقة- فصببت على اللبن حتى برد أسفلُه، ثم أتيت به النبيَّ صلى الله عليه و سلم فقلتُ: اشرَب يا رسول الله، فشرب صلى الله عليه و سلم حتى رضيتُ، ثم ارتحلنا و الطلب في أثرنا" هذه استراحة قصيرة، و الصدِّيق رضي الله عنه بذل كلَّ ما في وسعه ليرتاح النبيُّ في هذه الدقائق أو هذا الزمن.
 قريش حينما يئست من أن تعثر على النبي صلى الله عليه و سلم جعلت جائزة لمن يأتي به حيًّا أو ميِّتاً مئة ناقة، الآن الناقة ما ثمنها؟ تقريباً مئة و خمسون ألف، مئة ناقة، خمسة عشر مليوناً، مبلغ ضخم جدًّا، و خمسة عشر مليوناً للصدَّيق، لمن يأتي بهما أحياء أو أموات، مبلغ كبير جداً و ثروة طائلة، قال: كانت قريش حينما فاتها رسول الله قد جعلت مئة ناقة لمن يأتي بهما أسيرين أو قتيلين، و أرسلت بذلك في أهل السواحل، فأغرى ذاك ذوي المطامع من أهل البادية لتتبُّع النبيِّ صلى الله عليه و سلم، و كان من هؤلاء سراقة بن مالك، و سراقة بن مالك قصته عجيبة، علم أن نفراً ثلاثة قد مروا على رواحلهم بقرب الشاطئ، فاعتقد سراقة أنهم محمد و أصحابه، تتبَّع أثرهم يريد أن يأتي بهم قريشاً طمعاً في الجائزة.

قصة سراقة بن مالك مع النبي الكريم :

 يروي البخاري - رحمه الله تعالى - بسنده عن ابن شهاب ما حدَّث سراقةُ عن نفسه فيما كان من أمره، قال: جاءنا رسلُ كفار قريش يجعلون في رسول الله و أبي بكر دية كلِّ واحد منهما لمن قتله أو أسره مئة ناقة لكلٌّ واحد، أي مئتا ناقة، أي ثلاثون مليون ليرة، فبينما أنا في مجلس من مجالس قومي إذ أقبل رجلٌ منهم حتى قام علينا و نحن جلوس، قال: يا سراقة إني رأيت آنفاً أسوِدةً- أشباحاً سوداء- أسودة بالساحل، أُراها أي أظنها محمداً و أصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، ضَمِن ثلاثين مليون ليرة، و اللهِ الذي لا إله إلا هو لو اجتمع الناسُ، العالَم الآن خمسة آلاف مليون لو اجتمع خمسة آلاف مليون على أن يمسُّوك بشيء ما سمح اللهُ به لا يستطيعون، كن مطمئناً، هذا سراقة لاحت له الثروةُ و لاحَ له الغنى، ثلاثة أشباح ما أظنهم إلا النبيَّ عليه الصلاة و السلام، فقال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا هم، حتى لا يسبقوه، غنيمة كبيرة جداً، إنهم ليسوا هم، و لكنك رأيت فلاناً و فلاناً انطلقوا بأعيننا، سمى له أسماء خلابية، هؤلاء أعرفهم، ليسوا محمداً و أصحابه، حتى يضمن الجائزة، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فأمرتُ جاريتي أن تخرج بفرسي و هي من وراء أكمة، فتحبسها عليه و أخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت سيدنا موسى قال:

﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾

[سورة طه: 43-46]

 و قال تعالى:

﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾

[سورة الشعراء: 61]

 بالمنطق انتهينا، فرعون بكل أسلحته، و بكل زبانيته، و بكل قدراته، يتبع سيدنا موسى، و سيدنا موسى البحر أمامه و فرعون من ورائه، حسب المنطق انتهى، قال تعالى:

﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾

[سورة الشعراء:62]

 في الخندق عشرة آلاف مقاتل طوَّقوا المدينة، هناك جانب واحد لليهود، خرق اليهودُ عهدهم مع النبي، و بقي الإسلام قضية ساعة أو ساعتين و ينتهي عن آخره، قال أحدهم: أيعدنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلادُ قيصر و كسرى و أحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟ ما الذي حدث؟ أرسل اللهُ ريحاً عاصفة قلبت قدورَهم، و اقتلعت خيامهم، و أطفأت نيرانهم، و ارتحلوا، و كفى الله المؤمنين القتال، البطولة أن تكون لك مودة مع الله، أن يحبَّك الله، لأنك إذا أحبك الله أحبَّك كلُّ شي، فسراقة ظن أنه سيقبض مبلغاً طائلاً بعد قليل، القضية بين يديه، قال: ثم لبثت ساعة في المجلس ثم قمت فأمرتُ جاريتي أن تخرج بفرسي و هي من وراء أكمة، فتحبسها عليه و أخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططتُ بزجِّه في الأرض، و خفضت عاليَه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرَت بي إلى أن أدركت النبيَّ صلى الله عليه و سلم و صاحبه، طبعا حتى إذا دنوتُ منهم هناك إنسان ثالث هو عامر بن فهيرة، فعثرت بي فرسي- وقع من على فرسه- فخررت عنها فقمتُ فأهويت يدي إلى كنانتي- إلى جعبة سهامي- فاستخرجت منها الأزلام- السهام- فاستقسمتُ بها، قديما كان " أنجح، لا أنجح، أنجح، " هذا معنى الاستقسام بالأزلام، فأخرجتُ الأزلام من كنانتي فاستقسمتُ بها أضرهم أم لا أضرهم؟ فخرج الذي أكره، لا أضرهم، ما أراد أن يعود صفر اليدين، فركبت فرسي، و عصيت الأزلام، فجعل فرسي يقرِّب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم، كان عليه الصلاة و السلام يقرأ القرآن، وهو لا يلتفت، و أبو بكر يلتفت كثيراً، خوفاً على النبيِّ الكريم، عندئذ ساخت يدا فرسي في الأرض، يدا الفرس ساختا في الأرض و انغمست في الرمل ووقع من على الفرس مرة ثانية حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة ساخت قدماها مرة ثالثة في الأرض، ووقعت عنها، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، لا تضرهم، عندئذ ناديتهم بالأمان، فوقفوا فركبتُ فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه سيظهر أمرٌ رسول الله- هذا ليس إنساناً عادياً، أول محاولة و الثانية و الثالثة، معه قوة عظيمة، فرسي تسيخ قدماها في الرمل، و أقع من عليها- فقلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، و أخبرتهم أخبار ما يريد الناسُ بهم أنهم جعلوا مئة ناقة لك و مئة لصاحبك، إن قبضا عليكما، أو أتيا قريشاً بكما أحياءً، و عرضت عليهم الزاد و المتاع، عرض سراقة على النبي صلى الله عليه و سلم الزاد والمتاع، أي جاء ليقتلهما أو يأسرهما فعرض عليهما الزاد و المتاع، هذا الذي قاله بعض العارفين:

إذا كنت في كل حال معي  فعن حمل زادي أنا في غنى
***

 يأتي عدوُّك ليقدم لك الزاد و الطعام، فلم يردَّاني و لم يسألاني إلا أن قالا: اخفِ عنا، إن عدت إلى مكة يئِّس الناسَ في متابعتنا، اخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمنٍ فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم، هذه القصة لها تتمَّة أنه قال: يا سراقة كيف بك إذا لبستَ سواري كسرى؟ ما هذا الإيمان؟ النبيُّ ملاحق، و موضوع لمن يقتله مئة ناقة، و يقول لسراقة: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟ و في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءت الغنائم و جاء سوارُ كسرى و نادى سراقة و قال: البِس سوار كسرى كما بشَّرك النبيُّ عليه الصلاة و السلام فلبسه، فسيدنا الصدّيق يلتفت، وهو لا يلتفت، يقرأ القرآن و لا يلتفت، فكلما علا إيمانك ازدادت ثقتُك بربَّك، و كلما ازدادت ثقتك بربك شعرت أن الله عز وجل لن يتخلَّى عنك.

قصة النبي الكريم مع أم معبد الخزاعية :

 مرَّ النبيُّ عليه الصلاة و السلام في طريقه في الهجرة بأم معبد الخزاعية، وهي أعرابية كريمة، كانت تجلس أمام خيمتها، تطعم و تسقي من يمرُّ بها من السيارة، فلما نزلوا عندها سألوها تمراً أو لحماً يشترون منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً، و قالت و هي تبدي أسفها لهم: و الله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القِرى، لكنا أحوجناكم تشترون منا، لكنا ضيَّفناكم و أكرمناكم بلا ثمن، و ما كنتم إذًا بحاجة أن تسألوا شيئاً أو تدفعوا ثمناً، و كانت السَّنَة مجدِبة، و البادية في قحط شديد، قال ابنُ سعد رواية عن أبي معبد الخزاعي: فنظر النبيُّ صلى الله عليه و سلم - يبدو أنهم جائعون - إلى شاة في كِسر الخيمة- شاة هزيلة- تجد حيوانا نحيلاً لا يستطيع أن يقف، تجد أحياناً قطَّة، نظر النبيُّ إلى شاة في كِسر الخيمة فقال: ما هذه ؟ قالت: هذه شاة خلَّفها الجهدُ، من شدَّة التعب و الضعف و الهُزال لا تقوى أن تذهب للمرعى، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، لا يمكن، لا تستطيع أن تمشي، أين اللبن؟ قال: أتأذنين لي أن أحلبها، انظر إلى الأدب، قالت: نعم بأبي أنت و أمي، إن رأيت بها حلباً، إن رأيت فخذه، فدعا النبيُّ صلى الله عليه بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله عليها و قال: اللهم بارك لها في شاتها، فتفاجَّت و درَّت و اجترَّت ؛ فدعا بإناء لها يربض الرهط ؛ إناء كبير؛ فحلب فيه ثجًّا حتى غلبه الثُّمال- صار رغوةً - فسقاها، سقى الشاة أول شيء، لأنها ميتة من الجوع، فسقى الشاة حتى رويت، و سقى أصحابه، و سقى أمِّ معبد، و شرب صلى الله عليه و سلام آخرهم، انظُر إلى الأدب، رحم الحيوان و رحم صاحبة الحيوان و رحم صاحبه و عامر بن فهيرة و كان عليه الصلاة و السلام آخرهم شرباً، و قال:

(( ساقي القوم آخرهم شربا...))

[سنن ابن ماجه عن أبي قتادة]

 إذا الإنسان أراد أن يوزِّع شيئاً من المرطِّبات لإخوانه بدأ بنفسه و ابتلع نصفها، أما إذا كان هو آخر واحد، فيعمل ترتيبا، الكلُّ يشرب و يبقى له القليل، فصار هناك تنظيم، إذا كان هو آخرهم شرباً لا بدَّ أن يوزِّع الكمية بدراسة جيِّدة، حتى يبقى له شيئاً، هذا توجيهٌ ثانٍ، قال: ثم حلب فيه ثانياً عودًا على بدءٍ فغادره عندها، ترك لها الحليبَ مرة ثانية، ثم ارتحلوا عنها فقلَّما لبثت أن جاء زوجُها أبو معبد يسوق أعنُزاً عجافاً جاء بقطيع ماعز عجاف، فلما رأى اللبنَ عجِب، قال: من أين لكم هذا و الشاة عازبة و لا حلوبة في البيت ؟ قال: و اللهِ إنه مرَّ بنا رجلٌ مبارك كان من حديثه كيت و كيت، فقال: و اللهِ إني لأراه صاحبَ قريش الذي يُطلَب، الملاحق؛ صِفِيهِ لي يا أمَّ معبد، إن شاء الله في درس آخر آتيكم بالوصف الدقيق، قال: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، غُصنٌ بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة، إذا تكلم سكت أصحابُه، و إذا أمر تبادروا بأمره، حلوُ المنطق، لا هجرٌ و لا نجرٌ، أي وصف دقيق جدًّا و جميل، فجعلت أمُّ معبد تصف له ما بهرها منه، من كمال الطلعة، و جمال الهيئة، ووقار السمتِ، و عظمة الخلُق، و سلامة المنطق، و عذوبة الحديث، و سماحة النفس، و طلاقة الوجه، و شدَّة الهيبة، و جلال المظهر.

و أجملَ منك لم ترَ قطّ عيني  و أكملَ منك لم تلِد النساءُ
خُلِقتَ مبرأ من كلِّ عيــــــــــب  كأنك قد خُلقت كما تشـاءُ
***

 طبعا هنا الكاتب جمع الصفاتِ و لخَّصها، قال: كمال الطلعة، و جمال الهيئة، و وقار السمت، و عظمة الخلُق، و سلامة المنطق، و عذوبة الحديث، و سماحة النفس، و طلاقة الوجه، و شدَّة الهيبة، و جلال المظهر، قال: و الله هذا صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذُكِر، و لو كنتُ وافقته يا أمَّ معبد لالتمستُ أن أصحبه، و لأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً أي نوى أن يصحبه، و الصحابة درجات، أعلى مقام الذين لازموا النبيَّ عليه الصلاة و السلام، لازموه و تعلَّموا منه، و كانوا في خدمته، و كانوا يدَه، و كانوا سمعه، و كانوا أعوانه، هكذا ؛ أمُّ معبد ذكية جدًّا، حينما علمت أن هذا الرجل ملاحق مرَّ بها فتيان فسألوها عن رسول الله فأشفقت عليه منهم، فتعاجمتْ عليهم و قالت له: من هو؟ إنكم تسألون عن شيء ما سمعتُ به قبل عامي هذا، من هو؟ و اللهِ كان في العرب أذكياء جدًّا، كلمة قالها زوجُها، قال: إنه مطلوب، فحينما جاءها فتيانُ سألوا عن رسول الله، قال: من هو؟ إنكم تسألون عن شيء ما سمعت به من قبل عامي هذا، المؤمن فيه كمالٌ ظاهر، قلتُ اليوم كلمةً عن علامة المؤمن: إذا عاملتَه لا تنسَ كمالَه، و لا تنسَ مودَّته، و لا تنس لطفه، و لا تنس تواضعه، و لا تنس وفاءه، و لا تنس كرمه، هذا المؤمن، المؤمن يحفظ عدة كلمات فقط؟ لا، أي إنسان يمكن أن يحفظ هذه الكلمات الكتاب أحسن منه سعَةً، إذا كان الإنسان بلا أخلاق فالكتاب أحسن منه.

 

وصول النبي إلى المدينة :

 روى ابنُ إسحاق عن عبد الرحمن بين عُوَيمِر قال: حدَّثني رجالٌ من قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، قالوا: لما سمعنا بمخرج النبيِّ بمكة و توقَّعنا قدومَه كنا نخرج إذا صلَّينا الصبحَ إلى ظاهر حرَّتنا- إذا ذهب الإنسانُ إلى المدينة المنورة هناك مكان في ظاهر المدينة أرض وعِرة صخرية، هذا اسمُها حرَّة المدينة- إذا صلَّينا الصبح خرجنا إلى ظاهر حرَّتنا ننتظر النبيَّ صلى الله عليه سلم، فو اللهِ ما نبرح حتى تغلبنا الشمسُ على الظِّلال، فإذا لم نجد ظلاًّ دخلنا و ذلك في أيام حارّة، حنى إذا كان اليومُ الذي قدِم فيه رسولُ الله صلى الله عليه و سلم جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبقَ ظلُّ دخلنا بيوتنا و قدِم صلى اللهُ عليه و سلم حين دخلنا بيوتنا، فكان أولَ من رآه يهودي و قد رأى ما كنا نصنع، و أنا ننتظر قدومَ رسول الله فصرخ بأعلى صوته، يا بني قيلة هذا جدُّكم قد جاء، جدُّكم أي من تعتقدون نبوَّته، فخرجنا إلى النبيِّ صلى الله عليه سلم و هو في ظلِّ نخلة و معه أبو بكر يا تُرى من رسول الله؟ لا يعرفون الرسول، آمنوا به قبل أن يروه، آمنوا به، و صدَّقوه، و أحبُّوه، و تمنوا أن يقدِّموا أنفسهم فداءً له، و لم يروه بعدُ، رأوه في ظل نخلة و معه أبو بكر رضي الله عنه ـ في مثل سنِّه، و أكثرنا لم يكن رأى النبيَّ صلى الله عليه و سلم من قبل، و تزاحم عليه الناسُ، و ما يعرفونه من أبي بكر، سيِّدنا الصدِّيق كان نبيهاً جدًّا، شعر أنهم التبسوا فقام رضي الله عنه فأظلَّه بردائه، لستُ أنا، انظر إلى هذا الذكاء و الفهم، لما شعر بالحيرة في عيون الناس قام رضي الله عنه و أظلَّه بردائه، و لما أظلَّه بردائه الآن إذا كان اثنان يمشيان في نفس المستوى، وأحدهم هو المدير العام و الثاني معاونُه، فأتوا على مكان، لا بدَّ للمعاون أن يرجع خطوة إلى الوراء، لذلك هكذا فعل سيدنا الصدِّيق، فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفوا أنه رسول الله.

تأسيس مسجد قباء أول عمل قام به النبي الكريم في المدينة المنورة :

 أول شيء فعله النبيُّ صلى الله عليه و سلم في قِباء أنه أسَّس مسجداً هذا بيت الله، مركز النور، و مركز الهدى، و مركز التوبة و مركز العبادة، و مركز التهذيب، و مركز الإقبال على الله عز وجل، خير البلاد مساجدها، أول شيء فعله النبيُّ، أنت مسافر و لم ترتَح بعد تعمِّر مسجداً؟
كان أول عمل قام به النبيُّ صلى الله عليه و سلم في قباء أنه أسَّس مسجداً هناك، فكان أولُ مسجد اُسِّس في الإسلام، و قد عمِل فيه النبيُّ صلى الله عليه و سلم بيده، و ليس لبِنة واحدة و قليل من الإسمنت و لوحة، أعمق من ذلك، بنى فعلاً بيده الشريفة هذا المسجد، و شارك أصحابُه في حمل الحجارة و الصخور حتى كان يبدو عليه الجُهدُ، و كان يبدو عليه الجهدُ، خمسة عشر يوماً ركب الناقة في الحرِّ الشديد، و قد رغِب أصحابُه أن يكفوه بأنفسهم فأبى أن يكون إلا واحداً منهم، هذه السُّنة، هذه اترُكوها في بالِكم، إن الله يكره العبدَ أن يراه ربُّه متميِّزاً على أقرانه، طبعا توسَّلوا إليه، و ترجَّوه، ارتَح و نحن نشتغل في مكانك، فأبى إلا أن يكون واحداً منهم، هذه عظمة النبيِّ، و لا فرق بين أقواله و أفعاله أبداً، كلُّ شيء قاله فعله، دعاهم إلى التواضع فكان أشدَّهم تواضعاً، و دعاهم إلى أن يكونوا سواسية، سوَّى نفسَه معهم و هو سيِّدهم، أحياناً هناك بعض التقديمات للنبيِّ الكريم: " يا مَن جئتَ الحياةَ فأعطيتَ و لم تأخذ، يا من قدَّست الوجودَ كلَّه، و رعيت قضية الإنسان، يا من هيَّأك تفوُّقُك لتكون واحداً فوق الجميع فعشتَ واحداً بين الجميع" هنا العظمة، تكون أنت فعلاً عظيماً، إنسان نبيهٌ، إنسان متفوِّق، و تعيش مع إخوانك، ومع أولادك، و مع زوجتك، و مع جيرانك، و مع أصحاب مهنتك، و مع زملائك كواحد منهم، هذه مظاهر العظمة.
 روى الطبراني بسند رجاله ثقاة عن بنت النعمان رضي الله عنها قالت:" نظرتُ إلى النبيِّ صلى الله عليه و سلم حين قدِم فنزل و أسَّس المسجدَ فرأيته يأخذ الحجرَ و الصخرَ فيأتي أصحابُه و يقولون: يا رسول الله بأبي أنت و أمي تُعطيني أكفِكَ- أحمله عنك- فيقول: لا خذ مثلَه، ائت بحجر ثانٍ، هذا اتركْه لي" التواضع، نعم.
 و في القرآن الكريم نزلت آيةٌ في هذا المسجد، وإذا كان اللهُ أكرمكم بالذهاب إلى عمرة أو إلى حجٍّ الآن مسجد قباء من أجمل المساجد، و فيه الآية الكريمة قال تعالى:

﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾

[سورة التوبة: 108]

 فيه رجال يحبون أن يتطهروا، يحب أن ينقِّيَ نفسه من الغل و الحسد و الغيبة و النميمة و الأخلاق السيِّئة و الكِبر و الاستعلاء.

علائم الفرح والبشر عند وصول النبي إلى المدينة المنورة :

 يروي الرواةُ أن يوم دخول النبيِّ صلى الله عليه و سلم المدينةَ كان يوماً حافلاً، لم ترَ المدينةُ يوماً أشدَّ فرحاً و ابتهاجاً منه، ازدانت المدينةُ، و أشرقتْ جوانبُها، و لبِس الناسُ أحسنَ ثيابهم كأنهم في يوم عيد، ووقفتْ ربَّاتُ الخدور على سطوح المنازل ليستشِفْن النبيَّ صلى الله عليه و سلم، و صاح الصبيانُ في فرح و ابتهاج، جاء رسولُ الله صلى الله عليه و سلم جاء رسولُ الله.
 و روى الإمامُ أحمدُ بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

(( إِنِّي لَأَسْعَى فِي الْغِلْمَانِ يَقُولُونَ جَاءَ مُحَمَّدٌ فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا ثُمَّ يَقُولُونَ جَاءَ مُحَمَّدٌ فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا قَالَ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ فَكُنَّا فِي بَعْضِ حِرَارِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ بَعَثَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِيُؤْذِنَ بِهِمَا الْأَنْصَارَ فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءَ خَمْسِ مِائَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَتَّى إِنَّ الْعَوَاتِقَ لَفَوْقَ الْبُيُوتِ يَتَرَاءَيْنَهُ يَقُلْنَ أَيُّهُمْ هُوَ أَيُّهُمْ هُوَ قَالَ فَمَا رَأَيْنَا مَنْظَرًا مُشْبِهًا بِهِ يَوْمَئِذٍ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ عَلَيْنَا وَيَوْمَ قُبِضَ فَلَمْ أَرَ يَوْمَيْنِ مُشْبِهًا بِهِمَا))

[ أحمد عن أنس بن مالك ]

 وقد رُوِي عن عائشة أنه لما قدِم رسولُ الله صلى الله عليه و سلم المدينةَ جعل النساءُ و الصبيانُ و الولائدُ يقولون: طلع البدرُ علينا، أنا وقفتُ في قباء في الساحة العامَّة، هناك ساحة عامة أمامك المسجد، و هناك وضعوا شيئاً نسمّيه نحن شيئاً جمالياً عموداً من رخام عليه كرة كبيرة كُتِب عليها طلع البدر علينا، أنا و اللهِ أسمع هذا النشيد عشرات بل مئات بل عشرات مئات المرات كلّ عقد قران، و ما شعرتُ أنه اقشعرَّ جلدي إلا حينما رأيتُ هذا العمود في هذه الساحة العامة، حينما وصل النبيُّ هذا المكان بالذات قال أصحابُه:

طلع البدر علينـــــــا  من ثنيات الـــــوداع
وجب الشكر ُعلينا  مــا دعـــــــــــا لله داع
أيها المبعوث فينا  جئتَ بالأمر المُطاع
***

 الحقيقة أن هذا النشيد يذكِّر المؤمنين الصادقين بقدوم النبيِّ، ارتفع النهارُ و ركب النبيُّ ناقته القصواءَ ، ثم قال: (ما خلأت القصواء- سمعتموها في الحديبية- و ما ذاك لها بخلق ) في كوكب حافل، و المسلمون يحيطون به مشاةً و ركباناً، و قد تقلَّدوا سيوفهم، و تحلَّوا بأحسن ملابسهم، و علا وجوههم الزَّهوُ و البشرُ و الابتهاج بمقدم النبي صلى الله عليه و سلم، و قد بلغ من حرصهم على كرامة رسول الله و تعظيمه أنهم كانوا يتزاحمون على زمام ناقته، كل واحد يريد أن يمسك هذا الزمام من حبِّهم له، و حبُّ النبي علامة الإيمان، علامة إيمانك أن تحبَّ النبيَّ عليه الصلاة و السلام، قال: حتى ينازع أحدُهم صاحبَه في الوصول إليه، و التَّبرُّك به، و توجَّه النبيُّ نحو المدينة، بين قباء و المدينة هناك نحو ربع ساعة، فجعل لا يمرُّ بدور من دور الأنصار إلا اعترضوا طريقَه، وضعوا له حاجزاً، و قالوا: هلمَّ يا رسول الله إلى القوة و المنعة و الثروة، هنا بيت و الأمور ميسَّرة، طعام وشراب و قوة و نحن ندافع عنك، هلم، فيبتسم صلى الله عليه و سلم شاكراً، و يدعو لهم بالخير، ثم يقول وهو يشير إلى ناقته: خلُّوا سبيلَها فإنها مأمورة، لم يحدث منازعات، تركها للناقة، و قال: مأمورة، اللهُ يوجِّهها وجهةً معيَّنة، خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ما كسَر خاطرَ إنسان، كلُّ واحد يتمنى أن يدخل النبيُّ إلى بيته، كلُّ واحد حلُم من أحلامه العظيمة أن النبيَّ يدخل إلى بيته، يقف يترجَّاه و يتوسَّل له، دعوها فإنها مأمورة، و قد كان في المدينة دورٌ كثيرة تبلغ تسعًا- الدار يعني القبيلة، أو رهط، كلُّ دار محلَّة مستقلة بمساكنها و نخيلها و زروعها، و كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا في محلَّتهم فهي كالقرى المتلاصقة، قرى صغيرة مع بعضها- فلما وصل صلى الله عليه و سلم إلى دار بني سالم بن عوف أدركته صلاةُ الجمعة فصلاَّها هناك في واديهم بمن كان معه من المسلمين، فكانت أوَّلَ جمعة أقامها صلى الله عليه و سلم في الإسلام.

 

المدينة أحبُّ البلاد إلى الله عز وجل :

 فاتني أن أقول لكم: إن النبيَّ صلى الله عليه و سلم حينما خرج من مكة أوَّل ما خرج دعا بهذا الدعاء، و الدعاء له دلالة كبيرة جدًّا، قال:

((و اللهِ إني لأخرج منكِ يا مكةُ، و إني لأعلم أنكِ أحبٌّ أرض الله إلى الله، و أكرمها على الله، و لولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجتُ ))

[مسند أبي يعلى الموصلي عن ابن عباس ]

 و الرواية الثانية قال النبيُّ الكريم:

((و اللهِ إنكِ لأحبُّ أرض الله إليَّ، و أحبُّ أرض الله إلى الله، و لولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ قهرًا مل خرجتُ ))

[تصحيفات المحدثين عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ الزُّهْرِيِّ]

 أما الدعاءُ الثالث، قال:

((اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحبِّ البلاد إليَّ، فأسكنِّي أحبَّ البلاد إليك ))

[سنن ابن ماجه عن أبي قتادة]

 المدينة، من هذا الحديث يُستنبط أن المدينة أحبُّ البلاد إلى الله عز وجل.

(( اللهم إنك أخرجتني من أحبِّ البلاد إليَّ فأسكنِّي أحبَّ البلاد إليك ))

[المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة عن أبي هريرة]

خطبة النبي ثم نزوله عند أبي أيوب و إكرام أهل المدينة له :

 على كلٍّ ركب النبيُّ ناقته لما أدركته صلاةُ الجمعة خطب خطبةً بأربعة أسطر فقال: أيها الناس قدَّموا لأنفسكم، تعلمنَّ و اللهِ ليُصعقنَّ أحدُكم - أي يموت - ثم ليدعنَّ غنمَه ليس لها راعٍ، و ليقولنَّ له ربُّه - ليس له ترجمان و لا حاجب، أي لا يوجد محام و لا حاجب يحجبه دونه- ألم يأتِك رسولي فبلَّغك ؟ آتيتك مالاً وأفضلتُ عليك، فماذا قدَّمتَ لنفسك؟ فينظرنَّ يميناً و شمالاً فلا يرى شيئاً، ثم ينظر قدَّامَه فلا يرى إلا جهنم.

((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ))

[البخاري عن عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ]

 كلام مختصر مفيد، يموت أحدُكم يقول النبيُّ الكريم: يدع غنمه، أي بيته و داره و مركبته و مكانته الاجتماعية و رصيده و ثروته، كل شيء يدعه و يذهب، يقول الله عز وجل له: ألم يأتِك رسولي فبلَّغك؟ ماذا فعلت؟ ينظر يمينه و شماله و خلفه، أمامه النار، فإن استطاع أحدُكم أن يتَّقِيَ النار و لو بشقِّ تمرة فليفعل، قال: قوموا إلى صلاتكم " كلام مختصر مفيد، هذه هي الخطبة، ثم انتهت صلاة الجمعة و ركب النبيُّ ناقته فما زالت تسير و قد أرخى لها زمامها حتى برَكت به في مكان مسجده، المكان الذي بركت فيه كان المسجد النبوي، و كان مربداً لغلامين، أي أرضاً لغلامين يتيمين من بني النجَّار، عند دار أبي أيوب، فنزل عليه الصلاة و السلام و قال:

﴿ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴾

[سورة المؤمنون : 29]

 قال ذلك أربع مرات، و أخذه الذي كان يأخذ عند الوحي فلما سُرِي عنه قال و قد جاءه الوحي: هذا إن شاء اللهُ يكون المنزلُ، بوحيٍ من الله هذا منزلي، و بعد موته أصبح قبراً، الناقة لم يقل: دعوها فإنها مأمورة، لما وقفت الناقةُ جاءه الوحيُ هنا اجعَل بيتَك في هذا المكان.
 و من فضل الله علينا أن قبر النبيِّ ثابتٌ تاريخياً، كثير من الأنبياء قبورهم غير ثابتة، يقرأ الفاتحة، هل ترى حقاً أن هنا قبر سيدنا يحيى؟ الله أعلم، هناك شيء من الشكِ يداخلك، و تزور قبر سيدنا خالد، هل هو مدفون هنا؟ هناك روايات ضعيفة أنه مدفون، مادام هناك ضعف في الروايات فهناك شعور بالقلق، لكن من فضل الله على هذه الأمة أن قبر النبيِّ عليه الصلاة و السلام ثابت ثبوتا قطعيًّا، مكان ما بركت الناقةُ هنا منزله، و بعد وفاته كان قبراً، فقال النبيُّ - قضية وحي الآن ليس هناك مجاملات- الكريم: أيُّ بيوت أهلنا أقرب؟ الصحابة أهله، و أنت من أهلك، على شاكلة واحدة، و مشرب واحد، و من قيم واحدة، فقال: أيُّ بيوت أهلنا أقرب؟ وصف أصحابَه بأنهم أهلُه فقال أبو أيوب: أما يا نبيَّ الله فهذا بيتي، هذه داري و هذا بابي فقال: انطلِق فهيِّئ لنا مقيلاً، فذهب فهيِّأه ثم جاء فقال: يا رسول الله قد هيَّأتُ لك مقيلاً قوما على بركة الله فقيلا، ارتاحوا قليلاً و نزل النبيُّ عند أبي أيوب فأقام عنده حتى بنى مسجدَه و مساكنه، و جعلت الهدايا من الطعام و الشراب تتوارد على النبيِّ صلى الله عليه و كانت أولَ هدية هُدِيت له قصعةٌ جاء بها زيدُ بن ثابت، فيها خبز مثرود بلبن وسمن- أي فتَّة- فقدَّمها إلى النبيِّ صلى الله عليه و سلم و قال: أرسلتْ بهذه القصعة أمِّي، فقال عليه الصلاة والسلام: بارك اللهُ فيك و بأمِّك، انظُروا إلى دعائه عليه الصلاة و السلام، و دعا أصحابَه فأكلوا، ثم جاءت قصعةُ سعد بن أبي عبادة فيها ثريد و عُراق لحم، و جعل بنو النجَّار يتناوبون حملَ الطعام إليه طولَ مقامه في دار أبي أيوب، و أقام النبيُّ في دار أبي أيوب سبعة أشهر و قيل: نحو سنة، حتى بنى مسجده و مساكنه و نزل معه أسامةُ بن زيد، و قيل: إن عليًّ بن أبي طالب نزل معه، و كان قد قدِم من مكة.
 الدرس القادم إن شاء اللهُ بعد أن نزل النبيُّ إلى المدينة جعل لأهلها نظاماً و معاهدةً، إن شاء الله نقف عندها وقفةً متأنِّية في الدرس القادم، لأنها ذات أهمّية بالغة جدًّا في السيرة، كيف نظَّم النبيُّ المجتمعَ الإسلاميَّ الجديد؟ لأن المجتمع الإسلامي مجتمع منظَّم، مجتمع فيه حقٌّ وواجب، فيه أخذٌ و عطاء، فيه حقوق، و فيه حدود، و فيه واجبات، إن شاء اللهُ في الدرس القادم نقف عند الوثيقة التي خطَّها النبيُّ و نظَّم بها مجتمعه في المدينة.

 

تحميل النص

إخفاء الصور