- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (005) سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الإنسان نفس وروح وجسد :
أيها الأخوة الكرام ؛ الآية الخامسة بعد المئة من سورة المائدة ، وهي قوله تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
قبل أن نمضي في شرح هذه الآية الكريمة لا بد من مقدمة تلقي ضوءاً على هذه الآية .أيها الأخوة ؛ الإنسان مؤلف من نفس وروح وجسد ، نفسه هي ذاته ، هي حقيقته ، نفسه هي التي تؤمن أو تكفر ، هي التي تسعد أو تشقى ، هي التي ترضى أو تغضب ، هي التي تذوق الموت ولا تموت .
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾
هي التي تخلد في جنةٍ يدوم نعيمها ، أو في نارٍ لا ينفذُ عذابها .لكن الجسد ما هو إلا قالبٌ لهذه النفس ، وعاءٌ يحتويها ، ثيابٌ ترتديها ، فالنفس من خلال الجسد ترى ، والنفس من خلال الجسد تسمع ، والنفس من خلال الجسد تتحرك ، وقد تبطش ، وقد تحسن ، فما الجسد إلا وعاءٌ أو قالبٌ لهذه النفس .
والروح هي القوة المحركة ، فلولا الروح لما رأى الإنسان بعينه ، ولا سمع بأذنه ، ولا تقلصت عضلاته ، ولا عملت أجهزته .
إذاً من باب التقريب والتوضيح ، القوة المحركة للأجهزة الكهربائية هي الكهرباء ، فإذا قطعت الكهرباء عن هذا الجهاز توقف .
فصار الآن واضحًا أنّ النفس هي الأصل ، هي ذات الإنسان ، هي التي تسعد ، هي التي تشقى ، هي التي ترقى ، هي التي تسمو ، هي التي تخلد ، هي الباقية ، هي الخالدة ، تذوق الموت ولا تموت .
والجسد بمثابة ثيابٍ خلعتها .
والروح قوةٌ محركةٌ لهذا الجسد ، فإذا انتهى أجل الإنسان توقف الإمداد الروحي ، فتعطل الجسد فخلعته النفس ، فصعدت النفس إلى باريها .
العناية بالنفس لأنها الباقية الخالدة :
ربنا عز وجل يقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
أي إذا اعتنيت بالجسد فالجسد فانٍ ، اعتنيت ، أكلت أطيب الطعام ، وتمتعت بأجمل المناظر ، وسكنت في أجمل البيوت ، واقترنت بأجمل النساء ، هذا الجسد مؤدَّاه إلى التراب ، فكل عنايتك ، وكل طاقتك ، وكل رعايتك لهذا الجسد خسارة ، لأنه سينتهي إلى القبر ، وإلى الفناء .الله سبحانه تعالى يقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
اعتنِ بنفسك لأنها باقية ، لأنها خالدة ، لأنها في جنةٍ ، أو في نار ، لذلك يقول الله عز وجل :﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
يقول سيدنا عمر رضي الله عنه : " تعَاهَدْ قلبك " .أمراض الجسد أيها الأخوة مهما تفاقمت تنتهي عند الموت ، لكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت ، أمراض الجسد مهما كانت عضالة أو خطيرة ، مرض خبيث فإذا مات الجسد انتهى أثرُ المرض ، والموت يُنهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وصحة الصحيح ، ومرض المريض، وغنى الغني ، وفقر الفقير ، الموت ينهي كل شيءٍ ، فأي عناية وأي جهدٍ منصَب على هذا الجسد فهو خسارة .
مثلاً إنسان ساكن في بيت أجرة ، ومالكُ البيت بأية لحظة - حسب الأنظمة - بإمكانه أن يطرد المستأجر إلى خارج البيت ، وهذا المستأجر له دخل كبير ، هل من الحكمة أن ينفق هذا الدخل الكبير في تزيين هذا البيت ، والعناية به ، وطلائه ، وتزيين سقفه ، وبأي لحظة يخسر البيت ؟ لكن العقل أن تزيِّن بيتك الأبدي ، البيت النهائي ، فربنا عز وجل يقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
أي هذه النفس ، هناك أربع آيات في القرآن .﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾
الفلاح كل الفلاح ، والتفوق كل التفوق ، والفوز كل الفوز ، والنجاح كل النجاح ، والذكاء كل الذكاء ، والعقل كل العقل ، بأن تعتني بنفسك ، أن تُعرفها بربك ، أن تحملها على طاعة الله ، لأنه إذا جاء الموت ، وأصبح الجسد جثة هامدة ، بعد حين تتفسخ ، والروح انقطع إمدادها ، بقيت هذه النفس التي هي أنت ، إما أن تسعد لتزكيتها ، وإما أن تشقى لفسادها .فالآية الكريمة :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
أي الزموا أنفسكم ، طهروا أنفسكم ، زكُّوا أنفسكم ، عرِّفوا أنفسكم بربها ، احملوها على طاعته ، عرِّفوها كتاب الله ، عرِّفوها سنة رسوله ، احملوها على العمل الصالح ، لتعرف حقيقتها جوهرها ، موقعها ، أين كانت؟ ماذا تفعل هنا ؟ ماذا بعد الموت ؟﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
عليكم : اسم فعل أمر بمعنى الزم ، أي انتبه لنفسك ، هي الأصل ، المرض بالجسم ينتهي عند الموت ، لكن مرض النفس يبدأ عند الموت .﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
معاني قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ :
تتمة الآية :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾
من إعجاز القرآن الكريم أن بعض آياته لها عدة معانٍ في وقت واحد .﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾
لا تقل : يا أخي الناس هكذا يفعلون ، أنا مع الناس ، هذا هو الإمعة ، الذي يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساؤوا أسأت ، وكل إنسان يحتجُّ بالتيار العام ، يحتجُّ بقوله : الناس كلهم هكذا ، هكذا يكون كسب المال ، والتجارة هكذا كما يتاجر الناس ، إذا ما غششنا لا نعيش ، عندنا أولاد ، هذا الذي يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساؤوا أسأت ، هذا إمعة ، وطِّنْ نفسك على أن الناس لو أساؤوا جميعاً ، عليك أن تحسن .﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾
أي إذا اهتدى إنسان إلى الله ، وعرف الحق ينبغي ألا يقلد الناس ، الناس في ضلال ، في بُعد ، في غفلة ، في جهل .﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾
﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾
هكذا الآيات :﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾
إذا عرفت الحق ، لو أن الأكثرية كانت مع الباطل ، الأكثرية مع أكلِ الربا ، الأكثرية مع الاختلاط ، الأكثرية مع إطلاق البصر ، الأكثرية مع كسب المال الحرام ، الأكثرية مع التفلت من الدين ، الأكثرية مع الانغماس في الشهوات ، أنت عليك نفسك ، لا يضرك من ضلّ إذا اهتديت ، وهناك معنى آخر للآية ، أي أنت إذا لزمت نفسك ، وزكيتها ، وطهرتها ، وحملتها على طاعة الله ، عندئذٍ لا تستحق المعالجة من الله ، عندئذٍ هؤلاء الذين ضلوا لا يستطيعون أن يصلوا إليك .﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ ﴾
إذا عُرِف عن الإنسان أنّه مقصر ، ومرتكب معاصٍ ، وآكل حقوق ، ومعتدٍ على أعراض ، ومقصّر في واجبات ، هؤلاء الضلال أقوياء غالباً ، فسيصلون إليه ، ويؤدبونه ، وينالون منه ، أما أنت ؛ إذا عرفت الله ، وحملت نفسك على طاعته فلا يستطيع هذا الضال أن يضرك .﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾
لذلك ورد في أحد الأحاديث الصحيحة أنك :(( إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوىً متبعاً ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فالزم بيتك ، وأمسك لسانك ، وخذ ما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة))
في القرآن الكريم إعجاز يتماشى مع كل العصور ، ففي عصر النفاق ، والفجور ، والضلال ، في عصر الفتن ، في عصر الضلالات :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
عليك مِن نفسك ، لا يضرك من ضلّ إذا اهتديت ، أو عليك نفسك ، أي الزم نفسك ، عرفها بربها ، عرفها بمنهج ربها ، احملها على طاعته ، زكِّها كي تسمو بها ، إن كنت كذلك فلا يستطيع الضال أن يصل إليك ، ولا أن ينال منك ، ولا أن يؤذيك .صارت الآية ، إذا كنت في زمنٍ صعبٍ ، في زمن القابض على دينه كالقابض على جمر ، في زمن يصبح المعروف منكراً ، والمنكر معروفًا ، في زمن يُؤمر فيه بالمنكر وينهى عن المعروف ، في زمن يُكَذَّب الصادق ويُصَدَّق الكاذب ، يُؤتمن الخائن ويُؤمَّن الخائن ، في هذا الزمن الصعب
﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
أي لا تحمل همَّ الناس ، أنت في زمن صعب فعليك مِن نفسك ، عِّرف نفسك بربها ، واحملها على طاعته ، لا يضرك من ضلّ ، لو أن الناس جميعاً ضلوا ، لهم رب يحاسبهم ، هذا معنى .المعنى الثاني عليك نفسك ، أي الزمها ، اعتنِ بها ، عرفها بربها ، احرص على إيمانها ، احرص على طاعتها ، فإذا سمت نفسك وزكت عندئذٍ لا يستطيع الضال أن يصل إليك، ولا أن يتسلط عليك ، ولا أن ينال منك ، ولا أن يضيق عليك ، أو أن يفعل معك شيئاً يضرك ، لقوله تعالى :
﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾
مستحيل ، فهذه الآية أيها الأخوة لك أن تفهمها على أي وجه ، وكلا الوجهين صحيح ، وكما قال سيدنا علي كرم الله وجهه :" القرآن حمّال أوجه ".﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
أي انتبه لنفسك ، وعليك من نفسك ، ودع عنك أمر العامة إذا كنت في زمن الفساد والضلال والفتن والانحراف والفجور والمعصية .والمعنى الثاني ، عليك نفسك أي الزمها ، واعتنِ بها ، عرِّفها ، زكِّها ، ارقَ بها ، فإذا كانت في هذا المستوى الرفيع عندئذٍ لا يستطيع أحد أن يصل إليك ، فأنت في حفظ الله ،إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟
القلب منظر الرب فعلينا العناية به :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان ليس بحكيم إذا لم يدارِ مَن لا بد مِن مدراته فهو مخطئٌ إذًا ، لك أخ ، لك جار مخلص ، لك ابن ، لك صهر ، هذه خاصة نفسك ، لكن أنْ تمسك امرأة سافرة في الطريق ، ثم تقول : أنتِ فاسقة ، أنتِ فاجرة ، فلا تقل ذلك ، فيكفيك الإنكارُ بقلبك ، وهذا معنى الآية :
﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾
أي إذا كان الإنسان بإمكانه أن ينكر المنكر بقلبه ، فلينكره بقلبه ، طبعاً إذا كان لا يستطيع أن ينكره بلسانه .الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن تنكر المنكر بقلبك إذا كنت قادرًا على أن تنكره بلسانك ، كما أنه لا يقبل منك أن تنكره بلسانك إذا كنت قادرًا على أن تنكره بيدك ، فإذا رأى الإنسان منكرًا ، وليس بإمكانه أن يصلحه فليقل : اللهم هذا منكر لا أرضى به ، ولا أقوى على تغييره . إذاً الآية الكريمة :
﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾
الزموا أنفسكم .فلماذا إنْ شعَر الإنسان بذبابةٍ أمام عينه تمشي مع حركة عينه لا ينام الليل ؟ ثم يراجع طبيب عيون ، وإن حدَّد له موعدًا بعد ستة أشهر يقول : لن أنتظر فهذه عين ليس معها لعب ، فلماذا أنت حريص حرصاً لا حدود له على عينك ولست حريصاً على قلبك ؟
لذلك ورد في بعض الآثار القدسية :
((أن يا عبدي طهَّرتَ منظرَ الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟))
تريد مدخل البناء أنيقًا ، أخي المدخل غير لائق ، ولعله يصادفنا فرح تريد مدخلاً أنيقًا ، بيتًا مرتبًا ، غرفة ضيوف ، غرفة صالون ، غرفة طعام ، دهان جديد ، ورق أحياناً ، جبصين ، طهرت منظر الخلق ، بيتك ، ومركبتك ، ولبسك ، وأناقتك ، هذا منظر الخلق .(( عبدي طهَّرتَ منظرَ الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟))
ما هو منظر الله ؟ القلب ، لأن الله ينظر إلى قلوبكم ، إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ، و لكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ، فصار القلب منظر الرب ، فيا عبدي ، عتاب :(( طهَّرتَ منظرَ الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟))
أتستحيي من ضيف يدخل بيتك ، غرفة الضيوف عندما تكون الغرفة غير منتظمة ، أو فيها حاجات مبعثرة ، أتستحيي من ضيف أن يرى الغرفة على هذا الشكل ولا تستحيي من الله أن يرى في قلبك غلاً للمؤمنين ، أو حسداً ، أو كبراً أو أمراضًا وبيلة ؟إذاً :
(( عبدي طهَّرتَ منظرَ الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟))