- محاضرات خارجية / ٠01دروس صباحية - جامع التقوى
- /
- دروس صباحية جامع التقوى - الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
حقائق مرّة :
أيها الأخوة الكرام؛ دائماً وأبداً الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، ومن الحقائق المرة أن كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت:
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
***
و:
كل ابــن أنثى وإن طالت سلامــته يـــوماً على آلة حدبـــاء محمول
فإذا حمــــلت إلى القبور جنـــــــــازة فاعــــلم بأنــــك بعدهـــــــا محمول
***
مرة كنت في بلد بالمغرب، مكتوب على محل تجاري حكمة مؤثرة جداً، صلِّ قبل أن يصلى عليك.
الدنيا ساعة اجعلها طاعة، والنفس طمّاعة عودها القناعة.
ما من تعريف جامع، مانع، قاطع، رائع للإنسان كتعريف الإمام الجليل الحسن البصري: الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
لذلك: الكيس- الكيس؛ هو العاقل- من دان نفسه- ضبطها، ضبط دخله، ضبط إنفاقه، ضبط سهراته، لقاءاته، رحلاته، كسبه للمال، إنفاقه للمال، علاقاته الاجتماعية- الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
وقد ورد في كتب الأدب قصة السمكات الثلاثة: غدير ماء فيه سمكات ثلاثة، كيسة أي عاقلة، و أكيس منها، وعاجزة- غبية - مرّ في هذا الغدير صيادان، تواعدا أن يرجعا ومعهما شباكهما، ليصيدا ما فيه من السمك، فسمعت السمكات قولهما- القصة رمزية- أما أكيسهن- أعقلهن- فإنها ارتابت وتخوفت، ولم تعرج على شيء- أي لم تفعل شيئاً - حتى خرجت من المكان الذي يتصل بالنهر، فنجت- خرجت في وقت مبكر وارتاحت وأراحت، هذا العاقل- وأما الكيسة الأقل ذكاءً فبقيت في مكانها حتى عاد الصيادان، فذهبت لتخرج من حيث ذهبت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُدّ، الصيادان سدّا الفراغ- الفرجة- فقالت: فرطت وهذه عاقبة التفريط، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ثم إنها تماوتت - تصنعت الموت- فأمسكها الصياد بيده، ووضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر فنجت، وأما العاجزة فلم تزل في إقبال وإدبار حتى صيدت.
طبعاً القصة رمزية، لكن هل يستطيع أحد من الحاضرين وأنا واحد منكم أن يقول: أنا لن أموت؟ والحقيقة مرة، بيت وقد يكون واسعاً، ومؤسساً بأثاث جميل، وزوجة تحبها وتحبك، وأولاد أبرار، وبنات صبايا أطهار، ودخل معقول، وسيارة، ونزهات، وولائم، وزيارات، أي حياة ناعمة، يأتي الموت ينهي كل شيء.
إذا كان هناك خط بياني صاعد، درس، أخذ التوجيهي، دخل الجامعة، أخذ اللسانس، تعين، صار عنده دخل، اشترى بيتاً، أنجب أولاداً، خط صاعد، صاعد، صاعد، يأتي ملك الموت، وصل لهنا، إلى الصفر، لا زوجة، ولا أولاد، ولا مكانة، ولا لقاءات، ولا اجتماعات، ولا رحلات، ولا زيارات، ولا ولائم، كله انتهى، هذا الموت يعيد الإنسان إلى الصفر، هذا كلام واضح وجلي، ولا يختلف عليه اثنان في الأرض.
العاقل من أعدّ لساعة الموت عدتها :
من هو البطل؟ من هو الذكي؟ من هو العاقل؟ من هو الموفق؟ الذي يعد لهذه الساعة التي لا بد منها، والله ما رأيت على وجه الأرض إنساناً أذكى، ولا أعقل، ولا أكثر توفيقاً، ولا أكثر نجاحاً ممن يعد لهذه اللحظة.
كنت في تشييع جنازة في الشام، والذي في القبر إنسان يمس صديقي، والد صديقي، وعنده ثروة تفوق حدّ الخيال، وعنده رفاه يفوق حدّ الخيال، وضع في القبر، وضعت البلاطة التي فوق الفتحة، والبلاطة تبتعد عن أطراف الفتحة حوالي خمسة سنتمترات، فلما أُهيل التراب عليه نزل فوقه أربعة كيلو تراب، أين البيت الفخم؟ أين الأسرة الرائعة؟ أين السيارة الفارهة؟ أين الرحلات، النزهات، اللقاءات؟ هذا كله انتهى بصفر، صدق ولا أبالغ، إذا كان هناك خط بياني صاعد، صاعد، صاعد، من شهادة ابتدائية، متوسطة، توجيهية، لسانس في الآداب، بكالوريوس في العلوم، دبلوم عامة، دبلوم خاصة، ماجستير، دكتوراه، وضع جانب اسمه حرف الدال. هذه الدال تعني أنه قد درس ثلاثاً وعشرين سنة، ثم تعين بوظيفة مرموقة، واشترى بيتاً، وصار له مكانة اجتماعية، وطبع كروت زيارة، وصار له مكانة، يأتي ملك الموت ينهي له كل الإنجازات بثانية واحدة، المرحوم.
دخلت مرة لبيت، بهذا البلد الطيب، بأرقى أحياء عمان، أغنى أحياء عمان، والله رأيت أثاثاً شيء يلفت النظر، نادر جداً، الثريات، السجاد إيراني، بيت واسع، أثاثات، غرف، أنا جالس بالتعزية، من اشترى الثريات؟ المرحوم، من اختار البلاط؟ المرحوم، من اختار الأثاث؟ المرحوم، أين المرحوم؟ في القبر.
هل هناك حقيقة أكثر وضوحاً وشدة من هذه الحقيقة؟
كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت:
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
***
و:
كل ابــن أنثى وإن طالت سلامــته يـــوماً على آلة حدبـــاء محمول
فإذا حمــــلت إلى القبور جنـــــــــازة فاعــــلم بأنــــك بعدهـــــــا محمول
***
تدخل لبيتك ستاً وثمانين سنة بشكل عامودي، مرة واحدة تخرج بشكل أفقي، بطولتك، ذكاؤك، نجاحك، توفيقك، أن تعد لهذه الساعة التي لا بد منها، وصدق ولا أبالغ القبر قد يكون روضة من رياض الجنة، المؤمن حينما يرى أن أجله قد اقترب، ويأتيه ملك الموت يقول: لم أر شراً قط، قد يكون دخل السجن بزمانه لأنه مسلم، وقد يكون عانى الفقر، بعدما رأى مقامه في الجنة، لم أرَ شراً قط، والآخر الذي عاش حياة فيها بذخ يفوق حدّ الخيال يقول: لم أرَ خيراً قط، شهد الله أن أذكى إنسان، أعقل إنسان، أكثر إنسان توفيقاً، ونجاحاً، وفلاحاً، أن تعد لهذه اللحظة.
الفرق بين الكسب و الرزق :
يخطر في بالي أن شخصاً جمع سبعمئة مليار، أبل، صاحب شركة أبل، أعلى ثروة في التاريخ، سبعمئة مليار، وبيل غيتس جمع ثلاثة وتسعين ملياراً، أحدهما قال على فراش الموت: هذا الرقم لا يعني عندي شيئاً، هذا اسمه كسب.
دققوا يا أخوان؛ الكسب حجمك المالي، الكسب ثروتك، الكسب أموالك المنقولة والغير منقولة، هذا كسب لك، تنتفع به عند الموت، ولكن سوف تحاسب عليه قرشاً قرشاً، ديناراً ديناراً، أما الرزق فالنبي قال:
(( وهَلْ لَك يا بْن آدَمَ مِنْ مَالِكَ إلا ما أكلتَ فأفْنَيتَ، أو لَبِستَ فأبْلَيْتَ، أو تصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ))
هذا الرزق الذي انتفعت به ثلاثة أنواع:
(( ما أكلتَ فأفْنَيتَ))
إذا شخص حضر وليمة تفوق حدّ الخيال، وبعد أسبوع أصابه ألم في أسنانه لا يحتمل، إذا تذكر الوليمة ينتهي الألم؟ لا ينتهي، فلذلك: الكيس من دان نفسه، ضبط نفسه، ضبط دخله، ضبط إنفاقه، يوجد دخل حرام، بيعة حرام.
بائع أقمشة، جاءته امرأة وضيئة، ملأ عينيه من محاسنها، أذن الظهر ذهب ليصلي، ما دام أطلق لبصره العنان، إطلاق البصر هذا حجاب بينك وبين الله، الله كريم، وعظيم، صاحب الجلال والإكرام.
التفكر بالموت واجب يومي :
لذلك أخواننا الكرام؛ هذا كلام خطير، ابحث عن سلامتك، وسعادتك، لا يوجد إنسان على وجه الأرض إلا وهو حريص حرصاً لا حدود له على سلامته، وسعادته، من هنا كان التفكر بالموت واجباً يومياً.
كان عليه الصلاة والسلام فيما أعلم بين السنة والفرض كان يضطجع، ويتصور نفسه وقد وافته المنية.
أعرف شخصاً في الشام صالحاً جداً، عنده بيت واسع جداً، حفر فيه قبراً، وكان يضطجع كل يوم خميس، ويتلو قوله تعالى:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
فينادي نفسه ويقول: قومِي لقد أرجعناكِ.
اعتبر التفكر بالموت واجب يومي، هذا البيت شي جميل جداً! لكن لا بد من أن تغادره، أي نعمة أنت فيها، لا بد من أن تغادرك أو أن تغادرها، لا بد من أن تغادرها وأنت حي، أو أن تغادرك.
لي صديق حميم، له صديق بأعلى منصب في الشام- القصة قديمة- فقد بصره، قال له: يا أخي أتمنى أن أجلس على الرصيف، و أتكفف الناس- هو معاون وزير، ودخله كبير، وبيته بأرقى أحياء دمشق- وعلى كتفي ثياب قديمة وأن يرد لي بصري.
البطولة الاستقامة على أمر الله لنستحق وعده :
ما دام لك عينان، وأذنان، وعندك إدراك، شخص اشترى بيتاً بالملايين، فقد عقله، أقرب الناس إليه يضعونه في مستشفى المجانين، الحياة مخيفة، فيها مفاجآت تفوق حدّ الخيال، فالبطولة أن تستقيم على أمر الله حتى تستحق وعد الله.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
دقق، كلمة دقيقة جداً:
﴿ أَلَّا تَخَافُوا ﴾
على المستقبل.
﴿ وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
على الماضي.
أنا مرة كنت هنا في عمان في السيارة، دخل إلى السيارة لاقط كهذا اللاقط، قال لي: نريد كلمتين أستاذ، بأي موضوع، قلت له: أنت مرتاح؟ قال: أنا؟ قلت له: لست أنت بالضبط، لكن لا يوجد عندك مشكلة، صحتك جيدة، لأن هناك خثرة بالدماغ تهد الإنسان، وهناك فشل كلوي، وتشمع كبد، لا يوجد عندك مشكلة بصحتك، و لا ببيتك، و لا بأولادك، و لا بدخلك، و لا بإنفاقك، أقول لك كلمة دقيقة: لا تغير لا يغير، تبقى مرتاحاً مع أهلك، مع أولادك، مع أقاربك، مع أصهارك، مع كنائنك، بمكانتك، بعملك، بدخلك، بصحتك، لا تغير لا يغير، هذه القاعدة.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾
عندك مشكلة كبيرة، صغيرة، قد تكون بصحتك، بأهلك، مع زوجتك، مع أولادك، مع أصهارك، مع كنائنك، بمجتمعك، ببيتك، مع البلد، مع الأنظمة، عندك مشكلة؟ غير ليغير، الإسلام فيه مليون موضوع، وهناك مئة ألف عالم، ومليون كتاب، انضغطوا بأربع كلمات، لا تغير لا يغير، غيّر ليغير، أي مخلوق ينال من الله كل ما يتمنى، بشرط أن يصطلح مع الله.
(( إذا رجع العبد إلى الله نادى منادِ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))
فـلو شاهدت عيناك من حسننــــا الذي رأوه لما وليت عنــــــــــا لغـيرنـــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنـا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنــــــــــا
ولو ذقت مـن طعم المحبـــــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـــــــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمــــة لمــــت غريباً واشتيـــــــــاقاً لقربنـــــــــــا
ولـــــــــو لاح من أنوارنا لك لائــح تركت جميع الكائنات لأجلنـــــــــــــــــــــا
فما حبنا سهل وكل من ادعــــــى سهولته قلنا له قــــــــــــد جهلتنـــــــــــا
فأيسر ما في الحب للصب قتـلـه وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنـــا
***
أيها الأخوة الكرام، يوجد كلمات جامعة مانعة، الإنسان يحب أحياناً التفاصيل، يحب الشروح، يحب الأدلة، البراهين، التطبيقات العملية، وأحياناً يحب الكلام الموجز، من أدق الكلمات الموجزة: لا يخافن العبد إلا ذنبه- يوجد طغاة، وأقوياء، وفتن، وقهر- ولا يرجون إلا ربه، هذه كلمة جامعة مانعة، لا يخافن العبد إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده معصوماً، و لا تجعل فينا و لا منا و لا معنا شقياً و لا محروماً، و صلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.