- السيرة / ٠2سيرة الصحابيات الجليلات
- /
- ٠3أهل بيت النبي الكريم
السيرة-الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ملاحظة هامة :
أيها الأخوة الكرام، لا زِلْنا مع الصحابيَّات الجليلات، مع الدَّرْس الرابع والثلاثين مِن سِيَرِ الصَّحابيَّات الجليلات رِضْوان الله تعالى عنهن أجْمعين، ومع هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ بنِ ربيعَةَ بن عَبْد شَمْس، هِنْدِ بنْتِ عُتْبة زوجة أبي سُفْيان، ولها تاريخٌ عريقٌ في عَدَاوَة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
وقَبلَ أنْ أشْرَعَ في الحديث عن هذه الصَّحابيَّة, لا بدَّ مِن مُقَدِّمةٍ ضروريَّة: ذلك أنَّ العداوَةَ في الإسْلام ليْسَتْ مُتَأصِّلَةً، أحْيانًا تَكْرَهُ الرَّجُلَ؛ تَكْرهُ عَمَلَهُ، ولا تَكْرهُ ذاتهُ، وربُّنا جلَّ جلاله يكرهُ عمَلَ الرجل، ولا يَكْرهُ الرجل، بِدَلِيل أنَّهُ بِمُجَرَّد أنْ يلتفِتَ العبْد إلى الله عز وجل اِنْطَوَتْ صفْحةٌ، وفُتِحَتْ صفْحةٌ جديدة .
تَذْكُرون أنَّ عُمَيْر بن وَهْبٍ أتى المدينة لِيَقْتُل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لأنَّ ابْنَهُ وَقَعَ أسيرًا، فسقَى سَيْفهُ سُمًّا، وتوجَّهَ نَحْوَ المدينة لِيَقتل النبي عليه الصلاة والسلام، رآهُ عمر فقيَّدَهُ بِحَمَّالَةَ سَيْفِهِ، وساقَهُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله، هذا عُمَيْر بنُ وَهْبٍ جاءَ يُريدُ شرًّا, والقصَّة معروفةٌ عندكم, كيْفَ أنَّ النبي عليه الصَّلاةُ والسَّلام قال: أطْلِقْهُ يا عُمَرَ؟ ادْنُ مِنِّي يا عُمَيْر، ما الذي جاء بِكَ؟ قال: جِئْتُ أَفُكُّ ابني مِنَ الأسْر، فقال: وهذه السَّيْف التي على عاتِقِك؟ قال: قاتَلَها اللهُ مِن سُيُوفٍ, وهل نَفَعَتْنا يوْمَ بَدْرٍ؟ فقال النبي الكريم: ألَمْ تَقُلْ لِصَفْوان ابنِ أُمَيَّة: والله، لوْلا فِتْيَةٌ صِغار، ولَوْلا دُيونٌ لا أُطيقُ سَدادَها، لَذَهَبْتُ وقتَلْتُ محمَّدًا، وأرحْتُكم منه؟ فَوَقَفَ عُمَيْرٌ، وقال: والله إنَّكَ رسول الله، والذي دارَ بيْني وبين صَفْوان لا يَعْلمُهُ أحدٌ إلا الله، وأنتَ رسوله، وأشْهدُ أنَّك رسول الله .
الشاهدُ أنَّ سيِّدنا عمر قال: دخل عُمَيْر على رسول الله، والخنزير أحبُّ إليَّ منه، وخرجَ من عِنْدِهِ، وهو أحبُّ إليَّ مِن بعْضِ أولادي .
هذا هو الإسلام، الإسلام قد تنتقلُ من أشدّ أنواع العَداوة إلى أشدِّ أنواع المحبَّة، التَّفسير : إنّك لا تَكْرهُ فلانًا، ولكن تَكْرهُ عَمَلَهُ، وربّنا عزّ وجل لا يَغْضبُ على العَبْد، بل يغْضبُ مِن عملِهِ ، فإذا صلَّحَ, انتهى كلّ شيءٍ، وهذا أرْوَعُ ما في الإسلام .
إليكم المغزى من هذا الكلام :
قُلْتُ لكم: هذه المرأة التي كانت مِن أشدِّ النِّساء عَدَاوَةً لِرَسول الله، وهي التي قتلَتْ حمزةَ عمَّ النبي عليه الصلاة والسلام بِأَمْرها، وهي التي لاكَتْ كَبدَهُ بِأسْنانها، وليْسَ في تاريخ المسلمين امرأةٌ أشدُّ عَداوةً للنبي عليه الصلاة والسلام مِن هذه المرأة .
والآن سَأُسْمعُكم كيفَ صارَ حالُها؟ هذا يُعْطينا أمَلاً كبيرًا، يُعطيكَ أمَلاً أنَّك إذا أقْبلْتَ على الله تعالى, غَفَرَ الله لك كلَّ ذُنوبك، وهذا يعني أنَّهُ لوْ جئْتَ الله عزّ وجل بمِلء السموات والأرض خطايا, غَفَرَها لك ولا يُبالي، وهذا يعني أنَّك إذا رجَعْت إلى الله عز وجل, نادى مُنادٍ في السموات والأرض أنْ هَنِّئوا فلانًا، فقَدْ اصْطَلَحَ مع الله تعالى، وهذا يعْني أنّ الله عز وجل بِمُجَرَّد أنْ تَتُوبَ إليه, يُقْبِلُ عَلَيْك ويَقْبَلُكَ، وهذا المعنى الدَّقيق الذي أردْتُهُ من هذه القصَّة .
إليكم قصة إسلام هند بنت عتبة :
أسْلمَتْ هنْدُ بنْتُ عُتْبةَ عامَ الفتْح، بعْدَ عشرين عامًا مِن عَداوة مشتعلة، ومِن تآمُر، ومِنْ هِجاءٍ، ومِن حِقْدٍ، ومِن بُغْضٍ لا حدود له لِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم، أسْلمَتْ بَعْد إسْلام زوْجِها أبي سفيان، وحينما دَخَلَ النبي عليه الصلاة والسلام مكَّةَ المكرَّمة, قال أبو سفيانَ:
((ما أعْقَلَهُ ! وما أحْكَمَهُ! وما أوْصلَهُ! وما أرْحَمَهُ!))
أسْلمَتْ بَعْد إسْلام زوْجِها أبي سفيان، وبايَعَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم على الإسلام، كانتْ ذاتَ عَقْلٍ وافِر، ولكنَّها تأخَّرَتْ في إسلامها إلى إسلام زوْجِهَا،
((يا سَعْدُ لا تُبْغِضِ العَرَبَ فَتُبْغِضُني، قال: وكيفَ نُبْغِضُكَ، وبِكَ هدانا الله تعالى؟ فقال: تُبْغِضُ العربَ فَتُبْغِضُني))
أحيانًا تنتقِلُ العداوةُ مِن إنسانٍ إلى إنسانٍ، فَهِيَ كانت ذاتُ عَقْلٍ وافِر، فَلِمَ لمْ يَهْدِها عَقلُها إلى الإيمان بِرَسُول الله, ولِمَ لمْ يقُدْها ذكاؤُها إلى أنْ تُسارِعَ إلى الإسْلام؟ لماذا تلكَّأتْ؟ لعَلَّها مرتبطَة مع إنسانٍ عَدُوٍّ لِرَسول الله .
الآن نستنبطُ اسْتِنْباطًا دقيقًا: إذا كنتُ في بيئةٍ، وفي مجتمَعٍ يُحارِبُ الدِّين، دون أن تشْعُر تنتَقِلُ إليك هذه العَدْوَة، أنتَ في بيئةٍ لا تُحِبُّ الدِّين، ولذلك مِثْلُ هذه البيئة لا ينبغي أن تبقى فيها، ولا ينبغي أن تُقيمَ معها علاقات، يجِبُ أن تكون في بيئةٍ تُحِبّ الله ورسولهُ، وهذا الذي يقوله الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾
اِبْحث مع هؤلاء الذين أنت معهم، مَعَ مَنْ تَجْلِس؟ ومعَ مَنْ تسْهر؟ ومع مَنْ تُخالط؟ ومع مَن تتنزَّهُ؟ ومع مَن تتحدَّث؟ ومعَ مَنْ تُحاوِر؟ مَن هوَ صديقُك؟ ومَن هو محِبُّك؟ وما هي العلاقة الحميمة التي تُقيمها معه؟ هذا شيءٌ خطيرٌ جدًّا .
والآن ثَبَتَ في عِلْم النَّفْس: أنَّ سِتِّين بالمئة مِنَ الأَثَرَ, يتَلَقَّاهُ الشاب عن أصْدِقائِهِ، والباقي عن أُمِّه، وعن أبيهِ, وأخْوَتِهِ, لذا قَضِيَّة الصَّداقة خطيرة جدًّا .
فالبيئة تَغْذِيَةٌ هادئة، أنت معَ أهْل الإيمان في تغْذِيَةٍ، مَوْقِفُهم، وحركتهم، وحياؤُهم، وخَجَلُهم، وعِفَّتُهم، صِدْقُهُم، أمانتهم، ومحبَّتُهم لله تعالى، هذه كلُّها تغْذِيَة بطيئة، مِن دون أن تشْعُر ترى أنَّك مُحِبٌّ لله تعالى، ولو جَلَسْت مع أهل الفِسْق والفُجور، تجِدُ تغْذِيةً بطيئة هادئة، تقول: حياتُهم أكثر راحةً مِن حياتنا, حياتهم من دون قُيود، انْشِراح، راحة، قَضِيَّة غضّ البصر نرتاح منها, وكيْفَمَا كان يقبض المال من حرام أو من حلال، ليس عندهم مُشكلة، وكلَّما جلسْتَ معهم اسْتَمْرأْتَ عملهم، إلى أنْ تُصْبِحَ مثلهم، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾
قال تعالى:
﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾
لذلك أنا أُريد من هذا الدَّرْس: أن تُفكِّرَ مَلِيًّا في هذه العلاقة الحميمة, تُقيمها معَ مَنْ؟ مَنْ هَوِيَ الكَفَرَةَ حُشِرَ معهم، ولا ينفعُهُ عملهُ شيئًا .
زارني صديقٌ مُقيمٌ في بلدٍ غَرْبي، شيءٌ غريب! كلّ حديثهُ عن هؤلاء؛ تاريخهم، حروبهم، فضائلهُم، وكأنَّهُ ليْسَ بِمُسْلِم, عاشَ معهم، وقَبلَ قِيَمَهُم، واسْتَمْرأ علاقتهم، أشاد بهم، وأثنى عليهم، مَنْ هَوِيَ الكَفَرَةَ حُشِرَ معهم، ولا ينفعُهُ عملهُ شيئًا .
هذا الدَّرس مِحْورُهُ العلاقة الحميمة، أو العلاقة الحميمة مَعَ مَنْ؟ هل لك ولاءٌ مع المؤمنين أم ولاؤُكَ مع غيرهم؟ وهل لك براءٌ مِن المشركين, والمنافقين, وأعداء الدِّين, أم أنَّكَ تُحِبُّهم؟ .
النبي عليه الصلاة والسلام تمنَّى على الله داعِيًا، فقال:
((اللَّهُمَّ لا تجْعل لي خَيْرًا على يدي كافر أو منافق))
لأنَّ هذا الخَيْر الذي أجْراه الله على يدي الكافر أو المنافق, يَدْفعُكَ إلى مَحبَّتِهِ، وإذا أحْببْتَهُ, انتهَيْتَ تعاهَدْ قَلْبَكَ، هذا القلب يَلِينُ لِمَنْ؟ .
هند بنتُ عُتبَة وافِرَةُ العَقل، ولكِنَّها كانتْ مِن أشدِّ النِّساء عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم؛ لماذا؟ لأنَّها مع قَوْمِها، وتعيشُ مع بيْئةٍ تُعادي النبي عليه الصلاة والسلام، وتُناصِبُ النبي العِداء، فلِذلك انتَقَلَ إليها العِداء معَ وَفْرةِ عَقْلها .
يؤكِّدُ هذا: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما الْتقى بِخَالدٍ بن الوليد رضي الله عنه، وقد أعْلَنَ إسْلامهُ، قال له:
((عَجِبْتُ لك يا خالد! أرى لكَ فِكْرًا))
كأنَّ الفِكْر عليه أن يقودكَ إلى الله عز وجل .
هِيَ أمُّ مُعاوِية بن أبي سفيان، الخليفة الأمويّ الأوَّل، أخبارها قبل الإسلام مشهورة, شَهِدَتْ أُحُدًا مع المشركين, وهي التي تآمَرَتْ مع هذا الحبَشِي لِقَتْل سيّدنا حمزة، وهي التي بقرَتْ بطْنهُ، وأخرجَت كبِدَهُ، ولاكَتْهُ بِأَسْنانها، وفعَلَتْ ما فعلَت بِحَمْزة, وكانتْ تُؤلِّبُ على المسلمين، إلى أن جاء الله بالفتح، فأسْلَمَ زوْجُها، وأسْلمَتْ هِيَ .
قال عبدُ الله بن الزبَيْر:
((لمَّا كان يوْمُ الفَتْح, أسْلَمَتْ هنْدُ بنْتُ عُتْبة، ونِساءٌ معها، فأَتْينَ النبي صلى اله عليه وسلّم, وهو بالأبْطَح، فَبايَعْنَهُ, فتكلَّمَتْ هنْدُ, قالَتْ له: يا رسول الله, -فرَحُ المؤمن بِهِداية كافر لا يُصوَّر، إنسانٌ ينتقل فجأةً مِن صفّ أعداء الدِّين إلى المؤمنين .
كنتُ في الحجّ قبل سنوات، وسَمِعتُ أنّ أمريكيًا أسْلمَ، وألْقى محاضرةً في الحج، قال: نحن أمَّةٌ قوِيَّة، بل نحن أقْوى الأمم، ولكنّنا بشرٌ، فإذا أقْنعْتُمونا بإسْلامكم, كانت قوَّتُنا لكم, كلامٌ دقيق جدًّا، نحن مقصرون .
لذا هذه المرأة الذكِيَّة العاقلة والخطيرة، هي الآن تُعْلنُ إسلامها- قالتْ: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظْهر الدِّين الذي اختارهُ لِنَفْسِهِ، لِتَنفعني رحمتكَ، يا محمد, إنَّني امرأة مؤمنة بالله تعالى، مُصدِّقةٌ برَسولِهِ، -وما عرفَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم مَن هِيَ؟- ثمّ قالتْ: أنا هند بنتُ عتبة, -المرأة المخيفة، صدِّقوا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام فرِحَ بها فرحًا شديدًا، لذا عند النبي أو المؤمن لا يوجد الحقد، هناك حِقْدُ مَبدأ، فَحِينما ينظمّ هذا العدوّ إلى الدِّين, انتهى ذاك الحقد- .
فقال عليه الصلاة والسلام: مرْحبًا بِكِ, -هي التي قتَلَتْ عمَّهُ حمزة, لا حقْد، وصفاء المؤمن لا حدود له، وهو نبيّ هذه الأمَّة- قالتْ: والله يا رسول الله، ما كان على الأرض أهل خِباءٍ أحبُّ إليَّ من أن يذِلُّوا مِن خِبائكَ, -أيْ أتمنَّى أن تذِلُّوا، وأن تُقْهروا- ولقد أصْبحتُ وما على الأرض أهْلُ خِباءٍ أحبّ إليّ أن يَعِزُّوا مِن خبائِكَ, -ما هذه النَّقمة؟ أيْ لا يوجد على وجْه الأرض جماعة, أتمنى إذْلالهم، وقهْرهم، وقتلهم، وتحطيمهم كَقَوْمِك، والآن ليس على وجه الأرض جماعة, أتمنى أن يعِزُّوا، وأن يرتفعوا مثل قوْمك، وهذه هي نقمة المؤمن، انتقل مئة وثمانون درجة- فقال عليه الصلاة والسلام: وزِيادة))
ما معنى وزِيادة؟ أيْ كما تقولين: وزيادة، وهذا حال الذي يعرف الله تعالى.
لذا إذا كان لك عدوّ لدود, دمَّركَ بالتِّجارة، أو دمَّرك بِطَريق آخر، وبعد حينٍ هذا العدو اللّدود, اصْطلحَ مع الله، وأحبَّهُ، إن لم تُحِبَّهُ, فلسْتَ مؤمنًا، وهذا هو الدِّين .
سيّدنا يوسف ماذا فعَلَ أخوتهُ به؟ وضَعُوهُ بالجُبّ لِيَموت، قال تعالى:
﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
قال تعالى:
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
لِمَ لمْ يذكر الجبّ؟ لمَّا جاؤوا مسلمين, انتهى الأمر، لك الإمكانية أن تنقلب عداوةً عميقة وحقْد إلى حبّ .
الشيء الذي لا يُصدَّق: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام مِن شِدّة حبِّهِ للخَلْق، أنا أتصوَّر أنَّ أعلى رجل في العالم, يستطيعُ بِحُبِّه الغامر, أن يُحوِّل أعداءهُ الألدَّاء إلى أحباب .
هناك صفوان بن أُميّة، عُمَيْر بن وهب، أبو سفيان, اذْهبوا فأنتم الطُّلقاء .
أمامة بن آثال, قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال:
((أطْلقوا سراحَهُ، غابَ, وعاد، وقد اغْتسَلَ، أعْلَنَ الشهادة، وأسْلمَ، وقال: والله يا رسول الله، ما كان على وَجه الأرض دينٌ أبغضَ إليّ من دينك، والآن ما على وجه الأرض دينٌ أحبّ إليّ من دينك))
وهناك قصص كثيرة جدًّا .
لمَّا أسْلمَت هند, جعلت تضربُ صنمًا في بيتها بالقُدُّوم، كان أوَّلُ عملها كَسْرُ هذا الصَّنَم، حتى فلَّذَتْهُ فلِذَةً فلذة؛ قطعةً قطعة، وهي تقول: كنَّا منك في غَرَر .
لقد رحمها الله تعالى يوم الفتح الأكبر, كما رحم زوْجها أبا سفيان, الذي ظلَّ طويلاً عَدُوًّا للإسلام، غير أنّ الإسلام دين الرحمة والهداية, فلْننْظر إلى آثاره يوم الفتح .
كان جميع أهل مكة تحت قبضة النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، ولولا أنّ الله تعالى, أرسَلَهُ رحمةً للعالمين, لجدَّ رؤوس أهل مكَّة جميعًا، لأنَّهم ما ادَّخروا وُسْعًا في الصدّ عن سبيل الله، وإطفاء نور الإسلام، ولكنَّهم لم يستطيعوا، وهذا هو الإسلام بِنُورهِ الحق، ورسوله الرحيم .
كانتْ هنْدُ مِن النِّسْوة الأربع اللاتي أهْدرَ النبي عليه الصلاة والسلام دَمَهنّ، ولكنَّهُ صلى الله عليه وسلّم صفح عنها، وعفا عنها، وعما كان منها, حينما جاءتْهُ مسلمةً مؤمنة .
هنيئاً لك هذه البيعة يا هند :
الآن تقفُ هند أمام رسول الله، عندما بايَعَ النِّساء آمنةً مطمئنَّةً، وتسْتوْضِحُهُ في أمور البيعة، ولا تخشى إلا الله تعالى .
روى الطبري: لمَّا فرغ النبي عليه الصلاة والسلام مِن بَيْعة الرِّجال, بايَعَ النِّساء، واجْتمَعَ إليه نساءٌ من نساء قريش فيهنّ هند بنتُ عتبة، فلمَّا دَنَوْنَ منه لِيُبايِعْنهُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((تُبايِعْنني على ألاّ تُشْركْن بالله شيئًا، قالتْ هنْدُ: والله إنَّك تأخذ علينا أمرًا لا تأخذه على الرّجال، وسَيُؤتيكَهُ، قال عليه الصلاة والسلام: ولا تسْرِقْن، قالت هنْدُ: والله إن كنتُ لأُصيبُ من مال أبي سفيان الهنَكَ والهنكَ، ولا أدري أكان ذلك حِلاًّ لي أم لا؟.
-تَجِدُ المؤمن بعد توبته إلى الله تعالى، يُراجِعُ نفسهُ، ويُحاوِل تسديد كلّ الدّيون السابقة .
لي قريب له محلّ حلويات، قال لي: دخل شابّ, فوضَعَ ظرفًا على الطاولة، ورجع ، فتَحْتُهُ، فإذا مكتوب فيه، من عشرين سنة, دخلتُ هذا المحل، وأكلتُ قطعة حلوى، ولم أدفع, حاسبَ نفسهُ لِمُدَّة عشرين سنة، وهذا هو حال المؤمن دائمًا, يُراجعُ نفسهُ- .
قالت هنْدُ: والله إن كنتُ لأُصيبُ من مال أبي سفيان الهنَكَ والهنكَ, -أيْ الدُّريْهمات- ولا أدري أكان ذلك حِلاًّ لي أم لا؟ فقال أبو سفيان -وكان شاهدًا معها-: أما ما أصبتِ فيما مضى, فأنت منه في حِلّ، عفوْنا عن الماضي، فقال عليه الصلاة والسلام: وإنَّك لَهِنْد بنتُ عتبة؟ فقالَتْ: أنا هند بنت عتبة، -أيْ زوجتهُ- فاعْفُ عما سلف, عفا الله عنك، -أيْ سامِحْها- فقال عليه الصلاة والسلام: ولا تزنين, فقالت: يا رسول الله, وهل تزْني الحُرَّة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ولا تقتلن أولادكنّ، فقالت هندُ: قد ربَّيناهم صِغارًا، وقتلْتَهم يومَ بدْرٍ كِبارًا، وهم أعْلم، فضَحِكَ عمر بن الخطَّاب مِن قولها, حتَّى اسْتغربَ! -أيْ بالغَ في الضَّحك- فقال عليه الصلاة والسلام: ولا تأتين بِبُهتانٍ تفْترينَهُ بين أيْديكنّ وأرجلكنّ، فقالت: والله إنَّ اتيان البُهْتانِ لَقَبيح، فقال صلى الله عليه وسلّم: ولا تعصين في معروف، فقالت: ما جلسنا هذا المجلس، ونحن نريد أن نعصيك في معروف، -وكلمة لا يَعْصينكَ في معروف دقيقة جدًّا، هل في الأرض كلّها إنسان تتوجَّب طاعتهُ كرسُول الله؟ يستحيل، ومع ذلك طاعتُهُ مُقيَّدَة بالمعروف .
فأحد الصحابة الذي أمَّره النبي عليه الصلاة والسلام على جماعةٍ، وكان هذا الصحابيّ ذا دُعابَةٍ، فقال:
((أبْرِموا نارًا عظيمة، فأبْرموها، ثمَّ قال: اقْتَحِموها, ألسْتُ أميركم؟ أليْسَتْ طاعتي طاعة رسول الله؟ فقال أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: كيف نقْتحمها، وقد آمنَّا بالله فِرَارًا منها؟ وقال بعضهم: طاعته طاعة رسول الله, فاختلفوا، فعَرَضُوا هذا على النبي عليه الصلاة والسلام: والله لو اقْتحمْتموها لا زِلْتُم فيها إلى يوم القيامة، إنّما طاعة في معروف))
فالعَقْل لا يُعطَّل لو قال: ولا يعصينك في معروف؛ مقيّد، حتى النبي وهو سيّد الخلق .
مثلاً: كان يحبّ اليقطين، فلو أنّ أحدًا ما أحبّ اليقطين, هل هو مُؤاخذ؟ ليس مُؤاخذًا، لأنّ القضيّة شَخصيَّة، والمعصِيَة في معروف، النبي أمر أوامر تعبّديَّة، وأخرى تَشريعِيَّة، فأنت حينما تعصيهِ في أمر تشريعي, فهذه كبيرة جدًّا، أما في المزاج, فأنت لك مِزاج، وهو له مِزاج، ولا يعصينك في معروف، لذلك فرَّق العلماء بين الأمر التشريعي، والأمر التنظيمي، ومعصِيَة الأمر التشريعي غير معصِيَة الأمر التنظيمي، ولا يعصينك في معروف, قال تعالى:
﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾
أما لو لبِسْتَ ثِيابًا غير ثياب رسول الله، وحلاقة شعرك غير حلاقة شعر رسول الله، وأكْلُكَ على الطاولة غير أكل النبي عليه الصلاة والسلام، هذه ليْسَت قضايا تشريعيَّة، نعمْ الأكمَل أن تُقلِّدَهُ في كلّ شيء، ولكن الأخطَر أن تعْصيهِ في قضايا تشريعيَّة- .
قالت: ما جلسنا هذا المجلس، ونحن نريد أن نعْصِيَك في معروف، فقال عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ: بايِعْهُنَّ، واسْتَغْفِر لهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وكان صلى الله عليه وسلَّم لا يُصافِحُ النِّساء، ولا يمسّ امرأةً لا ذات محرمٍ))
خاتمة القول :
أيها الأخوة، ما ذكرتُ هذا القصَّة؛ قِصَّة هند بنتُ عتبة, إلا لأبيِّنَ لكم عظمة هذا الدِّين، مِنْ أشدِّ حالات الكراهِيَّة، والحِقْد، والعداوةِ, حتَّى الجريمة، لاكَتْ كبِدَ حمزة، إلى أشدِّ حالات الولاء ، والحبّ، والتَّقدير، والتَّعظيم، وهذا هو الإسلام، الإسلام يجبّ ما قبلهُ، ويهْدمُ ما كان قبلهُ, والمسلم فتَحَ مع الله صفْحةً جديدة، لو جئتني بملْء السموات والأرض خطايا, غفرتها لك ولا أُبالي، قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
الآن التطبيق العملي: لو أنّ أحدًا معه ذنب، وهذا الذنب حِجابٌ بينه وبين الله، وخائفٌ أن لا يُغفَرَ له, فلْيذكر أنَّ الله غفر لامرأة, قتَلَت عمَّ النبي، ولاكَتْ كبدهُ بِأسنانها، ولم يعرف التاريخ الإسلامي امرأة أشدَّ حِقْدًا وعداوةً لرسول الله كمثل هذه المرأة, ومع ذلك أسْلمَت وحَسُنَ إسلامها، وقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: مرحبًا بك، وفرِحَ بها فرحًا شديدًا، فالإسلام لا يحوي الحِقْد والعداوة .
هناك روايات يجب أن تُرْكل بالقدم، فالذي يقول: أنّ هناك عداوَة بين خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب في الجاهليّة, لو كانوا كذلك لما كانوا صحابة، وهذه كلّها روايات مفْتَراة، وهي أن أحقادًا كانت بينهما، ولمَّا تولَّى عمر الخلافة، أوَّلُ عملٍ عملهُ؛ عزل سيّدنا خالد, وهذا كذبٌ وبهتان، والصحيح أنّ خالدًا رضي الله عنه, جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال له:
((يا أمير المؤمنين لمَ عَزَلْتني؟ فقال: والله إنِّي لأُحبُّكَ يا أبا سليمان، فقال: لِمَ عَزَلتني؟ فقال: والله إنِّي لأُحِبُّك, وقال مرَّةً ثالثة، فقال: يا ابن الوليد, ما عزلْتُكَ إلا مخافة أن يُفْتَتَنَ الناس بِكَ بِكَثْرة ما أبْلَيْتَ في سبيل الله))
الناس عزَوْا النَّصْر لِخالد، وأصبحَ هناك شرْكٌ، فأراد عمر أن يُعَلِّم الناس درسًا لن ينْسَوْه، فعَزَلَ خالدًا رضي الله عنه، وبقِيَ النَّصر مُسْتمرًّا, فمن الذي ينصُر؟ هو ربُّ خالد، قال له :
((يا ابن الوليد, ما عزلْتُكَ إلا مخافة أن يُفْتَتَنَ الناس بِكَ بِكَثْرة ما أبْلَيْتَ في سبيل الله))
لذلك هذه القصَّة؛ قصَّة هند بنت عتبة, قصَّة مؤثِّرة, تعني أنَّه لا حِقْد ولا عداوة مستمرَّة في الإسلام، وحينما يؤمن الرجل, انتهى كلّ شيءٍ مضى، وطُوِيَ مِلَفُّه السابق، وفُتِحَ له مِلَفٌّ جديد بعد الاصطلاح مع الله تعالى، فإذا كان هناك أشخاص لاكوا كبد عم النبي، وقتلوه، وقد عفا الله عنهم، فإذا كان الواحد له ذنبٌ, وجاهليّة، وتاب إلى الله توبةً نصوحًا, يجب أن يتفاءل، وهو أنَّ الله تعالى لن يُضَيِّعَهُ .