- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠3الصلاة
صلاة الجنازة :
موضوع الفقه اليوم صلاة الجنازة، وهي فرض كفاية، ومعنى أنه فرض كفاية أي إذا قام به البعض سقط عن الكل، ويُقابل فرض الكفاية فرض العين، الذي إذا لم يقم به المسلم لم يسقط عنه.
فروض صلاة الجنازة :
1 ـ إسلام الميت :
وأركان صلاة الجنازة التكبيرات والقيام، وفروضها ستة:
أولاً: إسلام الميت " أن يكون مسلماً "، أي إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام نُهي عن الصلاة على المنافقين، قال تعالى:
﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾
شُرِعت صلاة الجنازة وزيارة القبور من هذه الآية:
﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يُصلي على من عليه دَين، فإذا توفي بعض أصحابه الكِرام يسأل هذا السؤال التقليدي: " أعليه دينٌ؟ "، فإن قالوا: نعم يقول: " صلّوا على صاحبكم "، إلى أن يقول أحدهم: يا رسول الله عليَّ دينه؟ فقد روى البخاري في صحيحه:
(( عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا لَا فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا نَعَمْ قَالَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ ))
فأركانها التكبيرات، والقيام، وفروضُها ستة؛ إسلام الميت وقد ذكرناه أولاً.
2 ـ طهارته :
وطهارته، لا يُصلّى على الميت إلا بعد أن يكون قد غُسِّلَ التغسيل الشرعي.
3 ـ تقدمه أمام القوم :
تقدّمه أمام القوم: يجب أن يوضع النعش الذي فيه الميت أمام القوم الذين يصلون عليه.
4 ـ حضوره :
حضوره؛ أن يكون الميت في هذا النعش، أو حضور أكثر بدنه، أي نصفه مع رأسه، فنصف المتوفى مع رأسه يدخل في باب حضوره.
5 ـ أن يكون المصلي غير راكبٍ :
ويجب أن يكون المصلي غير راكبٍ.
6 ـ أن يكون الميت على الأرض :
وأن يكون الميت على الأرض، فلا يجوز أن يُصلي المصلي على ميتٍ وهو راكب، ولا أن يكون الميت محمولاً ويُصلّى عليه، فيجب أن يكون على الأرض، فإن كان على دابةٍ أو على أيدي الناس لم تجُزْ عليه الصلاة، إلا إذا كان هناك عُذر قاهر.
سنن صلاة الجنازة :
1 ـ قيام الإمام بِحذاء صدر الميت :
وسُنن هذه الصلاة أربعٌ: قيام الإمام بِحذاء صدر الميت.. فيجب أن يقف أمام صدره، أي أمام قلبه.. ذكراً كان أو أنثى.
2 ـ الثناء بعد التكبيرة الأولى :
الثناء بعد التكبيرة الأولى: "سبحانك اللهم وبحمدِكَ، وتبارك اسمُكَ، وتعالَى جدُكَ، ولا إله غيرُك، والصلاة على النبي بعد التكبيرة الثانية: "اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آلِ سيدنا محمد"، بعض الفقهاء ينصُّ أنهُ قد أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة الفاتحة والصلاة على رسول الله ".. فإن صليت على النبي أجزأكَ هذا، وإن قرأت الفاتحة أجزأكَ ذلك.
3 ـ الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة :
وأمّا بعد التكبيرة الثالثة فتدعو للميت بما شِئت، وبأي صيغة شِئت، وبأي دُعاءٍ شِئت، لكنَّ النبي عليه الصلاة والسلام وقد أوتي جوامع الكلم كان يدعو بهذا الدعاء:
((عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ ))
ثم يُكبّر التكبيرة الرابعة وبعدها يُسلّم، وبعض الفقهاء يقولون: " يدعو لنفسِهِ بعد الرابعة ثم يُسلّم "، فإذا سلّمتَ بعد الرابعة أجزأكَ ذلك، وإن دعوت لنفسِكَ بعد الرابعة أجزأكَ ذلك:
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ ))
4 ـ عدم رفع اليدين في غير التكبيرة الأولى :
لا يرفع يديه في غير التكبيرة الأولى، فقط في التكبيرة الأولى، أمّا الثانية والثالثة والرابعة فلا يرفع المُصلي يديه، ولو كبّرَ الإمام خمساً لم يُتبع.
ومن الأدعية المأثورة: " اللهم اجعله لنا خلفاً واجعله لنا أجراً وذخراً واجعله شافعاً مُشفّعاً "، هذا الذي جاء في مراقي الفلاح عن صلاة الجنازة:
كل ابن أنثى و إن طالت سلامت ه يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جنــازةً فاعلم بأنكَ بعدها محــمولُ
***
من استحضر مشاهد الموت صغُرت الدنيا في عينيه وانتقلت من قلبِه إلى يده :
ولا بُد من أن ندخل المسجد ليُصلّى علينا، فهنيئاً لمن دخله طوالَ حياتِهِ ليُصلي، فإذا أُدخِلَ المسجد ليصلّى عليه يقال: قد كان من قبلُ يُصلي، أما إن كان لا يُصلّي وأُدخِلَ إلى المسجد ليُصلّى عليه فلن يسمع المصلون على الميت الآلام التي تعتلج في صدره، وهو يقول: ليتني كنت أصلي، قال عز وجل:
﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾
أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا، أرى أنَّ مشاهد الموت يجب ألاّ تغيب عن أذهاننا، إن الموت شيء لا بُدَّ من أن يقع، وأنت متشائم، لا علاقة لهذا الكلام بالتشاؤم ولا بالتفاؤل، الموت لا بُدَّ من أن ينزل بنا جميعاً، فإذا حضر الإنسان حضرَ مشاهد الموت، وحالة النِزاع، أين سيتم تغسيله، وأين سيتم دفنه، ومن سيخرج في جنازته، وماذا سيكتب على نعوتهِ، أولاده، أخوته، أصهارُهُ، انظر ماذا سيُكتب: عميد أسرتهم، أو الشاب، أو المحامي، أو الطبيب، أو المربي فلان، فلا بُدَّ من أن يُكتب شيء، فقُم باستحضار مشاهد الموت، فإذا استحضرتها صغُرت الدنيا في عينيك، وانتقلت من قلبِكَ إلى يدِك، ولقد صدَق مَن قال:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
***
من زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز فوزاً عظيماً :
تصوّر ما بعد الموت؟ وماذا سيحصل؟ وماذا سيفعل أولادك بالسيارة؟ هل تنتصر أمهم عليهم فيبيعونها أم ينتصرون عليها فيبقونها؟ ماذا سيفعلون؟ ماذا سيفعلون في هذه الخزانة التي فيها محتوياتُكَ الثمينة؟ ومن سيفتح هذه الخِزانة؟ كيف ستوزّع هذه المحتويات؟ هذه مشاهد تهزُّ النفس، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((إن النور إذا دخل الصدر انفسح قيل هل لذلك من علم يعرف به؟ قال: نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله))
والبطولة كما قُلنا: ليس من يقطع طرقاً بطلاً، هناك جرائد لمن يحرز أرقامًا قياسية في الجري، أو في السباحة، أو في القفز العالي، أو في هذه اللعبة، أو في تلك... وهؤلاء يُسمّونَ في مصطلح الدفتر أبطالَ العالم، فهذا حاز الميدالية الذهبية، وذاك البرونزية، والثالث على الفضية:
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقِي الله البـــطلُ
***
فإذا جاءه مَلَكُ الموت، وزُحزِحَ عن النارِ، وأُدخل الجنة فقد فاز، قال تعالى:
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾
أحفظُ حديثاً يقصم الظهر، قال عليه الصلاة والسلام:
((مَن عدَّ غدًا من أجله فقد أساء صحبة الموت))
أسطوانة الغاز فرغت، فقلت في نفسك: غداً سوف أبدلها، ولم تقل: إن شاء الله، طبعاً غداً سأعيش، عندي خمسون أو ستون موعدًا...
((مَن عدَّ غدًا من أجله فقد أساء صحبة الموت))
من نام ليلةً واحدةً من غير وصية وكان في ذمتهِ حقٌ لم يُصرّح بِهِ فقد نام آثماً :
حدثني أخ قصة عن رجل اشترى بيتًا، ونصف ثمن البيت من زوجته، وأهمل إفراغ هذا البيت باسمه وباسم زوجتهِ إلى أن أدركته المنية، وزوجته بعد أن توفي زوجها لم يعترف لها أهلهُ بأنها دفعت نصف ثمن هذا البيت، فتألمت ألماً شديداً وأخذت في اجتماعاتٍ مطوّلة بين إخوته وأقربائه، وقدّمت لهم الأدلة على أنها دفعت نصف ثمن البيت، باعت هذا المحل التجاري، وأعطت الثمن لزوجِها، وبعد اجتماعاتٍ دامت أكثر من سنة ونصف اتفقَ أقرباء زوجها على أن يعطوها عشرة أسهم من أربعة وعشرين سهماً فوافقت، والآن التقى الجميع بمالك البيت، هذا البيت تمَّ شراؤه قبل خمس سنوات، والآن ثمنه مليون، هل تفرغ لنا البيت؟ قال: نعم حباً وكرامة، هذا من حقِكم، فأُعطي الأمر إلى بعض الناس لإجراء معاملة الفراغ، وانتهت المعاملة، وبقي أن تنزل إلى دوائر التسجيل العقاري، وينتقل هذا البيت إليها، والموعد يوم السبت، فتوفيت يوم الخميس.. هذا هو الموت.. سنة ونصف من الاجتماعات.. باعت دكانها... ثم ماتت:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامت ه يوماً على آلة حدباء محمول
***
البطولة أن تُكثر من هذه اللذّات، مفرّق الأحباب مُشتت الجماعات.
عِش ما شِئت فإنك ميت وأحبب من شِئت فإنك مفارقه، واعمل ما شِئت فإنك مجزيٌ به.
بالمناسبة: الفقهاء قالوا: " لا بُدَّ من وصيةٍ واجبة، الوصية أنواع، وأحد أنواع الوصايا الوصية الواجبة "، لمن كان في ذمتهِ حقٌ لم يُصرّح بِهِ، فهذا إذا نام ليلةً واحدةً من غير وصية فقد نام آثماً، لماذا؟ لأنَّ هذا الحق متعلّقٌ بِهِ، وقد لا يعترف الورثة بهذا الحق.
* * *
من وقف موقف مذلةٍ في طلب الحلال وجبت له الجنة :
والآن إلى فصلٍ مُختار من إحياء علوم الدين عن الكسبِ والمعاش، يُروى أن الأوزاعي لقي إبراهيم بن الأدهم رحمهما الله وعلى عُنُقِهِ حزمة حطبٍ فقال له:" يا أبا اسحق إلى متى هذا؟ أخوانُكَ يكفونك؟ فقال: دعني عن هذا يا أبا عمر، إنه بلغني أنّ من وقف موقف مذلّةٍ في طلب الحلال وجبت له الجنة ".
قد يحمل الإنسان بضاعته، ويدخل إلى محل تجاري، فدخولك لهذا المحل التجاري لعرض هذه البضاعة، وبيان ميزاتها وأسعارها، وصاحب المحل يجلس وراء مكتبه، وقد يعجبه وربما لا يُعجبه، وقد يقول لك: لست بحاجة لهذه البضاعة، وقد يطلب منك أن تبيعه إياها بسعرٍ منخفضٍ جداً.... فمجرّد الدخول على صاحب هذا المحل فيه بعض المهانة، ولكن هذه مهانةٌ يُحبُها الله عزّ وجل، لأنها في طلبِ الحلال، تبيع بضاعةً مشروعة بسعرٍ جيد معقول، وتطلب الربح المشروع كي تستر به عيالك.
فقال هذا الرجل للأوزاعي: "إنه من وقف موقف مذلةٍ في طلب الحلال وجبت له الجنة ".. في طلب الحلال..
وقال أبو سليمان الداراني: ليست العبادة عندنا أن تكفَّ قدميك وغيرُكَ يُطعِمُكَ.. ليست هذه عبادة.. ولكن ابدأ برغيفيكَ فأحرزهُما ثمَّ تعبّد.
الإحسان في المعاملة :
الآن: مع أحكام مرّت معنا بالتفصيل في فقه السُنّة؛ البيع والمضاربة والقرض وأنواع الشركة... منذ حوالي أشهر أو ستة أشهر كُنا في الحديث عنها بالتفصيل، ننتقل إلى موضوعات لم يسبق لنا أن عالجناها في فقه السُنّة.
العنوان: الإحسان في المعاملة، قد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً.. فالإنسان يقرأ القرآن الكريم ولا ينتبه إلى هذه الأوامر.. أمر إلهي أنت مأمورٌ بالإحسان كما أنكَ مأمورُ بالعدل سواءً بسواء:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾
أطعم وكُلْ، الناس ينسون أمر أطعم، ويتذكرون أمر كُلْ.. لا..
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾
والعدلُ سبب النجاة، وهو يجري من التجارة مجرى رأس المال، والإحسانُ سببُ الفوزِ ونيل السعادة، فإذا أخذ الإنسانُ رأسَمالِهِ من بعض الشركات الاستثمارية ونفذ، يكون قد أحرزَ مالُهُ، فإذا أخذ رأسَ المال مع الرِبح فقد فاز.
العدل رأسُ المال والإحسانُ هو الربح :
أما إذا ذهب رأسُمالِهِ... فكيف الأمر؟! ولا يُعدُّ من العقلاء في الدنيا من قَنِعَ في معاملات الدنيا برأسِمالِهِ، هل يُعدُّ التاجرُ عاقلاً إذا باع بضاعتهُ برأسِمالِهِ!؟ لا بُدَّ من الربح، فالعدل رأسُ المال، والإحسانُ هو الربح، فمن عَدَلَ نجا، ومن أحسَنَ فاز، فلا ينبغي للمتديّنِ أن يقتصر على العدلِ واجتناب الدنيا، ويدع أبواب الإحسانِ، وقد قالَ الله تعالى:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾
وقال عزّ وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾
وقال سبحانه وتعالى:
﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
إذاً حتى في البيع وأنت في محل تجاري أنت مأمور أن تعدل، وأن تُحسن، فإذا عدلتَ نجوت، وإذا أحسنتَ فقد تفوّقت، العدلُ رأسُمالُك، والإحسانُ رِبحُك.
رُتبة الإحسان في البيع والشِراء تُنال بواحدٍ من ستة أمور :
1 ـ في المغابنة :
تُنال رُتبة الإحسان بواحدٍ من ستة أمور:.. الإحسان في البيع والشِراء..
في المغابنة: فينبغي ألا يغبِنَ صاحِبَهُ، والغبن هُنا الربح الفاحش، والربح الفاحش ليس إحساناً في البيع والشراء، فأما أصلُ المغابنة فمأذونٌ بِهِ، ولا بُدَّ أن تبيعهُ بسعرٍ أعلى من سعر الشراء، وإلا من أين تأكل، هذه المغابنة، أي الزيادة عن رأس المال مشروعةٌ في أصلِها، ولكنها إذا ارتفعت كثيراً صارَ هذا إساءة في البيع والشراء.
فإذا بذل المشتري زيادةً على الربح المعتاد، إمّا لشدّةِ رغبتِهِ، أو لشدّةِ حاجتِهِ في الحال إليه، فينبغي له أن يمتنع من قبولِهِ.. فانظر للإحسان في البيع والشراء.. إذا دُفِعَ لكَ في هذهِ السلعة سعرٌ فاحشٌ، وقد رضيَ المشتري أن يشتريّها وقَبِلتَ بهذا البيع، فأنت قد طبقّت العدل، أمّا إذا رفضت أن تأخُذَ ربحاً فاحشاً، فأنتَ قد طبقّت الإحسان، وإذا امتنعت من قبول الربح الفاحش في بيع البضاعة فأنتَ محسنٌ في البيع والشراء، وإذا لم يقع التلبيسُ لم يكن أخذ الزيادةِ ظُلماً.
ولو فرضنا لم تُلبِّس وقلت: هذه البضاعة هذه مواصفاتها، ولم تكذب، ولم تُدلّس، ولم تُغيّر، ولم تُبدّل، ولم توهم، وذكرت صفات البضاعة بدقة، ورضي المشتري أن يأخذها منكَ بسعرٍ عالٍ فهذا عدلٌ، أما إن لم ترضَ أنتَ بهذا الربح الفاحش فهذا إحسان، أما إذا كان هناك تدليس أو غش أو تغيير حقائق أو كتمان عيب فهذا ظلم، ولو أنكَ لم تُدلّس، ولم تكتم عيب البضاعة، ولم تكذب إطلاقاً، ورضيَ أن يشتريها المشتري بسعرٍ فاحش، وأنت رفضت ذلك، فهذا من الإحسان، فإذا قبلتَ ذلك فهذا من العدل، وموضوعنا اليوم " الإحسان في البيع والشراء وليس العدل ".
الغبنَ بما يزيدُ عن الثُلُثِ يوجِبُ الخِيار :
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنَّ الغبنَ بما يزيدُ عن الثُلُثِ يوجِبُ الخِيار ، ومعنى الخِيار أنَّ المشتري إذا رَفَعَ أمره للقاضي مدعيًّاً الغبن، وتبيّن للقاضي أنَّ هذه السلعة بيعت بربحٍ يزيد عن ثُلُثِ ثمنِها، فللقاضي أن يرَدَّ البيع، وأن يفسخَ عقد البيع، وأن يُعيدَ الشيءَ إلى صاحِبِهِ.
يُروى أنهُ كانَ عِندَ يونس بن عُبيد حِلل، أي ثياب مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلّةٍ منها أربعمئة.. نوع..، وضربٌ كل حلةٍ قيمتها مئتان، فمرَّ إلى الصلاة، وكلّفَ ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلبَ حُلةً بأربعمئة فعَرَضَ عليه من حُلَلِ المئتين فاستحسنها، ورضيها فاشتراها، فمضى بها وهي على يديه فاستقبله يونس فَعَرَفَ حُلتَهُ، فقال يا أعرابي: بكم اشتريتها؟ قال: بأربعمئة، قال: إنها لا تُساوي أكثر من مئتين، فارجع حتى ترُدّها، قال: هذه تُساوي في بلدِنا خمسمئة، وأنا أردتها، قال له يونس: انصرف فإنَّ النُصحَ في الدين خيرٌ من الدُنيا وما فيها، ثمَّ ردّه إلى الدُكان، وردَّ عليه مئتي درهم، وخاصمَ ابن أخيه في ذلك وقال: أما استحييت؟ أما اتقيت الله؟ تربحُ مِثلَ الثمنِ وتترُكُ النُصحَ للمسلمين؟ فقال: واللهِ ما أخذها إلا وهو راضٍ بِها، فقال: هلاّ رضيت له بما ترضاه لنفسِك؟ وهل رضيت بذلك؟ وهذا إن كان فيه إخفاءُ سعرٍ، وتلبيس فهو من باب الضُر، لكن شاهدها ليس هناك كذب، ولا تدليس، ولا إخفاء عيب، وارتضى أن يدفع ثمنها أربعمئة، طبعاً فيها إنصاف، ولكن ليس فيها إحسان، فهذا البائع ورع فردَّ فرقَ ثمن البضاعة.
قال عليه الصلاة والسلام:
(( غبنُ المسترسلِ رِبا، غبن المسترسلِ حرام ))
المسترسل أي الغشيم، فأحياناً تشعر المشتري أنه لا يعرف السعر، فتُريه بثلاثين، فهذا مثلاً قماش وطني سعر المتر سبع ليرات، وهذا قماش أجنبي سعر المتر خمس عشرة.. يقول لكَ: أي القماش بسعر سبع ليرات؟ وهو لا يعرف أن يُميّز.
غبنُ المسترسلِ رِبا :
حدثني أشخاص يبيعون، مثلاً يعرِض ثوب قماش فيقال له: عندك أفضل؟ فيجيبه: طبعاً ولكن بسعر أعلى، فيوافق، فيذهب ويُحضر القماش وهو القماش نفسه، والخام نفسه، والمعمل نفسه، فيمدّهُ بأصول، فيُريه أنَّ هذا غير ذاك، ويأخذ زيادة.
حدثني شخص: الثوب طرفه على الطاولة، والثوب في الأرض، فسأله المشتري هل عندك أفضل؟ فيقول: نعم.. فمدَّ الثوب نفسه لكن من الجهة الأخرى، فمدّه على الأرض، وأعطاه الطرف الآخر، وقال له: هذا نوع آخر، قال عليه الصلاة والسلام:
(( غبنُ المسترسلِ رِبا، غبن المسترسلِ حرام ))
والسريّ الثقفي اشترى حاجةً بستين ديناراً، وكتَبَ في دفترهِ " رِبحُها ثلاثةُ دنانير "، وكأنهُ رأى أن يربح على العشرة نِصفَ دينار، فصارت هذه السلعة بتسعين، فأتاه الدلال، وطَلَبَ الحاجة، فقال: خُذها، قال: بكم؟ قال: بثلاثٍ وستين، فقال الدلال وكان من الصالحين: إنَّ هذهِ الحاجة ثمنُها تسعون!؟ فقال السِرّي: قد عقدتُ عقداً لا أُحلُّهُ، ولستُ أبيعُها إلا بثلاثةٍ وستين، فقال الدلال: وأنا عقدتُ بيني وبينَ اللهِ ألا أغُشَّ مسلماً، ولستُ آخذُ منكَ إلا بتسعين، فقالَ: وأنا لا أقبلُ إلا ثلاثة وستين... فتشاجرا... وهذا محضُ الإحسانِ من الجانبين.. هكذا كان السلف الصالح.
وأحد الأشخاص أرسل ابنه ليشتري حاجةً، فقال له: يا ولدي، هذا الذي باعكَ إيّاها لا يعرف السعر، عُدْ وقُلْ له: يقول لكَ والدي: هذه في السوق أصبح ثمنها كذا، فذهب الابن للبائع، وقال له: والدي لم يقبل، قال البائع: لماذا!؟ سعرها معقول، فأجاب الابن: لا، ليس لذلك بل لأنَّ ثمنها مرتفع اليوم، فأرادَ أن يُعطيك فرق الثمن، فسأله البائع: والِدُكَ أمركَ بذلك!؟ فأجابه الولد: نعم، فقال له البائع: باركَ الله بكَ وبهذا الأب، أنا بِعتُكَ بهذا السِعر ولن أرجع.
فعندما يطمع الإنسان في أموال الناس يخسر.
من قَنِعَ بربحٍ قليل كثُرت معاملاتُهُ :
الآن إذا لم يعرف الإنسانُ السعرَ فسوف يُفلّس، وتجد أنَّ الناس قد تهافتت عليه، واشتروا ما عنده، ولم يبقَ شيءٌ، وقاموا بتخزين ما اشتروه، ثم باعوه، ولذلك في الأزمات الشديدة هناك تُجّار مسلمون لا يبيعون إلاّ للمستهلك.
تُروى قصص قد تكون رمزية: شخص ترك ثروة طائلة لابنه، وقال له: خذ بمشورة عمك، فاستشار عمه فأشار عليه بأخذ القمح، فاشترى أطنانًا من القمح وحصلت مجاعة، اشترى بعشر ليرات، وقد دفعوا له إحدى عشرة، فأشار عمه بأن لا يبيع، باثنتي عشرة، و لا بثلاث عشرة، و لا بخمس عشرة، و لا بعشرين، لا تبع، فصار هناك ربح مُغرٍ، حيث إنَّ الربح بالمئة مئة، وبعد ارتفاع السعر إلى أقصى حد قال له: كم السعر الآن؟ فقال عشر، فقال: الآن تبيع بإحدى عشرة، وكيلو كيلو،... فهذه قصة رمزية... ليس من المعقول أن يكون عمه نصوحًا لهذه الدرجة!؟ حيثُ دُفِعَ خمسٌ وعشرون فقال له: بِعْ بإحدى عشرة، وكيلو كيلو، لكي تحُل مشاكل الناس ، فأراد ألا يُخالف نصيحة عمه، وباع الكيلو بإحدى عشرة - هذه القصة رمزية - فأحصى النقود مثلاً باع طنين بسعر الكيلو إحدى عشرة ليرة فالسعر معروف، لكن النقود كانت مضاعفة، فعدها مرة ثانية فوجدها ثلاثة أضعاف، والرابعة أربعة أضعاف... فقال له: في كل مرة عددت النقود تزيد، لأنك نويت في هذا البيع قضاء حاجة المسلمين... أين هؤلاء الأشخاص !؟
إن أطيب الكسب كسب التجار، الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا، السلف الصالح كان أحدهم في عمله التجاري في مُتعة بالغة، متعة الإحسان، حيث إنه يجلس في المحل التجاري لخدمة المسلمين، الجالب مرزوق، والمُحتكر ملعون، والآن لا يربح إلاّ إذا احتكر الصنف، حصره في نفسه، وأخفاهُ لفترة، وارتفع الثمن، فباعه بسعرٍ باهظ، حيث إنه يشعر بنشوة إذا اختلس من الناس أموالهم بهذا السعر....وقد كانوا قديماً يشعرون بالنشوة إذا يسّروا للناسِ مصالِحهُم.
هناك حديث لا أتصوره:
((التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ))
لأنَّ كُل حياتنا لها علاقة مع التُجار، من السمن إلى الرز، وكذا التعامل مع النجار ومع الحداد... فإذا كان هناك إنصاف دون غش وكذب، وكان السعر معقولاً ورحمة، سوف تُحل مشاكل الناس، أمّا الآن فقد أصبح البيع معركة.
ومن قَنِعَ بربحٍ قليل كثُرت معاملاتُهُ، واستفاد من تكرارِها رِبحاً كثيراً، وهذه تُسمى في اللغة التجارية رأس المال، قَلَبَ مرتين ثلاثًا، وبه تظهر البركة، وكان عليٌ رضي الله عنه يدور في سوق الكوفة بالدُرّةِ ويقول: معاشر التجار خذوا الحقَّ تسلموا لا تردّوا قليل الربح فتُحرموا كثيره.
وقيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما سببُ وثارِكَ - أي غِناك -، قال هن ثلاث: ما رددتُ رِبحاً قط، ولا بِعتُ بنسيئةٍ، ويُقال: إنه باع ألف ناقةٍ فما رَبِحَ إلا عِقالَها، أي الزِمام، فباع كُلَّ عِقال بِدرهم، فَرَبِحَ ألف دِرهم، أي ما بِعتُ ديناً ولا استقللتُ رِبحاً.
2 ـ احتمال الغبن :
الشيء الثاني في الإحسان في البيع والشراء احتمال الغبن: تتحمّل أن تكون مغبونًا، لكن مع فقير، والمشتري إن اشترى طعاماً من ضعيفٍ، أو شيئاً من فقيرٍ فلا بأسَ أن يحتملَ الغبنَ، ويتساهل وبهذا يكون مُحسناً، مثلاً شاهدت طفلاً يبيعك أمشاطًا.. طفل يتيم.. قال لك: هذا المشط بليرتين، وهو بربع الليرة! فإذا أعطيته الليرتين، وأخذت المشط ولو كان في ذلك غبن، فليس شراؤك من باب البيع، بل من باب الإحسان، حيث إنَّ هذا الطفل نفسه كريمة، لم يرضَ أن يمد يده للناس، فأراد أن يبيع أمشاطًا في الطريق، فإذا كان الغبن من فقير وضعيف فلا بأسَ أن تحتملَه، وبهذا تكون محسناً، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى))
فأما إذا اشترى من غنيٍ تاجر يطلب الرِبحَ زيادةً عن حاجتِهِ فاحتمال الغبنِ ليسَ محموداً، بل هو تضييعٌ للمالِ من غير عذرٍ ولا حمدٍ، فإذا اشتريت حاجةً من تاجرٍ غني، ورَفَعَ عليك الثمن، وبقيت ساكتاً، فأنت لستَ مأجورًا، ولستَ محمودًا، فقد وردَ في حديثٍ من طريق أهل البيت:
((المغبون لا محمود ولا مأجور))
وكان إياس بن معاوية، وهو من عقلاء التابعين يقول: " لستُ بخبٍ والخبُ لا يغبِنُني ". والكمالُ ألا تغبِنَ ولا تُغبَنْ، كما وصفَ بعضُهم عمر رضي الله عنه فقال: "كان أكرمَ من أن يَخدع وأعقل من أن يُخدع".
وكان خيارُ السلفِ يستقصون في الشراء، أي يفاصلون، ثم يَهَبُونَ مع ذلك الجزيل، موقف الشراء من فقير فيه رأيٌ آخر، قال لك: ثمن كيلو العنب بثماني عشرة ليرة وهو باثنتي عشرة، فقلت: لا باثنتي عشرة، طلبت منه أربعة كيلو غرام، ثمنهم ثمان و أربعون ليرة، فأعطيته فوقهم خمساً و عشرين له، وهذا أفضل، لأنَّ السعر قُمتَ بتثبيتهِ، ولأنكَ إذا أعطيته الثمن للأربعة مثلاً ثمانون ليرة استمرأ الغبن، والسلف الصالح هكذا يرى، فأنتَ حاسب البائع، وإذا كنت كريماً فهبْ له الزيادة هِبةً، ولا تُعطِه الزيادة ثمناً، لأنك إن أعطيته إياها ثمناً استمرأً ذلك، ورَفَعَ السعر على الفقراء أيضاً.
من حاسب الناس من غير تدقيق كان سبب إفسادهم :
وقد جاء في الأثر: "حاككوا البيع"، أي إذا قال لك شخص: هذا الحِساب، فطلبت منه أن تراه، قد يكون أضاف صفرًا في العشرات، فزاد الحساب مئة ليرة، عندما يرى البائع أنكَ حدّقت في الحساب، وبدأت بالجمع والطرح والتقسيم اجتنب أن يتلاعب، أما إذا قلت له: ما الحساب؟ فأجابك: مئتان و خمسون، قلت له: تفضل، وإذا ضاقت بالبائع الدنيا فقد يضيف خمسين ويقول: إنك لا تُدقق.
قال لي تاجر يملك معمل موبيليا، يتصلون به فرضاً أنْ أرسل لنا مئة متر من الخام، فيرسل ويضعها في المستودع... أرسل كذا.... والذين يُحضرون البضاعة شعروا أنَّ الذي يستلم لا يقوم بعملية العدّ، فأصبح يأخذ نصف البضاعة إلى بيته، ويُسلّمه على أنَّ البضاعة كاملة، فعدّ البضاعة من الدين، يعدّ البضاعة ويحرر إيصالاً.. هذه من الدين.. هذا الذي أرشد الصانع على أن يسحب نصف البضاعة خلال شهرين، والتاجر أجرى جرداً ووجد هناك تراجعاً حيث يدفع ثمن البضاعة أربعة أضعاف، وهي الربع بالتقريب، فأصبح هناك تراجع في بيعه وشرائه، وكشف الحادثة بعد عام، وبعد أن سرقوا منه مبالغ طائلة، ومن الناحية الشرعية فإنّ التاجر مُحاسب عنهم، حيث إنه أغراهم بهذا العمل.. قُم بعدّ المبلغ، واستلم بالعدد، ووقّع وحرر إيصالاً وسلّم... فهذا هو الشرع، أما من ناحية المباهاة ، ضع " استلمنا فقط " ما هذه!؟ وأيضاً إذا حاسبت الناس من غير تدقيق أمكنهم ذلك أن يتلاعبوا فتكون أنت سبب إفسادهم، وحملِهم على الفساد.
بطولة الإنسان في العطاء :
قيل لبعضهم: تستقصي في شرائِك على الوثير ثم تهب الكثير، ما هذا التناقض!؟ " ولا تُبالي!!؟ فقال: إنَّ الواهب يُعطي فضله، وأمّا المغبون فيغبن عقله، فإذا قام شخص بغبنك، أي إنه استغفِلك، فالمغبون يغبن عقله أمّا الواهب فيُعطي فضله.
تُروى قصة على سبيل المثال أنَّ فقيرًا جاء النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث به إلى أحد الصحابة الميسورين، وذهب إليه فإذا به يأخذ حبَّ البُرِّ من أرضِهِ، فلم يدعُهُ، وفكر في نفسه أنَّ هذا الإنسان ليس من المعقول أن يُعطي، لأنه يأخذ حبَّ القمح من الأرض... فهذا إنسان بخيل.. فلما عاد إلى النبي قال له: رأيته يفعل كذا وكذا، قال له اذهب فاسأله، فذهب إليه فوجده ليس في وضع الذي يُعطي، لأنه حريص على المال حِرصًا بالغًا فلم يسأله، وفي المرة الثالثة قال له: بعثني رسول الله لكي تعطيني مما أعطاك الله شيئاً، فأخذه إلى مكان الإبل، وقال له: انتقِ أحد هذه الإبل وخذها، فانتقى أكبرها، فلما أخذها تبِعَها عشر أخر، فقال خذها كلها، قال: عجبت لأمرك تجمع البُرّ وتُعطي هذا العطاء!؟ فقال له: نجمع هكذا لِننفق هكذا... وإذا كان الإنسان حريصًا في مصروفه فهذا ليس بُخلاً، ولكن البطولة في العطاء، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( من أدى زكاة ماله فقد وقي شح نفسه ))
بقي علينا استيفاء الثمن، وتوفية الدين، وأن يقبل الإقالة من العقد.. وهي ستة آداب تتعلق بالإحسان في البيع والشراء، وقد تحدثنا عن نوعين من هذه الآداب.
* * *
من شمائل النبي عليه الصلاة والسلام مهابته العظيمة وفخامته الكريمة :
والآن إلى بعض شمائل النبي عليه الصلاة والسلام: مهابته العظيمة وفخامته الكريمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم المهابة، وقد توّجه الله تعالى تاج العِزة والكرامة، وكفاه حلّة الفخامة، روى الترمذي وغيره عن أبي هالة يصف النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((عن الحسن بن علي قال: سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي وكان وصافا عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر وأطول من المربوع وأقصر من المشذب..... ))
وقال سيدنا علي رضي الله عنه في وصفه للنبي: "من رآه بديهةً هابه ومن خالفه معرفةً أحبه".
من أول نظرة تهابه، وعلى التعامل تُحب، وهذه صفة النبي عليه الصلاة والسلام، ويجب أن يكون في أتباع النبي شيءٌ من هاتين الصفتين، له هيبته وله محبته.. له هيبته إذا رأيته، وله محبته إذا عاملته، ومن هابَ الله هابَهُ كُلُ شيء، من خاف الله خوّفَ منه كُلَّ شيء، ومن لم يَخف الله خوّفهُ الله من كُلِّ شيء.
وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يستطيعون إمعان النظرِ إليه لقوة مهابتهِ، ومديد وقاره، ومن ثمَّ لم يصفه إلا صغارهُ، فلم يفتهم شكله وعيناه وأذناه ورقبته وخداه.. إلا صغاره.. أما كبار الصحابة لشدة هيبته فكانوا إذا جلسوا في مجلسه كأنَّ على رؤوسهم الطير:
يُغضي حياءً ويُغضَى من مهابتِهِ فلا يُكلّم إلا حين يبتســــم
***
وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبةً طويلة، وسمعتُ منه أحاديثَ كثيرة، وحَفِظتُ عنه ألفَ مثل، ومع ذلك ما ملأتُ منه عيني قط حياءً منه وتعظيماً له ولو قيلَ لي صِفهُ لما قدرت".
قوة مهابتهِ ومديد وقاره :
ومن عظيم مهابتِهِ وكمال قدرِهِ أنه من جلس إليه صلى الله عليه وسلم هابَهُ، وربما أخذته رِعدةٌ شديدة من قوة الهيبة المحمدية، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يُباسِطهم ويُلاطفهم ليُسكّنَ روعهم.
((عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ))
تجد شخصًا أحاط نفسه بكل مظاهر العظمة، ومع ذلك تدخل عليه فلا ترتعد منه، هذه المهابة من الله عزّ وجل، فلمّا هوّن عليه نَطَقَ هذا الرجل بحاجتهِ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا أيها الناس إني أُوحي إليّ أن تواضعوا ألا فتواضعوا حتى لا يبغِ أحدٌ على أحد ولا يسخر أحدٌ على أحد وكونوا عباد الله إخواناً.
((عن قيلة بنت مخرمة قالت:... فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق فقال له جليسه يا رسول الله أرعدت المسكينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إليّ وأنا عند ظهره: يا مسكينة عليك السكينة، فلما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أذهب الله عني ما كان دخل في قلبي من الرعب...))
((عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي فَقَالَ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ قَالَ فَقُلْتُ لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا ))
وفي رواية أخرى:
(( قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَقَالَ أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ ))
((عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لَا تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ ))
فيجوز أن تدفع المرأة صدقتها لزوجها إن كان فقيرًا، وهي زوجة ميسورة وزوجها دخله محدود، وزكاة مالِها خمسة أو ستة آلاف، فإذا دفعت هذا المبلغ لزوجِها فلها أجرانِ، لأنَّ أقرب الناس لها زوجها، وعنده كِساء الأولاد في فصل الشتاء، ولا يوجد معه، فقالت له: هذه خمسة آلاف... فإذا قدّمت المرأة لزوجها قسطًا من دخلِهِا أو شيئًا من مالها جاز ذلك، وأحياناً ترِث مالاً من والِدها، فتضعه عند أخيها، وزوجها في أشد الحاجة، ويمكن للأخ أن يقول لها: لم نربح شيئًا، أمّا الزوج بهذا المال فأولى.
فهذا الحديث دقيق جداً: فإذا ورثت امرأة شيئًا وزوجها في حالة عُسر شديد، ورأته كأنه غريب فما هذا الزواج!؟ وما هذه العلاقة الزوجية المتفككة!؟ من أنتِ ومن زوجِكِ.. سيان.. فأحياناً الأب لا يرضى أن يذهب المال للصهر؛ زوج البنت.. لقد ذهب لابنتكَ، أي إذا كان الصهر يسكن في بيت بأجرة، وأحرزت الزوجة مالاً فوضعته مع مال زوجها فأصبحا يمتلكان بيتًا فمن هو هذا الصهر؟ أليس زوج ابنتك!؟، أليس من الأفضل أن يسكنا في منزل ملك لهم!؟ هناك أناس أُفُقهم ضيّق، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لها أجران أجرُ القرابة وأجرُ الصدقة".
لا يجوز للإنسان أن يُعطي الزكاة لمن تجبُ عليه نفقته :
هناك نقطة أخيرة، لا يجوز للإنسان أن يُعطي الزكاة لمن تجبُ عليه نفقته، أي أن يدفع زكاة ماله لابنه في حجره، فهذا لا يجوز.. عليه زكاة مبلغ خمسة آلاف، وابنه ينقصه ثياب للعيد، فدفعها ثمن ثياب لابنه وجميع أولاده، أصبحت الحالة داخلية، والفقهاء قالوا: " لا يجوز إلا في حالةٍ واحدة إذا الابن حصل على وظيفة وتزوّج وصار مستقلاً عن الأب "، أي لم يبقَ على الأب نفقته، والابن اشترى بيتًا فدفع نصف ثمنه، فهل يجوز أن يُعطي الأبُ زكاة مالِهِ لابنه!؟ نقول: يجوز مع التأكيد، لأنَّ هذا الابن مستقلٌ في النفقةِ عن أبيه، وفي الأصل لا يجوز إلاّ إذا استقل في الإنفاق عن أبيه، فيصبح عندئذٍ جائزًا.
والآن حالة مُعاكسة: يجوز أن تُدفع الزكاة للأخت قولاً واحداً، إلا في حالة واحدة؛ إذا كانت الأخت تسكن مع أخيها ويُنفق عليها، فأصبح دفع الزكاة للأخت من توفير النفقات.
والشرع دقيق جداً: الأخت يجوز أن تُعطيها إلا إذا كانت في حِجرِكَ وتُنفِقُ عليها فلا يجوز، والابن لا يجوز أن تُعطيه الزكاة، فإذا كان مستقلاً عنك جاز.
تروي السيرة أنَّ بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام دفع زكاة مالِهِ لأخٍ له ليدفعها عنه، فأتى هذا الصحابي الموكّل بدفع الزكاة ودفع جزءاً من زكاةِ هذا المال لابن هذا الصحابي الذي أعطاه المال، فلمّا بلغه الأمرُ غَضِبَ غضباً شديداً، وتوجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشكو أخاه، كيف يُعطي زكاة مالِهِ لابنهِ المستقل عنه، فلما سَمِعَ النبيُ ما حدث أجازَ الصحابي " لأنه مستقل "، وهنا القصة أصبحت دقيقة: إذا كان ابنك متزوجًا ومستقلاً عنك في النفقة، وليس لك علاقة به فدفعت جزءًا من زكاة مالك له فأتمَّ به ثمن البيت، أو دفع المهر فهذا يجوز، وأباح الفقهاء أن تدفع الزكاة لأختِكَ إلاّ إنْ كانت تقطن في بيتك فلا يجوز، لأنَّ هذا من باب توفير النفقات.