- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (083) سورة المطففين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، في قوله تعالى من سورة المطفِّفين:
﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾
هذه الآيات وآيات أخرى تُبَيِّن أنَّ سلوك الإنسان له علاقة بِهِدايته فَكُلَّما كنت أقرب إلى الاسْتِقامة كنت أقرب إلى الهُدى والدليل كما قلتُ في درْس سابق قال تعالى:
﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ(198)﴾
إنسان فارِسِيٌّ وأعْجمي لو نزل هذا القرآن عليه، وجاء هذا الأعْجمي إلى مكَّة المكَرَّمة وقرأ عليهم القرآن بِلُغَة فارِس ما كانوا به مؤمنين وأنت الآن لو ذَهَبْت إلى تركيا أو إلى بلاد فارس، لا تفْهم ولا كلمة لذلك قال تعالى:
﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ(198)﴾
الإنسان حينما يعْصي وينْحرف ويخطأ، وينتهِك حرمات الله عز وجل يُصْبح على عَيْنه غِشاوة، وفي آذانِه وقْر، قال تعالى:
﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)﴾
وهذه الآية تُؤكِّد المعنى نفْسه ؛ قال تعالى:
﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ(88)﴾
القلب المُغَلَّف الذي لا يعي الخير أساسه سُلوك منحرف، آية أخرى وهي قوله تعالى:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)﴾
وقال تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾
هناك طريقان لا ثالث لهما فإن لم تكن على أحدهما فأنت على الآخر حتْماً قال تعالى::
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾
هناك طريق الاسْتِجابة وطريق الهوى، وطريق العقْل وطريق الشَّهوة طريق الدنيا وطريق الآخرة، وطريق الخير وطريق الشر، وطريق القرب من الله وطريق البعد عنه، وطريق المعْصِيَة وطريق الطاعة وطريق الإنصاف وطريق الظلْم، قال تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾
لذلك كلَّما كنت مُسْتقيماً كانت أُذنك واعِيَةً، وكلَّما كان المرء منْحرفاً كانت أُذُنه صَمَّاء عن سماع الحق، لذلك قد تعجب من الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام، ألم يرَوا فَصاحته ؟ ألم يرَوا كماله ورحْمته وعطْفه ؟ ألم يرَوا لطْفه ؟ ومع ذلك تَمَنَّوا أن يقْتلوه، والذين ابْتعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلَّم زَمَنِيًّا واسْتقاموا على أمْره إذا زاروا مقامه يبْكون ! ما هذه المُفارقة ؟ كلّما كنت أقْرب إلى الاسْتِقامة كلَّما كنت أقرب إلى الهدى، قال تعالى:
﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾
أيها الإخوة، هناك أمراض لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، وهناك مصائِب لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، مصائب تُصيب الإنسان ؛ تُصيب أهْله وأولاده، مصائب تُصيب ماله، يفقِدُ الإنسان بعض أحْبابه، ويخْسر الإنسان ماله كلَّهُ يُعْلِنُ إفْلاسه ويُصاب بِمَرض عُضال، إذا سألْتني ؛ ما هي أكبر مُصيبة على الإطْلاق تُصيب الإنسان في دُنْياه وآخرته ؟ هي هذه الآية الكريمة:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
كُلُّ السعادة في القُرْب من الله والنَّظر إلى وجْهه الكريم، هؤلاء الكافرون المُنْحرفون مَحْجوبون عن ربِّهم في الدنيا، قد تُؤْتى المال كُلَّه وقد تُؤتى أعلى منْصب وأجْمل زوْجةٍ وأجْمل بيْت، إلا أنَّك إذا كنت محْجوباً عن الله فأنت أشْقى الأشْقِياء، وقد تكون فقيراً وقد تكون مريضاً ومُضْطهَداً ومُعَذَّباً، وقد تكون مَحْروماً إلا أنَّه إذا تجلى الله تعالى على قلبك فأنت أسْعد الناس يا داود مرِضْتُ فلم تَعُدْني ! قال: كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين ؟! قال: مرِضَ عبدي فُلان ولم تَعُده ألم تعلم أنَّك لو عُدْته لوَجَدْتني عنده، أنا أخذْت منه صِحَّته إلا أنَّني عَوَّضْتُ عليه قرْباً وتَجَلِيًّا ونوراً وطمأنينةً وأمْناً وسلاماً، لذلك لِيَكُن نصيبك من الله تعالى رحْمته والإقبال عليه وأن يُلقي عليك من أنواره وأن يُطمئِنَ قلبك، قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)﴾
نعيم القُرْب، ونعيم الجنات التي تجْري من تحْتِها الأنهار، ونعيم الحور العين، ونعيم رِضْوان الله عز وجل، ونعيم النظر لِوَجه الله الكريم، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)﴾
فَمِن شِدَّة النعيم والسرور والطمأنينة، وجْهه مُتألِّق، والإنسان أحْياناً في الدنيا يُوَفَّق بِتِجارة أو شهادة أو مَنْصب أو عمل أو بِصِحَّة فإذا بك تجده مُتألِّق في وجهه.
قال تعالى:
﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
سَأُصَوِّر لك سِباق والطريق طويل جداً، وهناك ألف سيارة من أحْدث الماركات ! ومن أعلى المُحَرِّكات، وبِأمْهر السائِقين، فإذا بآخر الطريق مغارة، فلما تصل السيارة الأولى تسْقط، وكذا الثانِيَة، فهل يَهُمُّنا أن نعرف الأوَّل والآخر ؟ كُلُّكم سَيَموتون، وموتهم مُحَقَّق والكُلّ دمار، فهكذا سِباق الدنيا، فقير مات وغنِيّ مات، وكذا القويّ والضعيف، والصحيح والسقيم، والوسيم والذميم ؛ سِباق مُضْحِك وهذا تنافس أحْمق، وهو التنافس على الدنيا، أما الله عز وجل قال:
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
تنافس في معرفة الله، وتنافس في الآخرة، وفي الإنفاق والدعوة إلى الله، وفي رِعاية الصِّغار، فهذا هو التنافس المعقول لأنّ فيه جوائز أعدَّها الله للمؤمنين، فالله تعالى يقول:
﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
وهناك آية أخرى:
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61)﴾
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)﴾
دَعَوْهُ لفندق خمس نجمات فأبى أن يُلبِّي ! يقولون عنه: مجنون ويستهزئون به، والآخرين يقولون: لا يزال من الذين يُحَجِّبون أزواجهم ؛ لن نأكلها له ! ثمَّ قال تعالى:
﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)﴾
لا يعيش في عصْره ومُتخَلِّف ومُتَزَمِّت، ومُتَقَوْقِع وانْعِزالي، تفكيره ثمَّ قال تعالى:
﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)﴾
البطولة في آخر المطاف، فالبطولة أن تكون آخر الضاحكين، فالله تعالى قال:
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)﴾