- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (068) سورة القلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام مع الآيات الثانية والثالثة والرابعة من سورة القلم وهي قوله تعالى:
﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
مرَّ النبي عليه الصلاة والسلام مع أصْحابه فرأَوا مجْنوناً فسألهم وهو سيِّد المُربين وهو العارف قال: من هذا ؟ قالوا هذا مجْنون فقال: لا هذا مُبتلى المجنون من عصى الله ومرَّةً دخل إلى المسجد فرأى فيه نسَّابة تحلَّق الناس حوْلها فقال: من هذا وهو يعلمه ؟ سؤال العارف فقالوا: هذا نسَّابة فقال: ذاك عِلمٌ لا ينْفع من تعلَّمه ولا يضرّ من جهل به وكان عليه الصلاة والسلام يدْعو ويقول: اللهم إنا نعوذ بك من علمٍ لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن عينٍ لا تدمع ومن أذنٍ لا تسْمع وفي رواية ومن نفْس لا تشْبع ففي الحياة هناك العاقل والذكي وكلّ إنسانٍ أتقن اختصاص وتفوَّق فيه في الزراعة أو التجارة أو الصناعة وفي العلوم المجردة وفي الجامعة ونال درجة بورد - طبعاً هذا ذكيّ ولكن ليس كلّ ذكي عاقل فالعاقل من عرف الله والعاقل من أدرك الكُلِّيات ومن أدرك الحقائق الكبرى والعاقل من عرف سِرَّ وُجوده وغاية وُجوده وبحث عن منهج ربه وتعْليمات الصانع واسْتقام على أمره وأعدّ للقاء الله عز وجل وهيَّأ في قبْره روْضةً من رياض الجنّة فالعاقل تعلَّق بالحياة الأبديَّة ويسْعى لِجَنَّةٍ عرْضها السماوات والأرض فكُلما بحثْت عن الحقيقة وتعرَّفْت إلى الله وكلَّما بحَثْتَ عن دار الخلود وكنت عبْداً لله وأوْقَعْتَ حركاتك وسكناتك وِفق منهج الله كنت عاقِلاً أما إذا تَفَوَّقْت في اخْتِصاصك أو كسْب المال والاسْتِحْواذ على اهْتِمام الناس كان ذلك ذكاء وليس عقْلاً لذلك قد تُتَّهَم بين الغافلين أنَّك مجنون والحقيقة أنهم هم المجانين لماذا ؟ لأن الله تعالى قال:
﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)﴾
فالكفار كانوا في الدنيا يضْحكون قال تعالى
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)﴾
من هو الذي يضْحك آخر الأمر ؟ ومن هو الذي له العاقبة ؟ الله عز وجل قال:
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾
كلمة مُختصرة فالأمور تتحرَّك يسْعد أُناس يهبط أُناس ويشْقى أُناس والأمور تتداول بين جِهاتٍ كثيرة أما أنها لا تسْتقِرّ إلا على نُصرة المؤمن قال تعالى
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)﴾
والتاريخ أمامك قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)﴾
هم في مزْبلة التاريخ والذين ناهضوا الحق هم في الأذلين: سبحانك إنه لا يذل من واليْت ولا يعزّ من عاديْت لذلك:
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾
علاقتنا بالآية: بدأ الدين غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء فَمِن علامة إيمانك أنك تشْعر بالغربة حتى من أقرب الناس إليك والناس دينهم الدرهم والدينار وهَمُّهُم بطونهم وهمُّهُم فروجُهم أما من أصبح وكان أكبر همِّهِ الآخرة هذا إنسانٌ آخر ؛ جعل الله غِناهُ في قلْبه وجمع عليه شمْله وأتَتْهُ الدنيا وهي راغمة ومن أصبح وأكبر همِّه الدنيا جعل الله فقْره بين عيْنَيْه وشَتَّتَ عليه شمْله ولم يُؤْتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّر له ؛ الذين همُّهُم بطونهم وقِبْلَتُهُم نِساؤهم ويسْعَوْن إلى حُطام فانٍ هؤلاء ليْسوا عُقلاء وقد يكونوا أذكياء فالعِبْرة في النهاية والمصير فإذا عِشْتَ في مُجْتمعٍ مُتَفَلِّتْ وشعَرْت بالغُربة هذا الشعور صِحي ؛ بدأ الدين غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء لو أنَّ أحداً فوَّتَ مائة ألف أو مليون لأنهم فيهم شبهة ألا يُتَّهم أنه مجْنون لِشُبْهةٍ بسيطة فوَّتَ عليه هذا الربح الكبير ورضي بِدَخْلٍ يسير حلال فهذا عند الناس مجنون أما عند الله فهو عاقل، ذكر لنا أحد إخْواننا يعْمل في القضاء أنه سأله شخصٌ: ما حلّ هذه القضِيَّة ؟ فقال له هذه القضيَّة لا تحْتاج إلا إلى اسْتدعاء فقط فسأل مُحامي آخر لا يعرف الله فقال له: هذا غَلْطان ولا يعْرف شيء وقال له: هذه عليها مسْؤولية وخَوَّفَهُ وقال له هذه عليها مسْؤولية وأخذ منه عشرين ألف أتْعاب مُقدَّمة وما اكْتفى بِهذا فقط بل اتَّهم الأول بأنه لا يفْقه شيء وطعنه بِكَلمة كبيرة فهذا الأخ المحامي جاء مُتألِّم وقال لي: قد نصَحْتُه وقلت له هذه القضيَّة لا تحْتاج إلا إلى اسْتدعاء فقط لأنّها لا تحتاج لِمُحامي أصْلاً ولا إلى تَوْكيل أما الثاني فأقْنعه أنَّ قضِيَّته خطيرة وأخذ منه عشرين ألف واتَّهم زميله أنَّهُ حمار فَقُلتُ له: هذه الكلمة التي قالها عنك هي وِسام شرف يوم القِيامة فالعِبْرة أنْ تُرضِيَ الله لا أن تُرضِيَ العبيد هناك حديث شريف: حَدَّثَنَا
((أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ ))
من المعاني الدقيقة لِهذا الحديث: إذا لم تسْتحِ من الله فاصْنع ما تشاء ولا تعْبأ بِقَول الناس فالإنسان إذا اسْتقام وأدى الحقوق لأصْحابها وأعطى كلّ ذي حقٍّ حقَّهُ يُتَّهَمُ عند المُتَفَلِّتين أنَّهُ مجْنون ؛ لِماذا أثبت الله عزّ وجل تُهْمة الجنون بالنبي صلى الله عليه وسلّم قالوا عنه مجنون والله تعالى أثْبتها في القرآن يُتْلى إلى يوم القيامة كلُّ هذا من أجل أنَّك بعد ألف سنة إذا اسْتَقَمْت وعارضك المُعارِضون وتقَوَّلوا عنك لا تتأثر لأنه قيل هذا فيمن هو أفضل منك قال تعالى:" ما أنت بنعمة ربك بمجنون " فَيَجِب عليك أن تكون واثِقاً من اتِّجاهِك فأنت تُرْضي الله ولو تكلَّم عنك الناس ما تكلَّموا ولو اتَّهموك فما دُمْتَ مع الله فلا تعْبأ بِأَحد ؛
﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)﴾
فالله جلّ جلاله هو الحق ولا يُحِقّ إلا الحق في النهاية فقوْله تعالى: ما أنت بنعمة ربك بمجنون " هذه تُغَطي أيَّة تُهْمة يُتَّهم بها الإنسان المسْتقيم من قِبَل المُنْحرفين قال تعالى:
﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)﴾
أجور الدنيا محْدودة ولو كان معك ألف ملْيون ماذا تسْتطيع أنْ تأكل ؟ وَجْبة مُعْتدلة وماذا تسْتطيع أنْ تلْبس ؟ بدْلة واحدة وكم من غُرْفة تنام فيها ؟ واحدة وكم من سرير ؟ واحد، أما عطاء الآخرة فما له حدود فالدنيا محْدودة والزمن ليس بِصالِح الإنسان وكلُّ ما تقَدَّم به السِّن تُصبح إمكانِيَة اسْتِمْتاعه بالدنيا محْدودة فالأكل يُصبح ممنوعاً عنه جُزئِياً ؛ هذه لا آكُلها لأنها تزيد من الكُولِسْتِرول والأشياء المُحَبَّبة ممنوع أكْلها فهذه هي الدنيا أما بالآخرة:" قال تعالى:
﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)﴾
والله عز وجل قال:
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾
وقال تعالى
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم هذه الآية تحْتاج إلى درسٍ كامِلٍ غداً إن شاء الله