وضع داكن
13-12-2025
Logo
الخطبة : 1084 - خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى :

الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمَن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أُذُنٌ بخبر.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومَن والاه ومن تبعه  إلى يوم الدين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات. 

الله عزَّ وجل أعطى النبي كل وسائل الدعوة و لكنه أثنى بشكلٍ أساسي على خُلُقه:


أيُّها الإخوة الكرام: الله عزَّ وجل أرسل هذا النبي العظيم:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)﴾

[ سورة الأحزاب ]

وقد أعطاه كل وسائل الدعوة، أعطاه فصاحةً ما بعدها فصاحة، أعطاه ذاكرةً:

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ (6)﴾

[  سورة الأعلى  ]

أعطاه حكمةً، أعطاه رحمةً، أعطاه ما أعطاه، لكن لمّا أراد الله أن يُثني عليه بماذا أثنى عليه؟ بخُلُقه، لأنَّ خُلُقه من كسبِه، تماماً كما لو أنك منحت ابنك مركبة، لا يُعقل أن تُقيم له حفل تكريمٍ لاقتنائه هذه المركبة، هي منك! أمّا إذا نال الدرجة الأولى في الامتحان، تُقيم له حفل تكريم، فالمركبة ليست من كسبه بل هبةٌ منك، بينما تفوُّقه في الدراسة من كسبه، لذلك حينما أثنى الله عليه، أثنى على خُلُقه فقال: 

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم  ]


القيم الأخلاقية التي جاء بها السلف الصالح متألقة تفوق أي إنجاز علمي:


أيُّها الإخوة: مع التقدُّم المُذهِل في العلوم، والتقنيات، والأجهزة، والاتصالات، شيءٌ لا يُصدَّق، ومع ذلك تبقى القيَم الأخلاقية التي جاء بها السلف الصالح، متألقةً تفوق أي إنجازٍ علمي، نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخُطبة عن طريق قصصٍ ثلاث.
الحقيقة كما قالوا: القصة حقيقةٌ مع البرهان عليها، حقيقةٌ ليست مُجرَّدة، ليست طائرةً في الهواء، مُجسدة بإنسان، لذلك قالوا: "الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي" .

(( سُئِلَتْ عائِشةُ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ: كان خُلُقُه القُرآنَ ))

[ أخرجه أحمد ]

الآن وازن بين نبي هذه الأمة، ورسول هذه الأمة، سيد الأنبياء والمرسلين، الإنسان الأول الذي أقسم الله بعمره الثمين، وما خاطبه باسمه على خلاف بقية الأنبياء، يا يحيى، يا عيسى، يا موسى، يا أيُّها النبي، يا أيُّها الرسول، هذا البون الشاسع بين سيد الأنبياء والمرسلين الذي بَلَغ سدرة المُنتهى، وبين شابٍ فقيرٍ اسمه جابر.

قصة النبي عليه الصلاة والسلام  مع جابر بن عبد الله:


القصة الأولى قصة هذا الصحابي الجليل الشاب، الذي استُشهد أبوه في أُحُد، وخرج مع النبي في غزوةٍ اسمها غزوة ذات الرقاع.

(( عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ قال خرجتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى غزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ من نخلٍ على جملٍ لي ضعيفٍ فلما قفل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جعلتِ الرِّفاقُ تمضي وجعلتُ أتخلَّفُ حتى أدركني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال مالكَ يا جابرُ قلتُ يا رسولَ اللهِ أبطأَ بي جمَلي هذا قال أَنِخْه قال فأَنَخْتُه وأناخ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثم قال أعطِني هذه العصا من يدِك أو اقطع عصا من الشجرةِ ففعلتُ فأخذها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فنخَسه بها نخَساتٍ ثم قال اركبْ فركبتُ فخرج والذي بعثَه بالحقِّ يُواهقُ ناقتَه مواهقةً قال وتحدَّثتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال أَتبيعُني جملَك هذا يا جابرُ قال قلتُ بل أهبُه لك قال لا ولكن بِعْنيه قال قلتُ فسُمْنيه قال قد أخذتُه بدرهمٍ قال قلت لا إذا تُغْبِنُني يا رسولَ اللهِ قال فبدرهمَينِ قال قلتُ لا قال فلم يزل يرفع لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتى بلغ الأُوقيَّةَ قال فقلتُ أفقد رضيتَ قال نعم قلتُ فهو لك قال قد أخذتُه ثم قال يا جابرُ هل تزوجتَ بعدُ قال قلتُ نعم يا رسولَ اللهِ قال أَثَيِّبًا أم بكرًا قال قلتُ بل ثيبًا قال أفلا جاريةٌ تلاعبُها وتلاعبُك قال قلتُ يا رسولَ اللهِ إنَّ أبي أصيبَ يومَ أحُدٍ وترك بناتٍ له سبعًا فنكحتُ امرأةً جامعةً تجمع رؤوسَهن فتقوم عليهنَّ قال أصبتَ إن شاء اللهُ أما إنا لو جئنا صرارًا أمرْنا بجزورٍ فنحرتَ فأقمْنا عليها يومَنا ذلك وسمعتْ بنا فنفضتْ نمارقَها قال فقلتُ واللهِ يا رسولَ الله مالنا نمارقُ قال إنها ستكون فإذا أنت قدمتَ فاعمل عملًا كَيْسًا قال فلما جئنا صرارًا أمر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بجزورٍ ونحرتُ فأقمْنا عليها ذلك اليومَ فلما أمسى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دخل ودخلنا قال فحدثتُ المرأةَ الحديثَ وما قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالت فدونَك فسمعٌ وطاعةٌ فلما أصبحتُ أخذتُ برأسِ الجملِ فأقبلتُ به حتى أنختُه على بابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثم جلستُ في المسجدِ قريبًا منه قال وخرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فرأى الجملَ فقال ما هذا قالوا يا رسولَ اللهِ هذا جملٌ جاء به جابرٌ قال فأين جابرٌ فدُعِيتُ له قال فقال يا ابنَ أخي خُذْ برأسِ جملِك فهو لك قال ودعا بلالًا فقال اذهب بجابرٍ فأعطِه أوقيةً قال فذهبتُ معه فأعطاني أوقيةً وزادني شيئًا يسيرًا قال فواللهِ ما زال يُنمي عندي ويرى مكانه من بيننا حتى أصيبَ أمسُ فيما أصيب لنا يعني يومَ الحَرَّةِ))

[ أخرجه البخاري وأحمد ]

 كان يتخلَّف عن الجيش ليرى المُقصّرين الذين يحتاجون إلى مساعدة، هو سيد الخلق هو قائدهم! ألا تذكرون في بدرٍ يوم كان الصحابة ألفاً والرواحل ثلاثمئة: 

((  كنَّا يومَ بَدرٍ كلُّ ثلاثةٍ على بَعيرٍ، كان أبو لُبابةَ وعليُّ بنُ أبي طالبٍ زَمِيلَيْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: وكانتْ عُقْبةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: فقالا نحن نَمشي عنك، فقال: ما أنتما بأقْوَى منِّي، ولا أنا بأغْنَى عن الأَجرِ منكما! ))

[ أخرجه النسائي وأحمد ]

هل رأيتم في العالم قائد جيش، زعيم أُمة، يساوي نفسه مع أقل جندي؟!
أيُّها الإخوة: (حتى أدْرَكَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم فقال: ما لك يا جابِرُ؟) يا جابر باسمه، حينما تهتم بالآخرين تحفظ أسماءهم.
(فقال مالكَ يا جابرُ قلتُ يا رسولَ اللهِ أبطأَ بي جمَلي هذا قال أَنِخْه قال فأَنَخْتُه وأناخ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) الآن القادة العظام لا يتنازل لأن يتكلم مع إنسان، لا يتنازل أن يُقدِّم خدمة لإنسان.
(ثم قال أعطِني هذه العصا من يدِك أو اقطع عصا من الشجرةِ ففعلتُ فأخذها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فنخَسه بها نخَساتٍ ثم قال اركبْ فركبتُ فخرج والذي بعثَه بالحقِّ يُواهقُ ناقتَه مواهقةً قال وتحدَّثتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال أَتبيعُني جملَك هذا يا جابرُ قال قلتُ بل أهبُه لك قال لا ولكن بِعْنيه قال قلتُ فسُمْنيه قال قد أخذتُه بدرهمٍ قال قلت لا إذا تُغْبِنُني يا رسولَ اللهِ) تصوَّر سيد الأمة، زعيم، قائد جيش، نبي، سيد الأنبياء، سيد المرسلين يؤانس جابر، هذه مُداعبة.
(قال قد أخذتُه بدرهمٍ قال قلت لا إذا تُغْبِنُني يا رسولَ اللهِ قال فبدرهمَينِ قال قلتُ لا قال فلم يزل يرفع لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتى بلغ الأُوقيَّةَ قال فقلتُ أفقد رضيتَ قال نعم قلتُ فهو لك قال قد أخذتُه ثم قال يا جابرُ هل تزوجتَ بعدُ) انظر إلى الرحمة.

على الإنسان أن يكون أباً رحيماً لمن حوله تأسّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم:


ليس القصد أن تُلقي خُطبة رائعة، انظُر لهذا الأخ الذي أمامك ما وضعه؟ عنده عمل أم ليس لديه عمل؟ متزوج أم غير متزوج؟ صحته جيدة؟ علاقته مع أهله؟ يجب أن تكون أباً لمَن حولك.
(ثم قال يا جابرُ هل تزوجتَ بعدُ قال قلتُ نعم يا رسولَ اللهِ قال أَثَيِّبًا أم بكرًا قال قلتُ بل ثيبًا) هذا الواقع (قال: أفلا جاريةٌ تلاعبُها وتلاعبُك قال قلتُ يا رسولَ اللهِ إنَّ أبي أصيبَ يومَ أحُدٍ وترك بناتٍ له سبعًا فنكحتُ امرأةً جامعةً تجمع رؤوسَهن فتقوم عليهنَّ قال أصبتَ إن شاء اللهُ) القصة طويلة أنا آخذ مقتطفاتٍ منها.
(فلما أمسى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دخل ودخلنا قال فحدثتُ المرأةَ الحديثَ وما قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالت فدونَك فسمعٌ وطاعةٌ فلما أصبحتُ أخذتُ برأسِ الجملِ فأقبلتُ به حتى أنختُه على بابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثم جلستُ في المسجدِ قريبًا منه قال وخرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فرأى الجملَ فقال ما هذا قالوا يا رسولَ اللهِ هذا جملٌ جاء به جابرٌ قال فأين جابرٌ فدُعِيتُ له قال فقال يا ابنَ أخي خُذْ برأسِ جملِك فهو لك قال ودعا بلالًا فقال اذهب بجابرٍ فأعطِه أوقيةً قال فذهبتُ معه فأعطاني أوقيةً وزادني شيئًا يسيرًا قال فواللهِ ما زال يُنمي عندي ويرى مكانه من بيننا حتى أصيبَ أمسُ فيما أصيب لنا يعني يومَ الحَرَّةِ)
هذه أخلاق النبي الكريم، وما لم تتأسَّ به، وما لم تهتم بمَن حولك، وما لم تحمل همَّ المسلمين، وما لم تتواضع ولو كنت كبيراً، وما لم ترَ أنَّ أقل المؤمنين هو أخوك في الله وله عليك حقوق، ما لم يكن التواصل بيننا، والتعاون والتباذُل، ورد في بعض الآثار القدسية:

(( قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وجبت محبتي للمتحابِّين فيَّ والمتجالسين فيَّ والمتزاورين فيَّ والمتباذلين فيَّ ))

[   أخرجه أحمد ومالك والطبراني ]

(( قال اللهُ عزَّ وجلَّ: المتحابُّونَ في جلالي لهم منابرُ من نورٍ يَغبِطُهم النَّبيونَ والشُّهداءُ ))

[  أخرجه أحمد والترمذي ]

هذه القصة الأولى. 

وقوع ابنة حاتم الطائي أسيرة وعفو النبي الكريم عنها:


أمّا الثانية أيُّها الإخوة: عقِب بعض الغزوات، عُرِض الأسرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بينهم أسيرةٌ يبدو أنها مؤدَّبة، لمّا مرَّ النبي وقفت وقالت: يا رسول الله: <<هَلَكَ الوالد وغاب الوافد فامنُن عليّ مَنَّ الله عليك، وخلِّ عنّي، ولا تُشمت بي أحياء العرب، فإنَّ أبي كان سيد قومه، يفكُّ العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذِّمار، ويُفرِّج عن المكروب، ويُطعِم الطعام، ويُفشي السلام، ويحمل الكلَّ أي الضعيف، ويُعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحدٌ في حاجةٍ فردَّه خائباً، أنا بنت حاتم طيئ>> .
اسمها سفّانة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: <<يا جارية هذه صفات المؤمنين حقاً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: خلّوا عنها فإن أباها كان يُحب مكارم الأخلاق>> ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارحموا عزيز قومٍ ذلّ، وغنيٍّ افتقَر، وعالِماً ضاع بين الجُهّال" .

دعاء سفانة بنت حاتم الطائي للنبي الكريم:


فاستأذَنَته في الدعاء، بأن تدعو له، فقال لأصحابه اسمعوا وعوا، قالت له: أصاب الله ببرك مواقعه، أي عملك الطيب، دعت ربّها أن يأتي في مكانه الصحيح، أحياناً تبذل بذلاً كبيراً لإنسانٍ يكون لئيماً.

أُعَلِّـمُهُ الرِّمَـايةَ كُلَّ يَـومٍ           فَلمَّـا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمانِي

وَكَمْ عَلَّمْتُـهُ نَظْمَ القَوَافي           فَلَـمَّـا قَالَ قَافِيةً هَجـانِي

[ معن بن أوس ]

 <<أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيمٍ حاجة>> .
 ما الذل؟ أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يردُّه، يقول الإمام عليٌّ رضي الله عنه: "والله، والله، مرتين، لحفر بئرين بإبرتين، وكنس أرض الحجاز في يومٍ عاصفٍ بريشتين، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، أهون عليّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء دين" .
ولا جعل لك إلى لئيمٍ حاجة، أصعب شيءٍ أن يحتاج الكريم اللئيم، أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يردُّه، وما أكثر اللؤم في هذه الأيام، وحوش العالَم متوحش الآن، العالَم متطور علمياً وتقنياً، ولكنه متوحش أخلاقياً، والمسلمون على تخلِّفهم وعلى فقرهم عندهم بقية دين، مُتحضّرون بدينهم لكنهم ليسوا كما ينبغي مُتطورون.
ولا جعل لك إلى لئيمٍ حاجة، ولا سلب نعمةً عن كريم قومٍ، إلا جعلك سبباً في ردِّها. 

رجوع سفانة إلى أخيها و إخباره بأمر النبي الكريم:


ورجَعتْ إلى أهلها، وقالت لأخيها عدي الذي فرَّ من رسول الله ونسيها فوقعت أسيرة، قالت: يا أخي ائتِ هذا الرجُل - أي رسول الله - فإني قد رأيت هدياً، وسمتاً، ورأياً، يغلب أهل الغَلَبَة، ورأيت فيه خصالاً تُعجبني، رأيته يُحب الفقير، ويفُك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرِف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، فإنْ يكن نبياً فللسابق فضله، اذهب إليه تغدو أحد أصحابه، وإن يكن مَلِكاً فلا تزال في عزّ مُلكه، أي بكِلا الحالتين إن كان نبياً أنت أحد أصحابه، وإن كان قوياً مَلِكاً أنت أحد أتباعه.

دخول عدي بن حاتم الطائي على الرسول الكريم و الحديث الذي دار بينهما:


قيل وأسلَمَت واستجاب لها أخوها، وقَدِمَ إلى المدينة المنورة وهو يظن أنه سيلقى مَلِكاً فقال: دخلت على محمدٍ وهو في المسجد، فسلَّمت عليه، فقال: مَن الرجُل؟ فقلت: عدي بن حاتم، كان مَلِكاً والنبي صلى الله عليه وسلم يعرِف قدر الكبير، فقام وانطلق بي إلى بيته، عدي بن حاتم لا يزال يتصوَّر أنه مَلِك، فوالله إنه لعامدٌ بي إليه في الطريق، إذ لقيَّته امرأةٌ ضعيفةٌ كبيرة في الطريق فاستوقفته، فوقف طويلاً تُكلِّمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بمَلِك، ما هكذا صفات الملوك، يقف مع امرأةٍ فقيرةٍ ضعيفةٍ في الطريق، يستمع إليها طويلاً!
ثم مضى بي إلى البيت حتى دخله، فتناول وسادةً من أدمٍ جلد محشوةً ليفاً، فقذفها إليَ فقال: اجلس على هذه، لا يوجد طقم كنبات، ولا ثُريات، ولا سجاد! عنده هذه الوسادة، سيد الخلق وحبيب الحق، فإذا إنسان مؤمنٌ إيماناً قوياً ومستقيم، وكان وضعه المادي قليل، فمَن هو أمام رسول الله؟ ما عنده إلا هذه الوسادة، فقال: اجلس على هذه، قلت: بل أنت اجلس عليها، فقال: بل أنت، أنت ضيفي، قال: فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض، ما هذا التواضع؟! ثم قال لي: - الآن دققوا:
كأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا في هذه الأيام - قال له: لعلَّك يا عدي إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من فقرهم، المسلمون أفقر شعوب العالم الآن، مع أنَّ عندهم ثرواتٍ لا يعلمها إلا الله، فوالله يا عدي،  ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، الآن فقراء لكن الله سوف يُغنيهم، ولعلَّه إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوِّهم ، العالَم كله الآن يحارب المسلمين في كل بقاع الأرض، وكأن حرباً عالميةً ثالثة أُعلِنت، بعد الحادي عشر من أيلول على المسلمين، في شتّى بقاع الأرض، وكأنَّ قراراً اتُخِذ بإبادتهم.
ولعلَّه إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين، ما ترى من كثرة عدوِّهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرُج من القادسية على بعيرها، تحجُّ هذا البيت لا تخاف أحداً ، أمنٌ مُستتب في شتّى بقاع ديار المسلمين.
العامل الثالث: ولعلَّه إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين، أنك ترى أنَّ المُلك والسلطان في غيرهم ، يعني حاملات الطائرات ليست ملكنا، والصواريخ العابرة للقارات، والأقمار الصناعية، وسوق البورصة، والأموال الطائلة، والمليارات المُمليَرة، والإعلام، والجيوش، والقنابل النووية، ما عندنا منها شيء.
ولعلَّه إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين، أنك ترى أنَّ المُلك والسلطان في غيرهم، وايمُ الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابلٍ قد فُتحت عليهم .
بشاراتٌ ثلاث، وأنَّ كنوز كسرى قد صارت لهم، قال: فأسلمت.
الآن دققوا: ولقد عُمِّر عديٌ حتى رأى بنفسه هذه البشارات الثلاث، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم. 

﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾

[ سورة النجم ]


قصة الحجاج بن علاطٍ السَلَمي مع النبي الكريم:


القصة الثالثة والأخيرة:
قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر، الحجاج بن علاطٍ السَلَمي، فأسلم، وكان غنياً كثير المال، فقال: يا رسول الله إنَّ مالي عند امرأتي أُم شيبة بمكّة، كان غنياً كثير المال، وماله متفرِّقٌ بين تُجار مكَّة، كلها ديون، فأذَن لي يا رسول الله أن آتي مكَّة لآخذ مالي، قبل أن يعلموا بإسلامي، إذا علموا بإسلامه لا يعطونه شيئاً، التاجر هو التاجر، إذا كان هناك شركة وهناك خلافٌ بين الشريكين، تتوقف أداء الديون.
عندئذٍ لا أقدِر على أن آخذ شيئاً منه، فأذِن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى مكَّة، ليأخُذ أمواله من التُجار، وزوجته في مكَّة، أمّا الإذن الثاني صعبٌ جداً، قال له: يا رسول الله، لابُدَّ من أن أقول - أي أتقوَّل أو أذكُر ما هو خلاف الواقع عنك - حتى أحتال به لأخذ مالي، فقال عليه الصلاة والسلام لرحمته وكماله: قُل ما شئت.

قدوم الحجاج على أهل مكة لأخذ ماله و نجاحه في هذا الأمر و الفرار من قريش:


     استأذنه بالسَفَر، واستأذنه أن يقول عليه كلاماً غير صحيح، قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدِمت مكَّة، وجدت بثنيَّة البيضاء رجالاً من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر، وهي من أقوى قُرى الحجاز، وهُم يتجسَّسون الأخبار من الرُكبان، وكان بينهم تراهنٌ عظيم على مئةُ بعيرٍ، حول من سيغلِب، أهل خيبر أم رسول الله؟
فلمّا رأوا الحجاج ولم يكونوا قد علموا بإسلامه، قالوا: الحجاج والله عنده الخبر اليقين، يا حجاج، إنه قد بلغنا أنَّ القاطع - يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد سار إلى خيبر، فقال الحجاج: عندي من الخبر ما يسرُّكم، قالوا وما الخبر؟ فاجتمعوا عليه يقولون: إيه يا حجاج، فقال الحجاج: لم يلقَ محمدٌ وأصحابه قوماً يُحسنون القتل مثل أهل خيبر، فهُزِم هزيمةً لم يُسمَع بمثلها، وأُسرَ محمد وقالوا: لا نقتله حتى نبعَث فيه إلى مكَّة، فنقتله بين أظهُرِهم، بمَن كان أصاب من رجالهم.
فانطلق هؤلاء الرجال فرحين أشدَّ الفرح إلى أهل مكَّة، فقيل لهم قد جاءكم الخبر، هذا محمد، إنما تنتظرون أن يُقدَم به عليكم ليُقتَل بين أظهُرِكم، ثم قال لهم الحجاج: أعينوني على غُرمائي، الأموال التي عند تُجَّاركم، أُريد أن أقدُم فأُصيب من غنائم محمد ما أُصيب، قبل أن يسبقني التُجار إلى هناك، فجمعوا إلي مالي على أحسن ما يكون، ففشى ذلك بمكَّة، وأظهر المشركون الفرح والسرور، وانكسر من كان بمكَّة من المسلمين، هناك أُناسٌ بمكَّة إسلامهم غير مُعلَن، هؤلاء كُسِروا لمّا علِموا أنَّ النبي قد وقع بالأسر، وسوف يؤتى به ليُقتَل هناك.

إخبار العباس بن عبد المطلب قريشاً بالحقيقة بعد ثلاثة أيام لوعده الحجاج بذلك:


وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب، وكان قد أسلم وبقي عين النبي في مكَّة، فجعل لا يستطيع أن يقوم، من شدة حزنه لهذا الخبر، ثم بعث العباس إلى الحجاج غُلاماً ليقول له: يا حجاج - انظر إلى حسن الظنِّ بالله - قال له: الله أعلى وأجلّ من أن يكون الذي جئت به حقَّاً، فقال الحجاج للغلام: اقرأ على أبي الفضل السلام، وقُل له: يُخلي لي بعض بيوته لآتيه بالخبر الصحيح، واكتُم عنّي، فأقبَل الغُلام فقال: أبشِر أبا الفضل، فوثب العباس فرِحاً كأنه لم يمسَّه شيء، وأخبره بذلك، فأعتقه العباس رضي الله عنه لوجه الله، وقال: لله عليّ عتقُ عشر رقابٍ على هذا الخبر السار.
فلمّا كان الظُهر جاءه الحجاج، فناشد العباس أن يكتُم عنه ثلاثة أيام، وقال: إني أخشى الطلب، فإذا مَضَتْ ثلاثٌ فأظهر أمرَك، وطالت على العباس تلك الأيام الثلاث، عمدَ العباس رضي الله عنه إلى حُلةٍ فلبسها، وتخلَّق بخلوقٍ، أي تطيَّب بعطرٍ، وأخذ بيده قضيباً، ثم أقبَل يخطر حتى أتى مجالس قريش، وهُم يقولون إذا مرَّ بهم: لا يُصيبك إلا الخير يا أبا الفضل، يتألمون إلى ألمه، هذا والله من التجلُّد بعد المصيبة، قال: كلا والله الذي حلفتم به، لم يُصبنِ إلا خيرٌ بحمد الله، أخبرني الحجاج، أنَّ خيبر فتحها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، وجرت فيها سهام الله وسهام رسوله، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت مَلِكهم، وإنما قال لهم ذلك ليُخلِّص ماله منكم، وإلا فهو ممَّن أسلم.
فردَّ الله فرحهم إلى كآبةٍ، فقال المشركون: ألا يا عباد الله، انفلَتَ عدوّ الله منّا - يعنون حجَّاجاً - أما والله لو عَلِمنا لكان لنا وله شأن، ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر الصحيح.

على الإنسان أن يؤدِّب ابنه على أخلاق النبي الكريم:


أرأيتم إلى أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، أيُّ إنسانٍ الآن يسمح لك أن تتكلم كلاماً غير صحيح من أجل مصلحتك؟ قال له: افعل ما شئت، وبهذه الطريقة جمع ماله كله، وعاد إلى مكَّة، وقد أسلم من قبل.
أيُّها الإخوة الكرام: هذه النبوَّة، والحديث عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ يطول، وأنا أتمنى حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( أدِّبوا أولادَكُم على ثَلاثِ خِصالٍ: حُبِّ نَبيِّكُم، وحُبِّ أهلِ بَيتِه،وعَلى قِراءةِ القُرآنِ، فإنَّ حَمَلةَ القُرآنِ في ظِلِّ اللَّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه، مَعَ أنبيائِه وأصفيائِه ))

[  أخرجه السيوطي ]

أتمنَّى أن تَقتنوا كتُباً في السيرة، وأن تجلسوا إلى أولادكم، وتعلموهم من هو رسول الله، من هو هذا النبي الذي بلغ سِدرة المُنتهى، من هذا النبي الذي أقسم الله بعُمره الثمين، من هذا الذي أثنى الله عليه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) هذه أخلاق النبوَّة، ولن نُفلِح ولن ننجح، إلا إذا قلَّدنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأخلاق.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله ربِّ العالمين. 

* * *

الخــطــبـة الثانية :

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

من طبَّق سُنَّة النبي العدنان فهو في مأمنٍ من عذاب الله تعالى:


أيُّها الإخوة الكرام: لا مجال لنصطلح مع الله إلا إذا اتبعنا منهج رسول الله، والآية الدقيقة:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾

[ سورة الأنفال  ]

معنى (وَأَنتَ فِيهِمْ) أي إذا كانت سُنَّتك مُطبَّقةً فيهم فهُم في مأمنٍ من عذاب الله، وكما ترون واقع العالم الإسلامي، الناس جميعاً بكل فئاتهم وشرائحهم يكيدون للمسلمين، ولا يُنجّينا إلا أن نصطلِح مع الله، وإلا أن نعود لمنهج رسول الله، وإلا أن نُطبِّق سُنَّته القولية والعملية، ولا بُدَّ من أن يُحبَّ بعضنا بعضاً، لابُدَّ من التعاون، لا بُدَّ من التناصُر، لا بُدَّ من التناصُح، لا بُدَّ من أن نُفكِّر تفكيراً جدِّياً، كيف نخرُج من عُنق الزجاجة، هكذا كان عليه الصلاة والسلام، هذه أخلاقه، وهذه أخلاق أصحابه، وهذا الذي جاء به هو الحق، وهو بين أيدينا، والكُرة في ملعبنا. 

﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)﴾

[ سورة الأنفال  ]

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد  ]


الدعاء:


اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافِنا فيمَن عافيت، وتولّنا فيمَن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرِف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحقِّ ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلُّ من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربَّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك.
اللهم اعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهِنّا، آثرنا ولا تؤثِر علينا، ارضنا وارضَ عنّا.
أعلِّ بفضلك كلمة الحقِّ والدين، وانصُر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخُذ بيد ولاتهم إلى ما تُحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

الملف مدقق

والحمد لله ربِّ العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور