- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخــطــبـة الأولــى :
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِ وسلم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
مقدمة لأسباب زيادة الرزق :
أيها الإخوة الكرام، لازلنا في سلسلة خطب تتمحور حول الرزق، ولأنّ حرص الإنسان على حياته وعلى رزقه حرص لا حدود له لذلك أردت ـ والله الموفق ـ أن أربط بين طاعة الله واتباع سنة نبيه وبين تطبيق منهجه وتحقيق حاجات الإنسان الأساسية، فحينما يتوجه الدين إلى معالجة مشكلات الإنسان، والإنسان بحسب حرصه على وجوده، وعلى سلامة وجوده، وعلى كمال وجوده، وعلى استمرار وجوده عندئذ يصغي.
أسباب زيادة الرزق :
1 ـ الاستقامة والتقوى:
أيها الإخوة، تقوى الله عز وجل أحد أكبر الأسباب التي تزيد في الرزق:
﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ﴾
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾
ويقاس على هذه الآية ولو أنهم أقاموا القرآن:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾
وفي خطبة سابقة تحدثت عن موانع الرزق، وهي عشرة.
2 ـ صدق التوكل على الله وحسن التسليم له:
واليوم مع سبب آخر يضاف إلى تقوى الله، وهو صدق التوكل عليه وحسن التسليم له.
علاقة التوحيد بالرزق :
الحقيقة الأولى في هذا الموضوع: علاقة التوحيد بالرزق، كلكم يعلم أن الله جل جلاله لحكمة بالغة جعل نظام الكون وفق مبدأ السببية، فجعل لكل نتيجة سبباً، ولكل سبب نتيجة، إلا أن الناس أحياناً بدافع من ضعف توحيدهم يتوهمون أن السبب وحده هو الذي يخلق النتيجة، هذا نوع من أنواع الشرك، لذلك هناك من يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها، وينسى مسبب الأسباب، بل يؤلّه الأسباب كحال أهل الغرب، وهناك من لا يأخذ بها أصلاً كحال أهل الشرق، الغرب حينما أخذ بالأسباب، واعتمد عليها، واكتفى بها، وألّهها، ونسي الله عز وجل وقع في الشرك الأكبر، والشرق حينما لم يأخذ بالأسباب وقع في المعصية، دائماً وأبداً التطرف سهل، كإنسان وقع ابنه في ذنب، أن يضربه ضرباً مبرحاً يتشفى منه القضية سهلة جداً، أيّ أب بعيد عن الدين بعيد عن الحكمة وعن الفهم يفعل هذا، أو يتساهل فلا يحاسبه أبداً، لكن البطولة أن يحبك ابنك بقدر ما يخاف منك، هذا الوضع الوسطي الحكيم يحتاج إلى جهد كبير، فأن نأخذ بالأسباب، وأن نؤلهها، وأن ننسى الله قضية سهلة جداً، كالعالم الغربي، وألا نأخذ بها، ونتواكل على الله بسذاجة ما بعدها سذاجة أيضاً القضية سهلة، لكن الموقف الكامل أن تأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء، هذا الموقف الكامل في طلب الرزق، في النجاح بالعمل، في العناية بالصحة، في تربية الأولاد، أن تأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء.
الصدقة بمنطق الحساب الرياضي والحقيقة الشرعية :
أيها الإخوة، على الإنسان أن يسعى في طلب الرزق، لكن بالتأكيد لو توهم أن هناك أسباباً تجلب له الرزق، ولو أنها تتناقض مع منهج الله وقع في الشرك الأكبر، ووقع في خطأ لا يتصور، لذلك من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى، وأوضح مثل أنك إذا أقرضت قرضاً ربوياً بالحسابات بالآلة الحاسبة وبمنطق الرياضيات يزداد مالك، أقرضت مئة ألف عادت هذه المئة ألف مئة ألف وزيادة بالفائدة، لكن الله عز وجل يقول:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا (276) ﴾
وأنك إذا تصدقت قلّ مالك بالحساب والآلة الحاسبة، ومنطق الرياضيات، صدقة تُنقِص المال، والربا يزيده، أما الواقع فعكس ذلك، الله عز وجل ينمي المال الذي تصدق منه، بل إن الزكاة سميت زكاة من معنى النمو، فالمال ينمو بالزكاة.
(( مَا نَقَّصَ مَالَ عَبْدٍ صَدَقَةٌ ))
(( يا عبدي، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ))
(( أنفق بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا ))
الحسنة بعشرة أمثالها.
واللهِ في هذا المسجد مرة حدثني أخ كريم ميسور توفي ابن عمه الأستاذ الجامعي، فزار أولاده، وقال لهم: دَيْن أبيكم عليّ، لكنه لا يعلم كم الدين، تصور الديون عشرة آلاف إلى عشرين ألفًا، فوجئ أنها ثلاثمئة وثمانون ألفًا فدفعها، لأن وعد الحر دين، وحدثني عن قصته في صحن المسجد، وبكى، قال: والله بعد أيام جاءني مبلغ من صفقة لبضاعة كاسدة من سنوات طويلة جاء من يشتريها، وكنت آيساً من بيعها، ونصيبي من هذه الصفقة المبلغ الذي دفعته.
والله معي آلاف القصص، هذه واحدة، بمنطق الإيمان إن دفعت صدقة يزداد مالك، بعكس منطق الآلة الحاسبة والرياضيات، بمنطق الإيمان إن أكلت الربا يمحق مالك، بعكس الحساب والرياضيات والآلة الحاسبة، فلذلك من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى.
دَعِ المال الحرام والمشبوه فإن الله يعوِّض عليك خيرا منه :
شيء آخر، لحكمة بالغة يعرض عليك مبلغ كبير تحل به كل مشكلاتك، لكن فيه شبة، وأخْذه لا يرضي الله، فالمؤمن الصادق قوي الإيمان يركل هذا العرض بقدمه، ويقول: معاذ الله، إني أخاف الله رب العالمين، والله الذي لا إله إلا هو هذا إيماني، أن زوال الكون أهون على الله من ألا يعوضك خيراً منه بالحلال.
واللهِ أخ كريم حدثني عن قصة، ورجاني أن أنقلها لكم، وقد نقلتها لكم كثيراً، أنه جاءه عرْضٌ أرباحه من هذا العرض حوالي مئتي ألف ليرة، لكن تبين أن هذا العرض من أجل صناعة الخمور، فرفضه، الذي طلب منه هذا العرض أغراه بأشياء كثيرة، يقسم بالله العظيم بعد اثنين وعشرين يوماً جاءه عرض أرباح الصفقة الثانية أكثر من مئة ضعف، احفظوا هذا الحديث:
(( وما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))
لذلك الأسباب وحدها لا تكفي، بل لا بد من أن يأذن مسبّب الأسباب.
الإنسان أحيانا من ضعف توحيده يتوهم أن الرزق بيد فلان، فإذا أرضاه ولو بمعصية الله يزداد رزقه، وإن أغضبه ولو بطاعة الله ينقطع رزقه، الذي يحصل أنك إذا لم تعبأ بغضب زيد، ولا بغضب عبيد وقصدت إرضاء الله عز وجل عندئذ يخضعك الله عز وجل لقانون العناية الإلهية، فيزداد رزقك، مع أن القواعد المستنبطة من حركة الحياة تؤكد أنك ستخسر هذا الرزق، الله عز وجل موجود، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، هو الرزاق، ذو القوة المتين.
أول حقيقة في هذا الموضوع ينبغي أن تكسب رزقك من طريق مشروع، لأن ما عند الله لا ينال بمعصية الله، وإذا توهمت أنك إذا أقمت منهج الله عز وجل سوف ينقطع رزقك، أو يقلّ فهذا وهم من الشيطان:
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) ﴾
(( وما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))
الأخذ بالأسباب والتوكل على الله :
لكن هناك حقيقة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ))
ليس هناك عمل، ولا وظيفة، ماذا أفعل ؟ أنا محتاج إلى عمل، إلى دخل، إلى زواج، إلى بيت، لكنك جالس في البيت لا تتحرك، الله عز وجل أمرنا أن نأخذ بالأسباب، ثم نتوكل على رب الأرباب، فترك الأخذ بالأسباب معصية، وأن تأخذ بها وتنسى الله عز وجل شرك، لذلك أعيد وأقول: ينبغي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
الآن اقتربنا من لب الموضوع، معظم المسلمين يتوهمون التوكل ألاّ تأخذ بالأسباب، الحقيقة الخطيرة أنه لا تناقض إطلاقاً بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله أبداً، تأخذ بالأسباب تعبداً.
هناك مثل صارخ، النبي صلى الله عليه وسلم ماذا فعل ؟ أخذ بالأسباب كلها، اتجه في الهجرة مساحلاً بخلاف الاتجاه نحو المدينة، وقبع في الغار أياماً ثلاثة ليخف عليه الطلب، هيأ من يأتيه بالزاد، هيأ من يمحو الآثار، هيأ من يأتي له بالأخبار، اختار دليلاً رجح فيه الخبرة على الولاء، وكان مشركاً، أخذ بالأسباب كلها، ومع ذلك وصلوا إليه، ما حكمة أنهم وصلوا إليه ؟ ليبين الله لأمته من بعده أنه أخذ بالأسباب تعبداً، لكنه في حقيقته متوكل على الله، فلما وصلوا إليه، واضطرب سيدنا الصديق، قال له: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(( يَا أَبا بَكْرٍ مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا ))
انظر إلى الموقف المتوازن، أخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ووصلوا إليه فلم يضطرب، هو متوكل.
نحن بتطبيقاتنا العملية حينما تسافر تجري مراجعة لمركبتك، مراجعة تامة، العجلات، الزيوت، المكابح، مراجعة تامة، وأنت في أعماق أعماقك موقن أن الله هو المسلّم، تقول: يا رب، أنا راجعت المركبة تنفيذاً لأمرك، لكنني متوكل عليك، مستسلم لك، وأنا موقن أنك أنت الحافظ، وأنت المسير، هذا هو الموقف الصحيح.
إذا مرض الابن، آخذه لأمهر طبيب، أشتري له الدواء الجيد، أشرف بنفسي على إعطاء الدواء، ومن أعماق أعماقي أقول: يا رب، أنت الشافي، ولا شفاء إلا شفاءك، أن تجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأرباب، لذلك الكلمة الشائعة التي أصبحت مثلاً هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن أعرابياً دخل عليه، وترك ناقته بغير رباط، فَعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ:
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ))
خذ بالأسباب وتوكل على الله.
أيها الإخوة، هذا الذي يقوله معظم الناس: اعقل وتوكل، خذ بالأسباب، ثم توكل على رب الأرباب.
هناك حديث يتوهمه بعض المسلمين أنه يريحهم من الأخذ بالأسباب.
(( لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ـ الطير ماذا فعلت ؟ ـ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا ))
الطير لم تقبع في عشها، بل تحركت، وتوجهت إلى السوق على أسباب الرزق، فالحديث حجة على مَن فهمه فهماً خاطئاً، يرزق الله الطير، ولكنها تحركت وطارت.
(( لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا ))
سيدنا عمر بن الخطاب لقي أناساً من أهل اليمن قال: من أنتم ؟ رآهم يتكففون الناس ويتسولون، قال: من أنتم ؟ قالوا: نحن المتوكلون، وهذا النموذج موجود في كل زمان، ماذا تفعل ؟ الأمر بيده، ترتيب سيدك، قاعد في البيت لا يتحرك ولا يسأل، ولا يبحث عن عمل، الله لم يأذن، حتى يأذن، فقال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض، ثم توكل على الله.
أيها الإخوة الكرام، سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد، وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا الرجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((... وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي... ))
بين فقر الكسل وفقد القدر وفقر الإنفاق :
وأنا أقول لكم: هناك فقر الكسل، وهذا الفقر مذموم، صاحبُه لا يتحرك، ولا ينطلق إلى عمله، ولا يضبط مواعيده، ولا يسجل على دفتره جدول أعماله، هكذا بلا تخطيط، بلا انضباط، بلا نشاط، بلا همة، هذا فقير، لكن هذا فقر مذموم، لا تقل لإنسان يهمل عمله، ولا يداوم، ويؤثر الراحة على العمل، ويقبع في بيته يتواكل، ويرجئ كل شيء، لا تقل له: أنت فقير مسكين، هذا فقره عقاب له، هذا فقر الكسل، ونعوذ بالله من فقر الكسل، لكن هناك فقر القدر، إنسان معه عاهة تمنعه من كسب المال، صاحبه معذور، أما الفقر الذي صاحبه ممدوح فهو فقر سيدنا الصديق، يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك ؟ قال: الله ورسوله، أنفق كل ماله.
وفي بعض الروايات أن رجلاً قال:
(( يا رسول الله إني أحبك، قال: انظر ما تقول، قال: والله إني أحبك قال: انظر ما تقول، قال: والله إني أحبك، قال: إن كنت صادقاً فيما تقول للفقرُ أقرب إليك من شرك نعليك ))
إذا كان معك مال، وأخوك المسلم بحاجة إلى المال هل من المعقول ألاّ تساعده ؟ يكون قلبك قاسيًا، أنت معك مال احتياطي، وعندك أموال طائلة، ومِن حولك أناس يموتون من الجوع، لكنك تبخل عليهم، إذاً أنت لا تحب رسول الله، انظر ما تقول ؟ إن كنت صادقاً فيما تقول، هنا الفقر يعني أنه لا بد من أن تنفق من مالك، لكن الحقيقة الدقيقة حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (195) ﴾
قال: إن لم تنفقوا، إن لم تنفقوا ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة، وقال بعض العلماء: أما إذا أنفقتم كل أموالكم أيضاً باستثناء سيدنا الصديق فله خصوصية، ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة.
الإنسان الذي لا يعمل، ويدّعي أنه متوكل فهو كاذب، والدليل أنه يخاف أن يعمل فيفتن، يخاف أن يعمل فيحب الدنيا، يخاف أن يعمل فتستهويه الدنيا، إذاً لا يعمل، فاقرأ قوله تعالى:
﴿ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾
يتاجرون، ويدهم عليا، وينفقون، ويعطون، وهم عند الله أبطال، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( التزموا الرزق في خبايا الأرض ))
إذا قامت الساعة والله هذا لحديث يلفت النظر، إذا قامت الساعة انتهى كل شيء.
(( إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ ))
في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاباً يصلي في أثناء النهار، قال له:
(( من يطعمك ؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك ))
أمسك النبي عليه الصلاة والسلام يد عبد الله بن مسعود فرآها خشنة من العمل، رفعها، وقال:
(( هذه اليد يحبها الله ورسوله ))
وسيدنا عمر يقول: << إني أرى الرجل لا حرفة له فيسقط من عيني >>.
أقسم لكم بالله ولا أبالغ الشاب الذي ينطلق إلى عمله باكراً، ويتقن عمله، وينمي خبرته، ويأتي بمال، ثم يتزوج، بالتعبير العامي جبر خاطر فتاة، الفتاة إذا تزوجت نجحت في حياتها، أسس عشًّا إسلاميا، جاءه بأولاد فرباهم تربية صالحة، نفعوا الناس من بعده، هل تصدقون أن عمله نوع من العبادة.
أنا أقول دائماً: عملك الذي ترتزق منه، حرفتك، مهنتك، إذا كانت في الأصل مشروعة، إصلاح كهرباء، إصلاح مركبات، لا شيء عليه، بيع أخشاب، بيع أقمشة، إذا كانت الحرفة مشروعة في الأصل، وسلكت بها الطرق المشروعة، لا فيها كذب، ولا غش، ولا تدليس، ولا احتيال، ولا بيع باطل، ولا بيع ربوي، وابتغيت منها كفاية نفسك وأهلك، وخدمة المسلمين، ولم تشغلك عن فريضة، ولا عن واجب، كمن يترك أربع صلوات، ويقول: يا سيدي، أليس الشغل عبادة ؟ الشغل عوض الصلاة ؟! أعوذ بالله !!! ولم تشغلك عن فريضة، ولا عن واجب، وابتغيت خدمة المسلمين، وكفاية نفسك وأهلك، وهذه الحرفة مشروعة صدّق ولا أبالغ انقلبت إلى عبادة، لذلك قالوا: عبادات المنافق سيئات، وعادات المؤمن عبادات.
محل التوكل ومحلُّ الأخذِ بالأسباب :
أيها الإخوة، ما هو الدليل القطعي على أن التوكل أحد أسباب زيادة الرزق ؟
بالمناسبة أين محل التوكل ؟ لأن التوكل له محل، أين محل الأخذ بالأسباب ؟ وأين محل التوكل ؟ محل التوكل القلب، محل الأخذ بالأسباب الجوارح، تنطلق لتعمل، المسلمون اليوم عكسوا المحلَّيْن، يتوكل بجوارحه، ويتمنى بقلبه أن يرزقه الله، هو جالس لا يتحرك، لا يعمل، لا يسأل، وبقلبه يتمنى أن يرزق، وكأن القضية قضية معجزة، والآن المسلمون باعتبار هم مؤمنون والله واعدهم بالنصر في عندهم حلم ساذج أن الله عز وجل يخلق معجزة يدمر إسرائيل، عليك بهم يا رب إنهم لا يعجزونك، أنت ماذا أعدت لهم ألم يقل الله عز وجل:
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾
الخطورة أن تجعل قلبك محل تمنياتك وأن تجعل جوارحك محل توكلك، هذا ليس توكل، بل تواكل، التوكل محله القلب والأخذ بالأسباب محلها الجوارح.
الدليل على زيادة الرزق بالتوكل :
الدليل القطعي على أن التوكل على الله يزيد في الرزق قوله تعالى:
﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾
يا إخوتي الشباب، هذه الآية لكم، أنتم على مفترق طرق، أنتم مقبلون على الدنيا، أنا أعلم علم اليقين أن كل شاب يحتاج إلى زواج، هذه سنة الله في خلقه، يحتاج إلى مأوى، يحتاج إلى رزق، هذه أهداف ثلاثة، عمل ترتزق منه، وزوجة صالحة تسرك إن نظرت إليها، وتحفظك إذا غبت عنها، وتطيعك إن أمرتها، عمل وزوجة ومأوى، الطريق إليها:
﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ﴾
وزوال الكون أهون على الله من أن تتقي الله ثم لا تجد ما وعدك الله به من رزق وفير، فضع أملك بالله، وخذ بالأسباب، وتوكل على الله.
الآية:
﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾
الوقفة عند كلمة: ( مخرجًا ): متى تبحث عن مخرج ؟ إن رأيت الأبواب كلها مغلقة، قدمت مسابقة فما نجحت، بعثة دراسية ما سُمح لك فيها، قدمت عرضًا لعمل فلم يوافق عليه، الأبواب كلها مغلقة، الله عز وجل يقول:
﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾
بعد أن رأيتَ الأبواب كلها مغلقة اطرق باب الله عز وجل:
﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (3) ﴾
الشاهد:
﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (3) ﴾
وفي الحديث:
(( ينْزِلُ رَبّنَا كُلّ لَيْلَةٍ إِلى السّمَاءِ الدّنْيَا حَتّى يَبْقَى ثُلثُ اللّيْلِ الآخر ـ دققوا الآن قبل الفجر ـ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْألُنِي فأُعْطِيَهُ ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فأَغْفِرَ لَه ؟ حتى ينفجر الفجر ))
ساعات ما قبل الفجر:
(( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ))
(( مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ ))
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:
(( جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيَّ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ حَتَّى فَرَغَ مِنْ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ ))
واللهِ إن العالم الإسلامي يعاني من المشكلات ما يعاني، والله يعاني من المشكلات ما لا سبيل إلى وصفه، ويقع في رأس هذه المشكلات الفقر، هناك بلاد إسلامية تعد من أفقر شعوب الأرض، وعندها ثروات لا يعلمها إلا الله:
(( يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ، قَالَ: فَجَعَلَ يَتْلُو بِهَا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ حَتَّى نَعَسْتُ ))
(( من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكّله الله إليها ))
أيها الإخوة الكرام، أحد أكبر أسباب زيادة الرزق التوكل على الله، والتوكل على الله يعني الحركة، مرَّ سيدنا عمر برجل معه جمل أجرب، قال له: << يا أخ العرب، ما تفعل به ؟ قال: أدعو الله أن يشفيه، قال له: هلا جعلت مع الدعاء قطراناً ؟ >>.
اسأل الطبيب، تحرك.
تصور إنسانا يركب مركبة فتوقفت، خرج من المركبة وهو يقول: يا رب، أنقذنا، لو دعا مليون مرة، نقول له: افتح غطاء المحرك، وانظر أين الخلل، واطلب من الله أن يلهمك أين الخلل، واطلب من الله أن يعينك على إصلاح الخلل، هذا موقف علمي عملي، أما ألاّ تفعل شيئاً، وتكتفي بالدعاء، فالدعاء من دون سعي لا يقبل، بل هو استهزاء بالدعاء.
أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
* * *
الخــطــبـة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الاقتصاد في المعيشة أفضل من بعض التجارة :
أيها الإخوة الكرام، أنا لا أنكر أن النفس إذا أحرزت قُوتَها اطمأنت، لأن فيها اضطرابا، وهذا الاضطراب يسكنه أن يكون لك رزق يكفيك، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( اللهم مَن أحبني فاجعل رزقه كفافاً ))
هناك رزق لا يكفي صاحبه، فهو فقير، وهناك رزق فوق ما يكفي صاحبه، فهو مفتون، فقليل يكفيك خير من كثير يطغيك، والاقتصاد في المعيشة أفضل من بعض التجارة، تجارة فيها مهربات بضربة واحدة تخسر كل شيء، تجارة فيها مواد محرمة والاقتصاد في المعيشة أفضل من بعض التجارة، فلذلك لا تبحث عن رزق يطغيك، النبي عليه الصلاة والسلام دعا لمن أحبه بالكفاف، أي برزق يكفيه.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ ))
الصحة طيبة، وأن تعرف الله، ومستقيم على أمره، وعندك زوجة صالحة، وأولاد أبرار، ودخل معقول، فقد حِيزت لك الدنيا بحذافيرها، وليس فوق هذه الشروط من شرط مسعد.
لابد من الجمع بين العلاقة الحسنة مع الله ومع عباد الله :
أيها الإخوة، لا بد من أن نجمع بين حسن العلاقة مع الله، وحسن العلاقة مع الأهل والأولاد، والنجاح في العمل والنجاح في الصحة، أربع محطات كبرى أيّ خلل في إحداها ينعكس على بقية المحطات.
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، في العراق، وفلسطين، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.