- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيَّته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمَّداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّدُ الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهم صلّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذرِّيَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المنجزات التي حُقِّقت في رمضان ينبغي استمرارها بعد رمضان :
أيها الأخوة الكرام ... كان رمضان ونحن على مشارف توديعه مناسبةً وفرصةً ذهبيَّةً كي نفتح مع الله صفحةً جديدة ، وتُغْفَرَ لنا كل الذنوب والآثام ، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))
و ..
((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))
وفي حديثٍ ثالث وهو في البخاري:
(( وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))
وحينما صعد النبي المنبر قال: " آمين " قالوا: يا رسول الله علام أمَّنت ؟ " قال :
((جاءني جبريل وقال لي: رغم أنف عبدٍ أدرك رمضان ولم يغْفَر له إن لم يُغفَر له فمتى؟))
ومع ذلك يا أيُّها الأخوة الكرام هذه المنجزات التي حُقِّقت في رمضان ، من صلاةٍ في المساجد ، من صلاة الفجر في المسجد ، وصلاة العشاء في المسجد ..
(( مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
(( مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَهُوَ كَمَنْ قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ ))
وغضُّ البصر في رمضان ينبغي أن يستمرَّ إلى ما بعد رمضان ، وضبط اللسان في رمضان ينبغي أن يستمرَّ إلى ما بعد رمضان ، والإنفاق في رمضان ينبغي أن يستمرَّ إلى ما بعد رمضان ، فما كان لله عزَّ وجل أن يصطفي من الشهور شهراً واحداً ليكون الصفاء فيه وحده ؛ بل ليعُمَّ الصفاء في كل شهور العام ، وما اصطفى بيتاً كبيته الحرام إلا ليشيع الصفاء في كل مكان ، وما اصطفى سيِّدَ الأنام إلا ليكون البشر جميعاً مقتدين بهذا الإنسان الأوَّل الذي حقَّق الكمال الإنساني ، وحقَّق الهدف من وجود الإنسان .
يا أيُّها الأخوة الكرام ... هذه المُنجزات التي حٌقِّقت في رمضان ، هذا الضَبْط ، هذا الذِكر ، هذه الصلوات ، هذا القيام ، هذا الإنفاق ، هذه التلاوة ، هذا غضُّ البصر ، هذا ينبغي أن يستمرَّ لما بعد رمضان لئلا نكون ..
﴿ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً﴾
الدعاء هو العبادة :
يا أيها الأخوة الكرام ... المسلمون يَغْفَلون عن موضوع الدعاء ، والدعاء هو العبادة كما قال عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾
قبل أن نذكر هذه الآية ، في القرآن أكثر من عشر آيات بهذه الصيغة:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾
إلى آخر الآيات ، إلا هذه الآية:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
ليس بين العبد وربِّه وسيط ، لمجرَّد أن تقول : يا رب ، يقول لك الله : لبَّيك يا عبدي ، يا رب لقد تُبْتْ ، يقول لك : يا عبدي وأنا قد قَبِلْتْ..
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، يحولُ بين المَرء وقلبه ..
﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾
إذا دعاني حقيقةً ، وأخلص لي في الدعاء ، وكان قد عرفني ، وكان قد استجاب لي أُجيبه ، ولا تنسوا أيها الأخوة أن الدعاء سلاح المؤمن ، وأنت بالدعاء أقوى إنسان .. ذكرت البارحة أن بلداً كبيراً فيه إنسانٌ ضعيف ، لو أن ملك هذا البلد قال له: اتصل بي متى تشاء أُنْجِزْ لك ما تريد ، هذا الإنسان الضعيف يغدو أٌقوى إنسانٍ في هذا البلد ، لأنه متصلٌ بالقمَّة ..
شروط الدعاء :
يا أيُّها الأخوة الكرام ...
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾
شروط الدعاء تستنبط من هذه الآية ، أن تؤمن به ، وأن تستجيب له ، وأن تدعوه عندئذٍ يستجيبُ لك ، أن تؤمن به ، وأن تستجيب له ، وأن تدعوه مخلصاً ، عندئذٍ يستجيبُ لك.
آيةٌ أخرى أيها الأخوة دقيقةٌ جداً:
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾
لا يليق بالله جلَّ جلاله أن يقول كلاماً لا معنى له ، ما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب لنا ، فمن هو العاجز ؟ العاجز كل العاجز الذي عجز عن أن يدعو الله عزَّ وجل ..
((إن الله يحبُّ الملحّين في الدعاء))
إن الله يحب من العبد أن يسأله حاجته كلَّها، وإن الله يحب من عبده أن يسأله ملح طعامه ، و :
((لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ))
خالق السموات والأرض إذا قنَّن فهو تقنين تأديب لا تقنين عجز.. قرأت مرَّةً في مجلَّةٍ علميَّة أنه اكتُشِفَت سحابةٌ .. كشفتها مراصد في أوروبا تعمل بالأشعَّة تحت الحمراء .. هذه السحابة يمكن أن تملأ محيطات الأرض ستين مرَّة في اليوم بالمياه العذبة ..
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾
إذا قنَّن الإله وحجب الأمطار للفت النظر ، كي نتضرَّع ، كي نسأله، كي نعرف أنه هو الرزَّاق ، ولولا الأمطار لما كان من شيءٍ في الأرض .
يا أيُّها الأخوة الكرام ... ما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب لنا ، فالعجز كل العجز أن تعجز عن أن تسأله .
الدّعاء عبادة و معرفة و إيمان و قرب :
أيها الأخوة الكرام ...
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ﴾
لو قال: عن دعائي ، لكان الدعاء شيء والعبادة شيءٌ آخر ، ولكنَّه قال:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾
فالدعاء في نصِّ الحديث الصحيح هو العبادة ، الدعاء هو العبادة ، وأنت كيف تدعوه ؟ هل تدعو إنساناً لا تراه ؟ لا تؤمن بوجوده ؟ هل تدعو إنساناً لا يسمعك ؟ هل تدعو إنساناً لا يقدر على تنفيذ رغبتك ؟ هل تدعو إنساناً لا يحبُّ أن يستجيب لك ؟ أنت لمجرَّد أن تدعو إنساناً فأنت تؤمنٌ بوجوده ، وبعلمه ، وبقدرته ، وبمحبَّته ، فإذا دعوت الله فمعنى ذلك أنك مؤمنٌ أنه موجود ، وأنه سميع قريب ، وأنه قديرٌ على كل شيء ، وأنه يحبُّك ، لذلك قال تعالى:
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾
دعاؤكم عبادة ، دعاؤكم معرفة ، دعاؤكم إيمان ، دعاؤكم قُرب .. وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو يدعوه .
استثناءات متعلقة بالدعاء :
أيها الأخوة الكرام ... إلا أن هناك استثناءً قال عنه العلماء استناداً لقوله تعالى:
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾
المُضَّطر يُسْتَجَاب له ، لا بحال الداعي بل برحمة المَدعو ، والمظلوم يُستجاب له ، لا بحال الداعي بل بعدل الله عزَّ وجل ، برحمته وعدله يستجيب للمظلوم ..
((اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ))
برحمة الله وبعدله يستجيب للمضطر وللمظلوم ..
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾
الشروط التفصيلية للدعاء :
لكنَّ للدعاء شروطاً تفصيليَّة ، ادعوا ربَّكم تضرعاً أي متذلِّلاً ، خاضعاً ، مستكيناً ، وخُفية ، لا يحتاج الدعاء إلى صوتٍ عريض ، ولا إلى فصاحةٍ ، ولا إلى سجعٍ ، ولا إلى ضجيجٍ، الدعاء ينبغي أن يكون همساً بينك وبين الله ..
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾
بإمكانك أن تدعو الله وشفتاك مُطْبَقَتَان ، أن تدعوه بقلبك ..
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾
فمن جَهَرَ بالدعاء ، ومن لم يتضرَّع في الدعاء فقد اعتدى على شروط الدعاء ، وقال بعض العلماء: " إن اعتديتم على بعضكم بعضاً لا أستجيب لكم لأني لا أحبُّكم " . هذا الذي يعتدي على حقوق الآخرين ، يتطاول عليهم ، يأخذ ما ليس له ، يلقي في قلوبهم الرعب ، هذا إذا دعا لا يُستجاب له لأنه معتدٍ على الخلق .
أيها الأخوة الكرام ... وادعوه خوفاً وطمعاً ، الحالة المثاليَّة بين الطَمَع الساذج وبين الخوف القاتل ، خوفاً وطمعاً ، رغباً ورهباً ..
﴿ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾
﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾
لا تدع الله بلسانك وأنت مُتَّكِئٌ ، وأنت معتمدٌ و واثقٌ بغير الله .
الإلحاح في الدعاء :
أيها الأخوة الكرام :
((إن الله يحبُّ الملحين في الدعاء))
﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾
أول فِقَرَة ..
﴿ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾
هذا هو الإلحاح في الدُعاء ..
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ﴾
أول فقرة ..
﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ﴾
أي يا رب ما دعوتك في حياتي إلا واستجبت لي ، إلا وسعدت بدعائك .
من أدعية الأنبياء لربهم :
أيها الأخوة الكرام ... هذه كلمةٌ عن خصائص الدعاء ، وقيمة الدعاء ، وشروط الدعاء ، ولكن هؤلاء الأنبياء الذين هم قِمَمُ البشر ، قِمَم..
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
هؤلاء صفوة الله من خلقه ، هؤلاء القمم ، قمم البشر حينما دعوا ربَّهم بماذا دعوه ؟ من أدعية الأنبياء:
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾
هذا الشرح للصدر سعادةٌ ما بعدها سعادة ، قد يُعطى الإنسان الدنيا ويُحجَب عنه شرح الصدر .. " إن الله يعطي الصحَّة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنَّه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين " .. راحة النفس ، شرح الصدر ، السكينة التي تُلقى في القلب، هذا الهدوء ، هذا الشعور بالأمن لو وزِّعَ على أهل بلدٍ لكفاهم ، هكذا دعا الأنبياء:
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾
قد تسكن في بيتٍ صغير وأنت منشرح الصدر ، وقد تسكن في قصرٍ مُنيف وأنت منقبض الصدر ، قد تأكل أكلاً خَشِنَاً وأنت منشرح الصدر فأنت أسعد الناس ، وقد تأكل أطيب طعام وأنت منقبض الصدر ، وأنت أشقى الناس ، قد تركب أرقى مركبةٍ وقد تركب درَّاجةً ، العِبْرَةُ أن تكون منشرح الصدر لأن هذه السعادة النفسيَّة لا تُقدَّر بثمن ..
قانون التيسير :
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾
ما من شيءٍ يُسْعِدُ الإنسان كالتيسير ، والتيسير له قانون ..
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾
آمن بالدين الحق ، وآمن بالجنَّة ، وأعطى ، بنى حياته على العطاء..
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ﴾
أن يعصي الله ..
﴿ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
هذا قانون التيسير ..
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾
بنى حياته على الأخذ .
أيها الأخوة الكرام ... النمل ، هذه الحشرة التي قد لا يُعبأ بها ، صمَّم الله في جهازها الهضمي جهاز ضخٍّ وجهاز مص ، فإن رأت نملةً جائعةً تَضُخُّ لها من عصارة هضمها ما يُشبعها ، النمل يضخُّ لزميلاته والإنسان أحياناً قد يأخذ ولا يعطي .
يا أيها الأخوة الكرام ...
﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾
التيسير سبب العطاء ..
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾
وما من شعورٍ يصيب الإنسان بالإحباط والألم كالتعسير ، كلَّما طرق باباً وجده مُغلقاً ، كلَّما سلك سبيلاً وجده مغلقاً ، كلَّما تحرَّك حركةً أُحبِطَ عمله ، هذا بسبب أنه ..
﴿ مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾
من يعصي الله مدموغٌ بالجهل و الكفر :
يا أيها الأخوة الكرام ... ربنا تقبَّل منا ، هذا دعاء الأنبياء ، قد تأتي بعملٍ كالجبال، قال عليه الصلاة والسلام في حديثٍ صحيح يقصم الظهر:
((لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا .. فيحبط الله هذه الأعمال .. فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ - ولكن ماذا يفعلون ؟ - وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))
عندئذٍ لا يعبأ الله بشيءٍ من أعمالهم ، لهم أعمال كالجبال ، كجبال تهامة بيضاء يجعلها الله دماراً ..
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾
لأنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ، فمن لم يكن له ورعٌ يصدُّه عن معصية الله إذا خلا لا يعبأ الله بشيءٍ من عمله ، وقد ورد :
((ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مخلِّط))
ربنا تَقَبَّل منا إنك أنت السميع العليم ، يا ربي اقبل صيامنا ، واقبل قيامنا ، واقبل ركوعنا ، واقبل سجودنا ، واقبل زكاة أموالنا ، واقبل صدقاتنا ، واقبل دعوتنا إليك ..
﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
إذا قضى الله ورسوله أمراً ؛ هذه حرام وهذا حلال ، ما كان لك أن تدلي برأيٍ في هذا الموضوع .. ذكرت لكم أن أحد علماء المسلمين ذهب إلى أمريكا وناقش مسلماً من هناك .. أسلم حديثاً ، وملأ الإسلام قلبه .. وجرى الحديث عن لحم الخنزير ، فأفاض هذا العالِم الجليل في الحديث عن لحم الخنزير ، وعن أخطار الخنزير ، وعن ، وعن ، وكأنَّه يلقي محاضرة في جامعة ، فلمَّا انتهى قال له: يكفيك يا أستاذ أن تقول لي: إن الله حرَّمه .. خالق الكون .
أنت إن دخلت إلى طبيبٍ يحمل أعلى شهادة وله سمعة طيِّبة ، يعطيك أمراً ، لا تفكِّر أن تناقشه ، مع طبيب ، أساساً الإمام الغزالي يقول: " يا نفسُ لو أن طبيباً منعكِ من أكلةٍ تحبِّينها لا شكَّ أنكِ تمتنعين ، أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟! " . يا الله تنصاع لأمر طبيب ولا تنصاع لخالق الكون ! تنصاع لتوجيهات الطبيب لأنك حريصٌ على حياتك ، ولا تنصاع لأمر خالق السموات والأرض ؟ ألست حريصاً على سعادتك ؟ ألست حريصاً على آخرتك ؟ .. " يا نفسُ لو أن طبيباً حذَّركِ من أكلةٍ تحبّينها لا شكَّ أنكِ تمتنعين ، أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟! إذاً ما أكفركِ ، أيكون وعيد الطبيب أصدق عندكٍ من وعيد الله ؟! إذا فما أجهلكِ " .. كل من يعصي الله مدموغٌ بالجهل وبالكفر .
الولد البار أعظم شيء يسعد كل إنسان :
أيها الأخوة الكرام ...
﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾
﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً﴾
ما من شيءٍ يُسْعِدُ الأب كأن يرى أولاده أبراراً ، هذا لا يعرفه إلا الآباء ، لو ملكت الدنيا ، لو ملكت أعلى ثروةٍ في الأرض ، لو ملكت أعلى مرتبةٍ علميَّةٍ في الأرض ، لو ملكت أعلى منصبٍ في الأرض ولم يكن ابنك كما تتمنَّى فأنت أشقى الناس ..
﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾
﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً﴾
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
نعمة الأمن من أعظم النعَم وهي نعمةٌ للمؤمنين فقط :
﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾
ونعمة الأمن من أعظم النعَم وهي نعمةٌ للمؤمنين فقط ، والدليل:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
لهم وحدهم .. أنت من خوف الفقر في فقر ، ومن خوف المرض في مرض ، وتوقُّع المصيبة مصيبة أكبر منها ، ويقول بعض أطبَّاء القلب: إن هناك أمراضاً في القلب سببها الخوف من أمراض القلب ، القلق سِمَةُ العصر، أجدادنا كانت حياتهم خَشِنَة ، يبذلون جهداً عضليَّاً شاقَّاً لكنَّ نفوسهم كانت سعيدة ، وهذه أسباب الصحَّة ، ونحن كل شيء يعمل أوتوماتيكاً، كل شيء يعمل بانتظام بلا جهد ، وهناك شدَّة نفسيَّة ، الكسل العضلي مع الشدَّة النفسيَّة وراء معظم أمراض هذا العصر.
يا أيها الأخوة الكرام ... فالأمن من نعم الله العُظمى ..
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾
وتَرَوْنَ بأعينكم إما هلاك عن طريق الأعاصير ، أو عن طريق الفيضانات ، أو عن طريق حريق الغابات ، أو عن طريق الحروب الأهليَّة، في جنوب إفريقيا ذُبِحَ خمسمئة ألف في ليلتين ، حروب أهليَّة على فيضانات ، على عواصف ، على أعاصير ، على زلازل
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ﴾
مستحيل ..
﴿ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾
﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ﴾
رحمة الله مطلق عطائه وثمنها أن تكون محسناً :
يا أيها الأخوة الكرام ... يقول الله عزَّ وجل في بعض أدعية الأنبياء:
﴿ وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
رحمة الله مطلق عطائه ، تبدأ من الصِحَّة وتنتهي بالجنَّة ، تبدأ بأدقِّ شيءٍ يُريحك، وتنتهي بجنِّةٍ عرضها السموات والأرض ، هذه الرحمة ثمنها أن تكون مُحسناً ، والدليل:
﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
﴿ وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
﴿ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾
من أدعية الأنبياء ، لأن المؤمن حينما يَسْكُت ، حينما يَكُفُّ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستحقُّ عقاب الله ..
((أرسل الله الملائكة إلى قريةٍ ليهلكوها قالوا: يا رب إنَّ فيها رجلاً صالحاً ؟ قال: "به فابدؤوا " قالوا: ولِمَ يا رب ؟ قال: " لأنه كان لا يتمعَّر وجهه إذا رأى منكراً ))
قد يستقبل إنسان ابنة أخيه ، وهي في أبهى زينة ، بثيابٍ فاضحة ، يسألها عن صحَّتها ، ويطيِّب خاطرها ، ولا يعلِّق على ثيابها أي تعليق ، مجاملات إلى أقصى الحدود ، فسلامتك مع الناس أهون عندك من دينك ، فلذلك هؤلاء الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر هؤلاء شردوا عن الله ، هم كبقيَّة الأمم والشعوب ..
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
وهكذا نحن حينما ..
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾
الصلاة نور و مناجاة و ذكر :
أيها الأخوة الكرام ... من أدعية الأنبياء:
﴿ رَبَّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ ﴾
((الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ، ومن تركها فقد هدم الدين))
(( لا خير في دينٍ لا صلاة فيه))
بين المسلم والكافر ترك الصلاة ، الصلاة طهور ، إنها نور ، إنها حبور ، إنها ميزان ، إنها معراج ، إنها مُناجاة ، إنها دعاء ، إنها ذِكر ..
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾
إنها وعي ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
وقد ورد في الأثر القدسي:
((ليس كل مصل يصلي إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكفَّ شهواته عن محارمي ، ولم يصرَّ على معصيتي ، وأطعم الجائع ، وكسا العريان ، ورحم المصاب ، وآوى الغريب ، كل ذلك لي ، وعزَّتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس ، على أن أجعل الجهالة له حلماً والظلمة نورا ، يدعوني فألبيه ، يسألني فأعطيه ، يقسم عليَّ فأبرُّه ، أكلأه بقربي ، وأستحفظه ملائكتي ، مثله عندي كمثل الفردوس لا يمسُّ ثمرها ولا يتغيَّر حالها ))
توجيهات نبوية عظيمة :
﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾
((ليعمل العاقُّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنَّة))
﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾
لو أن في اللغة كلمةً أقلَّ من أفٍ لقالها الله عزَّ وجل ، هذه توجيهاتٌ نبويَّة ..
﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾
من رفعه الله عليه ألا ينسى فضل الله عليه :
﴿ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾
هذه آيةٌ تَلْفِتُ النظر ، يا رب ما معنى أدخلني وأخرجني ؟ لِمَ لم تكن الآية ربي اجعلني صادقاً وانتهى الأمر ؟ قد تدخل صادقاً ولا تخرج صادقاً ، قد تدخل في مشروع صادق ، مشروع إنساني ، فإذا رأيت المال الوفير قد جاءك من هذا المشروع قسا القلب ، وأصبح المشروع ابتزازيًا ، كان مشروعاً إنسانيَّاً فصار ابتزازيَّاً ، قد تدخل في الدعوة صادقاً ولا تخرج منها صادقاً ، قد تدخل في عملٍ محسنٍ صادقاً ولا تخرج منه صادقاً.
العبرة لا أن تصل إلى القمَّة بل أن تبقى فيها ، أن تحافظ عليها ، لأن القمَّة إلى أن تصل إليها هناك جهدٌ كبير وشاق ، طريقٌ صاعدة متعرِّجة ، فيها وعورة ، فيها أكمات ، فيها حفر ، فيها غبار ، فيها صخور، ما إن وصلت إلى القمَّة تجد طريقاً يجعلك في الحضيض بثانية ، إنه طريق الغرور .
لذلك هناك مرض يصيب الناجحين في حياتهم ، الإنسان من البطولة أن يبقى في القمَّة ، النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكَّة فاتحاً بعد أن ناصبته العِداء عشرين عاماً ، دخلها مُطأطئَ الرأس حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عزَّ وجل ، المؤمن يراقب نفسه ، سيدنا عمر كان على المنبر يخطب فقطع الخطبة: وقال: " يا عمر كنت راعي إبلٍ ترعى إبل بني مخزوم على دريهمات " ، وتابع الخطبة ، أصحابه الكرام ما فهموا ماذا قال ، ما علاقة هذا الكلام بالخطبة ؟ فلمَّا نزل سألوه: " ماذا قلت يا أمير المؤمنين ؟ " ، قال: " جاءتني نفسي وقالت لي: ليس بينك وبين الله أحد ، فأردت أن أعرِّفها حجمها " .. كنت ترعى إبلاً على قراريط لبني مخزوم وأنت اليوم أمير المؤمنين .. فالإنسان كلَّما رفعه الله عزَّ وجل لا ينسى فضل الله عليه ..
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
ذكرت لكم أيها الأخوة أن أخاً مُحْسِنَاً قدَّم بيتاً يقترب ثمنه من عشرة ملايين لجمعيةٍ خيريَّة ، أُقيم له حفل تكريم .. توفي رحمه الله .. أحد الخُطباء كان ذكياً جداً ، قال له : كان من الممكن أن تكون أيها المحسن أحد المنتفعين من جمعيَّتنا ، تقف في طابور طويل ، وتقدِّم الهويَّة ، وتوقِّع ، ونعطيك ثلاثمئة ليرة في النهاية ، ولكنَّ الله كرَّمك فجعلك تعطي وهذا من فضل الله عليك ، هذا الذي يعطي ، هذا ربنا تفضَّل عليه فجعله يعطي ، أحياناً لا تجد ما تأكل، أحياناً هناك من يُنَقِّب في القمامة ليأكل طعاماً فاسداً، فإذا مَكَّنك الله من أن تأكل طعاماً طيِّبَاً ، وأن تسكن بيتاً مريحاً ، وأن تعرف نعمة الله عليك فاشكر هذه النعمة ببذلها للآخرين .
أيها الأخوة الكرام ...
﴿ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾
رب هب لي من لدنك ولياً ، الاستمرار أهم من البدء ، هناك دعوةٌ تبدأ ولكن إذا مات الداعي انتهت الدعوة ، هل تفكَّر في أن يخلفك أحد ؟ في كل حقلٍ إيجابي لابدَّ من أن يكون العمل مستمرَّاً ، إذاً لابدَّ من أن تُخَطِّط لمن سيأتي بعدك ، هذه من حكمة الله العُظمى ..
﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ﴾
هذا الذي له زوجة تنصحه ، وله ابنٌ ينصحه أيضاً هذه نعمةٌ كُبرى ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام من تكريم الله له أن الله اختاره واختار له أصحابه ، فإذا كنت عند الله مُكَرَّماً جعل من حولك في مستواك، وهذه من أعظم النعم عند الله عزَّ وجل .
الله بيده كلّ شيء وهو على كل شيءٍ قدير :
يا أيها الأخوة الكرام ... لفتة دقيقة جداً ، ما من مصيبةٍ على وجهة الأرض تفوق أن ترى نفسك فجأةً في بطن حوت أزرق وزنه أكثر من مئة وخمسين طناً ، طوله يقدر بخمسة وثلاثين متراً ، فيه زيت حوت حوالي تسعين برميلاً ، فإذا وجد الإنسان نفسه فجأةً في بطن حوت ، في ظلمة بطنه ، وفي ظلمة الليل البهيم ، وفي ظلمة البحر ، وفي بطن الحوت نبيٌّ كريم ..
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
هل هناك أمل ؟ بالمعطيات العلميَّة ليس هناك أمل أبداً ، الإنسان كلَّه لقمة واحدة ، فالتقمه الحوت ، أي أنه لقمة ، لأن الحوت- أحياناً الإنسان يحب أن يأكل بين الوجبتين وجبة خفيفة - وجبته الخفيفة أربعة طن ، وجبته الخفيفة التي هي لتسد جوعه أربعة أطنان ، رضعة مولوده ثلاثمئة كيلو ، ثلاث رضعات ألف كيلو في اليوم ، أثنى الحوت ترضع من أمها ثلاثمئة كيلو غرام من الحليب في كل رضعة ، فسيدنا يونس نبي عظيم وجد نفسه فجأةً في بطن حوت، في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة الليل ، وفي ظلمة البحر ، في ظلماتٍ ثلاث:
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ﴾
هذه قصَّة مع نبي ، ولكن أروع ما في الآية أن تعقيباً جاء خلفها جعلها لكلِّ مؤمن، قال:
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
لا يمكن أن يكون مع الله خوف ، ولا قلق ، ولا سوداويَّة ، ولا تشاؤم ، ولا انهيار نفسي لأن الله بيده كل شيء وهو على كل شيءٍ قدير..
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾
فاستنبط علماء التفسير أن الثناء على الله دعاء ، الثناء على الله دعاءٌ كامل ..
﴿ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾
((وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ ))
((فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ))
على الإنسان أن يكون مع المؤمنين و لو كانوا ضعافاً و فقراء :
وفي دعاءٍ آخر للأنبياء:
﴿ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾
كن مع المؤمنين ولو كانوا ضعافاً ، كن مع المؤمنين ولو كانوا فقراء ، لا تركن إلى الذين ظلموا ولو كانوا أقوياء ، ولو كانوا أغنياء فتمسَّكم النار ..
﴿ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
﴿ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴾
أن أتحرَّك بتوجيه الشيطان ، أن أتحرَّك لينتصر عليَّ الشيطان ، أن أتحرَّك لأعصي الله بتوجيه الشيطان ، والشيطان ليس له على الإنسان سلطان ..
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾
أيها الأخوة الكرام ... أدعية الأنبياء كثيرة ، نجعل بعضها في خطبةٍ قادمةٍ إن شاء الله تعالى ، لكن الدعاء الذي دعاه المؤمنون في سورة الفرقان:
﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾
اللهمَّ ربنا لك الحمد ، أنت قيُّوم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك الحق ، وقولك حق ، والجنَّة حق ، والنار حق ، ومحمدٌ حق، والساعة حق ، اللهمَّ لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكَّلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، ولا حول ولا قوَّة إلا بك .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
زكاة الفطر :
أيها الأخوة الكرام ... صيامنا وقيامنا لا يُرفع إلى الله تعالى إلا بتأدية الزكاة .. زكاة الرأس ، أو زكاة الفطر .. لقد فرض الله علينا زكاة الفطر طُهْرَةً للصائم مما بَدَرَ منه من لغوٍ أو رفث - أي كلمة غير منضبطة - وطُعْمَةً للمسكين ، وإغناءً له عن السؤال في أيام العيد ، صدقة الفطر تجب على كل مسلمٍ يملك قوت يومه حرٍّ أو عبدٍ ، ذكرٍ أو أثنى ، صغيرٍ أو كبير، غنيٍ أو فقير ، حتى بعض المؤمنين يدفع عن الجنين في بطن زوجته ، تجب على هؤلاء جميعاً وعلى كل من يمونه ، أو يلي عليه ، أي أسرته ومن يتولَّى الإنفاق عليه ؛ كزوجته ، وأولاده ، وعن أمِّه وأبيه ، وإخوته وأخواته إن كان ينفق عليهم .
مقدارها: في الحد الأدنى ثمن نصف صاع من القمح ، أي من خمسين إلى ستين ليرة ، ونصف صاع من القمح يعدل اثنين كيلو من القمح ، وهذا حدُّها الأدنى ولا حدَّ لأكثرها ، قد تدفع ألفاً أو خمسة آلاف عن كل فرد ، عشرة آلاف ، مئة ألف ، الحكمة منها قال تعالى:
﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾
والقاعدة الأصوليَّة: لا إسراف في الخير ، ولا خير في الإسراف ، حكمتها أن يذوق كل مسلمٍ طعم الإنفاق حتى الفقراء ، حتى الذي يملك قوت يومه فقط عليه زكاة الفطر ، ليذيقه الله في العام كلِّه مرةً واحدة طعم الإنفاق ، الإنفاق له طعم ، وإذا كان يسعدك أن تعطي فأنت من أهل الجنَّة ، وإذا كان يسعدك أن تأخذ فقط فهذه علامةٌ ليست طيِّبة ، ولكي تكون اليد في العام مرة هي العُليا .
وقت أدائها: من أول رمضان وحتى قُبَيْلَ الخروج إلى صلاة العيد ، ويُفضَّل أن تعطى للأقارب الفقراء عدا الأصول والفروع ؛ الآباء مهما علوا والأبناء مهما دنوا ، وعلى الزوجة والزوج على خلافٍ بين الفقهاء .
* * *
إصلاح ذات البين :
أيها الأخوة الكرام ... بقي موضوعٌ صغيرٌ جداً هو قوله تعالى:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
أيام العيد لا تحتمل خصومات ، فالإنسان يعمل جرداً لعلاقاته ، علاقاته الداخليَّة في بيته ، علاقاته الخارجيَّة ، العلاقات مطلقةً ؛ علاقة بينه وبين الله فليصلحها ، علاقة بينه وبين زوجته ، أو بينه وبين إخوته أو أخواته فليصلحها ، أيَّةُ علاقةٍ أخرى بين شخصين فليصلحها ، لأنه يقول عليه الصلاة والسلام:
(( أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ ، لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ))
وكم من بغضٍ بين شخصين أدَّى إلى تَفَلُّت أحدهما من منهج الله .
فيا أيها الأخوة الكرام ... أيام العيد أيام ود ، أيام صلة ، أيام بر ، أيام مسامحة ، بالاعتذار تُلغي العداوة ، بالزيارة تلغي العداوة ، بهديةٍ تذهب وَحَر الصدر ، تلغي العداوة ، فينبغي على كل مؤمن أن يقيم جرداً لعلاقاته الأسريَّة وليصلح هذه العلاقات .