- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
عباد الله ؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، وأحثكم على طاعته ، وأستفتح بالذي هو خير.
من لوازم الإيمان الخوف من عذاب الله :
أيها الأخوة الكرام ؛ الموضوع المتسلسل الذي نحن بصدده في هذه الأسابيع هو التقرب إلى الله تعالى ، ومن أولى الوسائل ، وأنجعها ، وأشدها فاعليةً ، وأقومها التقرب إلى الله بطاعته ، ولكن هذه الطاعة لا تطير إلا على جناحي الخوف والرجاء .
هناك خطبتان سابقتان دارتا حول موضوع الخوف ، وهذه الخطبة والتي تليها إن شاء الله تعالى حول موضوع الرجاء .
أيها الأخوة الكرام ؛ كما أن واجب الإيمان بالله تعالى الخوف من عذابه ، وعقابه وحجابه ، واجب الإيمان أي من لوازم الإيمان ، أي من خصائص الإيمان ، الخوف من عذاب الله ، والخوف من عقابه ، والخوف من حجابه ، وعند المقربين أخوف ما يخافون من الله أن يُحجبوا عنه ، قال تعالى :
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾
كذلك من واجب الإيمان ، ومن خصائص الإيمان ، ومن لوازم الإيمان الرجاء العظيم لرحمته ، ولمغفرته .
الابتعاد عن القنوط من رحمة الله لتنهض الهمم إلى طرق أبواب المغفرة :
أيها الأخوة الكرام ؛ لعل أرجى آية في القرآن الكريم :
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
إن الله يغفر الذنوب ، والمعنى تمّ ، ولكن كلمة جميعاً توكيد .
أيها الأخوة الكرام ؛ خاطب الله المسرفين على أنفسهم ، الغرقى بذنوبهم ، نهاهم في نصِّ هذه الآية عن القنوط من رحمة الله ، لتنهض هممهم إلى طرق أبواب المغفرة .
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
لذلك - يا أيها الأخوة الكرام - ينبغي أن يكون المؤمن على رجاء رحمة الله تعالى، وأن يحسن الظن بالله تعالى .
نهى ربنا جل جلاله في آيات كثيرة عن القنوط واليأس ، بل إن القنوط واليأس يساوي الكفر ، قال تعالى :
﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾
وقال تعالى :
﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾
اليأس والقنوط يساويان الكفر بالله عز وجل .
﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾
سعة رحمة الله عز وجل :
لذلك أعلن الله عز وجل على خلقه جميعاً أن اسمه العظيم هو الرحمن الرحيم ، قال تعالى :
﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾
لعل بعض العلماء استنبط من هذه الآية أن اسم الرحمن هو اسم الله الأعظم . وفي آية ثانية :
﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ﴾
﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي))
والله جلّ جلاله أعلن لعباده جميعاً سعة رحمته ، وسعة مغفرته ، فقال تعالى :
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾
أليس ذنبك شيئًا ؟ مهما كان الذنب عظيماً فإن رحمة الله أوسع منه .
وفي آية أخرى :
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾
وفي آية ثالثة :
﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾
مهما اتسعت دائرة الذنوب فميدان المغفرة أوسع منها .
روى الحاكم عن سيدنا جابر أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
((يا رسول الله وا ذنوباه ، قال هذا مرتين ، أو ثلاثًا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي ، ورحمتك أرجى عندي من عملي))
هناك إنسان له عمل طيب ، ولكنه أشرك هذا العمل الطيب مع رحمة الله فاعتمد على عمله ، لا على رحمة الله ، النبي عليه الصلاة والسلام يعلمنا أن ندعو بهذا الدعاء :
((....اللهم إن مغفرتك أوسع من ذنوبي ، وإن رحمتك أرجى عندي من عملي ، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عد فقلها ، قالها مرةً ثانية ، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعد ، أي قُلها مرةً ثالثة ، وبعد أن قالها ثلاثاً ، قال عليه الصلاة والسلام : قم فقد غفر الله لك ))
((اللهم إن مغفرتك أوسع من ذنوبي ، وإن رحمتك أرجى عندي من عملي))
قلها ثلاثاً ، والله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب .
من اتجه إلى الله عز وجل وصل لكلّ شيء :
أيها الأخوة الكرام ؛ روى ابن ماجه بسند جيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكُمُ السَّمَاءَ ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ عَلَيْكُمْ ))
((وإذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى مناد في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله))
أيها الأخوة الكرام ؛ أرجى آية كما قلت في مطلع الخطبة :
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
((إن أعظم آية في القرآن الكريم ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾وإن أعدل آية في القرآن الكريم ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾وأخوف آية في القرآن الكريم ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾وأرجى آية في القرآن الكريم ﴿قُلْ يَا عِبِادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾))وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ((أرجى آية : ﴿قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمِئِنَّ قَلْبِي﴾فرضي الله عز وجل منه كلمة بلى وقبله ))
وبعض العلماء يرى أن أرجى آية :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
مثلت مرةً معنى هذه الآية بمثلٍ ؛ لو أن إنساناً له مبلغ كبير جداً سيقبضه في حلب ، وركب قطار حلب ربما أخطأ أخطاءً كثيرةً لعله قطع في الدرجة الأولى ، وركب خطأً في الدرجة الثالثة ، لكن الطريق يسير إلى حلب ، لعله جلس إلى شباب صاخبين ، ومزعجين وتحمل من عنتهم ما تحمل ، لكن الطريق متوجه إلى حلب ، لعله تلوى من الجوع ولا يعلم أن في القطار مركبة غذاء ، ذاق ألوان الجوع ولكن القطار متَّجهٌ إلى حلب ، لعله ركب عكس جهة القطار فأصابه دوار ، ولكن القطار متجه إلى حلب ، هذه أخطاء كثيرة ، لكن القطار يمشي إلى حلب وسيأخذ هذا المبلغ الكبير ، أما هناك خطأ لا يُغفر ، ولا يُتصور ، أن تكون وجهته إلى حلب ويركب قطار درعا ، لن يقبض شيئاً ، لن يأخذ شيئاً ، لن يصل إلى شيء ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
إذا اتجهت إلى غيره ليس هناك شيء ، ليس هناك شيء على الإطلاق ؛ لأن العبد فقير ، توجهت إلى عبد لئيم ، أو توجهت إلى عبد ضعيف ، أو توجهت إلى عبد فقير ، أو توجهت إلى عبد يرق قلبه لك ، ويداه مكتفتان لكنك إذا توجهت إلى العلي القدير وصلت إلى كل شيء .
(( ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ))
لذلك أرجى آية عند بعض العلماء :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
وأرجى آية عند بعضهم الآخر :
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
وأرجى آية عند بعض العلماء الآخرين :
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
وقفة قصيرة عند عسى و لعل :
أيها الأخوة الكرام ؛ وقفة قصيرة عند عسى ، وعسى من الله عز وجل فيها إطماع، ووعد ، وفتح باب الرجاء ، عسى من أفعال المقاربة ، والكريم إذا أطمع لم يمنع ، والله تعالى أكرم وأجلُّ ، عسى ولعل من الله تعالى واجبة التحقق إذا دخلت على فعل من أفعال الله عز وجل :
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ﴾
﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾
عسى ولعل تفيدان الترقب ، لكن عسى ولعل إذا اقترنتا بفعل من أفعال الله عز وجل تفيدان وجوب التحقق .
غفران الله عز وجل للأغلاط التي ترافقها توبة و ندم :
أيها الأخوة الكرام ؛ وبعض العلماء يرى أن أرجى آية في كتاب الله :
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
وأرجى آية في كتاب الله عز وجل :
﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾
من كذب ، التكذيب كفر ، والتولي إعراض ، لكن الأغلاط التي ترافقها التوبة والندم، الله جل جلاله يغفرها .
تقديم الله مغفرة الذنب على التوبة منه :
وبعضهم يقول : إن أرجى آية في كتاب الله :
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾
ويعلق ويقول : إنه إذا أذن للكافر بدخول باب التوبة ، إذاً إذا أتى بالتوحيد أفتراه يخرج الداخل فيها والمقيم عليها ؟ الكافر الذي هو عدو الله إذا جاء تائباً وموحداً يأذن الله له بدخول رحمته .
وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله :
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾
دققوا في هذه الآية : قدم الله مغفرة الذنب على التوبة منه ، غافر الذنب قابل التوب، قبل أن تذنب ، لو أذنبت سيغفر لك :
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾
فكأنه يغفر للمذنب قبل أن يتوب ، وهذا يذكرنا بقوله تعالى :
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾
المعنى إن بعد العسر يسراً . لكن الله جل جلاله طمأن المؤمن على أن هذا العسر الذي أنت فيه سيعقبه يسر ينسيك إياه ، ولكن مبالغة في التطمين قال :
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾
ثم ذكر الله الوعيد بين وعود كريمة سابقة ولاحقة .
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾
وعْدٌ ، و :
﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾
وعيدٌ .
﴿ذِي الطَّوْلِ ﴾
أي ذي الخير العميم ؛ وعد ، جعل وعيده بين وعدين كريمين تطميناً لهذا الإنسان ، فإن رحمته غلبت غضبه ، وسبقت غضبه.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، افتقد رجلاً من أهل الشام فقيل له : تتابع في الشراب ، أي غرق في شرب الخمر ، فقال عمر لكاتبه : اكتب ، من عمر بن الخطاب إلى فلان الفلاني ، إلى هذا الذي افتقده عمر وقد غرق في شرب الخمر ، سلام عيك ، فأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾
هذا هو الكتاب ، وختم الكتاب ، وقال عمر لحامل الكتاب : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً . هو غارق في السكر ، ثم أمر عمر من عنده بالدعاء لذلك الرجل بالتوبة ، دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب لا ترد ، أمر عمر لمن حوله من جلسائه بالدعوة لهذا العاصي بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرأها ، ويقول : قد وعدني ربي أن يغفر لي وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ، ثم نزع عنه الشرب ، وحسنت توبته ، فلما بلغ عمر توبته قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زلَّ زلةً ، هكذا فاصنعوا فسددوه و وقفوه ، وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه ، أي لا تسبوه ، لا تطعنوا فيه ، لا تشتموه ، لا تتعجلوا إقامة الحد عليه ، لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم ، بل كونوا عوناً له على الشيطان .
من أين أخذ عمر هذه التوجيهات ؟ . . أخذها من سيد المخلوقات ، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ :
((إِنَّ أَوَّلَ رَجُلٍ قُطِعَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا سَرَقَ فَكَأَنَّمَا أُسِفَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَادًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ يَقُولُ مَا لَكَ ؟ فَقَالَ : وَمَا يَمْنَعُنِي وَأَنْتُمْ أَعْوَانُ الشَّيْطَانِ عَلَى صَاحِبِكُمْ ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ ، وَلَا يَنْبَغِي لِوَالِي أَمْرٍ أَنْ يُؤْتَى بِحَدٍّ إِلَّا أَقَامَهُ ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾قَالَ يَحْيَى أَمْلَاهُ عَلَيْنَا سُفْيَانُ إِمْلَاءً))
ما دام قد وصل هذا الحد إلى الإمام لابد من أن يقيم الحد ، لكن ليتكم لم تبلغوني ، ليتكم عفوتم عنه قبل أن يصل إليّ الحد ، لهذا ليس المسلم مكلفاً أن يبلغ الحد للإمام أبداً ، أما أنه إذا وصل الحد إلى الإمام فقد ورد في بعض الأحاديث : " لا عفا الله عنه إن عفا ".
لأنه إذا بلغ الحد إلى الإمام فلم يقمه ضاعت معالم الدين ، لكن هذا المسلم لا ينبغي أن يسعى أن يوصل أخاه إلى الإمام ليقام عليه الحد ، ليس هذا من توجيه النبي :
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
من هذا الموقف الرحيم أخذ سيدنا عمر توجيهاته . كأن النبي صلى الله عليه وسلم كشرح لهذه القصة ، إن أحدكم إذا سرقه سارق فلا يعجل لرفع الأمر إلى الإمام وتنفيذ الحد فيه ، بل ليعفُ وليصفح ، فإن الله تعالى يحب العفو ، أما إذا ارتفع الأمر إلى الإمام ، وأثبت ذلك بالشهادة ، وجب على الإمام أن يقيم الحد لا محالة .
آيات من سورة النساء خير مما طلعت عليه الشمس :
قال الحافظ السيوطي : أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : " ثماني آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس".
كم في الدنيا من مرافق ، وشركات ، وأموال ، وأرباح ، وخيرات ، وثروات ، ومناصب ، وفلزات ، كم ؟ " ثماني آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس " ما هي هذه الآيات ؟ الآية الأولى :
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
الذي يقول : لا يريد الله لي التوبة ، هذا كلام شيطان ، قال الله عز وجل :
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
لم يكتب الله لي الهداية ، لم يشأ الله أن أتعرف عليه . . هذا كلام الشيطان ، كلام القرآن :
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
هذه الآية الأولى ، الآية الثاني :
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾
هل هناك آية أوضح دلالة من هذه الآية ؟
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾
التزام الجماعة و الابتعاد عن الفرقة :
لذلك :
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
لك أب أنجبك ، ولك أب زوجك ، ولك أب دلك على الله .
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾
((عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ))
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((قَالَ : صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً))
من أجل أن تكون مع أخيك ، من أجل أن تتفقد حال أخيك ، من أجل أن تعين أخاك ، من أجل أن تنصحه ، من أجل أن تأخذ بيده إلى الله ، من أجل أن تضع نفسك في خدمته كي يتوب الله علينا جميعاً .
الآية الثانية :
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
الآية الثالثة :
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾
حينما يرتكب الإنسان المعاصي يحمل نفسه ما لا يطيق ، يحمل نفسه ما لا يحتمل ، حتى أن الله سبحانه وتعالى يعجب ويقول :
﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾
هذا الذي يأكل المال الحرام كيف سيصبر على النار ؟ هذا الذي يعتدي على أعراض المسلمين كيف سيصبر على النار ؟ يريد الله أن يخفف عنكم هذه الأحمال الثقيلة ، هذه الذنوب العظيمة .
﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾
المصائب والهموم والأحزان كفارة لذنوب المؤمن :
الآية الرابعة : التي هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس كما قال ابن عباس رضي الله عنه :
﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ﴾
إن لم ينتهك عرضاً ، أو يأكل مالاً حراماً ، أو يفعل فاحشة ، مادام في الصغائر فالله سبحانه وتعالى يسوق له من الشدائد كي يطهره من الصغائر .
وذكرت هذا في الخطبة السابقة بشكل تفصيلي ، فإن كل المصائب والهموم والأحزان التي تصيب المؤمن هي كفارة لذنوبه .
قال النبي عليه الصلاة والسلام للسيدة فاطمة:
((مالك يا بنيتي ؟ قالت : حمى لعنها الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا فاطمة لا تلعنيها فوالذي نفس محمد بيده لا تدع المؤمن وعليه من ذنب ))
الحمى ، ارتفاع الحرارة ، المرض يطهر .
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي))
ربنا كريم ، إذا سلب من عبد بعض صحته فذلك ليعوضه أضعافاً مضاعفة من رحمته ، لذلك إذا عدت مريضاً مؤمناً تشعر بالراحة ؛ لأنه قريب من الله ، سلب الله صحته ، وعوضه رحمته ،
((...أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ..)).
الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة و يحاسب كل إنسان على عمله :
الآية الخامسة التي هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾
المؤمن ينفق النفقة أو يطعم اللقمة فيراها يوم القيامة كجبل أحد ، أرباها الله له .
وفي الآية السادسة :
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾
يشعر ، أو أن الله يلقي في روعه أنني غفرت لك . المستغفر والتائب يشعر أن جبالاً شاهقات قد أزيحت عن صدره ، مشاعر التائب لا توصف ، حينما تصطلح مع الله ، وحينما تتوب إليه ، وحينما تقبل عليه تشعر وكأنك فوق الأرض تطير من شدة الفرح :
((لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد ، والعقيم الوالد ، والظمآن الوارد))
والآية السابقة وكلها في سورة النساء ، ثماني آيات في سورة النساء :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
والآية الثامنة :
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ﴾
اجتماع الخلفاء الأربعة و البحث عن أرجى آية في القرآن الكريم :
أيها الأخوة الكرام ؛ ورد في تفسير الألوسي أن الخلفاء الراشدين الأربعة اجتمعوا مرةً، وتذاكروا في أرجى آية في كتاب الله ، فقال عمر : لم أر آيةً أرجى من قوله تعالى :
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾
قدم المغفرة على التوبة ، وجعل الوعيد بين وعدين كريمين ، فقال عثمان رضي الله عنه : لم أر في كتاب الله أرجى من قوله تعالى :
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾
فقال علي كرم الله وجهه : وأما أنا فلم أر في كتاب الله تعالى أرجى من قوله :
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
أما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فقال : لم أر في كتاب الله تعالى أرجى من قوله :
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ﴾
لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران ،
﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾
مجازاة الله العبد على أحسن ما كان يعمل :
أيها الأخوة الكرام ؛ وقبل أن ينتهي الموضوع قال تعالى :
﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام دققوا جيداً ؛ فالذين اقترفوا السيئات يكفر الله عنهم أسوأ الذي كانوا يعملون ، فإذا كفّر عنهم أسوأ ما علموا فتكفيره لما دون ذلك من باب أولى ، أما إذا جازاهم فسيجازيهم على أحسن أعمالهم ، سيكفر عنه أسوأ الذي عملوا ، وسيجزيهم على أحسن ما كانوا يعملون .
أيها الأخوة الكرام ؛ في ختام هذا الموضوع قال تعالى :
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾
نتقبل منهم أم نتقبل عنهم ، في المعاجم نتقبل منهم ، في الآية نتقبل عنهم ، قال علماء التفسير : حينما عدل الله عن قوله نتقبل منهم إلى نتقبل عنهم ضمن التقبل معنى الصفح والعفو ، نصفح عنهم ، ونعفو عنهم ، ونقبل توبتهم ، ثم نتقبل منهم .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني . .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تحريم إضاعة الوقت و اللعب بالنّرد :
أيها الأخوة الكرام ؛ لهذا الموضوع تتمة ، في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى ، وتتمته متعلقة بالسنة النبوية المطهرة ، وما فيها من أحاديث صحيحة حول الرجاء برحمة الله ومغفرته .
أخرج ابن ماجه وأبو داود عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ))
اللعب بالنرد للساعة الثانية ليلاً . . وأخرج الإمام مسلم وابن ماجه وأبو داود عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((مَنْ لَعِبَ بالنرد - وفي رواية بِالنَّرْدَشِيرِ - فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ))
النردشير : أي الطاولة . مذهب الجمهور ، جمهور الفقهاء قال : إن اللعب بالنرد حرام سواء اقترن بقمار أو لم يقترن ، وذلك لأنه ذريعة ووسيلة إلى القمار ، وقد نرى الناس يلعبون النرد من غير قمار ، ثم لا يلبثون أن يلعبوه مع القمار ولو لأشياء تافهة ، كدفع ثمن الطعام مثلاً
وهذا هو القمار بعينه ، ويعتقدون خطأً و واهمين أن ذلك ليس من القمار ، والحق أنه قمار بعينه ، وإن بدا بصورة تراض أخوي ، وسمر ، وأنس ، وتمضية وقت ، هذا ليس من شأن المسلم إطلاقاً .
قال أحد العلماء : إنما حُرم النرد لأن التعويل فيه على ما يخرج مكعبا الزهر فهو كالأزلام ، الاستقسام بالأزلام ، أي يقوم على الحظ .
وقال الإمام النووي : شُبه تحريم النرد بتحريم أكل لحم الخنزير ودمه وكنى عن الأكل بغمس اليدين فيه . . لو أن ذبيحة وُضعت أمام الضيوف ، وشمروا ليأكلوا ماذا يفعلون ؟ يغمسون أيديهم في لحم هذا الخروف مثلاً ، فكنى عليه الصلاة والسلام عن أنهم كأنهم يأكلون لحم الخنزير بغمس يدهم بلحمه ودمه .
وقال أحد العلماء : الحد الأدنى من التحريم أن هذه الساعات الطويلة التي لا جدوى منها ، لو أنك نمت فاسترحت ، أو جلست مع أهلك تؤنسهم ، أو تلوت القرآن ، أو جلست في مجلس علم ، أو قرأت كتاباً نافعاً ، لكان خيراً لك ، لذلك قال الله تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾
واللغو ما سوى الله عز وجل ، كل شيء يتصل بالله عز وجل وبالآخرة وبفعل الخير جيد ، أما كل شيء يبعد فمحرم ، الحد الأدنى أن هذا الوقت الثمين الذي أنت في أمسِّ الحاجة إليه تنفقه في عمل لا جدوى منه مبدئياً إن لم يسبب المتاعب والحزازات .
الدعاء :
هَبْ لنا عملاً صالحاً يقرِّبنا إليك ، اللهم أعطِنا و لا تحرمنا ، أكرِمنا و لا تُهِنَّا ، آثِرنا و لا تُؤثر علينا ، أرضِنا و ارضَ عنا ، أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، و أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا ، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجعل الحياة زادًا لنا من كل خير ، و اجعل الموت راحة لنا من كل شرٍّ ، مولانا ربَّ العالمين ، اللهم اكفِنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تُؤمِنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترَك ، ولا تنسِنا ذكرَك يا ربَّ العالمين ، اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذُّل إلى لك ، نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السَّلب بعد العطاء ، مولانا ربَّ العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمةَ الحق والدين ، وانصُر الإسلام ، وأعزَّ المسلمين ، و خذْ بيد ولاتهم إلى ما تحبُّ وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، و بالإجابة جدير .