- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين.
تمهيد .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في حياة الإنسان الشارد عن ربّه قِيَمٌ ماديّة طاغيَة ؛ هي بِشَكل أو بآخر موازين غير صحيحة يوزنُ بها الإنسان في المجتمع المادّي ، كالمال ، والقوّة ، والوسامة ، والذكاء ، وهي قِيَمٌ مُضَلّلة تحجب الإنسان عن حقيقته الإنسانيّة ، وعن رسالته الربانيّة ، تحجبه عن سرّ وُجوده ، وغاية وُجوده ، وعن مصيره الأبدي ، وحينما يرحل الإنسان من حياته الدنيا الفانيَة إلى حياته الأخرى الباقِيَة يُصْعَق ، حينما تنهار أمامه القِيَم الماديّة ، وتتعطّل الموازين غير الصحيحة ، وتسقط الأقْنِعَة المزيّفة ، وتنْزاح الحُجَب المضلّلة ، كلُّ هذا بعد فوات الأوان ، يُصْعق الإنسان حينما يقيَّمُ عملهُ في الدنيا وفق مقاييس جديدة ، وفْق مدى معرفته بربّه ، ومعرفته لِمَنهج ربّه ، واستقامته على منهج ربّه ، وبحجْم أعماله الصالحة التي نفعَ بها الخلق .
الحج .
يا أيها الأخوة الكرام ؛ لأن لا يُصْعق الإنسان في رحلته الأخيرة فرض الله الحج على المُسْتطيع الموسِر لِيَكون الحجّ رحلةً إلى الله قبل الأخيرة ، فلعلّهُ يستعِدّ من خلال دروسها البليغة لرحلةٍ أخيرة .
المُستطيع أيّها الأخوة ؛ هو من يجد مالاً ، وصحّةً ، وراحلةً يعينهُ على أداء هذا المنْسك العظيم .
أيها الأخوة الكرام ؛ الحجّ بِتعبير دقيق ؛ رحلةٌ إلى الله تعالى ، فقد شاءَت إرادة الله لحِكمةٍ مطلقة مراعاةً للنَّزْعة الماديّة في كيان الإنسان ، شاءت إرادة الله أن يضع للناس في الأرض بيتًا له ، يُمَكِّنُ المؤمنون به لكي يُعَبِّروا من خلال إتْيان هذا البيت من كلّ فجٍّ عميق ، من أن يُعَبِّروا عن حبّ الله ، وشوْقِهِم إليه ، فالمؤمن يؤكّد من خلال قصْده البيت الحرام مُلَبِّيًا دعْوَةَ ربِّه أنَّ الله أحبُّ إليه من أهله وولده وماله وعمله وبلده والناس أجمعين ، فيتحمَّل الحاجّ نفقات الحجّ التي ربّما كانتْ باهظة ، ويتحمَّل ترْك الأهْل والولد الذي ربّما كان صعْبًا ، ويتحمَّل ترْك العمل والكسْب الذي ربّما كان أثيرًا ، كلّ ذلك حبّا لله ، وطمَعًا للقُرْب منه ، وشاءت حكمة الله أيضًا أن يكون بيتهُ الحرام في المنطقة الحارّة من الأرض ، وفي وادٍ غير ذي زرْع لِيَكون واضحًا لدى الحاجّ أنَّ الاتّصال الحقيقيّ بالله يُحَقّق للمرء سعادةً يستغني بها عن كلّ الشروط الماديّة التي يتوهَّم أنَّها سبب سعادته ، وأنّ سعادة الإنسان تنْبع من داخله لا ممَّا يحيط به نفسه من أنواع النعيم .
أيها الأخوة الكرام ؛ كما قلتُ لكم سابقًا لو كان البيت الحرام في المنطقة المعتدلة من الأرض حيث الجبال الخضراء ، والمياه العذبة ، والبحيْرات الصافية ، والبساتين الغنّاء ، والجوّ اللّطيف ، والنسيم العليل ، وكان الحجّ على مدار العام دَفْعًا للازدحام ، لأقْبَلَ كلّ الخلق على أداء هذه الفريضة المُمْتعة طلبًا للاسْتِجمام لا حُبًّا بِخَالق الأكوان .
أخوة الإيمان ؛ قال تعالى :
﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾
شيءٌ آخر في الحجّ ، فضلاً عن موقع بيت الله الحرام ، وعن طبيعة الأجواء فيه ، فإنّ الحاجّ المُحْرِم يُحْضر عليه لُبْس المَخيط ، والمُخيط من الثّياب ، ويُحْضَر عليه التّطيّب بكلّ أنواع الطيب ، ويُحْضر عليه الحلْق والتقصير ويحْضرُ عليه مقاربة المُتَع المتاحة في خارج الحجّ ، كلّ ذلك لِيُحْكِمَ اتِّصالهُ بالله تعالى ، ولِيَسْعد بقُرْبهِ وحده بعيدًا عن كلّ مُداخَلَةٍ من مُتَع الأرض ليَتَحقّق للحاجّ أنَّه إذا وصل إلى الله وصلَ إلى كلّ شيء ، وأنّ الدنيا كلها لا يمكن أن تُسْعِدَ الإنسان ، ولِيَنْطلِقَ لِسانهُ بِشَكلٍ عَفْويّ قائلاً : ماذا فقدَ من وَجَدَكَ ؟ وماذا وَجَدَ من فقَدَكَ ؟ .
أيها الأخوة ؛ مُجْمَل القَول أنَّ الحجّ عبادة قِوامُها اتِّصال مُتَمَيِّزٌ بالله عز وجل ثمنهُ التَّفَرّغ التامّ ، إذْ لا يُؤدَّى الحجّ إلا في بيت الله الحرام ، إذْ لا بدّ من مغادرة الأوطان ، وترْك الأهل والخُلاّن ، وتحمّل مشاقّ السّفر ، والتَّعرّض لأخطارهِ ، وإنفاق المال ابتغاء مرضات الله ، وإذا صحّ أنّ ثمَنَ هذه العبادة باهظ التكاليف فإنَّه يصِحّ أيضًا أنَّ ثمارها باهرة النتائج .
قال عليه الصلاة والسلام مُنَوِّهًا بثِمار هذه العبادة البدنيّة الشعائريّة المكانية الزمانيّة والماليّة فيما رواه البخاري ومسلم :
عنَّ أَبَا حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))
وأنّ الحجّ يهدم من كان قبله ، وأنّ الحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنّة ، والحجاج والعمّار وفْد الله إن دَعَوْهُ أجابهم ، وإن اسْتغفروه غفر لهم ، والحج والعمرة يَنفيان الفقْر والذنوب وأنّ النّفقة في الحجّ كالنّفقة في سبيل الله ، هذه كلّها أحاديث صحيحة وردَت في فضل الحجّ .
الاستعداد والتهيؤ قبل الحج .
أيها الأخوة الكرام ؛ لكن لابدّ من بعض الملاحظات ، فلكي تؤدّ هذه العبادة العظيمة على نحْوٍ يقبلها الله عز وجل ، ويرضى عنها ، ولكي لا ينفق الإنسان المال الكثير والوقت الثمين ويتجشّم المشاق ثمّ لا تُقْبلُ حجَّتهُ ، ويُقال له : لا لبّيْك ، ولا سعْدَيْك ، وحجّك مرْدود عليك ، ولأن لا تضيع جثه سُدَى ، على الحاجّ أن يتوب قبل ذهابه إلى الحجّ ، من كلّ الذنوب والآثام ، كبيرها وصغيرها ، جليلها وحقيرها ، فيجْتنبَ كلّ كسْبٍ حرام ، وكلّ علاقة متلبّكة بالآثام ، عليه أن يؤدِّيَ حقوق العباد ، لأنّ حُقوق العباد مبْنيّة على المشاححة ، وحقوق الله جلّ جلاله مبنيّة على المسامحة ، عليه أن يؤدّي الحقوق ، وأن يقْلِعَ عن الذنوب ، والأهمّ من هذا كلّه أن يعْقد العزم على أن لا يعود إليها بعد الحجّ ، وإلا أصبح الحجّ طقسا من الطقوس التي لا معنى لها ، فَمِنَ الخطأ الكبير أيّها الأخوة ، ومن الوهْم الكبير أن يظنّ الحاجّ أنّ الحجّ يهْدِمُ ما قبله من الذنوب ، وفيه تغْفر كلّ خطيئة ، وقد أجمع العلماء أنّ الأحاديث الشريفة التي تُبيّن أنّ الحاجّ يعود من الحجّ كيَوْم ولدتْهُ أمُّه ، وقد غُفِرَتْ ذنوبه كلّها ، هذه الذنوب التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام هي الذنوب التي بين عبده ربّه حصْرًا ، أما الذنوب التي بينه وبين الخلق ، وأما الحقوق التي في ذِمَّته ، وأما الواجبات التي قصّر في أدائها ؛ هذه لا تسْقُط ، ولا تُغْفرُ إلا بالأداء ، أو المسامحة ، فالذنوب كما قال العلماء ، أو كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثة ؛ ذَنْبٌ لا يُغْفر وهو الشّرك بالله ، وذنْبٌ لا يُتْرَك وهو ما كان بين العبد والخلق ، وذنْبٌ يُغْفر وهو ما كان بين العبد و ربّه .
أيها الأخوة الكرام ؛ يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام ، ويُخَلِّف في بلْدته هُموم المعاش ، هموم الرّزق ، هموم العمل ، هُموم الكسْب ، هموم الزوجة ، هموم الولد ، هموم الحاضر ، هموم المستقبل ، وبعد أن يُحْرِمَ من الميقات يبْتعد عن الدنيا كليًّا ، ويتجرَّد إلى الله عز وجل ، ويقول : لبّيْك اللهمّ لبّيْك ، لبّيْك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنِّعمة ولك والملك ، لا شريك لك ، ما معنى هذه التَّلْبِيَة ؟ هذه التَّلْبِيَةُ أيها الأخوة كأنّها اسْتجابة من العبْد لِنِداءٍ ودعْوةٍ يقعان في قلبه ، أنْ يا عبدي خلِّي نفسكَ وتعال ، تعال يا عبدي لأُريحَكَ من هُموم كالجبال ، تجْثم على صدرك ، تعال يا عبدي لأُطهّرك من شهواتٍ تُنَغِّصُ حياتك .
فإلى متى أنت باللّذات مَشغول وأنت عن كلّ ما قدَّمْت مسؤول
تعال يا عبدي وذُقْ طعْم محبّتي ، تعال يا عبدي وذُقْ حلاوة مناجاتي ، لبّيْك اللهمّ لبّيْك ، لبّيْك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنِّعمة ولك والملك ، لا شريك لك ، تعال يا عبدي لأريَك من آياتي الباهرات ، تعال يا عبدي لأُرِيَكَ ملكوت الأرض والسماوات ، تعال يا عبدي لأُضيء جوارحك بِنُوري الذي أشْرقَت به الظلمات ، تعال يا عبدي لأَعْمُرَ قلبكَ بِسَكينةٍ عزَّتْ على أهل الأرض والسماوات ، تعال يا عبدي لأملَكَ نفسك غِنًى ورضًى شَقِيَتْ بفقْدِهما نفوسٌ كثيرات ، تعال يا عبدي لأخرجَ من وُحول الشَّهوات إلى جنّات القربات ، تعال يا عبدي لأُنْقذك من وَحْشة البُعد إلى أُنس القرب ، تعال يا عبدي لأُخلّصك من رُعْب الشّرك وذلّ النّفاق إلى طمأنينة التوحيد ، وعِزّ الطاعة ، يقول العبد : لبّيْك اللهمّ لبّيْك ، لبّيْك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنِّعمة ولك والملك ، لا شريك لك ، تعال يا عبدي لأنقلك من دُنياك المحدودة ، وعملك الرتيب ، وهمومك الطاحنة إلى آفاق معرفتي ، وشرف ذكري ، وجنّة قربي ، تعال يا عبدي وحُطّ همومك ومتاعبك ومخاوفَكَ عندي فأنا أضْمنُ لك زوالها ، تعال يا عبدي واذْكُر حاجاتك وأنت تدعوني وأنا أضْمنُ لك قضاءها ، إنّ بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوّارها هم عمّارها ، فطُوبى لِعَبْد تطهّر في بيته ثمّ زارني ، وحُقّ على المزور أن يُكْرم الزائر ، كيف يكون إكرامي لك إذا قطعت المسافات ؟ وتجشَّمْت المشقات ، وتحمَّلْت النفقات ، زرْتني في بيتي الحرام ، ووقفْتَ بِعَرفة تدعوني ، وتسْترضيني ، لبّيْك اللهمّ لبّيْك ، لبّيْك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنِّعمة ولك والملك ، لا شريك لك ، تعال يا عبدي وزرْني في بيتي ، لِتَنْزاحَ عنك الأوهام ، ولِتُعايِنَ الحقائق ، ولِتَسْتعِدَّ للّقاء فإنَّ عبدًا أصْحَحْتُ له جسمهُ ووسَّعْتُ عليه في المعيشة ، ومضَتْ عليه خمسة أعوامٍ لم يفِدْ إليّ لَمَحْروم ، تعالى يا عبدي وطُفْ حول الكعبة طواف المحبّ حول محبوبه ، واسْعَ بين الصفا و المرْوَة سعْيَ المُشْتاق لِمَفْقوده ، تعال يا عبدي وقبِّلْ الحجر الأسْوَد ، يميني في الأرض ، وازْرِف الدَّمْع على ما فات من عمُرٍ ضيَّعْتهُ في غير ما خُلقْت له ، وعاهدني على ترك المعاصي ، والمخالفات ، والإقبال على الطاعات والقربات ، وكن لي كما أريد لأكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ولا تُعْلمْني بما يُصْلحُكَ ، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفَيْتُكَ ما تريد ، وإن لم تُسَلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثمّ لا يكون إلا ما أريد ، خلقتُ لك ما في الكون من أجلك فلا تتْعب ، وخلقْتُك من أجلي فلا تلعب ، فَبِحَقّي عليك لا تتشاغل بما ضمنتهُ لك عما افْترضْتهُ عليك ، لبّيْك اللهمّ لبّيْك ، لبّيْك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنِّعمة ولك والملك ، لا شريك لك ، تعال يا عبدي إلى عرفات ، يوم عرفة فهو يوم اللّقاء الأكبر ، تعال لِتَتَعَرَّض لِنَفْحةٍ من نفحاتي تُطَهِّرُ قلبك من كلّ درَنٍ وشهوة ، وتُصفّي نفسكَ من كلّ شائبةٍ وهمّ ، هذه النفحات تملأُ قلبك سعادةً وطمأنينة ، وتشيع في نفسك سعادةً لو وُزِّعَت على أهل بلدٍ لكفتْهم ، عندئذٍ يا عبدي لا تندم إلا على ساعة أمْضيْتها في القيل والقال ، وكثرة السؤال وإضاعة المال ، تعال إلى عرفات ، يوم عرفة لِتعرف أنَّك المخلوق الأوّل من بين كلّ المخلوقات ، ولك سُخِّر الأرض والسماوات ، وأنّك حمِّلْت الأمانة التي أشْفقَتْ منها الجبال والأرض والسماوات ، وأنِّي جئْتُ بك غلى الدنيا لِتَعرفني ، ولِتَعْمل عملاً صالحة يؤهِّلُكَ لِجَنَّة الخلد ، تعال إلى عرفات يوم عرفة لِتَعرف أنَّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وأنَّك إن وجدْتني وجَدْت كلّ شيء ، وإن فتُّكَ فاتَكَ كلّ شيء ، وبعد أن يذوق المؤمن في عرفات من خلال دعائه وإقباله واتِّصاله روْعَةَ اللّقاء وحلاوَة المناجاة ينغمسُ في لذّة القرب ، عندئذٍ تصغر الدنيا في عَيْنَيْه ، وتنتقل من قلبهِ إلى يديه ، وتصبحُ أكبر همِّه الآخرة ، فيسْعى إلى مقْعد صِدْ عند مليك مُقْتدر ، وقد يُكشف للحاج في عرفات أنّ كلّ شيء ساقهُ الله له ، مما يكرهه هو محض عَدلٍ ، ومحْضُ فضلٍ ، ومحض رحمةٍ ، عندئذٍ يتحقّق من قوله تعالى :
﴿أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
مناسك الحج .
أيها الأخوة الكرام ؛ بعد أن يفيض الحاجّ من عرفات ، وقد حصَلَتْ له المعرفة واستنار قلبهُ ، وصحَّت رؤيتُه ، يرى أنَّ السعادة كلّها في طاعة الله ، وأنّ الشّقاء كلّه في معصيته ، عندئذٍ يرى عداوة الشيطان ، وكيف يأمره بالسوء والفحشاء ، ويوقِعُ بينه وبين إخوانه العداوة والبغضاء ، وأنّه يعِدُ أولياءه بالفقر إذا أنْفقوا ، ويُخَوِّفهم ممَّا سِوَى الله إذا أنابوا وتابوا ، ويَعِدُهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا ، قال تعالى :
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
عندئذٍ أيها الأخوة يُعَبِّرُ الحاجّ عن عداوة الشيطان تعبيرًا رمزيًّا بِرَمْي الجِمار ليَكون الرّمْي تعبيرًا مادِّيًا ، وعهْدًا موثَّقًا عن عداوَة الشيطان ، ورفضًا لِوَساوِسِهِ وخطراته ، يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : اعلم أنّك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة ، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان وتقصم ظهره ، ولا يحصل إرْغام أنفهِ إلا بامتِثالِكَ أمْر الله تعالى .
أيها الأخوة الكرام ؛ وحينما يتَّجِهُ الحاجّ لِسَوق الهَدي ، ونحْر الأضاحي وكأنَّ الهدْي هديّة إلى الله تعالى تعبيرًا عن شُكرهِ لله تعالى على نعمة الهدى التي هي أثْمنُ نعمةٍ على الإطلاق ، وكأنّ ذبْح الأضحيَة ذبحٌ لِكُلّ شهْوةٍ ورغبةٍ لا ترضي الله تعالى ، وتضحية بكلّ غالٍ ورخيص ، ونفْسٍ ونفيس في سبيل مرضات الله ربّ العالمين ، قال تعالى :
﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾
ثمّ يكون طواف الإفاضة تثْبيتًا لهذه الحقائق ، وتلك المشاعر ، ثمّ يطوف طواف الوداع لِيَنطلقَ منه إلى بلده إنسانًا آخر اسْتنارَ عقلهُ بِحَقائق الإيمان وأشْرقَت نفسهُ بِأنوار القُرْب ، وعقدَ العزْم على تحقيق ما عاهَدَ الله عليه وإذا صحَّ أنَّ الحجّ رحلةٌ إلى الله ، فإنَّه يصِحّ أيضًا أنَّه رحلةٌ قبل الأخيرة ، لِتَكون الرحلة الأخيرة مُفْضِيَة إلى جنّة عرضها السماوات والأرض .
أيها الأخوة الكرام ؛ لنا في الأسبوع القادم متابعةٌ لهذا الموضوع نتحدّث عن معنى التكبير في عيد الأضحى ، عند الحجّاج وعند المقيمين في بلادهم ، ونتحدَّث عن معنى الأضحيَة إن شاء الله تعالى ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم فيا فوْز المستغفرين .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم .
تعريف الاستطاعة .
أيها الأخوة الكرام ؛ بِضْعُ نقاطٍ متعلّقة بالحجّ لا بدّ من توضيحها ، الاستطاعة التي وردَت في الآية الكريمة ، والتي تُعَدّ أصْلاً في فرضيّة الحجّ هي قوله تعالى
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
الاستطاعة أيها الأخوة : هي استطاعة بدنيّة ، وماليّة ، وأمْنيّة .
فالمسلم الذي لا يقوى جسمه على تحمّل مناسك الحجّ بِغَلَبَةِ يقينه ، أو بإخبار طبيب متخصّص مسلمٍ حاذق ورع ، هذا الإنسان ليس مستطيعًا أن يحجّ ، وتسقط عنه هذه الفريضة ، ولكنّه يجزئه أن يكلّف من يحجّ عنه في حياته ، أو يوصي بِحَجّة بدلٍ بعد مماته وفق أحكام هذا النوع من الحجّ .
والمسلم الذي لا يملك المال الكافي ، الذي يُغَطِّي نفقات الركوب بأنواعها ، ونفقات السَّكَن في مكَّة والمدينة ، وثمن الطّعام والشراب ، فضلاً عن نفقات أهله وولده في غَيْبَتِهِ ليس مستطيعًا .
إذًا : لا ينبغي للمسلم غير المستطيع أن يبذل ماء وجهه من أجل أن يجمع نفقَةَ الحجّ ، ولا أن يسْلُكَ المسالِكَ المُلْتَوِيَّة من أجل أن يحصّل نفقة الحجّ ، إنَّه في الأصْل ليس مستطيعًا ولا حجَّ عليه .
أما الاستطاعة الثالثة
(( الأمنية ))
: حينما يقرّر أولوا الأمر في ديار المسلمين أن يعتمدوا نظامًا يُتيحُ لِمَن لم يحجّ أن يحجّ ، ويمْنعوا من حجّ حجَّة الفريضة من أن يحجّ حجَّة النَّفْل قبل أقلّ من خمسة سنوات أو أكثر ، حينما يكون الباعث على هذا التنظيم إفْساح المجال للمسلمين الذين لم يحجُّوا حجَّة الفريضة أن يؤدُّوها بيُسْرٍ وطمأنينة ، فلا ينبغي للمرء أن يرتكبَ معْصيَةً ، وأنكِّرُها وأنتم تعلمون ما هذه المعصِيَة ؟ لا ينبغي للمرء المسلم أن يرتكِبَ معصيَةً لِيَحُجّ حجَّةً نافلة ، فالمُسلم الذي لم يُسْمح له بالحجّ لا يُعَدُّ مستطيعًا ، وقد يبلغُ المرءُ المؤمن بِنِيَّتِهِ ما لا يبلغُهُ بِعَمَلِهِ .
أيها الإخوة الكرام ؛ هذه نقطة ، والنقطة الثانية ؛ ما دام الحجّ من العبادات المالية التي تسْتوجِبُ إنفاق المال ، وفي الحديث الصحيح :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ))
فلا بدّ للمال الذي سيُنْفقُهُ الحاجّ في هذه الفريضة من أن يكون مالاً طيّبًا حلالاً ، فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة ، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور ، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز ، فنادى : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مبرور))
أيها الإخوة الكرام ؛ كلامٌ دقيق وواضِحٌ كالشَّمس ، بما أنَّ الحجّ فريضةٌ فرضَها الله تعالى على المُستطيع ، والفقير ليس مستطيعًا ، فلا ينبغي للفقير أن يقترضَ لِيَحُجّ .
عن عَبْدِ اللَّهِ بنِ أبي أوْفَى صاحِبِ النبيَّ صلى اللَّهُ عليهِ وسلم أنه قال:
((سَألْتُ عن الرجُلِ لم يَحُجَّ أَيَسْتَقْرِضْ للحَجّ ؟ قال : لا ))
أي لا يلزمه الاقتراض لأداء الحج ، وإنما يجب عليه إذا كانت النفقة في يده ولا يلزمه الشارع الاستدانة للحج وكثير من جهالنا يقترضون بالربا ويحجون وهذا خطأ مبين لا يقره عقل ولا دين لأن الفروض شرعت زواجر عن ارتكاب المحرمات فكيف تكون سببا في ارتكابها .
والمَدين لا تُقبلُ حجَّه إلا بِمُوافقة دائنِهِ .
أيها الأخوة الكرام ؛ نقطة ثالثة ؛ أجِدُ أنّني أشرحها لِضَرورة ماسّة ، وهذه النقطة الثالثة أهمّ النّقاط ، من فقه الرّجل أن يتحرّك في حياته وفْق سُلَّم الأوْلويَّات ، فإذا أدَّى حجَّة الإسلام ، وهي حجَّة الفريضة ، وتاقَتْ نفسهُ إلى أن يحجّ مرّة ثانية ، وثالثة ، وكان مستطيعًا بِمَاله ، وبدنه ، وموافقة أولي الأمر له ، ولم يُسْهِم من خلال تصريح غير مطابق للواقع في حِرْمان مسلمٍ من حجّة الفريضة ، وكان قد أدَّى كلّ ما عليه من واجبات تجاه والديه وأولاده وأخوته وأخواته وأصدقائهِ وجيرانه ، فلا عليه أن يحجّ ثالثة ورابعة ، فالحجّ جهاد لا شوْكة فيه ، وهو جهاد الكبير والمرأة والضعيف ، وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة في مسنده وأبو يعلى والبيهقي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول تبارك وتعالى :
((إن عبدا صححت له جسمه ، وأوسعت له في رزقه، يأتي عليه خمسين سنين لا يفد إلي لمحروم))
فإذا كنت صحيح البدن ، موْفور المال ، سُمِحَ لك أن تحجّ ، ولكن ، وأقول ولكن إذْ حينما يحجّ المسلم حجَّة الفريضة ، وله ولدٌ في سنّ الزواج ويخشى عليه الانحراف ، فالأولى أن يُزَوِّجه بدَلَ أن يحجّ حجَّة النَّفْل ، فأداء الواجبات مُقدَّم على فِعْل النوافل ، حينما يحجّ المسلمُ حجَّة الفريضة ، وله ولدٌ في سنّ الزواج ، ويخشى عليه الانحراف فعليه أن يزوّجهُ بدَلَ أن يحجّ حجَّة النَّفْل لأنّ درْء المفاسِد مقدّم على جلْب المصالح ، ولأنّ الله لا يقبلُ نافلةً أدَّتْ إلى ترْك واجبٍ ، وهذه قاعدة ، الله جلّ جلاله لا يقبلُ نافلةً أدَّتْ غلى ترْك واجبٍ ، قال تعالى :
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾
ومن أدعِيَة النبي عليه الصلاة والسلام : اللهمّ حجَّة لا سمعة فيها ولا رياء ، هذا الدعاء فيه إشارة بالغة إلى أنَّ هناك من يحجّ للسُّمْعة والرّياء .
موعظة .
أيها الأخوة الكرام ؛ قال ابن كثير رحمه الله في تاريخه خرج عبد الله بن المبارك إلى الحجّ ، فاجْتازَ بعض البلاد ، فمات طائرٌ معهم ، فأَمَرَ بإبقائِهِ في قُمامة البلدة ، وسار أصحابهُ أمامه ، وتخلّف هو وراءهُم ، فلمَّا مرَّ بالقمامة إذْ بِبِنْتٍ صغيرة قد خرجَت من دارٍ قريبة ، وأخذتْ ذلك الطائر الميّت ، ثمَّ أسْرعَت به إلى الدار ، فجاء ابن المبارك وسألها عن أمرها وأخذ الطائر الميّت ، فاسْتَحْيَت أوَّلاً ثمَّ قالَت : أنا وأمّي هنا ، وليس لنا شيءٌ إلا هذا الإزار ، وليس لنا قوتٌ إلا ما يُلقى على هذه القمامة ، وكان لنا والدٌ ذو مالٍ عظيم فَأُخِذَ مالهُ ، وقُتِلَ لِسَبب من الأسباب ، ولم يبقَ عندنا شيءٌ نتبلّغ ، أو نقْتاتُ منه ، سَمِعَ ذلك ابن المبارك فَدَمِعَتْ عَيْناهُ ، وأمرَ برَدّ الأحمال والمؤونة وقال لِوَكيلهِ : كم معَكَ من النّفقَة ؟ فقال : ألف دينار قال : أبْقِ لنا عشرينَ دينارًا تَكفينا لإيابنا وأعْطِ الباقي إلى هذه المرأة المُصابة ، فو الله لقد أفْجَعَتني بِمُصيبتها ، وإنَّ هذا أفضلُ عند الله من حجِّنا هذا العام ، ثمّ قفَلَ راجعًا ، ولم يحجّ واعْتَقدَ أنَّ هذه الصَّدَقة فوق الحجّ المبرور ، والسَّعي المشكور ، هكذا كان السّلف الصالح يعرفون حقيقة العبادات ، ويعرفون قيمة المعاملات ، ألَمْ يرِدْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : لأن أمشي مع أخٍ في قضاء حاجته خير من صيام شهر ، واعتكافه في مسجدي هذا ؟
العشر الأوائل من ذي الحجة
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لقد دخلنا في العشر من ذي الحجّة ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فعن ابن عباس مرفوعًا الذي رواه البخاري وأبو داود والترمذي والدارمي وابن ماجه والطحاوي والطبراني ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))
نحن في هذه الأيام العشرة هي أحبّ الأيّام إلى الله على الإطلاق ، فالصلاة في هذه الأيام ، والذِّكْرُ في هذه الأيام ، وصلاة الليل في هذه الأيام ، والعبادة الحقّة في هذه الأيام ، والإنفاق في هذه الأيّام ، والإحسان إلى الخلق في هذه الأيام ، ما من أعمال صالحة هي أجْدى منها في هذه الأيام .
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))
أيْ أيام العشر من ذي الحِجَّة ، قال : قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ، قال :
((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))
نحن في أيّام ، الحجّاج الآن في مكّة أو المدينة ، وهم بعد أيّام سيَقِفُون على عرفات ، نحن لسْنا حجَّاجًا ، نحن مقيمون في بلدنا ، هذه الأيّام العشر ، ما من أيّام العمل الصالح فيها أحبّ إلى الله تعالى من هذه الأيام ، العمل الصالح ، الإنفاق عمل صالح المعاونة عمل صالح ، إطعام الطعام عمل صالح ، العبادة عمل صالح .
((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))
إذًا علينا في هذه الأيام العشر من ذي الحِجّة أن نجتهد في العبادة والعمل الصالح ، أن نجتهد في الإنفاق ، أن نجتهد في الذِّكر ، وفي صلة الرحم أن نجتهد في إنفاق المال فلعلّ الله سبحانه وتعالى يرحمنا .
الدعاء :
اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ ارزقنا حجًّا مبرورًا ، وسعْيًا مشكورًا ، وذنبًا مغفورًا ، اللهمّ اكتب الصحّة والسلامة للحجاج والمسافرين ، والمقيمين والمرابطين في برك وبحرك من أمّة محمد أجمعين ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعلي كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .