- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيق ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله , واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً , وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه , واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ تحدثت في الأسبوع الماضي عن موضوع الحسد ، وبينت لكم أنه داء دسيم ، وهو سبب للكوارث , والتمزقات , والانقسامات , والعداوات , التي أنهكت البشرية ، وبينت لكم أيضاً أن هذا الحسد في أصله ، أن الله سبحانه وتعالى خلق النفس البشرية بخاصة تدفعها إلى مكارم الأخلاق ، حينما تستخدم هذه الخاصة وهي الغيرة ، في غير ما خلقت له يكون الحسد , كيف أن هذا المحرك يوضع في المركبة من أجل أن يحركها إلى أهدافك النبيلة ، لكنه إذا أسيء استعماله أودى بصاحبه إلى وادٍ سحيق ماله من قرار .
أيها الإخوة الكرام ؛ تحدثت في الأسبوع الماضي عن أن الحسد أنواع كثيرة ، وأن من بين هذه الأنواع الكثيرة ، نوعاً واحداً مشروعاً ، وهو حسد الغبطة ، إذ أن الإنسان إذا رأى على أخيه نعمةً حقيقةً تتصل بالآخرة ، وتمنى أن تكون له من دون أن تنزع عن أخيه , فهذا حسد مأذون به شرعاً وقد سماه العلماء غبطةً .
والنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى هذا المعنى في أحاديث صحيحة .
عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال : سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول :
(( لا حَسَدَ إلا على اثْنَتيْنِ : رجلٌ أعْطاهُ اللَّهُ مالا ، فَهوَ يُنْفِقِهُ آنَاءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ ))
(( ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ ، فهو يَقضِي بها ويُعَلِّمُها ))
أيها الإخوة الكرام ؛ لابد من أن أنوه إلى حقيقة دقيقة وهي أن الحسد ليس مرضاً في ذاته بل هو عرض لمجوعة من الأمراض النفسية ، ولا أزال أقول وأؤكد أن الأمراض الجسدية مهما عظمة ، ومهما كانت عضالةً ، ومهما كانت قاتلة تنتهي عند الموت ، إلا أن الأمراض النفسية يبدأ مفعولها الخطير بعد الموت ، وشتان بين مرض ينتهي عند الموت , وبين مرض يبدأ عند الموت قال تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
الحسد وأنواعه :
أيها الإخوة الكرام ؛ الآن ننتقل إلى ثلاثة أنواع من الحسد الخبيث القبيح ، الذي يدمر النفس البشرية ويدمر المجتمع ، ويدمر وحدة الأمة ، ويدمر وحدة الفئة الواحدة .
- الحسد المشروع أن تحسد أخاك على نعمة حقيقة تتصل بالآخرة ويمكن أن تكتسبها ، هذه غبطة ، وهذه مغطاة بقوله تعالى :
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾
- أما الحسد الخبيث القبيح الوبيل الآثم هو أن تتمنى نعمة على أخيك تتمنى أن تصل إليك ، وأن تزول عن أخيك ، هنا وجه الخبث ، والخطورة تتمنى أن تصل إليك ، أو أن تتحول إليك وأن تزول عن أخيك .
أيها الإخوة الكرام ؛ هذا الحسد هو عرض لمرض اسمه الطمع ، الطمع دق رقاب الرجال ، الطمع أودى إلى الحسد ، لذلك مثل هذا الحاسد شاء أم أبى صرح أو لم يصرح ، معترض على حكمة الله ، معترض على تصرفاته يشك في حكمته البالغة ، وفي عدالته المطلقة ، لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله .
قل لمن بات لي حاسـداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله إذا لم ترض لي ما وهــب
فالذي يعاني من مرض نفسي اسمه الطمع ، من أعراض هذا المرض الحسد ، والحسد بشكل أو بآخر اعتراض على حكمة الله في تصرفاته ، وعلى عدالته وعلى رحمته ، وعلى أسماءه الحسنى .
أيها الإخوة الكرام ؛ هذا الحسد أن تتمنى أن تتحول النعمة التي على أخيك إليك ، مبعث هذه الظاهرة الخبيثة هو الطمع ، وقد يكون مبعث هذه الظاهرة الخبيثة الكراهية والحقد ، لو أحببت أخيك لما تمنيت أن تزول عنه النعمة .
إذاً :
إما أن هذا الإنسان ينطلق من طمع جشع ، وإما أن ينطلق من حسد وحقد على أخيه الذي يحسده ، ومع ذلك يبقى هذا النوع من الحسد نوعاً خبيثاً قبيحاً آثماً .
لكن هناك حسداً أشد منه ...
- الحسد الذي أشد من هذا الحسد ، أن تتمنى أن تزول النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك ، ليس شرطاً أن تصل إليك ، يكفي أن تزول هذه النعمة عن أخيك عندئذٍ ترتاح لهذا ، هل هناك من نفس مريضة ، يعني أقبح من هذا المرض .
أيها الإخوة الكرام ؛ هذا يؤكد الكبر ، إذا كنت أنت في نعمة ، وعلى أخيك نعمة تشبهها تتمنى أن تزول عن أخيك النعمة دون أن تصل إليك لأن عندك مثل هذه النعمة ، إذاً ليس القصد هنا أن تصل هذه النعمة إليك أنت تتنعم بهذه النعمة , ولكن تحب أن تنفرد بين الناس ، ألا ينازعك بهذه النعمة أحد ، ألا يكون لك مثيل ، هذا هو الكبر بعينه .
أيها الإخوة الكرام ؛ أو أن الحقد الدفين والمرض الخبيث في النفس الإنسانية الذي يتمثل بالكراهية التي لا حدود لها تجاه إنسان ، أو صديق ، أو أخ عندئذٍ لا تتمنى إلا أن تزول عنه النعمة ، وعندئذٍ ترتاح النفس ، ويطمئن القلب هذا نوع أخبث من الأول ، هذا النوع ينطلق من حقد وكراهية ، أما إذا أردت أن تتحول النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك فقد يكون وراء هذه الظاهرة الخبيثة شح مدمر ، كما قلت قبل قليل إن الحسد هو في حقيقته أعراض لأمراض ، أما الشيء الذي لا يصدق ، وهو أخبث أنواع الحسد وأشرها .
- النوع الأول تتمنى ، لكنه مشروع ، تتمنى نعمة على أخيك تتمنى أن تكون عليك أيضاً من دون أن تزول عنه ، والنعمة حقيقية متصلة بالآخرة هناك سبيل إلى اكتسابها ، هذا حسد الغبطة ، تمنيات .
- النوع الثاني القبيح الوبيل هو أن تتمنى أن تتحول النعمة عن أخيك وأن تصل إليك ، وهذا على مستوى التمنيات ، هذا حسد قبيح قذر .
- أما الحسد الثالث أن تتمنى أيضاً أن تزول النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك انطلاقاً من الكراهية والشح ، والكبر .
- لكن النوع الرابع , ونعوذ بالله من هذا المستوى يتجاوز مستوى التمنيات إلى الحركة ، تريد أن تعرقل عمل أخيك ، تخبر من بإمكانهم أن يؤذونه بمخالفة عنده ، تتحرك وفق عمل من أجل أن تدمر أخيك ، هذا هو الحسد الذي يعد من أشر أنواع الحسد ، ومن أقبح أنواع الحسد ، ومن أخبث أنواع الحسد ، يتجاوز التمني إلى الفعل ، وينطلق هذا أيضاً من كبر ، أو كراهية ، أو شح ويضاف إلى هذه الدوافع الثلاث ، دافع رابع وهو العدوان ، النفس العدوانية تتمنى أن تحطم الآخرين ، أن تعرقل عملهم ، أن تحبط مسعاهم ، أن تزيل عنهم ما هم فيه من نعم .
العين وعلاقتها بالحسد :
أيها الإخوة الكرام ؛ الموضوع دقيق جداً لأن هذه الظاهرة ، ظاهرة الحسد متفشية في كل المجتمعات ، ولاسيما المجتمعات البعيدة عن الله عز وجل .
هذا الحاسد قد يكون له قوة تأثيرية كبيرة سماها النبي عليه الصلاة والسلام العين ، فقد روى البخاري في الحديث الصحيح .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :
(( العين حق ))
ومن دعاءه الشريف كان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( أَعوذ بكلمات الله التامة ، من كل شيطانٍ وهامَّةٍ ، ومن كل عَيْنٍ لامَّةٍ ))
أول مرحــــلة : الحسد المشروع .
ثاني مرحـــلة : التمني أن تزول النعمة عن أخيك وأن تتحول إليك
ثالث مرحـــلة : أن تزول عن أخيك من دون أن تتحول إليك .
رابع مرحـــلة : تتحرك نحو إيقاع الأذى بأخيك .
خامس مرحــلة : تريد أن تدمر أخاك تدميراً كلياً .
هذه العين اللامة الذي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام .
ولكن أيها الإخوة ؛ توضيحاً للحقيقة تأثير العين اللامة التي ورد ذكرها في الحديث الصحيح له شرطان ، له شرط في الحاسد ، وشرط في المحسود الشرط في الحاسد أن يكون بعيداً عن الله ، متلبساً بالشيطان ، والشرط في المحسود أن يكون غافلاً عن الله ، مظهراً لزينته .
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾
﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ﴾
كثرت الظهور تقسم الظهور ، فالإنسان حينما يتمنى أن يعرض ما عنده من نعم على مرأى من الناس ، هو بشكل أو بآخر يدعوهم إلى أن يحسدوه الحسد المدمر .
أيها الإخوة الكرام .
روى الترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( كان يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلت أخذ بهما ، وترك ما سواهما ))
ماذا ورد في سورة الفلق .
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ * ﴾
فالحاسدون بتمنياتهم ، وبأيديهم ، وبمكائدهم ، وبعينهم التي تصيب النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يتلو سورة الفلق يتعوذ من شر حاسد إذا حسد ، ولم ينجو النبي عليه الصلاة والسلام وهو قمة الكمال البشري , وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، لم ينجو من حسد الحاسدين قال تعالى :
﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ﴾
معنى :
﴿ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾
أي ليصبنك بأعينهم ، فيزلونك عن مقامك الذي جعله الله لك ، كما يزلق , وتزل قدم من كان في مكان ناعم أملس فيسقط ، وقد ورد في الأثر أن سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام سأل ربه في المناجاة قال : يا رب لا تبقي لي عدواً ، قال يا موسى هذه ليست لي ، هذه من طبيعة الحياة الدنيا .
المؤمنين والحسد :
أيها الإخوة الكرام ؛ هنا أنواع الحسد الخطيرة ، الوبيلة ، الآثمة ، المدمرة ، تعالوا إلى عالم المؤمنين .
روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل قال عليه الصلاة والسلام , ودققوا في هذا الحديث :
(( لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد ))
وقد روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال :
(( إياكم والحسد ، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ))
إن كان لك حسنات يأكلها الحسد .
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال :
(( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ))
الحسد وأسبابه :
أيها الإخوة الكرام ؛ الحسد كما قلت قبل قليل عرض خطير لأمراض وبيلة .
من هذه الأمراض الكبر .
من هذه الأمراض كراهية الخلق .
من هذه الأمراض الحقد الدفين .
من هذه الأمراض الشح المميت .
من هذه الأمراض النزعة العدوانية .
هذه أسباب الحسد ، إذاً : هو عرض لهذه الأمراض ، لكن الحسد في الوقت نفسه يعد سبباً ، هو عرض وسبب في وقت واحد ، يعد سبباً لآثام خطيرة ، فالغيبة من الحسد ، والنميمة من الحسد ، والبغي من الحسد , والعدوان من الحسد ، والظلم من الحسد ، والاتهام الباطل من الحسد , وافتراء الكذب من الحسد ، والجور في الحكم من الحسد ، والسرقة أحياناً من الحسد ، والغش من الحسد ، وقد ينتهي الحسد إلى القتل .
أيها الإخوة الكرام ؛ لا أبالغ إذا قلت إن هذا الداء الدفين الذي دب في الأمم هو وراء الحروب ، وراء المنازعات ، وراء الكوارث ، وراء الانقسامات ، وراء شقاء البشرية ، وراء الحروب المدمرة التي تركت مئات الملايين قتلى , ومفقودين ، ومصابين .
أيها الإخوة الكرام ؛ القاعدة تقول أن كل ذي نعمة محسود .
فنعمة العقل والعلم لها من يحسدها ، لها من يطعن ، ولها من يصغر شأن هذا المحسود .
نعمة المجد والسلطان لها من يحسدها .
نعمة المال والتجارة لها من يحسدها .
نعمة الزواج السعيد له من يحسده .
نعمة الإخوة الصادقة له من يحسده .
حتى إن نعمة الدعوة إلى الله هناك من يحسد الدعاء على دعوتهم ، فيطعنون ويغمزون ، ويلمزون ، ويشمئزون ، ويتهمون اتهامات باطلة .
ورد في الحكم ، أنه :
لابد للمؤمن من مؤمن يحسده ، ومنافق يبغضه , وكافر يقاتله ، وشيطان يغويه ، ونفس ترديه .
نفسه ترديه ، وشيطانه يغويه ، والكافر يقاتله ، والمنافق يبغضه ، والمؤمن يحسده ، إلا أن الحسد هنا في هذه الحكمة ربما كان حسد غبطةٍ ليس غير .
أيها الإخوة الكرام ؛ الحسد يقطع وشائج المودات ، وصلات القربات ، ويفسد الصدقات ويولد في النفس العداوات ، ويفك أفراد المجتمع ، ويباعد بين الجماعات ترى في البيت الواحد أخوةً متحاسدين ، ترى في الأسرة الواحدة ، فرعين متحاسدين ، ترى في القرية الواحدة أسرتين متحاسدتين ، ترى في المجتمع الواحد وقد يصبح الحسد عدواناً , وقصفاً , وقتلاً , وتدميراً .
أيها الإخوة ؛ شبه بعضهم الحسد بأنه كالمقراض يقرض الروابط الاجتماعية يقطع بين الناس ، لذلك ورد في القرآن الكريم قوله تعالى :
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أصلح ما بينك وبين الله ، وأصلح ما بينك وبين أخيك ، وأصلح ما بين أخوين إذا فسدت العلاقة بينهما ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إياكم وفساد ذات البين ، فإنها الحالقة ، لا أقول حالقة الشعر ولكن أقول حالقة الدين ))
أيها الإخوة الكرام ؛ هل تصدقون أن الحسد يحلق الدين كله ، لأن الحسد يوقع بالكبائر يوقع في العدوان ، يوقع في البغضاء ، في الحقد يتفتت المجتمع ، فقد شبهه بعضهم بالمقراض ، يقرض أو يقطع كل علاقة طيبة بين أفراد المجتمع , وشبهه بعضهم بالمعول يهدم كل بناء .
أيها الإخوة الكرام ؛ الحسد في أصله اعتراض على عطاء الله ، اعتراض على حكمته اعتراض على عدالته ، اعتراض على تصرفاته ، إذاً هو خلل في العقيدة , والحسد في الأصل سلوك منحرف ، ينتهي بصاحبه إلى الآلام ، لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله ، ما الذي جعل إبليس يكن هذه العداوة البالغة لسيدنا آدم ؟ إنه الحسد .
﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾
ما الذي جعل قابيل يقتل أخاه هابيل ؟ الحسـد .
ما الذي جعل أولاد يعقوب يأتمرون على أخيهم يوسف عليه السلام فيضعونه في غيابة الجب ؟ الحسـد .
ما الذي جعل اليهود ينكرون على السيد المسيح نبوته ؟ إنه الحسـد .
ما الذي جعل اليهود ينكرون على سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبوته ؟ إنه الحسـد .
الأحداث الكبرى في التاريخ , وراءها الحسـد .
أيها الإخوة الكرام ؛ هناك حقيقة دقيقة جداً ، وهي إنني قد أختلف مع أخٍ اختلافنا بسبب نقص المعلومات ، فلو كنا في التاسع والعشرين من شهر رمضان مثلاً وسمعنا مدفعاً ينطلق ، يقول أحدهم إنه مدفع العيد ، ويقول الآخر إن تفجيرات في الجبل تتم لفتح طريق ، لماذا اختلفنا لنقص المعلومات ، فأحد أنواع الخلاف هو نقص المعلومات ، هذا شيء طبيعي ، ومقبول ولا غبار عليه ، لكن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بخمس آيات كريمة , وبآيتين واضحتين تماماً يبين أن سبب الاختلاف بين الناس ، وبين أصحاب الديانة الواحدة ، ليس هو نقص المعلومات ، ولا اختلاف وجهات النظر , إن السبب الكامن وراء اختلاف أصحاب الديانات إنه الحسد ، دققوا في قوله تعالى :
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾
كما قال عليه الصلاة والسلام :
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(( تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا ضال ))
الحلال بين والحرام بين ، القرآن واحد ، السنة واحدة , الدين واحد ، الإله واحد ، لم هذه الفرقة ، لم هذا التنابذ ، لم هذه العداوات , لم هذا الطعن ، لم هذا البخس ، لماذا ؟ قال تعالى :
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
أي حسداً من عند أنفسهم ، فالحسد في النهاية وراء التمزقات وراء التشرذم ، وراء الفرقة ، وراء تفتت الأمة ، وراء توجه أصحاب الديانة الواحدة إلى آلاف الطرق والمذاهب والاتجاهات والتيارات ، هذا التعدد تعدد البغي والعدوان ، هذا التعدد تعدد الحسد .
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
﴿ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
آية ثانية ، أيها الإخوة الكرام ؛ يجب أن نعلم علم اليقين أن المؤمن الحق لا يحسد ، لماذا ؟ أقول هذا في الخطبة الثانية ، لا يجتمع حسد وإيمان ، المؤمن الصادق المخلص عميق الإيمان ، لا يمكن أن يدخل إلى قلبه الحسد ، لماذا ؟ لأن الحسد عرض لمرض ، والمؤمن الحق لاتصاله بالله عز وجل هو الذي جعله يبرئ من هذه العلة القاتلة .
أيها الإخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لم ما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين .
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين , وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
طرق الوقاية من الحسد :
أيها الإخوة الكرام ؛ أخطر ما في موضوع الحسد أن نعرف طرق الوقاية منه ، أو طرق علاجه ، إن كنا قد وقعنا في الحسد ينبغي أن نعلم طرق علاجه وإن كنا نتمنى أن لا نقع ، ينبغي أن نتعرف إلى طرق الوقاية منه .
فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا يمكن أن يحسد إنسانٌ إنساناً حسداً قبيحاً منهياً عنه في الشرع إلا بنقص في إيمانه .
أن نمتن الإيمان ، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ﴾
إذاً هذا الإيمان لا يكفي ، الإنسان قد يؤمن أن لهذا الكون خالقاً هذا إيمان ، يقول بعضهم هذا إيمان إبليسي ، لأن إبليس أمن بأن لهذا الكون خالقاً ، وأمن بأن لهذا الكون رباً ، وأمن أن لهذا الكون رباً عزيزاً .
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾
إذاً هناك مستوى من الإيمان لا يكفي لتطهير صاحبه ، لذلك .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾
إذاً نحتاج إلى مستوى أرق من الإيمان حتى ننجو من الحسد .
أيها الإخوة الكرام ؛ الإنسان إذا تحقق عن طريق التأمل ، والبحث ، والدرس ، أن الله تعالى وحده هو المعطي ، وهو المانع ، وهو الخافض ، وهو الرافع ، وهو المعز ، وهو المذل ، وهو القابض ، وهو الباسط ، وهو المغني ، وهو الفقر ، وهو الذي يعلي ، وهو الذي يخفض ، إذا تحققت أن الله وحده يفعل ما يشاء ، وأن أسماء الله حسنى ، وأن صفاته فضلى ، وأن الله سبحانه وتعالى كامل كمالاً مطلقاً ، عندئذٍ تنجو من الحسد .
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾
بيدك الخير وحده .
﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
هذا كلام إدراكه سهل لكن أن تعيشه يحتاج إلى جهد كبير ، فرق أن تقرأ فكرةً فتفهمها وبين أن تعيشها ، شتان بين الحالتين ، يجب أن نعيش هذه المعاني ، أن تتغلغل في أعماق كياننا ، أن الله وحده هو الرزاق هو الفعال ، هو المعطي ، هو المانع ، هو الخافض ، هو الرافع ، هو القابض ، هو الباسط ، هو المعز ، هو المذل ، هو وحده ، علاقتك مع الله هو الذي أعطى فلان بحكمة بالغة ، وعدالة مطلقة ، وهو الذي منعك لحكمة بالغة ولعدالة مطلقة ، إذا صححت مفاهيمنا ، وارتقى إيماننا ، وانقلبت هذه الحقائق إلى حقائق نعيشها ، تسري في دمائنا ، وتجري في عروقنا عندئذٍ لا نحسد أحداً .
يجب أن نعلم أيها الإخوة ؛ علم اليقين ، وهذه حقيقة خطيرة في الدين ، أن الدنيا بأكملها ليست عطاءً ، لأنها تنقطع بالموت , ورد في بعض الحكم العطائية ، أنه ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾
إذا أيقنت أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبة ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا , وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي إذا أيقنت بهذه الحقائق لا يكمن أن تحسد أحداً .
العطاء والحرمان :
أيها الإخوة الكرام ؛ يقول الله عز وجل :
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ﴾
هو هذه مقولته :
﴿ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾
واهماً مدعياً زاعماً :
﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ﴾
أداة ردع ونفي ، يا عبادي ليس عطائي إكرام ، ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء ، وحرماني دواء .
أيها الإخوة الكرام ؛ ألا تكفينا هذه الآية الكريمة ، والله الذي لا إله إلا هو لو تأملنا فيها وفهمنا أبعادها ، وعشناها ، لكنا في سعادة ما بعدها سعادة .
﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
كان عليه الصلاة والسلام يقول .
عن أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال :
(( اللَّهمَّ خِر لي واخْتَرْ لي ))
وقد قال بعض العارفين بالله ليس في الإمكان أبدع مما كان ، أي ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني ، يوم تتكشف الحقائق يوم القيامة لا تستطيع أيها الإنسان إلا أن تلخص كل ما ساقه الله لك بكلمة واحدة :
﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
أيها الإخوة الكرام ؛ حقيقة خطيرة الحظوظ في الدنيا ، وأعني بالحظوظ حظ الوسامة وحظ الصحة ، وحظ الذكاء ، وحظ المال ، وحظ القوة ، هذه الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، أوتيت المال ، مادة امتحانك هو المال حرمت المال ، مادة امتحانك هو الفقر ، أوتيت القوة ، مادة امتحانك القوة حرمت القوة كنت مستضعفاً ، مادة امتحانك الاستضعاف ، يجب أن تعلم أن كل شيء بين يديك هو امتحان ، وكل شيء فقدته هو امتحان , فالحظوظ في الدنيا موزعة توزيع ابتلاء ، والدنيا قصيرة ، وشيكة الزوال ، سريعة الانتقال ، ولكن هذا الأبد الذي لا ينتهي ، ولكن الحظوظ توزع في الآخرة توزيع جزاء ، موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء ، إذاً لا يمكن أن يحسد إنسانٌ إنساناً إلا لضعف إيمانه بكمال الله ، بحكمته ، برحمته ، بألوهيته ، بربوبيته ، بعدالته ، إذا أيقن أن هذه الحياة الدنيا حياة قصيرة ، دار عمل وليست دار جزاء ، دار تكليف لا دار تشريف ، انتزع الحسد من قلبه .
شيء آخر , ورد في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : إياكم وفضول النظر ، فإنه يبذر في النفس الهوى ، التطلع لم عند الناس ، التدقيق في دخلهم ، في إنفاقهم ، في أثاثهم ، في ممتلكاتهم المنقولة والغير منقولة ، تسأل كم دخله ، كم تنفق ، كم اشتريت هذا البيت ما مساحة هذا البيت ، إياكم وفضول النظر فإنه يبذر في النفس الهوى , وفي القرآن الكريم :
﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾
﴿ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
يجمعون ألوف الملايين " ورحمة خير مما يجمعون " .
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾
﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا يمكن أن يحسد المؤمن إلا لضعف إيمانه ، لضعف توحيده لضعف إيمانه بما عند الله ، لضعف إيمانه لحقيقة الدنيا ، لضعف إيمانه بحكمة الله ، لضعف إيمانه لعدالته ، برحمته ، بحكمته ، فالحسد أيها الإخوة داء وبيل ، هو أولاً عرض لأمراض كثيرة ، عرض للكبر , وعرض للكراهية ، وعرض للحقد ، وعرض للعدوان ، وعرض للشح , والحسد سبب للغيبة ، وسبب للنميمة ، وسبب لظلم ، وسبب للافتراء , وسبب لتزوير الحقائق ، وسبب للطعن ، وسبب للغمز ، وسبب للمز ، هو عرض لأمراض ، وسبب لآثام ، بسبب ضعف الإيمان .
الحل الثاني إذاً .
﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾
الآن الشيء الثالث : سماه العلماء التحويل والتصعيد ، أنت حينما تهتم بالآخرة ، وتهتم بطلب العلم ، وتهتم بتعلم القرآن ، والدعوة إلى الله تشغل عن هذه الظاهرة الخبيثة ، ليس في وقتك وقت تحسد أحد فيه هذا الهدف الكبير ملء كل وقتك ، ملء كل مشاعرك ، ملء كل ما في حياتك فالذي يقبل على الله ، وينطلق إليه ، ويبتغي مرضاته ، ويرى أن الله سبحانه وتعالى مهما سار في طريق معرفته , فالطريق لا يزال طويلاً , ومهما قدم من عمل يرى عمله قليلاً ، فهذا الذي ينجح في معرفة الله ليس عنده وقت يحسد أحداً عليه .
واجب الآباء تجاه أطفالهم :
أيها الإخوة الكرام ؛ التصعيد والتحويل ، دعك من الدنيا ، من مالها ، وبيوتها , ونساءها ، وحفلاتها ، ومقاصفها ، وبساتينها ، ومتنزهاتها ، حين تنقل اهتمامك للآخرة تنتهي من ظاهرة الحسد .
آخر شيء في الخطبة : أنه يمكن أن تربي أولادك على حب الآخرين ، على النظر إلى القيم لا إلى الميزات ، لا يحسد ابنك زميله على طول قامته ، ليحسده على تفوقه بالدراسة ، الأب حينما يرسخ , والأم في أولادهم أن التفوق في العلم والأخلاق ، فلا ينبغي أن نلتفت إلى الشكل والقامة ، ما إلى ذلك ، والغنى ، وفلان ابن فلان ، لا يلتفت الابن إلى ما بنفق صديقه ، إلى أخلاق صديقه ، وإلى علم صديقه ، وهذا من واجب الآباء ، عليك أيها الأب الكريم أن ترسخ في نفس ابنك وابنتك أن التفاضل بين الناس بالعمل الصالح ، أن التفاضل بين الناس بالتقوى ودققوا أيها الإخوة ، الحظوظ التي يتفاضل بها الناس ، حظ القوة ، وحظ الوسامة وحظ الذكاء ، وحظ القوة ، هذه الحظوظ القرآن ما اعترف بها أبداً ، ولا أشار إليها تجاهلها ، القرآن ما اعتمد إلا حظين ، قال :
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
واعتمد مقياساً آخر وهو :
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
أيها الإخوة الكرام ؛ مرةً ثانية الحسد يفسد العمل ، لك صلاتك ، ولك صيامك ، ولك حجك ولك زكاتك ، ولك حضور مجالس العلم ، وتقبل على الدين , وتقرأ القرآن ، وتحفظ ، لكن القلب يغلي بالحسد ، العمل قد احبط ، فلذلك تعاهد قلبك ، لذلك دقق في قوله تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت وبارك اللهم لنا فيمن أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك اللهم هب لنا عمل صالح يقربنا إليك ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا وأمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد أمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، نعوذ بك من الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا أخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .