- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
سمو النبي الكريم في القول و العمل و السلوك و المشاعر :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلنا في شهر المولد ، ولا زلنا نتحدث عن شمائل النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد كان موضوع الخطبة السابقة ، الحديث عن حبه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، والحديث عن رحمته ، يا من كانت الرحمة مهجته ، والحب فطرته ، والسمو حرفته ، ومشكلات الناس عبادته .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ النبي صلى الله عليه وسلم حياته كلها سموٌ في سموٍ في سمو ، سموٌ في القول ، وسمو في العمل ، وسمو في النفس ، وسمو في السلوك ، وسمو في المشاعر والأحاسيس ، حينما كان طفلاً صغيراً رآه بعض رفاقه وأترابه فدعوه إلى أن يلهو معهم، وألحوا عليه ، فما زاد عن أن قال : أنا لم أخلق لهذا . أي لم أخلق للهو ، ولا للعب ، ولا لتضييع الوقت .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ألا ينبغي أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أسوةً لنا كلما دعونا إلى شيء فيه مضيعة للوقت ؟ فيه إتلاف للطاقة والجهد ؟ فيه انحراف عن الطريق المستقيم ؟ كلما دعونا إلى شيء يتناقض مع ما خلقنا له ؟ ألا ينبغي أن نقلد النبي عليه الصلاة والسلام ؟ ألا ينبغي أن نشعر أن حياة الإنسان أخطر من أن تضيع فيما لا يرضي الله عز وجل؟ هذه وقفة قصيرة عند هذا الموقف ، كلما دعي إلى اللهو واللعب يقول : " أنا لم أخلق لهذا".
ما عند الله خير وأبقى من هذه الدنيا الفانية :
أيها الأخوة الأكارم ؛ وصفه الله عز وجل بأنه في الأفق الأعلى ، ففي أي أفق نحن ؟ في أفق جمع الدرهم والدينار ؟ في أفق العلو في الأرض ؟ في أفق الانغماس في الملذات والشهوات ؟ في أفق تحقيق ذواتنا ومصالحنا ؟ في أي أفق كان عليه الصلاة والسلام ؟ كانت الرحمة مهجته ، والسمو حرفته ، ومشكلات الناس عبادته .
أيها الأخوة الأكارم ؛ شيء دقيق جداً هو أن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
وفي آية ثانية :
﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾
وفي آية ثالثة :
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
آية رابعة : سحرة فرعون خاطبوا فرعون فقالوا :
﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يجب أن تؤمنوا أن ما عند الله خير وأبقى من هذه الدنيا الفانية ، لذلك لما دعي النبي عليه الصلاة والسلام إلى اللهو قال : " أنا لم أخلق لهذا " فينبغي أن نعلم جميعاً نحن لماذا خلقنا ؟ لماذا جئنا إلى الدنيا ؟ ماذا ينتظر منا أن نعمل ؟ ماذا بعد الحياة ؟
محبة الله تعالى لمعالي الأمور وأشرافها وكرهه لسفسافها :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الآية الكريمة التي تقول :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
أي استهلاك للوقت لغير ما خلقت له خسارة محققة ، سوف يشعر الإنسان بفداحة الخسارة ولكن حينما يصحو ، لأن الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا .
أيها الأخوة الأكارم ؛ كان عليه الصلاة والسلام يقول :
((إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها ))
دائماً وأبداً راقب نفسك هل تعنيك معالي الأمور أم تعنيك سفاسفها وأعمالها المنحطة ؟ إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها ، من أجل أن نعرف سمو النبي عليه الصلاة والسلام دققوا في أدعيته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول :
((اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاها ، وَزَكِّها أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها ))
هذا دعاء يؤكد سمو النبي عليه الصلاة والسلام ، كان يدعو ويقول :
((اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ ، وَمنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا ))
كان عليه الصلاة والسلام انطلاقاً من سموه العظيم ، كان يدعو ويقول :
((اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأخْلاقِ وَالأعْمالِ وَالأهْوَاءِ))
((اللَّهُمَّ ألْهِمْنِي رُشْدِي ، وَأعِذْنِي مِنْ شَرّ نَفْسِي))
((اللَّهُمَّ اكْفِني بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ ، وَأغْنِني بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواكَ))
((اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي))
(( اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أحَبَّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي وَأهْلِي وَمنَ المَاءِ البارِدِ))
كان عليه الصلاة والسلام من سمو نفسه يدعو ويقول :
((اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفَافَ وَالغِنَى))
كان عليه الصلاة والسلام يقول :
((اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم ، والشوق إلى لقائك))
كان عليه الصلاة والسلام يدو ويقول :
((اللهم اهدني لأحسن الأعمال ، وأحسن الأخلاق ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، وقني سيئ الأعمال وسيئ الأخلاق ، لا يقي سيئها إلا أنت))
أيها الأخوة الأكارم ؛ انظر أنت تدعو بماذا ؟ إذا أردت أن تدعو بماذا تدعو ؟ قل لي ماذا تدعو أقل لك من أنت ، نمط دعائك يحدد مستوى نفسك ، هذه أدعية النبي عليه الصلاة والسلام . كان يبحث عن الهدى ، والتقى ، والعفاف ، والغنى . كان يسأل ربه جل جلاله أن تكون أعماله طيبة . كان يسأله الشوق إلى لقائه . كان يسأله الحب العظيم ، حبك وحب من يحبك وحب عمل صالح يقربني إلى حبك .
تمثل النبي الكريم كلّ خلق حسن :
أيها الأخوة الأكارم ؛ شيء دقيق جداً هو أن الأشياء الفانية الزائلة التي لا جدوى منها لا نشعر بفداحة الخسارة إن استهلكنا وقتنا فيها إلا يوم القيامة ، لذلك :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ من سمو النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يتمثل كل خلق حسن فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق ، وإن اللَّه يبغض الفاحش البذِيء ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
((إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة ، وشرف المنازل))
وكان عليه الصلاة والسلام يقول :
((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق))
وكان عليه الصلاة والسلام يقول :
((ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة))
وكان يدعو ربه ويقول :
((اللَّهُمَّ كما حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي ))
فالخلق الحسن من سمو النبي عليه الصلاة والسلام ، أدعيته التي يدعو ربه بها من سمو النبي عليه الصلاة والسلام ، معرفته لماذا هو في الدنيا وما أخطر رسالة يحملها من سموه عليه الصلاة والسلام .
أيها الأخوة الأكارم ؛ من أخلاقه العلية أنه مرة جيء له بسارق ، والذي جاء به قال : يا رسول الله رأينا هذا يسرق ، فغضب عليه الصلاة والسلام ، وهو الذي وصف السرقة بأنها سرقة ، وهو الذي وصم السارق بأنه سارق ، ولكن حينما تلبست هذه الجريمة بإنسان أشفق النبي عليه الصلاة والسلام وقال : هلا قلت رأينا يده في جيب فلان ؟ وكره عليه الصلاة والسلام أن يوصم هذا الإنسان بالسرقة قبل التحقق الدقيق ، وقبل معرفة الأهداف والنوايا .
أيها الأخوة الأكارم ؛ من سموه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقصة تعرفونها جميعاً -أنه ذات يوم كان جالساً بين أصحابه ينتظرون الصلاة ، وكانوا حديثي عهد بوليمة أكلوا فيها لحم جزور ، فانبعثت في المجلس ريح غير طيبة ، أدرك النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه الريح من غازات الجوف وتنفس الأمعاء ، وأدرك النبي عليه الصلاة والسلام أن صاحب هذه الريح قد وقع في حرج شديد ، فالمفروض أنهم جميعاً متوضئون ، وبعد لحظات سيقومون إلى الصلاة ، فإذا أراد ذلك الرجل المجهول أن يقوم ليتوضأ ظهر للآخرين أنه مصدر هذه الريح غير الطيبة ، وفي هذا حرج له وإخجال ، فمن سموه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : " ليتوضأ كل من أكل لحم الجزور ، فقال أصحابه الكرام : يا رسول الله كلنا أكل هذا اللحم ، فقال عليه الصلاة والسلام إذاً كلكم فليتوضأ " أراد عليه الصلاة والسلام أن يحفظ لهذا الرجل ماء وجهه ، أراد ألا يخجله ، أراد ألا يحرجه ، أراد ألا يوقعه في حرج شديد ، وهو الذي يقول : " لا تحمروا الوجوه ".
مشكلات الناس عبادته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا من سمو النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فماذا عن النقطة الثانية في هذه الخطبة والتي هي حول أن مشكلات الناس عبادته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
((وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْن أخيه ))
الآن دققوا في هذه الأحاديث والمسلمون اليوم في أمس الحاجة إليها ، ولم يكون احتفالهم بعيد مولد نبيهم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتفالاً حقيقياً إلا إذا تمثلوا سنته الشريفة ، كان عليه الصلاة والسلام يقول :
((ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا))
دققوا أن تمشي مع أخ في حاجته ، أن تحل مشكلات الناس ، أن تعينهم على قضاء حوائجهم ، أن تعطف عليهم ، أن تمسح عنهم الآلام ، أن تفرحهم ، أن تسرهم ، أن تساعدهم على حلّ مشكلاتهم ، هذا عند النبي عليه الصلاة والسلام عبادة ، بل هو من أرقى العبادات ، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً.
دقق ووازن بين أجر أن تعتكف ، وأجر أن تصوم ، وأجر أن تصلي ، وأجر أن تمشي مع أخ لك في حاجة ، لأن المسلمين كلما تمتنت العلاقة فيما بينهم ، وكلما كان بعضهم في خدمة بعض ، وكلما توطدت علاقة الأخوة بينهم كان هذا أعود على دينهم بالخير.
حديث آخر عن أن مشكلات الناس عبادته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ سئل عليه الصلاة والسلام أي الناس أحبّ إلى الله ؟ الآن سيجيب النبي عن الرجل الذي يحبه الله جل جلاله أشدّ من أي رجل آخر فقال عليه الصلاة والسلام :
((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس))
أحبّ الناس إلى الله أنفعهم للناس :
كلما اتسعت دائرة نفعك ، كلما عمّ خيرك للناس ، كلما اتسعت دائرة خدماتك ، كلما كنت عنصراً فعالاً في خدمة المجتمع ، كلما مسحت الدموع من عيون البائسين ، كلما أدخلت الفرحة إلى قلوب المعذبين ، كلما صنعت البسمة على وجوه الأشقياء ، كلما بشرت الناس ، كلما أعنتهم على أمر دينهم ودنياهم ، كنت أقرب إلى الله عز وجل ، سئل عليه الصلاة والسلام أي الناس أحب إلى الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس))
كيف لا : والخلق كلهم عيال الله ، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله .
وبإمكانك أن تنفع عيال الله من خلال عملك ، من خلال حرفتك ، من خلال صنعتك ، من خلال مهنتك ، من خلال أبوتك ، من خلال بنوتك ، من خلال مهمتك التي أنيطت بك ، عمل الإنسان أرحب مجال لينفع به الآخرين ، عمل الإنسان يكفي أن يصدقهم ، يكفي أن ينصحهم ، يكفي ألا يغشهم ، يكفي أن يقدم لهم شيئاً ثميناً بسعر معقول فهذا نفع لهم .
شكر النعمة بذلها :
استمعوا أيها الأخوة إلى حديث ثالث يقول عليه الصلاة والسلام :
((إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس ، تفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله))
إذا طرق بابك ، إذا وقف الناس على بابك يسألونك قضاء حاجة هذا وسام شرف لك ، هذه نعمة كبيرة أنعم الله بها عليك ، لذلك إذا أحبّ الله عبده جعل حوائج الناس إليه ، فلا ينبغي للمؤمن إذا قصده الناس ، وألحوا عليه ، وأخذوا من وقته أن يتأفف ، أو أن يتضجر ، فهذه نعمة كبرى أنعم الله بها على المؤمن ، في حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :
((من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ بر أو تيسير عسير أعانه الله على إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام ))
أحياناً بإمكانك أن ترفع حاجة من لا يستطيع رفعها إلى ذي سلطان ، تعرف زيداً من الناس ، وهناك صداقة مع عبيد ، وأنت تحب أن تفعل الخير ، وهذا إنسان أخ لك ضعيف، لا يستطيع أن يصل إلى هذا الإنسان ، ولو وصل إليه لا يصغي إليه ، إذا ذهبت أنت ونقلت هذه الحاجة من ضعيف إلى قوي ، من ممنوع أن يدخل ، إلى مسموح له أن يدخل ، إذا فعلت هذا كان لك عند الله أجر كبير ، ورفع درجتك يوم القيامة .
حديث آخر فيه بشارة إلى كل من ألهمه خدمة الخلق ، قال عليه الصلاة والسلام :
((إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد ، يقرهم فيها ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم))
أي أنت في نعمة ما ، ما دمت تبذل هذه النعمة فالله سبحانه وتعالى يبقيها لك ، وينميها ، ويزيدك منها ، في اللحظة التي تبخل بها ، وتحرمها من أصحابها ، عندئذٍ يسلبها الله منك ويحولها إلى غيرك هذه نقطة خطيرة ، قد ينعم الله عليك بنعمة المال ، فإذا سخرته لخدمة الخلق ، ولقضاء حوائجهم ، ولحلّ مشكلاتهم ، أقرك الله على هذا المال ونماه لك ، نعمة الجاه إن وظفت هذه النعمة في خدمة الخلق أقرها الله لك ونماها لك ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾
وشكر النعمة بذلها .
إذاً : إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد يقرهم فيها - أي يبقيها بين أيديهم - ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم .
حلّ مشكلات الناس عبادة جليلة عنده صلَّى اللَّه عليه وسلَّم :
حديث آخر يؤكد أن مشكلات الناس عبادة من عبادات النبي عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام :
((من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له هدية عليها فقبلها منه فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا))
أي إذا شفعت شفاعة تبتغي بها وجه الله عز وجل ، لا ينبغي أن تأخذ أجراً على هذه الشفاعة ، إن أخذت أجراً فضلاً عن أن هذا من الكبائر ، هذا هو نصيب هذا العمل الصالح ، أي إن شفعت لإنسان فأصابه خير نزه هذا العمل عن أن يكون مأجوراً .
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام :
((من أعان ظالماً بباطل ليدحض حقاً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله))
أي إذا أعنت ظالماً سلطه الله عليك ، إذا أعنت ظالماً تدحض بهذه الإعانة حقاً، أو تثبت باطلاً ، فقد برئت منك ذمة الله ، وذمة رسوله .
والمقسطون هم المنصفون ، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما سئل عن الكبر فقال في تعريف الكبر في إجابة جامعة مانعة :
(( الكبر بطر الحق وغمط الناس ))
بطر الحق أي رد الحق ، ألا تقبل بكتاب الله ، ألا تقبل بسنة رسول الله ، ألا تحتكم إلى الشرع هذا كبر في الإنسان .
((لا يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ))
من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، لأن هذا الكبر يتناقض مع العبودية لله عز وجل ، فالكبر في أدق تعاريفه بطر الحق وغمط الناس ؛ غمط الناس أي عدم إنصافهم .
(( إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ))
ويقول عليه الصلاة والسلام وننطلق في كل هذه الأحاديث من أن حلّ مشكلات الناس عبادة جليلة عنده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يجب أن تعلم أنك إذا خدمة الناس ، إذا أعنتهم على قضاء حوائجهم ، إذا كنت عوناً لهم ، إذا مسحت بيدك الكريمة جراحاتهم ، إذا أزلت الدمعة من عيونهم ، إذا صنعت البسمة على وجوههم ، إذا أدخلت السرور في قلوبهم ، فهذه عبادة من أجلّ العبادات أثر عنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
حق الرعية و النصح لها :
يقول عليه الصلاة والسلام وهذا حديث خطير :
((ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئاً ))
إن كنت معلماً في صف ، إن كنت موظفاً وتحت يدك عشرة موظفين .
(( ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئا لم يحفظهم بما يحفظ به نفسه وأهله إلا لم يرح رائحة الجنة))
إذا كنت ولياً على عشرة ، إذا ولاك الله أمر بعض الناس ، ولم تنصحهم ، ولم تتمنى لهم ما تتمناه لنفسك ، ولم تفعل بهم ما تفعله مع نفسك ، قال عليه الصلاة والسلام هذا الإنسان لا يجد رائحة الجنة . وليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقضِ بين اثنين في تمرة ، إذاً عدل ساعة أفضل من أن تعبد الله سبعين عاماً ، عدل ساعة ، اعدل .
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾
ويقول عليه الصلاة والسلام :
((إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه : أحفظ ذلك أم ضيعه ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته))
فكل إنسان يأتي إلى بابك أمانة في عنقك ، الموكل أمانة في عنق المحامي ، والمتخاصمان أمانة في عنق القاضي ، والمريض أمانة في عنق الطبيب ، والطالب أمانة في عنق المدرس ، والشاري أمانة في عنق البائع إما أن تنصح ، وإما أن تغش ، إما أن تصدق ، وإما أن تكذب ، إما أن تحسن ، وإما أن تسيء ، إما أن تنصف وإما أن تظلم ، فكل من أنيط به عملٌ هؤلاء الذين أنيطت مصالحهم لهذا الإنسان ، إن حفظ جاز الصراط وإن لم يحفظ لم يرح رائحة الجنة ، لهذا يقول عليه الصلاة والسلام :
((إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه : أحفظ ذلك أم ضيعه ؟))
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أبواب الخير لا تعد ولا تحصى :
أيها الأخوة الأكارم ؛ مرة ثانية وثالثة نحن في شهر المولد ، والمؤمن الموفق الفالح الفائز الناجح المتفوق هو الذي يدرس سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، يدرس مواقفه ، يدرس شمائله ، يدرس أعماله ، سلوكه ، ويحاول أن يقتدي به ، فإن فعل هذا فقد حقق كل ما يرجى منه في عيد المولد . عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال :
(( بينما نحن في سفر مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً . فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم : من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، وما كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له . فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل ))
أحياناً يمر المجتمع بأزمات ، أزمة سكن ، أزمة عمل ، فالإنسان الذي بإمكانه أن ينفع أخاه فلينفعه ، الإنسان الذي بإمكانه أن يقدم لأخيه شيئاً فليقدم له ، لأن هذا مما يرضي الله عز وجل .
بقي نقطة أخيرة في الخطبة وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام ينبهنا أن أي عمل صالح مهما بدا لك صغيراً ، مهما بدا لك حقيراً ، هو عمل مقبول عند الله عز وجل ، ويقبله الله عز وجل ، ويثيب عليه ، ويرفع قدر صاحبه يوم القيامة ، لذلك قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
((اتق الله ، لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً ، وَلَوْ أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ))
أي لو أنك أعطيت دورك في شراء الخبز لامرأة مسنة ، أو لطفل صغير ، فهذا عمل طيب ، هذا يقاس على هذا الحديث .
((...لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً ، وَلَوْ أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي...))
لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً ، وَلَوْ أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ، أحياناً هناك أشخاص يضنون بابتسامة في وجوه إخوانهم ، أو وجوه أصدقائهم ، أو وجوه جيرانهم ، أو وجوه من يعمل معهم ، ابتسامتك ، طلاقة وجهك ، انبساط وجهك ، صدقة عند الله عز وجل ، أحياناً ابتسامتك تبث الأمن في أخيك ، أو فيمن يعمل معك ممن هو دونك ، ابتسامة لطيفة تعطيه الأمن والبشرى ، ابتسامة لطيفة ترفع بها معنوياته ، ابتسامة بسيطة تعطيه عزيمة على مواجهة الصعاب ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
((... وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ))
أصحابه مرة ذهبوا إليه آسفين ، لأنهم يريدون أن يتصدقوا من أموالهم ، لينالوا ثواب المتصدقين ، ولكن لا أموال لهم يبذلون منها ، فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام : " يا رسول الله من أين لنا صدقة نتصدق بها ؟ - أحياناً يكون أخ دخله محدود ، كل أمله أن يغطي حاجاته في هذا الشهر ، فهذا كيف يتقرب إلى الله عز وجل ؟ هذه المشكلة أجاب عنها النبي عليه الصلاة والسلام - فقال عليه الصلاة والسلام إن أبواب الخير كثيرة ، التسبيح ، والتحميد ، والتكبير ، والتهليل " بعض العلماء حمل هذا على أن تسبيح الله أن تقول : سبحان الله ، أن تجول في ملكوت السموات والأرض ، وبعضهم حمله على أن تذكر الناس بعظمة الله عز وجل، إما أن تذكر هذا لنفسك ، أو أن تذكره لغيرك ، فقال عليه الصلاة والسلام :" إن أبواب الخير كثيرة ، التسبيح ، والتحميد ، والتكبير ، والتهليل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ثم قال : وتميط الأذى عن الطريق ، وتسمع الأصم ، وتهدي الأعمى ، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف ، فهذا كله صدقة" .
انطلاقاً من هذا الحديث إن أبواب الخير لا تعد ولا تحصى ، أي عمل فيه نفع للآخرين ولو كان من مخلوقات الله العجماوات ، هذا عمل طيب يقبله الله جل جلاله .
أعيد عليكم نص هذا الحديث : " ذهب إليه بعض أصحابه آسفين لأنهم يريدون أن يتصدقوا من أموالهم ، لينالوا ثواب المتصدقين ، ولكن لا أموال لهم ، فقالوا يا رسول الله : من أين لنا نفقة نتصدق بها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام إن أبواب الخير كثيرة ، التسبيح ، والتحميد، والتكبير ، والتهليل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ثم قال: وتميط الأذى عن الطريق ، وتسمع الأصم ، وتهدي الأعمى ، وتدل المستدل على حاجته ، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث ، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف فهذا كله صدقة منك على نفسك ".
أيها الأخوة الأكارم ؛ بقي علينا أن نطبق هذه التوجيهات النبوية حتى نكون في مستوى هذه الدعوة المحمدية وإلا إذا اكتفينا بسماع الأناشيد ، وتناول الطعام الطيب ، والصلاة على النبي صلاة جوفاء ، فهذا ليس مما يرضى عنه الله عز وجل ، ولا يرضى عنه رسوله .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم إنا نعوذ من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .