- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير .
علاقة الدين بحُسْنِ الخلق :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ إن أخطر شيءٍ يُهَدِّم الدين أن ينقلب في أذهان المسلمين إلى عباداتٍ تؤدَّى أداءً شَكْلياً ، حينما ينفصل الدين عن الحياة ، حينما لا يظهر الدين في معاملاتك ، ولا في بَيْعك ولا شرائك ، ولا في جوارك ، ولا في نشاطات حياتك ، ولا في حركتك اليومية ، ولا في مَنْعِك أو عطائك ، ولا في غضبك أو رضاك ، حينما يبتعد الدين عن الحياة ، ويصبح طقوساً تؤدَّى بلا معنى فقد انتهى .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع الخطبة اليوم " علاقة الدين بحُسْنِ الخلق " ، إذا أُلغي حسن الخلق أُلغي الدين معه .
بادئ ذي بدء الإنسان أيها الأخوة له سلوكٌ ظاهر ، هذا السلوك الظاهر تجسيدٌ لما تنطوي عليه النفس ، نفسٌ في صدرك سمَّاها القرآن :
﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
نفسٌ هي ذاتك ؛ لها صفات ، لها نوايا ، لها أمراض ، لها فضائل ، لها أطماع ، كل ما تنطوي عليه النفس من داخلها ينعكس سلوكاً في ظاهرها ، فالسلوك البشري في حقيقته انعكاسٌ لسمات النفس الداخلية . فلذلك حينما تقوم دعوةٌ في العالم إلى إصلاح السلوك ، نجد أن هذه الدعوة لا تنجح ، لماذا ؟ لأنه ما لم تصلُح النفوس من داخلها ، ما لم تطهر النفوس من داخلها ، ما لم تزكَّ النفوس فإن السلوك الظاهر لا يصلح . .
لذلك ظهر في المجتمعات الغربية ، أو المجتمعات المادية ما يسمى بالسلوك الظاهري ، فهناك رقَّةٌ ، وابتسامةٌ خبيثةٌ ، وعباراتٌ رقيقةٌ ، وبطاقاتٌ ، وما إلى ذلك ، ولكن النفوس تنطوي على أحقاد ، وعلى انحرافات ، وعلى أطماع ، وعلى قسوة ، وعلى عُنف لا يعلم أبعادها إلا الله .
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ أيَّة عمليةٍ لفصل ظاهر الإنسان عن باطنه ، لفصل سلوكه عن نفسه عمليةٌ لا تقوم على أساسٍ واقعيّ ، لذلك الإسلام لم يتجه في الأصل إلى إصلاح الظاهر ، بل اتجه إلى إصلاح الباطن ، لماذا ؟ لأن الأعمال الظاهرة إن لم تنطوِ على نفسٍ طاهرة لا قيمة لها ، لكن النفس الطاهرة لابدَّ من أن يصدر عنها أعمالٌ طيبة ، والنفس الطاهرة والأعمال الطيبة هي رأسمال الجَنَّة ، هي ثمن الجنة ، هذه أسباب دخول الجنة .
فلذلك عندما خلق الله الإنسان من أجل أن يسعده في دارٍ لا موت فيها ، كلَّفه بإصلاح باطنه ، كلَّفه بتطهير نفسه ، كلفه بتزكية نفسه .
تزكية النفس أولّ شيء اتجه إليه القرآن :
أيها الأخوة الأكارم ؛ أول ما اتجه القرآن اتجه إلى تزكية النفس ، وتطهيرها من الشر والإثم ، وتحليتها بمكارم الأخلاق . فقد روى الإمام مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال :
(( إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ))
أيْ لا إلى بيوتكم ، ولا إلى مركباتكم ، ولا إلى ثيابكم ، ولا إلى أجسامكم الفارعة، ولا إلى جلودكم المزدانة والمزدهرة . .
((إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))
فأخطر ما في هذا الدين أنه اتجه أول ما اتجه إلى إصلاح الإنسان مِن داخله ، فإذا صلح مِن داخله صلح ظاهره ، وصلحت علاقاته ، وصلح في زواجه ، وصلح في بيعه وشرائه ، وصلح في كسب ماله ، وصلح في إنفاق ماله .
الشيء الآخر هو قيمة العمل ، مهما بدا لك هذا العمل عظيماً ، مهما بدا لك هذا العمل خطيراً ، مهما بدا لك هذا العمل جسيماً ، إن قيمة العمل منطويةٌ في النوايا التي تسبقه وترافقه ، في النوايا . فقد جاء في الحديث المتواتر الصحيح :
(( إنما الأعمال بالنيات ))
أيْ إنَّ قيمتها محصورةٌ في النوايا التي تسبِقها والتي ترافقها .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ كلمة الفلاح ، كلمةٌ لها رنينٌ طيِّب ، فلان أفلح ، أيْ نجح، أيْ تفوق ، أيْ فاز ، من هو المفلح في القرآن الكريم ؟ قال تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
الفلاح كلُّ الفلاح ، والنجاح كلُّ النجاح ، والفوز كلُّ الفوز ، والتفوُّق كلُّ التفوّق هو في تزكية النفس ، لماذا ؟ لأنها إن زكت زكا العمل ، وإن زكا العمل مع زكاة النفس وصلا بك إلى الجنة ، والجنة هي الهدف الأكبر من خلق الإنسان على وجه الأرض ، لذلك ربنا في القرآن الكريم يقول :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾
هذا هو الفالح عند الله ، قد يكون الفالح عند الناس من حصَّل مالاً وفيراً ، ولكنه ليس فالحاً عند الله ، قد يكون الفالح عند الناس من حصَّل مركزاً قوياً ، وقد لا يكون فالحاً عند الله ، أما عند الله فالفالح هو الذي طهَّر نفسه ، إن طهَّر نفسه صدر منها كل عملٍ طيِّب ، وهذا العمل الطيِّب ثمن الجنة . .
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
ومعنى دسَّاها ، أيْ غمسها في أدناس الكُفْر والمعصية ، قال تعالى :
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
أما ألهمها فجورها وتقواها، أيْ أَنَّه فطرها فطرةً طاهرةً ، طيبةً ، عاليةً بحيث أن النفس وحدها تكتشف خطأها ، تكتشف طريق زكاتها ، وتكتشف طريق فجورها ، تعرف أنها زكيةٌ طاهرة ، وتعرف أنها خبيثةٌ فاجرة ، تعرف هذه المعرفة ذاتياً مِن تِلْقائها ، مِن دون تعليمٍ ، مِن دون تبيينٍ ، من دون توجيهٍ ، هكذا فطرة الإنسان . .
﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾
فطرةٌ طيبة ، تكشف الخطأ ذاتياً . .
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
الإنسان فُطِرَ على معرفة ما يُزَكِّيه بـ :
1 ـ الفطرة :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هناك علاقةٌ في الآية دقيقةٌ جداً ، أن الإنسان فُطِرَ على معرفة ما يُزَكِّيه ، وفُطِرَ على معرفة ما يُدَسِّيه ، لذلك جاء التوجيه . .
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
ربَّما لا تحتاج في تزكية نفسك إلى إنسان ، لأنك بالفِطرة تعرف ما يزكِّيها ، يزكيها الصدق ، والأمانة ، والإخلاص ، وحبُّ الخير ، وخِدمة الخَلق ، يزكِّيها أن تكون مُحسناً ، يزكيها أن تكون منصفاً ، يزكيها أن تكون متفضلاً على الآخرين . ويدسِّها أن تكون آثماً وعاصياً ، أن تكون ذا أثرة ، أن تبني مجدك على أنقاض الناس ، أن تبني عزَّك على ذلِّهم ، أن تبني غناك على فقرهم ، أن تبني أمنك على خوفهم ، أن تبني حياتك على موتهم ..
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان مفطورٌ على معرفة ما يزكِّي نفسه ، وعلى معرفة ما يدسِّها لأنه ألهمها فجورها وتقواها فـ . .
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
2 ـ العمل الصالح :
شيءٌ آخر في القرآن الكريم يُعدُّ سبباً في تزكية النفس ، ألا وهو العمل الصالح ، قال تعالى :
﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾
يُسْتَنْبَط من هذه الآية أن تؤدّي عملاً صالحاً خالصاً لوجه الله عزَّ وجل ، هذا سببٌ من أسباب تزكية النفس ، كيف يُفسَّر ذلك ؟ لأنك إن عَمِلْتَ عملاً صالحاً خالصاً لوجه الله عزَّ وجل ابيضَّ وجهك أمام ربك ، فأقبلت عليه ، فزكت نفسك بهذا الإقبال .
العامل الثاني: أن العمل الصالح المخلص سببٌ لتزكية النَفس ، ومتى زكت النفس زكا العمل ، ومتى زكا العمل سعد الإنسان في الدنيا ، واستحقَّ دخول الجنة في الآخرة .
آيةٌ أخرى تؤكِّد هذا المعنى :
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
3 ـ تربية النبي عليه الصلاة و السلام :
شيءٌ آخر يعدُّ عاملاً من عوامل التزكية ، ألا وهو تربية النبي عليه الصلاة والسلام، وتربية من يقوم مِنْ بعده بالمهمة نفسها ، قال تعالى :
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾
فالتزكية إما بالفِطْرَة ، وإما بالتربية ، وإما بالعمل ، هذا هو القرآن الكريم ، ولا تقبلوا شيئاً إلا ومعه الدليل من القرآن الكريم وما صَحَّ من السُنَّة . إذا أردت أن تزكو نفسك ، فاتِّبع فطرتك التي فُطِرْتَ عليها ، فطرتك تعرف الحَق من الباطل ، والخير مِن الشر ، والصلاح مِن الطلاح ، والفجور مِن الاستقامة . .
﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
4 ـ التعليم و التوجيه و النّصح :
إذا سلكت طريق الإيمان ، والتقيت بأهل الحق ، وتولوا تزكية نفسك عن طريق التعليم ، والتوجيه ، والنُصْحِ هذا أيضاً طريقٌ آخر من طُرُقِ التزكية ، وإذا عملت عملاً صالحاً خالصاً لوجه الله تعالى ، يبيضُّ وجهك به ، فتُقْبل على الله عزَّ وجل فتزكو نفسك . تزكيةٌ بالفطرة ، وتزكيةٌ بالتربية ، وتزكيةٌ بالعمل ، وهذا ما جاء عن التزكية في القرآن الكريم .
أخلاق المسلم العلية تُنير للناس طريق سعادتهم في دنياهم وأخراهم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الحقيقة أن ثمرات الخُلق القويم من أَجَلِّ الثمرات ، وإنها الشيء الصَّارخ في الدين ، ما الذي يلفت النظر في المسلم ؟ والله الذي لا إله إلا هو لا يلفت نظر الناس في المسلم لا صلاته ولا صيامه ، ولكن يلفت نظرهم استقامته ، أمانته ، عفافه ، صدقه، وفاؤه ، تحمُّله ، بذله ، تضحيته .
ما الذي يجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ؟ العبادات ؟ لا والله . المعاملات، حينما ترى إنساناً شامخاً كالطود خلقاً ، واستقامةً ، وورعاً ، وزهداً ، وعفافاً ، وبذلاً ، وتضحيةً ، هذا الدين يشَوِّقك إلى أن تقلِّده ، هذا الذي يدفعك إلى أن تقول : والله إنَّ الدين حق ، إذا كان الرجال تُربَّوا بهذه الطريقة فإن الدين حق . الذي يُلفت النظر في المسلم لا صلاته ، ولا صيامه، ولا حجه ، ولا زكاته ، ولكن الذي يلفت النظر أخلاقه العليَّة التي تتوهَّج من حوله ، والتي تُنير للناس طريق سعادتهم في دنياهم وأخراهم .
أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا زكت النفس ، صَلُحَ العمل ، فانغمست في سعادةٍ في الدنيا، واستحققت دخول الجنة في الآخرة . وإذا دنَّست نفسك - لا سمح الله - تدنيس النفس يتبعه سوء العمل ، وسوء العمل يتبعه شقاءٌ في الدنيا ، ونارٌ في الآخرة .
العلاقة الترابُطِيّة بين التديُّن الصحيح والخُلُق القويم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ إلى السُنَّة الصحيحة ، إلى ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام في العلاقة الترابُطِيّة بين التديُّن الصحيح والخُلُق القويم .
يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الترمذي في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال :
((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً))
لكن النبي عليه الصلاة والسلام - صلَّى الله عليك يا سيدي يا رسول الله ، كنت سيِّد المُرَبِّين- أعطانا مقياساً دقيقاً ، قال :
(( ..وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لأهلِهِ ))
ما علاقة هذا بذاك ؟ الإنسان الذكي يستطيع أن يتَّصف بأخلاقٍ طيبةً في الظاهر ، يستطيع أن يتصنَّع الأخلاق الفاضلة ، أن يتصنَّع الشهامة والمروءة ، أن يتصنَّع الوقار ، أما أن يفعل هذا طوال حياته فهذا شيءٌ مستحيل ، متى تُرْفَع عن الإنسان الرقابة ؟ وهو في بيته ، متى يشعر الإنسان بعدم وَطْأَةِ الضَغْطِ ؟ وهو مع أهله ، فإذا كان في بيته ومع أهله حَسَن الخُلُق فهذا دليل أن أخلاقه أصيلة ، وأن أخلاقه العامة ليست تصنُّعاً ولا تقليداً ولكنها صحيحةٌ كما أراد الله عزَّ وجل .
الإنسان لا يستطيع أن يمثِّل مع كل الناس ، ولا أن يتابع طريق التَمْثيل في كل الأوقات ، في ساعاتٍ يُرفع عنه الضَغط الاجتماعي ، في ساعاتٍ يشعر أن هذا الذي عنده في البَيت ضعيف ، وأنه مُسَلَّطٌ عليه ، إذا شعرت بالقوة ، وشعرت بعدم الرقابة ، وعدم الضغط ، ربما لن تكون أخلاقياً كما لو كنت مُراقباً ، أو كما لو كنت تحت ضغطٍ معيَّن ، أو تحت موقفٍ معين ، لذلك رَبَطَ النبي عليه الصلاة والسلام الخَيْرِيَّة في الإنسان بمقياسٍ دقيقٍ جداً ألا وهو أن يكون خَيِّرَاً مع أهله .
كم من رجلٍ ينتزع إعجاب الناس بذكائه ، وحصافته ، وطلاقة لسانه ، وحكمته ، ولكنه في البيت وحشٌ كاسر ؟! كم ؟ فلذلك جاء الحديث الشريف :
(( أَكْمَلُ المُؤمِنينَ إِيمَانا أَحْسَنُهُمْ خُلُقا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لأهلِهِ ))
وقد سأل أحد أصحاب النبي عليهم رضوان الله وهو عمرو بن عبسة قال : يا رسول الله أيُّ الإيمان أفضل ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
((حُسْنُ الخلق))
والحقيقة النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث رَبَطَ الرُقِيّ في سُلَّم الأخلاق مع الرقي في سُلَّم الإيمان ، لأنك إذا ارتقيت في الإيمان تؤدي حق الله عزَّ وجل ، وإذا ارتقيت في الأخلاق تؤدِّي حق الخلق ، وأداء حق الله وحق الخَلق يَنْبُعان من سمةٍ نفسيةٍ واحدة وهي أداء الحقوق . إذاً ربط النبي عليه الصلاة والسلام بين صِدْقِ العِبادة وبين حُسْن الخُلُق .
الدين في جوهره اتصالٌ بالخالق وإحسانٌ إلى المَخْلوق :
أيها الأخوة الأكارم ؛ يبدو لي أنه من المستحيل أن يكون الإنسان حَسَن الخُلُق ، منصفاً ، دقيقاً ، محسناً ، وأن تكون صلته بالله مقطوعة ، ويندر أو يستحيل أن يتَّصل الإنسان بالله عزَّ وجل اتصالاً وثيقاً ويكون مسيئاً لخَلْقه ، لابدَّ من تناسبٍ بين اتصالك بالحق وبين إحسانك للخَلْق ، بل إن الدين في جوهره وفي حقيقته هو اتصالٌ بالخالق وإحسانٌ إلى المَخْلوق .
﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
لَخَّصَ السيد المسيح الدين كله بكلمتين . .
﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
(( ما مِن شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن حُسن الخُلق ))
هذه مِن لاستغراق أفراد النوع . .
(( ما مِن شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن حُسن الخلق ، وإن الله يبغض الفاحش البذيء ))
الإيمان بالله وحسن الصلة به من أفضل الأعمال :
أيها الأخوة الأكارم ؛ مرةً ثانية : الإيمان بالله وحسن الصلة به من أفضل الأعمال ، وحينما يأْمُرُكَ الله أن تكون أخلاقياً مع كل من حولك ، هذا أيضاً من أفضل الأعمال ومن أثقلها في ميزان المؤمن . وقد روى الترمذي رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه :
(( سُئل النبي صلى الله عليه وسلَّم عن أكثر ما يُدخِل الناس الجنة ؟ - ما هو أعظم عملٍ يدخل الناس الجنة ؟- فقال عليه الصلاة والسلام : تقوى الله وحُسْن الخلق ))
تقوى الله أي طاعته ، وحسن الخلق أن تكون أخلاقياً مع الناس . هذان العملان أساسيان لإدخال الإنسان الجنة ، فلما سُئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ صلى الله عليك يا رسول الله لقد أوتيت جوامع الكَلِم قال :
(( الفم والفرج ))
فقط ، الفم لأنه ينطق بالكفر ، وينطق بالكذب ، وينطق بشهادة الزور ، وينطق بالغيبة ، وينطق بالنميمة ، وينطق بالطَعْنِ بلا مبرِّر ، وينطق بالتعيير ، وينطق بالتنقيص ، وينطق باللَّمز ، وينطق بالتنابز بالألقاب ، ويدعو إلى الباطل ، وينشر الباطل ، ويحكم بغير الحق ، هذه كلها معاصي الفم . والفم يأكل مالاً حراماً ، أيْ أن الفم له معصيتان : شيءٌ يخرج مِنه ، وشيءٌ يدخل فيه ، فلما سُئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أكثر ما يُدخِل الناس النار؟ قال :
((الفم والفرج ))
أنت بالفم يمكن أن ترتكب ألف معصيةٍ ومعصيةٍ كل يوم ، بل إنك في مجلسٍ واحد يمكن أن ترتكب عشرات المعاصي ، ولم تفعل شيئاً ؛ لم تقتل ، ولم تسرق ، ولم تزنِ ، لكنك اغتبت ، ونممت ، وسخِرْتَ ، واستعليت ، وزوَّرت . . . إلخ . والفرج . .
لذلك الإمام البخاري ، والإمام مُسلم رويا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلَّم .
((لم يكن فاحشاً ولا مُتَفَحّشاً))
فهذا المزاح الرخيص ، المُزاح الفاحش ، المزاح الجنسي ليس هذا من أخلاق المؤمن إطلاقاً ، المؤمن عفيف اللسان ، نفسه راقيةٌ ، نفسه وديعةٌ ، نفسه أنيقةٌ ، نفسه متأبيةٌ أن ينطق بهذا المزاح .
(( إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً ))
أيها الأخوة الأكارم ؛ حديثٌ صحيحٌ آخر رواه الإمام الترمذي بإسنادٍ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال :
((إن من أحبكم إليّ ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون المتشدِّقون المتفيْهقون))
قالوا : يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فمن المتفيهقون ؟ فقال : المتكبرون . هؤلاء الذين يتكبَّرون بعلمهم ، هؤلاء جبابرة العُلماء .
حسن الخلق ينشر الدين و يحبب به :
أيها الأخوة الأكارم ؛ أبو داود رحمه الله تعالى يروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(( إن المؤمن ليُدرك بحسن خُلقه درجة الصائم القائم ))
لأن حسن الخُلق يَنْشُر الدين ، حسن الخلق يُحَبِّب بالدين ، حسن الخلق يدعو الناس إلى المساجد . وسوء الخلق ينفِّر من الدين ، ويبعد عن الدين ، ويحمل الناس على الكفر بالدين ، لذلك الصائم القائم تعودُ ثمار صيامه وقيامه على نفسه وحدها ، لكن حَسَن الخُلق تعود ثمار عمله الطيِّب على المجتمع كله .
لكن لا يغني أحدهما عن الآخر أيها الأخوة ، لابدَّ من أداء للعبادات ، ولابدَّ من تحسينٍ للمعاملات . وأبو داودٍ أيضاً بإسنادٍ صحيح عن أبي أمامة الباهلي يقول عليه الصلاة والسلام :
(( أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة - أي في أطراف الجنة ، في ضواحي الجنة- لمن ترك المِراء وهو مُحِق- المراء هو المشاحنة والجدال ، وإن كان محقاً - وزعيمٌ ببيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً ))
فأحياناً الإنسان يمزح عن طريق الكذب ، أحدهم يوصيك بهذا الشيء بشكلٍ مُلِحّ ، يسألك : هل أمَّنته ؟ تقول له : لا لقد نسيت ، فيغضب ، ثم تقول له : نعم أمَّنته لك ، أردت أن تمزح عن طريق الكذب . .
(( لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً ، وأنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خلقه ))
الإمام مسلمٌ يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، أن النوَّاس بن سَمْعان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فقال :
(( يا رسول الله ما البر وما الإثم ؟ - أيْ سألتك عن البر والإثم ، ما تعريف البر؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام أجابه إجابةً جامعةً مانعة - قال : البرُّ حُسْنُ الخُلُق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطَّلع عليه الناس ))
هذه الفطرة .
أبغض الرجال إلى الله من يتلذَّذ بإحداث المشكلات للناس :
وروى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال عليه الصلاة والسلام :
(( إن أبغض الرجال إلى الله الأَلَدُّ الخصم ))
العدوان ، الذي يتلذَّذ في إحداث المشكلات للناس ، الذي يتلذذ في العدوان عليهم ، على أعراضهم ، على سمعتهم ، على أموالهم ، الذي يَعُدُّ البطولة في أن يأخذ ما ليس له ، هذا من أبغض الناس إلى الله عزَّ وجل . .
(( إن أبغض الرجال إلى الله الأَلَدُّ الخصم ))
الإحسان يمحو السيئة :
والإمام الترمذي أيضاً يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عن معاذ بن جبل أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((اتقِ الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحوها ، وخالق الناس بخلقٍ حسن))
أيْ إذا أردت أن تمحو السيئة ؛ فاعمل عملاً طيباً تُمحى به السيئة ، وهذا من فضل الله عزَّ وجل ، إذا أسأت فأحسن ، إذا وقعت في منزلقٍ فادفع صدقةً ، كلما أسأت يجب أن تعتقد أن الإحسان يمحو السيئة ، قال تعالى :
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾
المعاملات تعدُّ الدافع الأوّل لإقبال الناس على دين الله عزَّ وجل :
أيها الأخوة الأكارم ؛ ملخَّص هذه الخطبة ، ما لم تكن ذا خلقٍ حسن ، وما لم يظهر الإسلام في معاملاتك ، وفي علاقاتك ، وفي بيعك وشرائك ، وفي عطائك ومنعك ، وفي غضبك ورضاك ، وفي بيتك وخارج البيت ، ما لم يكن الإسلام صارخاً في سلوكك فلست عند الله وجيهاً ، ولست عند الله فالحاً ، ولست عند الله فائزاً .
أيها الأخوة المؤمنون . . . هذه كلها أحاديث صحيحة من أعلى درجات الصحَّة ، يرويها النبي عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المَصْدوق ، وما ينطق عن الهوى ، ويؤكد أنه بُعِثَ ليتمم مكارم الأخلاق ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أحسن الناس خلقاً . هذا الدين لن يقف على قدميه ، ولن ينمو ، ولن يزداد أتباعه ، ولن تتسع رُقْعَته ، ولن ينتصر على أعدائه إلا بالخُلق الحَسَن ، لأن الخلق الحسن يجعل العدو صديقاً ، لأن الخلق الحسن يجعل البعيد قريباً ، لأن الخلق الحسن يجعل المُبْغِضَ محباً ، وبالخلق السوء تجعل الصديق عدواً ، والقريب بعيداً ، والمحبَّ مبغضاً . فإذا أردت شيئاً يقرِّب الناس إلى الدين فالخلق الحسن ، وإذا أردت شيئاً يبعد الناس عن الدين فالخُلُق السوء . إذاً لا عبرة للعبادات التي تؤدَّى فيما بينك وبين الله ، والتي تعود نتائجها عليك وحدك أمام المعاملات التي تعدُّ الدافع الأوّل لإقبال الناس على دين الله عزَّ وجل .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( أنت على ثغرةٍ من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قِبَلك ))
ويقول الله عزَّ وجل في الحديث القدسي :
(( إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ، ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه ))
فالأمور تحتاج إلى مراجعات ، إلى نقد ذاتي ، إلى ضبط السلوك ، إلى مراقبة الإنسان ، وأبشع شيءٍ في الإنسان ، وأقذر شيءٍ فيه أن يقيس شيئين بمقياسين مختلفين ، أن يعامل الناس لا كما يعامل نفسه ، أن يعامل الآخرين لا كما يعامل أولاده ، أن يعامل زوجة ابنه لا كما يعامل ابنته ، أن يعامل الصانع عنده لا كما يعامل أخاه ، أبشع شيءٍ في الإنسان ازدواج المعايير ، وازدواج المَقاييس ، والتناقض ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : " عامل الناس كما تحب أن يعاملوك " .
اللهمَّ علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علماً .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الحزن و الفرح :
أيها الأخوة الأكارم ؛ مما يلفت النظر في قوله تعالى :
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾
أشارت هذه الآية ولا سيما في مقطعها الأخير ، إلى أن الإنسان إذا ازداد حزنه أو ازداد فرحه ، لا يحتمل قلبه لا هذا ولا ذاك ، فمما يجعل حزنه مقبولاً وسليماً ، ومما يجعل فرحه مقبولاً وسليماً أن يرى الأمور من الله عزَّ وجل ، وأن يوحِّد ، فإذا وحَّد خفَّت وطأة المصائب عليه ، وإذا وحَّد خَفَّت وطأة الأفراح عليه ، للأفراح أحياناً صدمةٌ نفسية كما للأحزان ، كم من فقيرٍ ورث مالاً طائلاً فمات حتف أنفه ، الخبر لم يحتمله ، فربنا عزَّ وجل يقول :
﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾
أيْ إذا وحَّدت ونظرت إلى الأمور أنها من الله عزَّ وجل ، فإن وطأة الأحزان تخف على قلبك ، وشدة الأفراح تخف على قلبك ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ أصَابَهُ هَمٌّ أوْ حَزَنٌ فَلْيَدْعُ بِهَذِهِ الكَلِماتِ ، يَقُولُ : أنا عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ فِي قَبْضَتِكَ ، ناصِيَتِي بِيَدِك َ ، ماضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك َ؛ أسألُكَ بِكُلّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أوْ أنْزَلْتَهُ فِي كِتابِكَ ، أوْ عَلَّمْتَه أحَداً مِنْ خَلْقِكَ ، أوِ اسْتَأثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أنْ تَجْعَلَ القُرآنَ نُورَ صَدْرِي ، وَرَبِيعَ قَلْبِي ، وَجلاءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمّي))
هذا الدعاء كان عليه الصلاة والسلام يدعوه إذا أصابه همٌ أو حزن ، أعيده على أسماعكم مرةً ثانية . .
((من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله))
وليدعُ بهذا الدعاء :
(( من أصابه همٌ أو حزنٌ فليدع بهذه الكلمات : اللهمَّ أنا عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك ، وأنا في قبضتك ، وناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤك ، أسألك بكل اسمٍ هو لك سمَّيت نفسك به ، أو أنزلته في كتابك ، أو علَّمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن نور صدري ، وربيع قلبي ، وجلاء حزني ، وذهاب غمي ))
والحديث الآخر :
((من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله))
ويقول ابن عباسٍ رضي الله عنه وهذا القول دقيق جداً :
((ليس أحدٌ منا إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن من أصابته مصيبةٌ جعلها صبراً ، ومن أصابه خيرٌ جعله شكراً))
ومن أغرب الإحصاءات أن بعض البُلدان الغربية مات من رعاياها في الحرب العالمية الثانية مليونان بسبب الشِدَّة النفسية ، وأما في ساحات المعركة فقد مات ثُلث مليون ، مليونان ماتوا خوفاً ، وماتوا قلقاً ، وهماً ، وحزناً ، وثلث مليون مات في ساحات المعركة . إذاً الشدة النفسية من دون توحيد ، من دون إيمان تفعل فعلاً خطيراً في الإنسان ، لذلك :
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾
من عرف الدنيا لم يفرح لرخاء- لأنه مؤقَّت - ولم يحزن لشقاء- لأنه مؤقَّت - قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عِوضا ، فيأخذ ويعطي ويبتلي ليجزي .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .