- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الدعاء هو الاتصال المباشر بين العبد وربه :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾
﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾
في هذه الآيات كلها كلمةٌ متكررة ، هي كلمة ( قل) أيْ أنك أيها النبي إذا سُئِلت عن كذا وكذا ، فقل كذا وكذا ، إلا آية واحدة . .
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾
هذه الآية ليس فيها ( قل) استنبط المفسرون من غياب كلمة ( قل) في هذه الآية أن الدعاء بين العبد وربه ليس فيه وسيط ، هو الاتصال المباشر بين العبد وبين خالق الكَوْن ، إذا أردت أن تتصل اتصالاً مباشراً بخالق الكون فادعُ الله عزَّ وجل ، إذا أردت أن يحدِّثك ربك فاقرأ القرآن ، وإذا أردت أن تحدث الله فادعوه .
ذكرت هذه الآيات ، وأتبعتها بالآية الوحيدة التي غابت منها كلمة (قل) ، إشارةً من الله عزَّ وجل إلى أنه ليس بين الله وبين العباد وسيط . فأيُّ عبدٍ كان مضطراً ؛ وقع في ضائقة ، وقع في أزمة ، وقع في مُشْكلة ، لاح له شبح مصيبة ، خاف شيئاً ، خاف شخصاً ، خاف جهةً ، أصابه مرضٌ ، أيَّة مصيبةٍ مهما دقَّت ، أو مهما جلَّت ، مهما هانت أو مهما عَظُمَت ، مهما اقتربت أو مهما بعدت ، معنويةً كانت أو ماديَّة ، أية مصيبةٍ إذا ألمَّت بالإنسان، ليعلم الإنسان عِلْمَ اليقين أن الله سبحانه وتعالى ما ساقها له إلا ليسمع تَضَرُّعَهُ ، إلا ليسمع دعاءه ، إلا ليدفعه إليه ، إلا ليوقفه على بابه وهو الكريم ، إلا ليستجيب له وهو الرحيم ، إلا لينقذه وهو المُجيب .
تهيئة النفس للعبادة قبل وقت العبادة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ بعض العلماء قالوا في تفسير قوله تعالى :
﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾
النِعَمُ الباطنة هي المصائب ، لماذا ؟ لأنها تسوق الناس إلى باب الله ، تحملُهم على التوبة ، تجعلهم ينظرون إلى السماء ، تجعلهم ييئسون من أهل الأرض ، تجعلهم يتطلعون إلى أمر الله وإلى نهيه - نحن في شعبان- والشيء الذي يُلْفِتُ النظر هو أن كل العبادات ، كأن حكمة الله عزَّ وجل المستنبطة من سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام أن تهيَّأ النَفْسُ لهذه العبادة قبل وقت العبادة ، أيْ إذا أردت أن تقطع طريقاً من نقطة كذا إلى نقطة كذا بأعلى سرعة، لابدَّ من أن تنطلق قبل نقطة البدء بسرعةٍ ابتدائية ، قبل أن تصل إلى نقطة البَدْء لابدَّ من أن تكون متحركاً ، حتى تصل إلى نقطة البدء وأنت بالسرعة النظامية الكاملة .
فرمضان على الأبواب ، لماذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يُكْثِرُ من الدعاء في شعبان ؟ ويكثر من الصيام فيه قبل النصف في الأعمّ الأغلب ؟ ولماذا كان يكثر الدعاء في شعبان ؟ إن رمضان شهر القُرب ، إن رمضان شهر التقوى ، إن رمضان شهر البذل ، شهر القُرآن ، لا يُعْقَلُ أن تبدأ رمضان بدايةً قليلة ، فإذا أردت أن ترفع هذه السرعة في رمضان ، وصلت إلى نصف رمضان ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا أن نهيئ أنفسنا لرمضان قبل رمضان ، وما السنة القبلية في الصلاة إلا تهيئة للفريضة ، وما السُنَّة البعدية في الصلاة إلا ترميم لما فاتك في الفريضة ، وما الإحرام من الميقات إلا تهيئة النفس لمواجهة الكعبة المُشَرَّفة ، وما كل شيءٍ تفعله قبل العبادة إلا تهيئةٌ ، وإعدادٌ ، ورفع مستوى النفس إلى مستوى العبادة .
أيها الأخوة الأكارم ؛ ذكرت لكم أن آية الدعاء ليس فيها كلمة (قل) بمعنى أن الاتصال بينك وبين الله مباشِرٌ ، بإمكان أيّ عبدٍ أن يرفع يديه إلى السماء وأن يدعو الله عزَّ وجل ، وبقدر إخلاصه ، وبقدر صِدْقِهِ ، وبقدر معرفته ، وبقدر استجابته تكون الاستجابة .
على العبد أن يسأل عن ربه عز وجل :
الآية التي بين أيدينا اليوم هي قوله تعالى :
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾
فهل سألت أحداً عن الله ؟ كيف يستجيب ؟ كيف يستمع ؟ كيف يُعامل عباده ؟ لماذا خلقنا ؟ ماذا يُحِب ؟ ماذا يَكْرَه ؟ مَنْ يحب ؟ مَنْ لا يحب ؟ هل هذا الموضوع جملةً وتفصيلاً يعنيك أم أنت غارقٌ في وادٍ آخر؟ هل يعنيك أمر دينك ؟ هل يعنيك أمر ربك ؟ هل يعنيك أمر آخرتك ؟ هل أنت غارقٌ في حطام الدنيا حتى إذا جاء الموت قال :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾
نشعر ونستنبط من هذه الآية أن العبد يجب أن يسأل عن ربه . .
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾
هل سألت عن الله يوماً ؟ قد تسأل عن أسعار بعض الحاجيات ، قد تسأل عن أسعار البيوت ، قد تسأل عن الأماكن التي سوف تمضي بها عُطلة نهاية الأسبوع ، أو عطلة السَنَة ، قد تسأل عن أشياء كثيرة في الدنيا ، فهل سألت مرةً عن ربك ؟ كيف يعاملنا ؟ ماذا أعدَّ لنا ؟ ماذا بعد الموت ؟ ماذا قبل الموت ؟ ما الذي يرضيه ؟ ما الذي لا يرضيه ؟ ما سُنَنُهُ ؟
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾
كأن في هذه الآية دفعٌ للناس ، اسألوا ، ابحثوا ، تأمَّلوا ، تدبروا ، دققوا ، انظروا..
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾
ما من ثلاثةٍ إلا هو رابعهم . .
﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
علامة إيمانك أن ترى أن الله قريب و هو معك أينما كنت :
﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
أقرب منك إلى نفسك ، إذا جاءك خاطرٌ وأنت صامت ، إن الله عزَّ وجل يطَّلع عليه قبل أن تطلع عليه أنت ، إنك مكشوفٌ أمام الله عزَّ وجل . . فهل رأيته قريباً ؟ علامة إيمانك أن ترى أن الله قريب ، وعلامة البُعْد عن الله عزَّ وجل أن تراه عنك بعيداً، أن تراه في السماء . .
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾
يستنبط من كلمة ( إذا دعان) أي إذا دعاني حقيقةً ، إذا دعاني مُخْلصاً ، إذا دعاني وقد قطع آماله من خلقي . .
(( ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده أهل السموات والأرض ، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً . وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه ))
﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾
إذا دعوت الله وأنت معتمدٌ على ذكائك ، ما نفعك ذكاؤك ، إذا دعوت الله وأنت متكئٌ على مالِك ، ما نفعك مالك ، إذا دعوت الله وأنت متكئٌ على زيدٍ أو عبيد ، هم أصحابك ، ولهم شأنٌ كبير ، ولن يتخلوا عنك ، دعاؤك لا يجدي ، دعاؤك مشوبٌ بالشِرْك . .
﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾
.
الدعاء مخ العبادة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ الدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام ، وكما ورد في كتاب مصابيح السُنَّة :
((الدعاء مخ العبادة ))
لماذا ؟ لماذا تصلي ؟ كي تتصل ، لماذا تصوم رمضان ؟ كي تتصل ، لماذا تحُجُّ البيت ؟ كي تتصل ، الصيام من أجل الصلة ، والحج من أجل الصلة ، والصلاة من أجل الصلة ، والزكاة من أجل الصلة ، وكل العبادات جملةً وتفصيلاً من أجل أن يكون الطريق بينك وبين الله سالكاً ، سالك لا بصعوبة بل سالك بيُسر ، المعاصي تجعل الطريق سالكاً بصعوبة ، وكلما كثُرت المعاصي كثرت الحُجُب ، فإذا كانت الصلاة والصيام والحج والزكاة من أجل أن تتصل ، فإذا كنت مضطراً ، ومحتاجاً ، وفي ضيقٍ شديد ، وفي محنةٍ قاسية أنت في هذه الحالة تتصل أشدّ أنواع الاتصال ، تتصل في أعلى مستويات الاتصال ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
((الدعاء مخ العبادة ))
في آيةٍ أخرى دقيقةٍ جداً يقول الله عزَّ وجل :
﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾
أيْ أنتم إن لم تدعوا ربكم من أنتم ؟ لا شأن لكم عند الله ، أمواتٌ غير أحياء ، ما الذي يؤكِّد حياتكم - حياة إيمانكم - ؟ ما الذي يؤكد أن نبضاً في عروقكم ؟ هو الدعاء ، إذا قلت : يا رب . قال لك الله : لبيك يا عبدي ، إذا قلت : يا رب وأنت راكع ، قال الله عزَّ وجل : لبيك يا عبدي . وإذا قلت : يا رب وأنت ساجد . قال الله عزَّ وجل : لبيك يا عبدي . وإذا قلت : يا رب وأنت عاصٍ ، هنا حالة استثنائية ، تأليفاً لقلبك ، وفرحةً بقدومك ، وأوبتك ، وعودتك ، قال الله : لبيك ثم لبيك ثم لبيك . لأن عبادي كما قال الله عزَّ وجل :
((إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهِّرهم من الذنوب والمعايب ))
من دعا الله فهو مؤمن بوجوده :
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾
أنت إذا دعوت ، معنى ذلك أنك مؤمنٌ بوجود الله ، وأنك إذا دعوت الله ، معنى ذلك أنك مؤمنٌ بأنه معك أينما كنت ، وأنك إذا دعوت الله عزَّ وجل ، معنى ذلك أنك مؤمنٌ بأنه يسمعك ، وإذا دعوت الله عزَّ وجل ، معنى ذلك أنك مؤمنٌ بأنه يُحبك وسيستجيب لك ، إذاً :
﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾
لولا أنَّكم تدعون لا يعبأ بكم ربي . .
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾
﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾
أي إذا خَلَت حياة العبد من الدعاء كأنَّه انتهى ، إذا تعامل مع الأشياء تعاملاً مادياً ونسي الله عزَّ وجل ، ونسي الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي بيده كل شيء ، وهو على كل شيءٍ قدير ، وهو يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، إذا تغافلت أو نسيت خالق الكون ، وأن كل الناس بيده ، وأن كل حركاتهم وسكناتهم ، وأن رضاهم وغضبهم ، وعطاءهم ومنعهم وصلتهم ، أن كل هذا بيد الله . إذاً إذا دعوت الله فهذه علامة إيمانك ، فإذا غفلت عن الدعاء كُلِّياً فهذه علامة جهلك وبُعْدِك عن الله عزَّ وجل ، لذلك:
((لِيَسأَلْ أحدكُمْ رَبَّه حاجتهُ كلَّها حتَّى يسألَ شِسْعَ نَعلِهِ إذا انقطَع ))
(( إن الله يحب من عبده أن يسأله ملح عجينه ))
(( إن الله يحب الملحين في الدعاء ))
(( من لا يدعوني أغضب عليه ))
الافتقار إلى الله و عدم الاعتماد على النفس :
لكن . .
﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾
الذي يعتدي على أخيه الإنسان كائناً من كان ، الذي يعتدي على الناس ، على أموال الناس ، على أعراضهم ، على ما عندهم ، الذي يُسَبِّب المتاعب للناس ، هذا الذي يعتدي إن الله لا يحبه ، ومعنى لا يحبه أيْ لا يستجيب دعاءه . .
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾
أحياناً تدعو وأنت مُتَّكلٌ على ذاتك . ومن اتَّكل على نفسه أوكله الله إليها ، أحياناً تدعو وأنت متكلٌ على زيدٍ أو عُبَيْد ، وعندئذٍ يبدو لك زيدٌ أو عُبَيْد عبيداً فقراء لله عزَّ وجل ، لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً ، ولا أن ينفعوك ، و . .
(( وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ على أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا على أنْ يَضُرُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُوكَ إِلا بِشَيءٍ قد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ))
((لكل شيءٌ حقيقة وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه))
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾
أيْ إذا دعوت الله ، فلا تتكل على مخلوق ، ولا تضع في ذهنك أن فلاناً لا ينساني ، فلان يعطيني ، فلان لي عنده شأنٌ كبير ، عندئذٍ يجعل الله متاعبك من جهة فلان تأديباً لك . لكن ماذا فعل الله بأصحاب النبي وهم أصحابه ، هم الذين جاهدوا معه ، هم الذين بذلوا الغالي والرخيص والنَفْس والنَفيس ؟ قال :
﴿كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾
اتكؤوا على كثرتهم ، اعتمدوا على كثرتهم ، اجتمع في الجزيرة العربية كلِّها عشرة آلاف مقاتل ، فتحوا مكة ، ودانت لهم الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها ، أُعجبوا بكثرتهم وبقوتهم . .
﴿كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾
أما . .
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾
أي مفتقرون إلى الله ، نهاية علمك أيها الأخ الكريم أن تفتقر إلى الله ، نهاية عِلمك أن تشعر بضعفك . .
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
أنت في الأصل ضعيف ، أنت في الأصل فقير ، أنت في الأصل جاهل لا تَعْلَم، هذه هي طبيعة الإنسان ، هذا ضعفٌ خَلْقِيّ وضِعْت فيه لصالح إيمانك . لو أن الله عزَّ وجل جعلك قوياً لاستغنيت بقوتك ، فشقيت باستغنائك ، جعلك ضعيفاً ، لتفتقر في ضعفك ، فتسعد في افتقارك .
ارتباط الإخلاص بالدعاء :
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾
ولكن الله عزَّ وجل يرشدنا ، انظر . .
﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
يرشدنا إلى طريقةٍ ، إذا دعوت الله عزَّ وجل استجاب لك ، فكان الدعاء أكبر سلاحٍ في يدك ، مهما كان عدوك قوياً أنت مع خالق عدوك ، كل شيءٍ بيد الله عزَّ وجل ، لكن البطولة لا أن تدعو ، المسلمون في شتّى أقطارهم يدعون ربهم ليلاً ونهاراً ، بأدعيةٍ منمقةٍ ، بليغةٍ ، مسجوعةٍ ، بصوتٍ جَهْوَرِيٍّ ، فتشعر أن الله لا يستجيب ، الدعاء على قدمٍ وساق ، والمُشكلات تتابع ، أليس هناك سؤالٌ خطير : ألا يسمعنا ربنا ؟ لِمَ لا يستجيب لنا فنحن ندعوه كل يوم ؟! الحقيقة أيها الأخوة الجواب في هذه الآية :
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ﴾
(( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))
هل دخلك حلال ؟ هل تقصَّيت الدخل الحلال ؟ هل وضعت الدخل الحرام تحت قدمك وقلت : إن هذا لا يرضي الله عزَّ وجل ؟ مرحباً بالفقر مع طاعة الله ، وبعداً للغنى مع معصية الله ، هل أنت في هذا المستوى ؟ والله إذا كنت في هذا المستوى لانتْ لك الجبال .
(( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))
هل دققت في دخلك أولاً ، وأنت في مصلحةٍ من مصالح الحياة هل تنصح المسلمين ؟ هل تعطيهم البضاعة الجيدة بالسعر المعقول أم تستغل حاجتهم لهذه البضاعة ؟ أم تستغل جهلهم فترفع سعرها أضعافاً مُضاعفة ؟
(( غبن المسترسل ربا ))
(( غبن المسترسل حرام ))
والمسترسل هو الغشيم- باللغة الدارجة - فأنت إذا كنت مع الله مخلصاً ، كنت مع العباد مستقيماً ؛ أخذت ما لك وتركت ما ليس لك ، نصحت عباد الله ، لم تغشَّهم ، لم تدلِّس عليهم ، لم تكذبهم ، من حدث الناس فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته ، لذلك :
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾
هل أنت تصلي الصلوات الخمس كما أرادها الله عزَّ وجل ؟ هل تصوم رمضان كما أراده الله عزَّ وجل أم تنهي كل البرامج حتى قُبَيْل السحور فتأكل وتنام ثم تدعو قائلاً : يا رب ؟ ما قيمة الدعاء ؟ وما قيمة رفع الصوت بالدعاء ؟ وما قيمة تَنْميق الدعاء وسجع الدعاء ؟
من أراد أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله :
أيها الأخوة الأكارم ؛
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾
من أجل أن يكون الدعاء سلاحاً بيدك، من أمض الأسلحة ، من أجل أن يكون الدعاء أكبر قوةٍ تملكها ، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله ، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك . .
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾
هل بيتك إسلاميٌ ؟ العادات في البيت ، أنماط المعيشة ، كيف تمضي هذه السهرة فيما يرضي الله أم فيما يغضبه ؟ لقاءاتك ، سهراتك ، ندواتك ، رحلاتك ، علاقاتك الاجتماعية ، كَسْبُك للمال ، إنفاقك للمال ، هل هو مما يرضي الله عزَّ وجل ؟
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾
إذاً يجب أن تعرف أمر الله عزَّ وجل ، وكيف تعرف أمر الله إن لم يكن لك مَنْهَلٌ علمي؟ إن لم يكن لك مَوْرِد ؟ لماذا تتقصَّى كل التفصيلات في شؤون حياتك الدنيا ؟ تأخذ أرقام الهواتف ، والأسعار ، وأنواع الفنادق ، لماذا تتقصَّى كل الجُزْئيات في كل حياتك اليومية ولا تتقصَّى أمر الله في آخرتك ؟ لابدَّ لك من مجلس عِلْم ، لابدَّ لك من طلب عِلْم ، لابدَّ لك من أن تعرف أمر الله ، لابدَّ لك من أن تعرف الله من خلال الكون ، ولابد لك من أن تعرف أمر الله من خلال كتابه وسنة نبيه ، أتضنُّ على آخرتك المديد بساعةٍ في الأسبوع ؟ أتضن على آخرتك الأبدية بساعةٍ في البيت تمضيها في قراءة القرآن ؟ أتضن على حياةٍ لا تنتهي بساعاتٍ تصلي بها ، تقرأ القرآن ، تذكر بها ، تستمع بها إلى العلم الشريف ، إلى تفسير كتاب الله ، إلى أحكام الفِقه ، إلى أحكام السُنَّة المُطَهَّرة .
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم :
أيها الأخوة الأكارم ؛ هنا العقدة . .
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾
من أجل أن ندعو فيستجيب الله لنا ، من أجل أن تكون مستجاب الدعوة ، من أجل أن يكون الدعاء مُخ العبادة ، من أجل أن يكون الدعاء أكبر قوةٍ بيدك ، من أجل أن تكون مستجاب الدعوة . .
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾
استجب ليَسْتجب ، تنسى فينسى . .
﴿لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾
هذه آيات كلها متوازنة ، إذا غيَّرت يغيِّر ، وإذا لم تغير لا يغير ، أيْ إذا كنت في بحبوحة ، إذا كنت في عِز ، إذا كنت في شأن ، إذا كنت في راحةٍ نفسية ، إن كنت على طاعة الله ، إن لم تغيّر لا يغيّر ، إن غيَّرت يغيِّر ، إن كنت في بؤسٍ ، في ضائقةٍ ، في مشكلةٍ إن لم تغير لا يغير ، من أدق الآيات . .
﴿لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾
لا تغير لا يغير ، إن كنت في ضائقة إن لم تغير لا يغير . .
﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾
تابوا فتاب الله عليهم . .
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾
قال : يا رب كم عصيتك ولم تعاقبني ؟ قال : عبدي كم عاقبتك ولم تدرِ . ادعُ صباح مساء ، ارفع صوتك بالدعاء ، نمِّق الدعاء ، اسجع في الدعاء ، لا يُستجاب لك ما لم تستجب له . .
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
طبعاً لن تستجيب له إلا إذا آمنت به ، تستجيب لمن ؟ لمن تراه موجوداً ، لمن تراه فَعَّالاً ، لمن تراه واحداً لا شريك له ، لمن تراه كاملاً ، إذا آمنت بوجود الله ، ووحدانيته ، وأنه هو كل شيء ، إذا آمنت بكماله استجبت له ، فإذا استجبت له استجاب لك ، هذا كل الموضوع ، الدعاء مبنيٌ على هذه الآية :
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
الحياة كلها أخطار أيها الأخوة ، كلها متاعب ، كلها مُنْزَلَقات ، أيْ أن الجسم معرَّض لمليون مرض ، وكل مرضٍ يجعل حياة الإنسان جحيماً ، أهلك معرَّضون للأخطار ، بيتك ، تجارتك ، أموالك ، الأخطار من كل جانب ، وما هذه الأخطار إلا لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل ، مِنْ أجل أن تنطلق بالدعاء ، من أجل أن تعتمد عليه ، من أجل أن تحبه ، ومن أجل أن يعطيك فتحبه مرةً ثانية .
أحكام العبادة والذكر وتلاوة القرآن في شعبان أحكامٌ تأديبية لتهيئة النفس لرمضان :
أيها الأخوة الأكارم ؛ أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه كان يدعو الله في شعبان ، وما الدعاء في شعبان ، وما الصيام في شعبان ، وما تلاوة القرآن في شعبان إلا تهيّئةٌ لرمضان ، لأن العبادة في رمضان من أجل أن تبدأ رمضان من اليوم الأول بسرعةٍ عالية ، يجب أن تسبق هذه السرعة العالية سرعةٌ ابتدائية ، يجب أن تبدأ في رمضان من اليوم الأول بسرعةٍ عالية ، هذه السرعة العالية لن تُخْلَقَ فجأةً بل لابدَّ لها من سرعةٍ ابتدائية ، إنه شعبان ، فنحن يجب أن نستعد في شعبان ، يجب أن ننهي علاقاتنا قبل رمضان ؛ هناك مشكلة ، هناك خصومة ، هناك حساب دقيق ، هناك شراكة ، هذه القضايا التي تُشغل النفس ، وتشتتها ، وتضيعها هذه يجب أن تتم قبل رمضان .
في رمضان هيّئ برنامجاً لك دقيقاً في صون جوارحك ، صون قلبك عما سوى الله ، هيئ نفسك كي تصلي التراويح كل يوم ، هيئ نفسك أن تصلي صلاة الفجر في المسجد كل يوم ، هيئ نفسك أن تضبط لسانك إلى أقصى درجات الضبط ، تضبط لسانك وجوارحك ، هيئ نفسك أن تكون في بيتك إشعاع نور لأولادك ولزوجتك ، فمن أجل أن تكون في رمضان هكذا ، لابدَّ من أن تبدأ من شعبان .
هذا يقاسٌ عليه : أنت مكلَّف أن تأمر ابنك بالصيام قبل أن يُكلَّف بالصيام ، أيعقل أن تكلفه أن يصوم أول رمضان في الثامنة عشرة ؟ مستحيل ، لا يرضى ولا يستطيع ، لابدَّ من أن تأمره بالصيام من سن العاشرة ، بل من السابعة ، حتى يأتي سن البلوغ وقد ألِف الصيام . هذه سمَّاها العلماء أحكام تأديبية لا أحكام تكليفية ، يجب أن تؤدب ابنك بآداب الصيام وأنت في شبعان ، أحكام العبادة والدعاء والذكر وتلاوة القرآن في شعبان ، أحكامٌ تأديبية مهمتها تهيئة النفس لرمضان .
أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
رتبة العلم أعلى الرتب :
أيها الأخوة الأكارم ؛ قصةٌ قصيرة تعرِّفكم بقيمة العلم . كان عطاء بن رباحٍ عبداً أسود لامرأةٍ من مّكَّة ، وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه ، فجلسوا إليه وهو يصلي ، فلما صلى انفتل إليهم ، فمازالوا يسألونه عن مناسك الحج ، وقد حوَّل جنبه إليهم ، ثم قال سليمان لابنيه : قوما . فقاما ، فقال : يا بني لا تنيا في طلب العلم ، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود .
سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين جلس أمام عطاء بن رباح يسأله عن مناسك الحج ، سأله فأجابه ، وما قصِّر بالإجابة ، لكن شعر أنه أمير المؤمنين ، وأنه خليفة المسلمين، وهذا عبدٌ أسود يقف بين يديه ويسأله فقال : يا بني لا تنيا في طلب العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود .
أيها الأخوة الأكارم ؛ سيدنا يوسف حينما دخل بيت العزيز كان عبداً ، وحينما أصبح عزيز مصر ، رأته جاريةٌ يوم كان عبداً ويوم صار عزيز مصر ، فقالت : " سبحان من جعل الملوك عبيداً بمعصيته وجعل العبيد ملوكاً بطاعته " . أيْ أنت بطاعة الله عزَّ وجل يرفعك الله إلى أعلى عليين . ألم يقل الله عزَّ وجل :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
ما من رتبةٍ أعلى من رتبة العلم ، كل الحظوظ التي يتفاضل الناس بها عادةً ؛ كحظ المال ، وحظ الجاه ، وحظ الوسامة ، وحظ الذكاء ، وحظ الصحة ، هذه حظوظ ، القرآن ما اعترف بها ، ولا جعلها مُرَجِّحاً بين خلقه ، إلا قيمةً واحدة وهي قيمة العلم ، فقال تعالى :
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
وما فريضة الجمعة إلا من أجل طَلَبِ العلم ، من أجل أن يبقى المسلم على صلةٍ بالعِلم ، من أجل أن يستمع كل جمعةٍ إلى آيةٍ كريمة ، إلى تفسير آية ، إلى تفسير حديثٍ شريف ، إلى حكمٍ فقهي ، إلى قصةٍ مؤثِّرة .
يروى أن رجلاً اشترى بيتاً وذهب إلى سيدنا عليّ ليكتب له عقد الشراء ، قال له : اشتريت بيتاً ، وأريد أن تكتب لي عقد الشراء بيديك . فنظر عليٌ رضي الله عنه إليه ، فوجد برؤيته ، وفراسته ، والنور الذي قذفه الله في قلبه ، وجد أن الدنيا قد تربَّعت على سويْداء قلبه ، وحجبته عن ذكر الله ، فأمسك بالقلم وكتب على الرقعة : بسم الله ، فقد اشترى ميتٌ من ميتٍ داراً في بلد المذنبين ، وسكة الغافلين ، لها أربعة حدود ، الحد الأول ينتهي إلى الموت ، والحد الثاني ينتهي إلى القبر ، والحد الثالث ينتهي إلى الحساب ، والحد الرابع ينتهي إما إلى الجنة وإما إلى النار . هذا عقد الشراء . اشترى ميتٌ من ميتٍ داراً في بلد المذنبين - والسكة أيْ الشارع - وسكة الغافلين ، هذه الدار لها أربعة حدود ، حدٌ ينتهي عند الموت ، وحدٌ ينتهي عند القبر ، وحدٌ ينتهي عند الحساب ، وحدٌ ينتهي إما إلى جنةٍ وإما إلى نار . ويدعو ويقول : " يا دنيا غري غيري - سيدنا علي - أإليَّ تعرضت أم إلي تشوَّفت ؟ هيهات هيهات لقد طلقتك بالثلاث ، طلاقاً لا رجعة فيه ، فعمركِ قصير ، وخطرك حقير ، آه مِن قلة الزاد ، وبُعْد السفر ، ووحشة الطريق .
أرجح الناس عقلاً أشدّهم لله حباً :
أيها الأخوة الأكارم ؛ ألا تستمعون كل يوم إلى رجل في قِمَّةِ مَجْدِهِ ، وفي قمة تألُّقه ، وفي قمة غناه ، دخل إلى المكان الفلاني فإذا هو ميت ، انتهى كل شيء ، توقف قلبه فانتهى كل شيء ، كل هذه الأملاك ليست له وسيحاسب عليها ، إلى أين ؟ إلى أبد الآبدين ، إلى حياةٍ لا تنقضي ولا تنتهي . .
﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾
﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا ﴾
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .
(( إن أكيسكم أشدكم للموت ذكراً ، وإن أحزمكم أشدكم استعداداً له ، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزود لسكن القبور ، والتأهب ليوم النشور ))
سليمان بن عبد الملك نفسه حجَّ فالتقى بأبي حازم أحد كبار العلماء فقال :
يا أبا حازم لمَ نكره الموت ؟ قال : " لأنكم خرَّبتم آخرتكم وعمَّرتم دنياكم ، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب . قال : يا أبا حازم كيف القدوم على الله ؟ قال : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله ، وأما المسيء فكالعبد الآبق يُرَدُّ إلى مولاده . قال : ما لنا عند الله يا أبا حازم ؟ قال : اعرض نفسك على كتاب الله تعلم ما لَك عند الله - هو المقياس -
قال : أين رحمة الله ؟ قال : إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين . قال : ما مصيرنا ؟
قال : إنا الأبرار لفي نعيم وإنا الفجار لفي جحيم . قال : من أعقل الناس ؟ قال : من تعلَّم الحِكْمَة وعلَّمها الناس ، قال : من أحمق الناس ؟ قال من باع آخرته - يا ليت بدنياه - بدنيا غيره . قال : ما أزكى الصَدَقة ؟ قال : جُهْدَ المُقِلّ . قال : أشر علي . قال : اتقِ الله أن يراك حيث نهاك ، وأن يفتقدك حيث أمرك ".
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .