- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا لرُبوبيَّته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر، وما سمعت أذنٌ بِخَبر.
اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريّته ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا، وأرنا الحقّ حقًّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أسلوب الترغيب و الترهيب في القرآن الكريم :
أيها الأخوة المؤمنون، من أساليب القرآن الكريم في تَوجيه عباده إلى الصّراط المستقيم، أُسلوب الترغيب، كما أنّ من أساليبه أسلوب الترهيب، فالقرآن الكريم يرهّب ويرغّب.
فَمِن أساليب الترغيب هذه المشاهد التي وردَت في صُور القرآن الكريم عن حال أهل الجنّة، ففي سورة الإنسان التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرؤُها في صلاة فجر يوم الجمعة قوْلُه تعالى مُتَحَدِّثًا عن حال أهل الجنّة، يقول الله عز وجل:
﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾
يومُ القيامة يومٌ عسير، يومٌ صعب، يوم يقوم الناس لِرَبّ العالمين، يُحاسبُ الإنسان عن كلّ عملٍ عمله، وعن كلّ موْقفٍ وقفه، وعن كلّ عطاءٍ أعطاه، وعن كلّ منْعٍ منعَهُ، وعن كلّ صِلَةٍ أحْدثها، وعن كلّ قطيعة فعلها، وعن مالهِ كيف اكْتسبهُ وفيم أنْفقهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عملَ به؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن عمرهِ فيم أفناه؟ في هذا اليوم العصيب، في هذا اليوم الصَّعْب، في هذا اليوم الذي تنْكشفُ فيه الحقائق، وتُبْتلى السرائر، ويقفُ الناس أمام الله عز وجل كما جاؤوهُ أوَّل مرّة يحْشرهم فُرادى، في هذا اليوم العصيب، هؤلاء المؤمنون الصادقون، قال تعالى:
﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾
قال علماء التفسير: النَّضْرة في وُجوههم، والسرور في قلوبهم، وُجوههم نضرة، فرِحَة، مسْتبشرة، سعيدة تتألّق، وفي قلوبهم المسرّة، قال تعالى:
﴿جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾
صبروا على ماذا؟
الدنيا دار ابتلاء و الآخرة دار جزاء :
الحياة كلّها دار ابتلاء، كلّ التكاليف التي أمر الله بها تعالى ذاتُ كلْفة، كلّ شيءٍ أمرك الله به نفْسُك تتمنَّى ألا تفعلهُ، وكلّ شيءٍ نهاك الله عنه نفسُك تتمنّى أن تفعلهُ، وهذا سرّ التكليف، وهذا سرّ ارْتقاء الإنسان إلى الله عز وجل، صبروا على الشّهوات، وصبروا على الطاعات، وصبروا في الدعوة إلى الله، وصبروا في احْتِمال الأذى، وصبروا على أمْر الله التكليفي، وصبروا على أمره التكويني، قال تعالى:
﴿جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ﴾
كلّ أنواع النعيم، أعلى درجات النعيم، وكلّ ما تشْتهيه الأنفسُ، كلّ ما يلذّ الأعْيُن، بِمُجرّد أن يخطر في بالهم شيء فإذا هو أمامهم، وهذا منتهى التكريم، الحياة الأخرويّة أساسها أنّ الذي تشْتهيه تجدُهُ فورًا، بينما في الدنيا لا بدّ من أن تسْعى، ولا بدّ من أن تبْذل جهدًا كبيرًا، من أجل أن تصل إلى ما تشْتهيه، الدنيا مركّبة على الأسباب، والآخرة مركّبة على الطّلب فقط، قال تعالى:
﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً ﴾
كلّ ما في الدنيا من حرّ لا يُحْتمَل، أو برْدٍ لا يحتمل، أو جوعٍ، أو عُرْيٍ، أو قلقٍ، أو خوفٍ، أو مشقّة، أو توقّع المصيبة، أو القلق من الموت، أو القلق من تقدّم السّن، أو القلق من بعض الأمراض، كلّ المتاعب النفسيّة أو الجسميّة هم بريئون منها، هم مُعافَوْن منها، قال تعالى:
﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾
هذه الأشجار الوارفة الظلال، ثِمارها دانِيَة، قريبةٌ منهم، قال تعالى:
﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ﴾
أي في مُتناوَل اليد، هذه الفواكه لا مقْطوعة ولا ممنوعة، مسْتمرّة، قال تعالى:
﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ﴾
أرقى أنواع الأواني، كانت قواريراً، قال تعالى:
﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾
تأخذ منها بِقَدْر حاجتك، أو إنَّها تُقدَّر بحَسب تَقديرك، تقْديرُك الذي قدَّرْتهُ يكون مقدَّرًا من قِبَل الله عز وجل، قال تعالى:
﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً ﴾
والعرب في جاهليّتهم يصِفون الشراب الممزوج بِبَعض النباتات، قال تعالى:
﴿عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ﴾
مخلَّدون في سِنِّهِم، مخلّدون في جمالهم، مخلّدون في نضارتهم، مخلّدون في طواعِيَتِهم، مخلّدون في خدمتهم، قال تعالى:
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ﴾
جزاء من أطاع الله في الدنيا :
سُقْتُ هذه الآيات تمْهيدًا لِمَوضوع الخُطبة، يقول الله عز وجل:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾
ثَمَّ يعني هناك، ماذا ترى؟ نعيمًا وملْكًا كبيرًا، نعيمًا لا يتناهى، ومُلكًا كبيرًا لا حُدود لِعَظمته، كلّ هذا النعيم، وكلّ هذا المُلْك للمؤمن الذي أطاع الله في الدنيا، قال تعالى:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾
أشربةُ الجنّة طاهرة، مُطَهَّرة، ومَوْطنُ الشاهد في قوله تعالى:
﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ﴾
إنّ هذا الملك العظيم، إنّ هذا النعيم المقيم، إنّ هذه الجنّة وما فيها من فاكهة ممّا يتخيّرون، إنّ هذه الجنّة وما فيها من حور عين، إنّ هذه الجنّة وما فيها من ولْدان مخلّدون، إنّ هذا النعيم المقيم، وهذه الجنّة التي عرضها السموات والأرض، هذه الأبَدِيَّة التي لا تنتهي، إنّ هذا كان لكم جزاءً أيّها المؤمنون، يا مَنْ كنتُم في الدنيا تخافون الله، يا مَنْ كنتُم في الدنيا تبادِرون إلى طاعة الله، يا مَنْ كنتُم في الدنيا تنفقون أموالكم ابْتِغاء أمر الله، يا مَنْ كنتُم في الدنيا تبادرون إلى المساجد، فأنتم فيها كالسّمكة في الماء، يا مَنْ كنتُم في الدنيا تُطعمون الطعام على حبّه مِسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، يا مَنْ كنتُم ترْعون الأرامل، يا مَنْ كنتُم في الدنيا ترْعون الأيتام، يا مَنْ كنتُم في الدنيا تُغيثون المستغيث، يا مَنْ كنتُم في الدنيا تقفون في الليل تصلّون، يا مَنْ كنتُم تجلسون للذِّكْر صباحًا تَذْكرون، يا مَنْ كنتُم تقرؤون القرآن، يا مَنْ كنتُم تغضُّون أبصاركم عن محارم الله، إنّ هذا النعيم المقيم وهذه الجنّة التي عرضها السموات والأرض، إنّ هذا كان لكم جزاءً، وكان سعْيُكم مشكورًا، إنّ الله سبحانه وتعالى يشْكر عبدهُ المؤمن، يشْكرُ له طاعته، يشْكرُ له صبْره، يشْكرُ له رضاهُ بقضائه وقدره، يشْكرُ له حبّه للناس، يشْكرُ له خدمته لهم.
القرآن الكريم هُدى لا ضلال معه :
أيها الأخوة الأكارم، يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ﴾
أي هل تدري أيها الإنسان أنّ هذا الكتاب الذي بين يديك هو كلام خالق الكون؟ نزّلنا عليك القرآن تنزيلاً، أيْ تنزيلاً عظيماً، فما فيه حقّ، سرّ الحلال ما أحلّه القرآن، والحرام ما حرّمه القرآن، والحقّ ما جاء به القرآن، والباطل ما خالفَ القرآن، وهذا معنى قول الله عز وجل، تنزيلاً عظيمًا، وتنزيلاً محْكمًا، وتنزيلاً حقًّاً.
أيها الأخوة الأكارم، القرآن غنًى لا فقْر بعدهُ، ولا غِنًى دونه، ومن أوتِيَ القرآن فظنّ أنّ أحدًا أوتِيَ خيرًا منه فقد اسْتصْغر ما عظَّمه الله تعالى، وقارئ القرآن لا يحزن، من تعلّم القرآن متّعه الله بعقله حتى يموت، إنّ القرآن الكريم هُدًى لا ضلال معه، وسعادةً لا شقاء معه، قال تعالى:
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
قال تعالى:
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
ماذا ترى في هذا الكتاب؟ هل تجدُ فيه آيةً يصْعب أن تطبّق؟ إذًا لا ترى أنّ هذا القرآن نزّلهُ الله على النبي تنزيلاً، الحقّ ما جاء به القرآن، والباطل ما خالف القرآن، الحلال ما أحلّه القرآن، والحرام ما حرّمه القرآن، الحِكْمة ما نطق بها القرآن، وهذا معنى قول الله عز وجل:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾
وقد فسّر المفسّرون هذه الآية حُكْمَهُ التشريعي، وحكمهُ التكويني، يعني أفعالهُ اصْبِر لها، وأوامرهُ ونواهيه اصْبِر لها، قال تعالى:
﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾
العاقل من يجعل القرآن حكماً على عقله :
في حياة كلٍّ مِنَّا أقْرباء، أصدقاء، زملاء، جيران، أصحاب، هؤلاء الأشخاص البعيدون عن الله عز وجل، الواقعون في الإثم، الواقعون في الكفر، هؤلاء إيّاك أنْ تسْتشيرهم، إيّاك أن تأخذ بآرائهم، إيّاك أن تهتدي بِتَوجيهاتهم، هؤلاء يدُلّونك على طريق النار، فاصْبِر لحُكم ربّك، ولو رأيْت أنّ الأمْر لمْ تفْقَه حِكمتَهُ، يكفيك أنَّه أمْرُ الله عز وجل، يكفيك أنَّه ورد في القرآن الكريم، يكفيك أنَّ الحكمة قد لا تعلمها، وستعلمها بعد حين، يكفي أنّ الله خالق السموات والأرض هو الذي أمركَ بهذا الأمر، ولا تُصغ إلى الكفّار في تحليلاتهم وتأويلاتهم وتعليقاتهم، لا تجعل عقْلك حكمًا على القرآن، لا اِجْعل القرآن حكمًا على عقلك.
الكفور إنسان أعرضَ عن خالقه :
ثم قال تعالى:
﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾
الآثِم هو الذي وقعَ في الإثْم، هو الذي اتَّبَع شهْوتهُ، وآثر حظّ نفسِهِ، هو الذي آثر الدنيا على الآخرة، الكفور هو الذي أعرضَ عن خالقه، ولم ينظُر إلى النِّعَم التي أكرمهُ الله بها، قال تعالى:
﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾
على الإنسان أن يذكر الله بكرة و أصيلاً :
قال تعالى:
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾
جاء في تفسير هذه الآية: اذْكر اسم ربّك دُعاءً، وتسْبيحًا، واسْتِغفارًا، وحمْدًا، وصلاةً، إذا صلّيْت فأنت تذْكر اسم الله عز وجل، وإذا دَعوْتهُ فأنت تذْكر اسم الله عز وجل، وإذا اسْتغفرْتهُ فأنت تذكر اسم الله عز وجل، وإذا حمِدْته كذلك.
كلّ أنواع الذِّكْر، وكلّ أنواع الدّعاء، وكل أنواع العبادات، وكلّ أنواع طلب العلم، وكلّ أنواع تعلّم القرآن، تنْطوي تحت كلمة الله عز وجل:
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾
لا في الشّهر مرّة، ولا في الأسبوع مرّة، ولكن كلّ يوم، وليس في اليوم مرّة بل بكرةً وأصيلاً، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق ))
قال تعالى:
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾
من أعرض عن ذكر الله خسر نفسه وأهله :
إنّ أهل الدنيا، هؤلاء الناس، هؤلاء الذين أعْرضوا عن الله عز وجل، وغرقوا في شهواتهم، هؤلاء الذين ابْتُلوا بِحُظوظهم، هؤلاء الذين اتَّبعوا دُنياهم، وأعْرضوا عن آخرتهم، هؤلاء الذين آثروا شهواتهم على طاعة ربّهم، وهذا وصْف الله لهم، وهو وصْفٌ دقيق، قال تعالى:
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾
يُحبّون الدنيا، والدنيا همّهم، ومَبْلغُ علمهم، منتهى آمالهم، محَطّ رجائهم، ينتهي علمهم عندها، أوتوا حظًّاً من الحياة، وهم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، قال تعالى:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
من أصبحَ وأكبر همّه الدنيا جعل الله فقره بين عيْنَيْه، وشتَّتَ عليه شمْلهُ، ولمْ يؤْتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّر له، ومن أصْبحَ وأكبر همّه الآخرة جعل الله غِناهُ في قلبه، وجمَعَ عليه شمْله، وأتَتْهُ الدنيا وهي راغمة، قال تعالى:
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾
محاسبة الإنسان عن كل حركاته و سكناته :
ولكن ماذا بعد العاجلة؟ ماذا بعد انتهاء الدنيا؟ ماذا بعد دُخول القبر؟ ماذا بعد خريف العمْر؟ قال تعالى:
﴿ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾
يومًا عظيمًا، يومًا يُحاسبُ الإنسان فيه عن حركاته وسَكَناتِه، يُحاسبُ عن أنفاسِهِ، يُحاسبُ عن تبسّمه، يُحاسبُ عن بُكائِهِ، يٌحاسبُ عن عطائِه، قال تعالى:
﴿ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾
الخلق المحكم يُلْفِت نظر الإنسان إلى الله عز وجل :
ثمّ يقول تعالى:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾
هذا الخلق المحكم ألَمْ يُلْفِت نظرك إلى الله عز وجل؟ قال تعالى: يا أيها الإنسان ما غرّك بربك....فعدلك " إحكامٌ في كلّ شيءٍ، إحكامٌ في العظام، متانةٌ في العِظام، متانةٌ في العضلات، العضلات مرْبوطةٌ بالعِظام برِباط وثيق، قال تعالى:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾
قال تعالى:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾
إذا أصَرُّوا على كفرهم، وأصرُّوا على انحرافهم، جِئْنا بِقَومٍ غيرهم يحبّون الله عز وجل، ويحبّهم الله.
الإنسان مخيّر والطّرُق إليه سالكة :
وفي نهاية هذه السورة يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾
هذا تذكير، ومن فضْل الله علينا أنّه ذكَّرنا، والقرآن كلّه تذْكرة، قال تعالى:
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾
الإنسان مخيّر، والطّرُق كلّها إلى الله سالكة، أوْسَعُها طريق العلم، فالعِلم طريق إلى الله، والعمل الصالح طريق إلى الله، والاستقامة طريق إلى الله، وتعلم القرآن طريق إلى الله، وتعليم القرآن طريق إلى الله، وإنفاق المال طريق إلى الله، ولُزوم مجالس العلم طريق إلى الله، وخدمة الفقراء والمساكين طريق إلى الله، قال تعالى:
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾
افْعَلوا أو لا تفْعَلُوا، وكلّ شيءٍ له ثمنهُ، من شاء فلْيُؤمن ومن شاء فلْيكفر، قال تعالى:
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
الإنسان مشيئتُه مشيئة اختِيار والله مشيئتهُ مشيئة فحْصٍ واختبار :
وقال تعالى:
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾
أيْ أنّ مشيئة الله شاءَتْ أن تكون أصحاب مشيئة، فهذه المشيئة التي تنْعُمون بها، وهذه المشيئة التي ترْتقون بها، وهذه المشيئة التي تفضّل الله بها عليكم إنَّما هي من مشيئة الله عز وجل، أي شاء الله لكم أن تكونوا أصحاب مشيئة حرّة، وبعضهم فسَّر هذه الآية الإنسان مشيئتُه مشيئة اختِيار، ولكنّ الواحد الدّيان مشيئتهُ مشيئة فحْصٍ واختبار، هذا الإنسان يطلبُ، ولكنّ الله يفْحصُ صِدْقهُ، هل دفعَ ثمَنَ مشيئته؟ الإنسان يشاء والله سبحانه وتعالى يمْتحِنُ هذه المشيئة، هل كان صادقًا في مشيئته؟ هل ضحَّى من أجل هذه المشيئة بِكُلّ غالٍ أو رخيص أم أنَّه يدّعي دعوةً؟ قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)﴾
عليما علمًا مطلقًا، حكيمًا يضعُ الأمور في نِصابها، قال تعالى:
﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾
تبيَّنَ من هذه الآية أنّ الله سبحانه وتعالى مشيئتُه حكيمة، يشاء مَنْ؟ يشاءُ المنصفين، يشاء المقسطين، يشاء المستقيمين، بينما الظالمون أعدّ لهم عذابًا أليمًا.
أيها الإخوة الأكارم، سورة الدّهر كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرؤُها صباح كلّ جمعة، وفي قراءتها تذكرةٌ لنا، ودَفْعٌ للإيمان بالله عز وجل، أو لِمَزيدٍ من الإيمان بالله، وللعمل الصالح، فلعلّ الله سبحانه وتعالى ينفعنا بها.
اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاسْتغفروه يغْفر لكم، فيا فوْز المستغفرين.
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عظم الفخذ :
أيها الأخوة الأكارم، مرَّتْ آيةٌ في هذه السورة، وهي قوله تعالى:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾
الأسْرُ هو الرِّباط، ويُسمَّى الأسير أسيرًا لأنّهُ يرْبَطُ ويُقيّد، ومعنى شدَدْنا أسْرهم أيْ أحْكَمْنا خلقهم، وقد مرّ في بعض كتب الطّب أنّ عظْم الفخِذ له عنق، وهذا العنق كما تعلمون يتحمّل من قِوَى الضّغط ما يزيد عن مئتين وخمسين كيلو غرام، فالإنسان بِعَظْمَي الفخِذ، ولا سيما عنق الفخذ الموصول بالحوض، هذا القسم من العظم يُعدّ أمْتَنَ قِسْمٍ في الجهاز العظمي في الإنسان.
أما طريقة ارْتِباط هذا العظم؛ عَظْم الفخذ بِعَظم الحوض فشيءٌ لا يُصدّق.
أيها الأخوة الأكارم، لو جئنَا بِكُرةٍ نحاسيّة، وقسمْناها أو شطرْناها شَطريْن ثمّ أحْكمنا إغلاقها، وفرَّغنا الهواء من داخلها، إنَّ ثمانيَة أحْصِنَةٍ يتحرّكون بِجَهتين متعاكِسَتين لا يستطيعون فصْل جزئها الأوّل عن جزئها الثاني، لماذا؟ لأنَّها فرِّغَت من الهواء، ولأنّ الضّغط الخارجي يضغط عليها، بهذه الطريقة البديعة أحْكِمَ عظْمُ الفخذ بِعَظم الحوض، فلو نُزِعَت العضلات، ولو نُزِعَت الأربِطَة، ولو أُلْغِيَت الأوتار، ولو ألْغِيَ الجلد، ولم يبق إلا هذا العظم بِمُشاشته الكرويّة، وهذا الحوض بِتَجويفه الكروي، إنّ هذا العظم لا ينْخَلِع من الحوض بِسَبب أنَّه مفرّغ من الهواء في داخله، فَبِطريقةٍ مُحكمةٍ رُبِطَ عظمُ الحوض بِعَظم الفخذ ولا سيما المُشاشة التي تدخل في هذا التجويف.
هذه اللّقطة العلميّة تُشير أحيانًا إلى قوله تعالى:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾
قال بعض الأطبّاء إنّ ميناء الأسنان تُعَدّ من القساوة بِمَكان، أي تقتربُ من الألماس
العِظام فيها متانةٌ عجيبة، وفيها تحمّل لِقَوى الضّغط عجيبة، وارْتِباط العظام بعضها ببعْض شيءٌ يُلفتُ النَّظر، إذًا هذا هو معنى قول الله تعالى:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾
الدعاء :
اللهمّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيْت، وتولَّنا فيمن تولّيْت، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يذلّ من واليْت، ولا يعزّ من عادَيْت، تباركْت ربّنا وتعاليْت، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك، اللهمّ أعنا على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللّسان، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارضَ عنَّا، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، مولانا ربّ العالمين، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك، ولا تهتِك عنَّا سترَك، ولا تنسنا ذكرك، يا رب العالمين، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السَّلْب بعد العطاء، يا أكرم الأكرمين، نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذلّ إلا لك، ومن الفقر إلا إليك، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.