- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الخــطــبـة الأولــى:
الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته، وذل كل شيء لعزته، وخضع كل شيء لهيبته، واستسلم كل شيء لقدرته، وتصاغر كل شيء لكبريائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فيا رب كيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك.
قال بعض العلماء: مِن أعجب الأشياء أنْ تعرفه ثم لا تحبَّه، وأنْ تسمعَ داعيه ثم تتأخّر عن الإجابة، وأنْ تعرف قدْرَ الربح في معاملته ثم تعامل غيرَه، وأنْ تعرف قدرَ غضبه ثم تتعرض له، وأنْ تذوق ألمَ الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأنْ تذوق العذابَ عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه بنعيم الإقبال عليه والإنابة إليه. وأعجبُ مِن هذا علمُك أنك لا بد لك منه، وأنك أحوجُ شيء إليه، وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغبٌ.
وأشهد أنّ سيدنا محمد عبده ورسوله أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً ليخرجنا من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومِن ذل الشرك إلى عز التوحيد، ومِن وحول الشهوات إلى جنات القربات. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل محمد وعلى أصحاب محمد وعلى ذرية محمد وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته واستفتح بالذي هو خير.
من ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة:
إنّ الإنسانية إحدى خصائص الإسلام الكبرى، إنها تشغل حيزاً كبيراً في منطلقاته النظرية، وفي تطبيقاته العملية، وقد ربطت بعقائده وشعائره ومنهجه وآدابه ربطاً محكماً ؛ فالإنسانية في الإسلام ليست مجرد أُمْنية شاعرية تهفو إليها بعضُ النفوس، وليست فكرة مثاليةً تتخيَّلها بعضُ الرؤوس، وليست حِبراً على ورق سطّرته بعضُ الأقلام، إنها ركنٌ عقدي، وواقع تطبيقي، وثمار يانعة.
1ـ مبدأُ الإخاء الإنساني:
مِن ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة مبدأُ الإخاء الإنساني، إنه مبدأ قرَّره الإسلامُ بناءً على أنّ البشرَ جميعاً أبناءُ رجُلٍ واحد وامرأة واحدة، ضمَّتهم هذه البنوّةُ الواحدةُ المشتركة، والرحمُ الواصلة، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً(1) ﴾
ولعل كلمة: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ[، وكلمة ]مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ تلزمنا أن نفهم كلمة ]الْأَرْحَامَ[ في هذه الآية على أنها الرحم الإنسانية العامة التي تسع البشر جميعاً.
النبي الكريم يعلن من خلال هذا الدعاء المتكرر الأخوة بين عباد الله جميعاً:
النبي صلى الله عليه وسلم يقرِّر هذا الإخاء ويؤكِّده كل يوم أبلغ تأكيد ؛ فقد روى الإمام أبو داود وأحمد في مسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ:
((اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ،أَنَا شَهِيدٌ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ،اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ،اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، اجْعَلْنِي مُخْلِصاً لَكَ وَأَهْلِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ،اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُمَّ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ))
النبي صلى الله عليه وسلم يعلن من خلال هذا الدعاء المتكرر الأخوة بين عباد الله جميعاً، لا بين العرب وحدهم، ولا بين المسلمين وحدهم، بل هي أخوة بين بني البشر جميعاً، على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وطبقاتهم ومللهم ونحلهم، والبشر جميعاً عند الله جل جلاله نموذجان ؛ رجل عرف الله وانضبط بمنهجه وأحسن إلى خلقه فَسَلِمَ وسعِد في الدنيا والآخرة، ورجل غفَل عن الله وتفلَّت من منهجه وأساء إلى خلقه فشقيَ في الدنيا والآخرة.
وهذا الإخاء الإنساني في الإسلام ليس للاستهلاك المحلي، ولا للتضليل العالمي، إنما هي حقيقة دينية لا ريب فيها، تنطلق من كلمتي التوحيد والرسالة ؛ فشهادة أنْ لا إله إلا الله إسقاط لكل المتألهين في الأرض الذين طغوا وبغوا، وشهادة الرسالة وصفت محمداً عليه الصلاة والسلام أنه عبده ورسوله، يتبع ما يوحى إليه قال تعالى:
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) ﴾
الإخاء الديني المتفرع عن الإيمان والعقيدة المشتركة لا يضعف الإخاء العام بل يقويه:
قال تعالى:
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) ﴾
يزداد هذا الإخاء توثقاً وتأكداً إذا أضيف إليه عنصر الإيمان فتجتمع الأخوة الدينية إلى الأخوة الإنسانية فتزيدها قوة إلى قوة، ولما كان باب الإيمان مفتوحاً لكل الناس بلا قيد، ولا شرط، ولا تحفظ على جنس أو لون أو إقليم أو طبقة، فإنّ الإخاء الديني المتفرع عن الإيمان والعقيدة المشتركة لا يضعف الإخاء العام بل يشده ويقويه، فلا تناقض بين الإخاء البشري العام وبين الإخاء الديني الذي تشير إليه الآية الكريمة:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ﴾
ويشير إليه الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
النبي ربط ربطاً محكماً بين الأخوة الإنسانية وبين الإيمان وجعلها مِن مقوماته:
النبي صلى الله عليه وسلم ربط ربطاً محكماً بين الأخوة الإنسانية وبين الإيمان، وجعلها مِن مقوماته، فعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))
وفي رواية: وحتى يكره له ما يكره لنفسه، وقد ذكر بعض شُرَّاح الحديث أن كلمة أخيه في الحديث لم تُقيد بصفة تحدُّ إطلاقها، والمُطلق في النصوص المحكمة على إطلاقه، إذاً فالأخوة التي قصدها المصطفى صلى الله عليه وسلم هي الأخوة الإنسانية.
لقد طبَّق الإسلامُ هذا الإخاء الرفيع، وأقام على أساسه مجتمعاً ربانياً إنسانياً فريداً اضمحلَّتْ فيه فوارق الجنس واللون والقبيلة والطبقة. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((سلمان منا أهل البيت))
و قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((نِعْم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه))
2ـ مبدأ المساواة الإنسانية:
من ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة مبدأ المساواة الإنسانية، فقد قرره الإسلام ونادى به، وهو ينطلق من أن الإسلام يحترم الإنسان ويكرمه من حيث هو إنسان لا من أي حيثية أخرى، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13) ﴾
لقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة تضمنت مبادئ إنسانية سيقت في كلمات سهلة سائغة، كيف لا وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فلقد استوعبت هذه الخطبة جملة من الحقائق التي يحتاجها العالم الشارد المعذب ليرشد ويسعد، قال تعالى:
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123) ﴾
إن الله جل وعلا ربَّى محمداً صلى الله عليه وسلم ليُربِّيَ به العرب، وربّى العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم ليُربِّيَ بهم الناس أجمعين قال تعالى:
﴿ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (78) ﴾
مبادئ انطوت عليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:
من المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:
1ـ الإنسانية متساوية القيمة:
الإنسانية متساوية القيمة في أي إهاب تبرز، على أية حالة تكون، وفَوْق أيِّ مستوى تتربع، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ:
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ: قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ، هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ))
2ـ النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها قد تبني مجدها على أنقاض الآخرين:
النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها مؤمنة بوعده ووعيده مؤمنة بأنه يعلم سرَّها وجهرها، لأن النفس الإنسانية تدور حول أثرتها، ولا تُبالي بشيء في سبيل غايتها، فربما بنت مجدها على أنقاض الآخرين، وبنت غناها على فقرهم، وبنت عزها على ذلهم، بل ربما بنت حياتها على موتهم، لذلك قال الرسول الكريم في حجة الوداع:
((…يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَدْرُونَ فِي أَيِّ شَهْرٍ أَنْتُمْ ؟ وَفِي أَيِّ يَوْمٍ أَنْتُمْ ؟ وَفِي أَيِّ بَلَدٍ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: فِي يَوْمٍ حَرَامٍ، وَشَهْرٍ حَرَامٍ، وَبَلَدٍ حَرَامٍ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي هَذِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ… ))
3ـ المال قوام الحياة:
المال قوام الحياة، وينبغي أن يكون مُتداولاً بين كل الناس، وأنه إذا ولد المالُ المال من دون جهد حقيقي يسهم في إعمار الأرض، وإغناء الحياة، تجمَّع في أيدٍ قليلة وحُرمت منه الكثرة الكثيرة، عندها تضطرب الحياة، ويظهر الحقد، ويُلجأ إلى العنف، ولا يلد العنفُ إلا العنفَ، والربا يُسْهِم بشكل أو بآخر في هذه النتائج المأساوية التي تعود على المجتمع البشري بالويلات، لهذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:
(( أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِباً كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَضَى أَنَّ أَوَّلَ رِباً يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ))
4ـ النساء شقائق الرجال:
النساء شقائق الرجال، ولأن المرأة مساوية للرجل تماماً من حيث أنها مكلفة كالرجل بالعقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، ومساوية له من حيث استحقاقُها الثواب والعقاب، وأنها مساوية له تماماً في التشريف والتكريم، لهذا قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع:
(( أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّاً وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ ))
لم يكتفِ الإسلام أن يقرر مبدأ المساواة نظرياً بل أكده عملياً بجملة أحكام وتعاليم:
النبي صلى الله عليه وسلم قام لجنازة رجل وصفه القرآن بأنه من أشد الناس عداوة للذين آمنوا، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: أليس إنساناً، لذلك عدّ الإسلام الاعتداء على أية نفس اعتداء على الإنسانية كلها، كما عدّ إنقاذَ أية نفس إحياء للناس جميعاً، وهذا ما قرره القرآن الكريم بوضوح جلي، قال الحكيم الخبير:
﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً (32) ﴾
ولم يكتف الإسلام أن يقرر مبدأ المساواة نظرياً بل أكده عملياً بجملة أحكام وتعاليم، نقلته من فكرة مجردة إلى واقع ملموس ؛ من ذلك العبادات الشعائرية التي فرضها الإسلام وجعلها الأركان العملية التي يقوم عليها بناؤه العظيم من الصلاة والزكاة والصيام والحج.
في مساجد الإسلام حيث تقام صلاة الجمعة والجماعة تأخذ المساواة صورتها العملية، وتزول كل الفوارق التي تميِّز بين الناس، فمَن دخَلَ المسجدَ أَوَّلاً أخذ مكانه في مقدمة الصفوف، وإن كان أقلَّ الناس مالاً، وأضعفَهم جاهاً، ومَن تأخَّر حضورُه تأخّر مكانُه مهما يكن مركزه، فكل الناس سواسية أمام الله ؛ في قيامهم، وقعودهم، وركوعهم، وسجودهم، ربُّهم واحد، وكتابُهم واحد، وقبلتُهم واحدة، وحركاتُهم واحدة، وإمامهم واحد.
في مناسك الحج تتحقق المساواة بشكل أشد ظهوراً، وتتجسد تجسداً تراه العين، فشعيرة الإحرام تفرض على الحجاج والمعتمرين أن يتجرَّدوا من ملابسهم العادية، ويلبسوا ثياباً بيضاء بسيطة، غير مخيطة، ولا محيطة، أشبه ما تكون بأكفان الموتى، يستوي فيها القادر والعاجز، والغني والفقير، والملك والمملوك، ثم ينطلق الجميع ملبين بهتاف واحد: "لبيك اللهم لبيك"، ومن المساواة العملية التي قررها الإسلام قولاً وطبقها فعلاً المساواة أمام قانون الإسلام وأحكام الشرع.
الحرام في شريعة الإسلام يَتَّسِم بالشمول والاطِّراد:
الحرام في شريعة الإسلام يَتَّسِم بالشمول والاطِّراد، فليس هناك شيء حرام على الأعجمي حلال على العربي، وليس هناك شيء محظور على الملون مباح للأبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لفئة من الناس تقترف باسمه ما طوع لها الهوى، بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالاً له، كلا إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة، وما حرَّم فهو حرام على الجميع كافة إلى يوم القيامة.
السرقة مثلاً حرام، سواء أكان السارق ينتمي إلى المسلمين أمْ لاَ ينتمي، وسواء أكان المسروق ينتمي إلى المسلمين أم لا ينتمي، والجزاء لازم للسارق أياً كان نسبه أو مركزه. وقد حاول بعض الصحابة أن يُشَفِّعوا أسامةَ بن زيد، حِبِّ رسـول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبِّه في امرأة من قريش، من بني مخزوم، سرقت فاستحقت أن يُقام عليها حدُّ السرقة، فكلَّمه أسامة فيها، فغضب عليه الصلاة والسلام غضبته التاريخية المعروفة، وقال قولته التي خلَّدها التاريخ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
(( إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وأيمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))
خسارة فرد لا تقاس بخسارة مبدأ:
كان عمر رضي الله عنه إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصته، وقال لهم: " إني أمرت الناس بكذا ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير، إن رأوكم وقعتم وقعوا، وأيمُ الله لا أوتَيَنَّ بواحد وقع في ما نهيت الناس عنه، إلا ضاعفتُ له العقوبة لمكانه مني "، فصارت القرابة من عمر مصيبة.
وفي خلافته رضي الله عنه وأرضاه، جاءه إلى المدينة جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة يعلن إسلامه، فرَحَّب به عمر أشد الترحيب، وفي أثناء طواف هذا الملك حول الكعبة داس بدوي طرف إزار الملك الغساني، فيغضب الملك ويلتفت إلى هذا البدوي فيضربه ويهشم أنفه، فما كان من هذا البدوي من فزارة إلا أن توجه إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب شاكياً، فيستدعي عمر رضي الله عنه الملك الغساني إلى مجلسه ويجري بينهما حوار صيغ على الشكل التالي: " قال عمر: جاءني هذا الصباح مشهد يبعث في النفس المرارة، بدويٌّ من فزارة، بدماء تتظلَّم بجراح تتكلَّم، مقلة غارت وأنف قد تهشم، وسألناه فألقى فادِحَ الوزر عليك، بيديك، أصحيح ما ادَّعى هذا الفزاري الجريح ؟ قال جبلة: لست ممن ينكر أو يكتم شيئاً أنا أدَّبتُ الفتى، أدركتُ حقي بيدي، قال عمر: أيُّ حقٍّ يا ابن أيهم، عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم، عند غيري جبهة بالإثم والباطل تُلطَم، نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، تساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً، أرضِ الفتى، لا بد من إرضائه مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك وتنال ما فعلته كفك، قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين، هو سوقة وأنا صاحب تاج، كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً، كان وهماً ما مشى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أكرهتني. قال عمر: عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى ".
أما جبلة فلم يستوعب هذا المعنى الكبير في الإسلام، وفَرَّ من المدينة هارباً مرتداً، ولم يبالِ عمر ولا الصحابة معه بهذه النتيجة، لأن ارتداد رجل عن الإسلام أهونُ بكثير من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئه، وخسارة فرد لا تقاس بخسارة مبدأ.
3 ـ ومن ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة الدعوة إلى السلام بأوسع معاني هذه الكلمة:
أيها السادة المستمعون أيتها السيدات المستمعات، ومن ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة دعوته إلى السلام بأوسع معاني هذه الكلمة ؛ بمعانيها الفردية والجماعية، والمادية والروحية، والدنيوية والأخروية. قال تعالى:
﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(16) ﴾
إنّ الإنسان ـ أيَّ إنسان ـ في أي زمان ومكان، مفطور على حبِّ وجوده، وعلى حبِّ سلامة وجوده، وعلى حبِّ استمرار وجوده، وعلى حب كمال وجوده ؛ وبكلمة موجزة: مفطور على حب سلامته وسعادته، وهذان المطلبان الثابتان لدى أي إنسان لا يتحققان إلا حينما يطبق منهج الذي خلقه، فهو خبير بأسباب سلامته وسعادته، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ (21) ﴾
وقال عز وجل:
﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
أين نجد منهج الذي خلقنا، وهو الخبير بأسباب سلامتنا وسعادتنا ؟ إننا نجده في كتابه العزيز وسنة نبيه الكريم، في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي يهدي للتي عي أقوم، وهو هدىً وبيان، وموعظة وبرهان، ونور وشفاء، وذِكْر وبلاغ، ووعد ووعيد، وبشرى ونذير، يهدي إلى الحق وإلى الرشد، وإلى صراط مستقيم، يُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيه تبيان لكل شيء وهو شفاء لما في الصدور، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم ؛ من ابتغى الهدى في غيره أضله الله فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، لا يشبع منه العلماء، ولا يَخلق عن كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه، مَن قال به صدق، ومَن حكم به عدل، ومَن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، قال تعالى:
﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ﴾
مَن أراد رضوان الله والنعيم المقيم فعليه أن يهتدي بهدي القرآن:
مَن أراد رضوان الله والنعيم المقيم الذي أعده الله للإنسان المستقيم، فعليه أن يهتدي بهدي القرآن الكريم ولا هدي سواه، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى (120) ﴾
وقال:
﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (73) ﴾
وقال:
﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ (32) ﴾
فيعتقد بما جاء به القرآن، وعليه أن يحل حلاله وأن يحرم حرامه.
سبل السلام على المستوى الفردي والجماعي:
قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً(36) ﴾
عندئذ يهديه الله سبل السلام ؛ بأوسع معاني هذه الكلمة، يهديه سبل السلام مع نفسه، فلا كآبة، ولا انقباض، ولا شعور بالذنب، ولا حسرة، ولا ندم، ولا سقوط، ويهديه سبل السلام مع أهله، فلا شقاء ولا شقاق، ولا عقوق ولا عصيان، ولا تفكك ولا انهيار، ولا مذمة ولا عدوان، ويهديه سبل السلام مع مجتمعه، فلا عداوة ولا بغضاء، ولا إثم ولا عدوان، ولا إحباط ولا إخفاق، ولا مكر ولا كيد، ويهديه سبل السلام مع ربه، فلا حجاب ولا نكوص، ولا جفوة ولا فتور، ولا غضب ولا سخط، هذا على المستوى الفردي فماذا على المستوى الجماعي ؟ قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾
قال علماء التفسير: ما دامت سنة النبي صلى الله عليه وسلم مطبَّقة في مجتمع ما؛ مطبقة في بيوتهم، وفي أعمالهم، وفي تجارتهم، وفي أفراحهم، وفي أتراحهم، وفي حلّهم، وفي ترحالهم، وفي علاقاتهم، فهم في مأمنٍ من عذاب الله بكل أنواعه ومستوياته، قال أحكمُ الحاكمين:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً(147) ﴾
وقال عزَّ مِن قائلٍ:
﴿ وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً(17)﴾
وقال أيضاً:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾
سبل السلام على المستوى الدولي:
ماذا عن المستوى الدولي ؟ الأمة التي تطبق منهج الله يهديها الله سبل السلام، فيجعلها الله مستخلفة، ممكنة، آمنة، مطمئنة، قال تعالى مذكِّراً بهذه الحقيقة:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) ﴾
الأمة التي لا تطبق منهج الله في حياتها تنطبق عليها هذه الآية الكريمة انطباقاً كاملاً، قال تعالى:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) ﴾
سبل السلام مع الجيران:
هذا عن سبل السلام في القرآن الكريم، فماذا عن سبل السلام مع الجيران ؟ إن السلام الذي نُدعَى إليه نحن حريصون عليه، راغبون فيه على أن يكون سلاماً عادلاً تسترد قبله الأرض، وتؤدَّى معه الحقوق، وتتوافر فيه الكرامة، هذا بَعد أن نستوعب مضمونَ الآية الكريمة وأن نعمل بها:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)﴾
نحن ندعو العالم العربي والإسلامي إلى مزيد من الوعي واليقظة والتماسك وإزالة أسباب الخلافات فيما بين المسلمين حتى يتفرغوا بحق لمواجهة المكائد والمؤامرات التي تحاك ضدهم وضد دينهم وضد مستقبل أبنائهم فضلاً عن حاضرهم وتراثهم.
وإن تعنُتَ إسرائيل أوصَلَ عمليةَ السلام إلى طريقٍ مسدودٍ ـ كما قال السيدُ الرئيسْ في لقائه مع الرئيس الفرنسي ـ فهي ترفض رفضاً مطلقاً كلَّ مقومات السلامِ وتنهج نهجَ المراوغةِ والخداعِ، وتستفزّ الضميرَ الإسلاميَ والعربيَ والإنسانيَ بإنشاءِ مزيدٍ من المستوطناتْ، ويضيف السيدُ الرئيسُ قائلاً: إن الخلاص يكون في الإسلام الذي عندما كنا متمسكينَ به لم يستطع أحدٌ أن يُذلَّنا، الإسلام دين الحق والعدالة والمساواةِ بين البشر، الإسلام مصدُر قوةٍ لنا جميعاً، إن هذا يفرِض علينا أن نناضلَ بكل قِوانا وبصدقٍ وإخلاصٍ لحماية الدين الحنيفِ من هذه المؤامراتِ الاستعماريةِ لنحفظ له مهابتَه وجلالَه وليبقى مصدر عزة وقوةٍ للمسلمين وليبقى حافزاً لتقدُّمِهم في كل مجال، ويضيف السيد الرئيس قائلاً: العالمُ الإسلاميُ اليومَ يواجه تحدياتٍ كبيرةً تستهدفُ الإسلامَ وما يمثِّلُه من قيمٍ نبيلةٍ، وما يدعو إليه من أخوةٍ وعدالةٍ ومساواةٍ وحرية، وإذا كان من واجبنا أن ندافعَ عن ديننِا فإن لنا فيه يَنبوعَ قوةٍ ومصدر إلهام في مواجهةِ كلِّ ما يقابلُنا من أخطارٍ وتحدياتْ.
أيها الأخوة حضوراً ومستمعين، خَطَبَ النَّبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم يَوْماً فَقَالَ في خُطْبَتِهِ:
(( أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يأكُلُ مِنْهَا الْبرّ والْفَاجر، ألاَ وإنّ الآخِرَةَ أجلٌ صَادِقٌ، يَقْضِي فِيهاَ مَلِكٌ قَادِرٌ، ألاَ وإنَّ الْخَيْرَ كُلَّه بِحَذَافِيرهِ في الْجنَّةِ، ألاَ وإنَّ الْشّرَ كُلَّه بِحَذَافِيرهِ في النّارِ، ألاَ فاعْلَمُوا، وأنْتُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى حَذر، واعْلَموا أنَّكُمْ مُعْرَضون عَلَى أعمَالكم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّا يَرَه))
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
***
الخــطــبـة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
الزلازل من وظائفها أنها تعطينا معنى الزلزلة الكبرى التي أوعد الله بها:
أخوتي المؤمنين أعزائي المستمعين، أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْقتْلُ، حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ))
في كل حين نسمع في الأخبار أن زلزالاً وقع في بلد، وزلزالاً وقع في بلد آخر، وأن هذه الأخبار تتقارب، وتتعاظم درجات هذه الزلازل، وتودي بحياة بضع عشرات من الألوف، وأن كثرتها وشدتها مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، إن هذه الزلازل من وظائفها أنها تعطينا معنى الزلزلة الكبرى التي أوعد الله بها . قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) ﴾
إنّ الأرض من أكثرُّ الكواكب في المجموعة الشمسية كثافةً، فكثافة الأرض تزيد عن كثافة الماء بخمسة أضعاف, ويفسِّر العلماء الزلزلة بأنها حركةٌ في باطن الأرض، بحيث ينشأ عنها ضغطٌ هائل، لا تحتمله قشرة الأرض، عندئذٍ تتصدَّع هذه القشرة . وهذا التصدُّع في قشرة الأرض هو الزلزال الذي نستمع إلى أخباره من حينٍ إلى آخر علماً بأن هذه القشرة يزيد سمكها عن تسعين كيلو متراً، وهي من صخور البازلت، وهذه الصخور من أقسى أنواع الصخور ومع ذلك تتصدع، فما هذا الضغط من باطن الأرض الذي يصدع قشرة من البازلت يزيد سمكها على تسعين كيلو متراً هذا طرفٌ من معنى أن الله قوي، قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾
الحكمة من معرفة الحيوانات بالزلازل قبل فترة من الزمن وجهل الإنسان بها:
يقول بعض علماء الزلازل: هناك زلزال حدث في الصين في عام ألف وخمسمئة وستة وخمسين، أودى بحياة ثمانمئة وثلاثين ألفاً في ثوانٍ، وفي عام ألف وسبعمئة وسبعة وثلاثين حدث زلزال في الهند أودى بحياة مئة وثمانين ألفاً، وفي عام ألف وتسعمئة وثلاثة وعشرين حدث زلزال في اليابان أودى بحياة مئة ألف، وفي عام ألف وتسعمئة وستة وسبعين حدث زلزال في الصين أودى بحياة مئة ألف، وحدث زلزال بإيطاليا أودى بحياة خمسة وثلاثين ألفاً، ثوانٍ معدودة.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) ﴾
سألوا عالماً كبيراً من علماء الزلازل: هل يمكن بما أوتينا من علم متقدم أن نتنبأ بالزلزال قبل وقوعه ولو بربع ساعة ؟ قال: لا، إلا أن حيوانات كثيرة في مقدمتها من يضرب المثل بغبائه يشعر بالزلزال قبل وقوعه بربع ساعة, ذلك لأن هذه الحيوانات ليست مكلفة كالإنسان وليست مقصودة بالزلزال. قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) ﴾
ما هذه الزلازل في الأرض إلا نماذج مصغرة ومحدودة عن الزلزال العظيم يوم القيامة:
قال عز وجل:
﴿ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1) ﴾
زلزلت أيْ تحرَّكتْ تحرُّكاً شديداً واضطربت، زلزالها العظيم والكبير والأخير، الذي ليس بعده زلزال، وذلك عند قيام الساعة، وما هذه الزلازل في الأرض إلا نماذج مصغرة ومحدودة:
﴿ وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2) ﴾
هو الإنسان، المخلوق الأول الذي خلق لجنة عرضها السماوات والأرض، لأنه قبل حمل الأمانة فسخر الله له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، وجعله خليفته في الأرض، فإنْ سما عقله على شهوته كان فوق الملائكة، وإنْ سمتْ شهوتُه على عقله كان دون الحيوان:
﴿ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3) ﴾
تعجباً وخوفاً:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4) ﴾
ما عمله الإنسانُ على وجه الأرض من خير أو شر:
﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5) ﴾
أقْدَرَها على الكلام، وأذِن لها فيه، وأمرها به،
﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً (6) ﴾
فرادى، متفرقين، فلا تجمعات، ولا تكتلات، ولا تناصر على باطل، ولا هيمنة، ولا غطرسة، ولا تعالي.
فضل سورة الزلزلة:
قال عز وجل:
﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65) ﴾
قال تعالى:
﴿ لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ (7) ﴾
أيْ مقدار ذَرَّةٍ، وهي الجزء الذي لا يتجزأ:
﴿ خَيْراً يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(8) ﴾
يجد جزاءه وعاقبته، وردَ مِن حديث عبد الله بن عمرو الذي أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
((أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اقْرَأْ ثَلَاثاً مِنْ ذَوَاتِ الر، فَقَالَ: كَبُرَتْ سِنِّي وَاشْتَدَّ قَلْبِي وَغَلُظَ لِسَانِي، قَالَ: فَاقْرَأْ ثَلَاثاً مِنْ ذَوَاتِ حاميم، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فَقَالَ: اقْرَأْ ثَلَاثاً مِنْ الْمُسَبِّحَاتِ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرِئْنِي سُورَةً جَامِعَةً، فَأَقْرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَداً، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ مَرَّتَيْنِ))
عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها: علم لا يعمل به، وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء، ومال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعه في الدنيا ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة، وقلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به، وبدن معطل عن طاعته وخدمته، ومحبة لا تتقيد برضاء المحبوب وامتثال أوامره، ووقت معطَّل عن استدراك فارط أو اغتنام بِرٍّ وقُرْبة، وفكرٌ يجول فيما لا ينفع، وخدمةُ من لا تقربك خدمته إلى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك، وخوفُك ورجاؤك لمَن ناصيته بيد الله، وهو أسير في قبضته، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
أعظم هذه الإضاعات إضاعتان وهما أصل كل إضاعة ؛ إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعةُ القلب مِن إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفسادُ كلُّه في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاحُ كله في اتباع الهدى والاستعداد للِّقاء، والله المستعان.
العجب ممَّن تعرِضُ له حاجة فيصرف رغبته وهمَّته فيها إلى الله ليقضيها له، ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض, وشفائه مِن داء الشهوات والشبهات، ولكن إذا مات القلبُ لم يشعر بمعصيته.
أيها الأخوة الأحباب إني داع فأمِّنوا، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحُولِ الشهوات إلى جنات القربات، واجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك، وأسعدنا بلقياك، ولا تشقنا بالبعد عنك، اختر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرك، حتى لا نحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عَّجلت، ألزمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، واهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل أثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار، اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلح شباب المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وأصلح النساء المسلمات واجعلهن تقيات، عفيفات، طاهرات، اللهم أنزل علينا من خيرات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، واسق عبادك العطشى يا رب العالمين.