- ندوات إذاعية
- /
- ٠12برنامج منهج التائبين - دار الفتوى
مقدمة :
الأستاذ زياد :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أخوة الإيمان والإسلام ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، يتجدد اللقاء بحمد الله تعالى دائماً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم من لبنان ، مع هذا البرنامج : "منهج التائبين" ، يسرني دائماً أن أجدد اللقاء ، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أحد أبرز علماء دمشق ودعاتها ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
الأستاذ زياد :
فضيلة الشيخ ، دوام الاستغفار هو من دواعي الثبات على التوبة النصوح الصادقة ، ما هو أثر الاستغفار ؟ وما هي هيئة الاستغفار ؟ ما هو عدد الاستغفار ؟ أي كمية الاستغفار ؟
إذا آمنا وشكرنا حققنا الهدف الذي من أجله خلقنا :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
بادئ ذي بدء ، هناك آية دقيقة جداً هي إجابة عن سؤالكم القيم ، قال تعالى :
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
الشق الأول من الآية قال العلماء: إذا فهمنا الآية ، والنبي عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم نفهمها بشكل أو بآخر ، ولكن كيف نفهمها إذا انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدار الآخرة ؟﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
أجمع العلماء على أنه مادامت سنة النبي صلى الله عليه وسلم مطبقة في حياتهم ، في بيوتهم ، في أعمالهم ، في حلهم ، في ترحالهم ، في أفراحهم ، في أتراحهم ، في كسب أموالهم ، في إنفاق أموالهم ، في اختيار زوجاتهم ، في تطليق زوجاتهم ، في تربية أولادهم ، فهم في بحبوحة من عذاب الله ، وبشكل أو بآخر:﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾
الإنسان إذا شكر وآمن كأن الله عز وجل خلق الكون وسخره له تسخيرين ، تسخير تعريف ، وتسخير تكريم ، رد فعل التعريف أن نؤمن ورد فعل التكريم أن نشكر ، فإذا آمنا وشكرنا حققنا الهدف الذي من أجله خلقنا ، فلمَ العذاب ؟ طبيب أخذ قراراً أن يستأصل كلية متوقفة عن العمل ، لو أنه صوّرها قبل العملية بساعات فإذا بها تعمل قبل العملية بساعات هل يستأصلها ؟ مستحيل:﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾
المؤمن مذنب توّاب :
حينما تزل أقدامنا ، وحينما نعصي ربنا يسوق لنا الله الشدائد ، هناك آيتان كل منهما يلفت النظر ، الآية الأولى:﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾
والآية الثانية:﴿تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾
كيف نفهم الآيتين ؟ الآية الأولى : تاب الله عليهم ليتوبوا ، أي ساق لهم من الشدائد ما حملهم على أن يتوبوا .والآية الثانية : تابوا فتاب عليهم ، أي قبل توبتهم ، ومن أسماء الله الحسنى أنه تواب، ومن معاني التواب أنه يسوق الشدة لعبده كي يحمله على التوبة ، لأنك إذا رأيت ألف تائب فاعلم علم اليقين أن تسعين بالمئة منهم التجؤوا إلى الله عقب مشكلة ساقها الله لهم ، فتاب عليهم ليتوبوا .
أنت حينما تقيم الإسلام في بيتك في بحبوحة من عذاب الله ، لو أن القدم زلت في ساعة غفلة ، والمؤمن كما يقال مذنب تواب ، وكل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ، ذلك أن الإنسان أودعت به الشهوات ، فحينما يغفل عن الله لحظة تزل قدمه ، فالإنسان المؤمن في بحبوحة إقامة منهج الله ، وفي بحبوحة الاستغفار ، فما دام يستغفر فهو في بحبوحة ثانية ، البحبوحة الأولى بحبوحة الالتزام بمنهج الله ، أما لو زلت قدمه فالبحبوحة الثانية أن يستغفر ، لو انتزعنا مثلاً واقعياً ، جاء ابن بجلائه إلى أبيه عقب الامتحان النصفي ، وقد نال علامة الصفر في الرياضيات ، أراد الأب أن يقيم عليه النكير ، وأن يؤدبه تأديباً ما بعده تأديب ، فإذا بالابن يصفر لونه ، ويكمد ، ويهتم ، ويتألم أشد الألم ، وعنده مبلغ مدخر ، أرادا أن ينفقه على دروس خاصة لكي يتقوى بهذه المادة ، حينما يرى الأب هذا الابن متألماً أشد الألم ، نادماً أشد الندم يعقد العزم على أن ينفق ما عنده كي يرفع مستواه في هذه المادة ، الأب يتوقف عن معالجته .
شيء منطقي عندما يرى الله من العبد ندماً ألماً وخوفاً وحياءً وانكماشاً من عبده المذنب يتوقف العلاج ، بل إن هناك آيةً دقيقةً جداً ، قال تعالى:
﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾
البطولة ليست في التوبة بل في دوام الاستغفار :
أذكر قصةً لا أنساها ، أن أحد التجار تقاعد من عمله ، وترك تجارته لابنه ، فالابن ارتكب خطأً كبيراً في شراء بضاعة ، اشترى بضاعة من إنسان في البادية ، اشترى الصوف ، فهذا الإنسان ليس عنده ما يكفي كي يدقق في الحسابات ، أعطاه أوزاناً كلها غير صحيحة ، فهذا الإنسان دفع ثلثي ثمن البضاعة ، وتلاعب على هذا الأعرابي ، بعد أن خرج قال له هذا الأعرابي كلمة أخافته ، لعلك احتلت علي ، لا أسامحك ، فقال لي هذا الرجل: بقيت كلمة هذا البدوي ترن في أذني مسافة ساعتين ، وأنا أقود السيارة ، أرجع إليه ، أم لا أرجع ، ماذا أفعل ؟ إلى أن أخذت قراراً ، قلت له : ماذا فعلت ؟ قال : ما فعلت شيئاً ، أقسم بالله أنه ما أتم هذه الكلمة إلا وهو وسط بركة من الدماء ، انقلبت به المركبة ، وتناثر الصوف ، وجرح ، وسال دمه ، آية دقيقة جداً:
﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾
مادمت في شك ، ما دمت في أخذ ورد ، في صراع ، مادمت في ندم ، مادمت في خوف فأنت في بحبوحتين ، في بحبوحة أن تكون ملتزماً ، قال تعالى:﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾
وفي بحبوحة أن تكون نادماً ، فالعلاج متوقف ، أما حينما يتباهى الإنسان بالمعصية ويذكرها ولا يبالي بها ، وحينما تصغر عنده تكبر عند الله ، وحينما تكبر عنده تصغر عند الله ، لذلك البطولة ليست في التوبة ، بل في دوام الاستغفار ، وكأن الاستغفار من شيم المؤمن .دوام الاستغفار أحد أسباب الثبات على التوبة :
النبي عليه الصلاة والسلام علّمنا إن صلينا أن نستغفر ، تستغفر من ماذا ؟ أنت في طاعة ، لعلك في الصلاة سهوت ، لعل إقبالك لم يكن محكماً ، لعلك شردت عن الله عز وجل ، إذا حججنا البيت نستغفر ، إذا صمنا نستغفر ، أية عبادة كان عليه الصلاة والسلام يستغفر ، أيْ يصحبها بالاستغفار ، كي نستغفر الله من تقصيرنا ، وكأن الله عز وجل حينما يقول :
﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾
هل يعقل أن نصلي دائماً ؟ هناك صلوات خمس ، هناك آية:﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾
وهناك آية:﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾
كأن دوام الصلة بالله عن طريق الاستغفار وعن طريق الدعاء ، والدعاء مخ العبادة ، أنت حينما تدعو الله فأنت في عبادة ، ذلك أن إنساناً لا يمكن أن يدعو إنساناً إلا إذا آمن بوجوده، وأن إنساناً لا يمكن أن يدعو إنساناً إلا إذا أيقن أنه يسمعه ، وأن إنساناً لا يمكن أن يدعو إنساناً إلا إذا كان قادراً على حل مشكلته ، وأن إنساناً لا يمكن أن يدعو إنساناً إلا إذا كان هذا المدعو يحب أن يحل هذه المشكلة ، ويرحمك ، فلمجرد أن تدعو الله عز وجل فأنت مؤمن بوجوده ، وبسمعه ، وبقدرته ، ورحمته ، هذا معنى قول الله عز وجل :﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾
الدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام هو العبادة ، فأنا حينما أداوم على الاستغفار ، وحينما أداوم على الدعاء فإنني مع الله ، ومن كان مع الله كان الله معه ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ هذه الشحنة الروحية المستمرة عن طريق الاستغفار ، وعن طريق الدعاء تهبك رؤيةً صحيحة ، وتهبك قراراً سديداً ، وتهبك حكمةً فائقة ، هذا كله يؤكد أن دوام الاستغفار أحد أسباب الثبات على التوبة .الأستاذ زياد :
ودوام الاستغفار ما شئت أن تستغفر ، في ليلك ونهارك ، ومقامك وترحالك ، فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي ، هيئة الاستغفار هو سؤال من إحدى الأسئلة ، أننا نقول: أستغفر الله وأتوب إليه ، مع العقد والعزيمة ، وحضور القلب ، ويزل لسان المرء بمعصية ما ، بغيبة ما ، بكلام ما ، ويقول فوراً: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه ، هل أزيل هذا الزلل ، أو هذه المعصية ، والله أعلم طبعاً ، ولكن هل هذا الاستغفار من موجبات العفو عنها ؟
الابتعاد عن توظيف التوجيهات النبوية في استباحة المعاصي :
الدكتور راتب :
هناك ملاحظتان ، أنا حينما أتوهم أنني أخطئ ما شاء لي أن أخطئ ، وعقب كل خطأ أستغفر الله ، هذا الاستغفار مرفوض ، أنا أخطئ ما شاء لي أن أخطئ ، وأنا أخطئ كمبدأ، كسلوك يومي ثابت مستمر ، أنا حينما أخطئ كسلوك ثابت يومي مستمر ، وعندي معلومات من الدين ، أنك إذا استغفرت ، وتاب الله عليك فهذا الاستغفار مرفوض من أصله ، أما حينما أخطئ دون أن أقصد ، وحينما أخطئ دون أن أعاود الخطأ ، وحينما أخطئ دون أن أنوي أن أتابع الخطأ ، وأستغفر ، يغفر الله لي إذا كان الذنب بيني وبين الله ، أما إذا كان بيني وبين العباد فلابد من أداء الحقوق أو المسامحة ، المشكلة أن الناس يفهمون الدين فهماً مغلوطاً ، قال تعالى:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
لكن الله عز وجل يتابع ويقول:﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾
أنا لا يمكن أن أوظف هذه التوجيهات النبوية كي أستبيح المعاصي ، هذا شيء مستحيل . أضرب لك بعض الأمثلة ، أنا حينما أركب طائرةً أول مرة في حياتي كي أحج بيت الله الحرام ، وحينما أضع ثياب الإحرام في المحفظة الكبيرة ، وحينما أطلبها وقت الإحرام فلا آخذها ، مستحيل أن آخذها لأن المحفظة الكبيرة مع البضاعة ، في الشحن . إذاً أنا أدخل الآن منطقة الحرم غير مُرتدٍ ثياب الإحرام ، الشرع مرن سمح لي أن أذبح هدي الجزاء ، وأن أتلافى دخولي بيت الله الحرام من دون ارتداء ثياب الإحرام ، أن أجبر هذا الكسر . لو جاء غني وقال: أنا بما أنه يجوز أن أذبح شاةً مقابل ارتدائي الثياب الكاملة أنا سأذبح مئة ألف شاة ، هذا لا يقبل منه ، لا يمكن أن يكون الاستغفار بالمعنى الدقيق سبباً لمتابعة المعاصي ، لا يمكن أن يقبل الله الاستغفار كسبب لمتابعة المعاصي ، أما أنا حينما أعصي دون أن أصر ، وحينما أعصي دون أن أفكر أن أعاود المعصية ، وأستغفر أجد الله غفوراً رحيماً ، أما حينما أستخدم الاستغفار كمبرر لمعاودة المعصية فهذا لا يمكن أن يقبله الله عز وجل ، هذا استهزاء بالدين .الأستاذ زياد :
وما هي أفضل مواضع الاستغفار ؟
أفضل أوقات للاستغفار :
الدكتور راتب :
قال تعالى:
﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾
انتبه العلماء إلى سَوْفَ ، كأن هناك وقت ، وفي الحديث الصحيح القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :(( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ ))
أفضل وقت للاستغفار وقت السحر ، وهناك ساعات الإجابة كساعة يوم الجمعة ، وفي أيام رمضان ، في قيام الليل ، عند الشدة ، في السجود ، في بيت الله ، في وقت فضيل ، في مكان فضيل ، كأن الله سبحانه وتعالى اصطفى بيته الحرام ليشيع فيه الصفاء على كل مكان، واصطفى شهر رمضان ليكون الصفاء فيه في كل الأيام ، لابد من وقت تشعر أن الله عز وجل معك ، وهذا كما قلت قبل قليل معنى قوله تعالى :﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾
الله مع الإنسان في أي مكان وزمان :
والله عز وجل يقبل استغفارك ، ولو أن شفتيك مطبقتان ، يمكن أن تناديه بقلبك:
﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾
الله معك ، سيدنا يونس أين خاطب الله ؟ وهو في بطن الحوت ، أحياناً يقتني الإنسان هاتفاً خلوياً ، في أماكن محددة ليس هناك تغطية ، لكن الله مع الإنسان في أي مكان ، وهو في بطن الحوت ، قال تعالى:﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
خاتمة وتوديع :
الأستاذ زياد :
نسأل الله عز وجل موجبات رحمته ، وعزائم مغفرته ، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أشكر الأخوة المستمعين لحسن متابعتهم لبرنامجنا منهج التائبين ، نتابع في الغد بإذن الله تعالى ، لكم التحية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .