- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (027) سورة النمل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، لازلنا في قصَّة سيِّدنا سليمان مع ملِكَة بلْقيس وأُحِبُّ أن أُنَوِّهَ إلى أنّ أيَّ قِصَّة في القرآن الكريم لا يُمْكِن أن يكون الهَدَف منها فرْض الوقائِع لا غير !! قرْآننا أعظمُ وأجَلُّ مِن أن يكون كِتاب قِصص، بل إنَّ كُلَّ قِصَّة في القرآن الكريم تُمَثِّل نموذجًا مُتَكَرِّرًا ويُمْكِن أن نسْتنبِطَ من كُلِّ كلمةٍ ومن كُلِّ قَوْل، ومن كُلِّ حِوارٍ، ومِن كُلِّ تَصْوير حقيقةً وقانونًا، ومبْدَأً، وتَوْجيهًا، فَيَجِبُ أن نَعْتَنِيَ بالقِصَّة عِنايَةً بالِغَة ؛ لأنَّ كل فقْرةٍ فيها قانون يُلقي ضَوْءً على حياتنا اليَوْمِيَّة.
نحن وصَلْنا في الدَّرْس الماضي أنَّ الهَدِيَّة يفْرَحُ بها أهْل الدنيا، لكنّ أصْحاب المبادئ لا يعبئون بها.
قال تعالى:
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام عرَضوا عليه أن يكون أغْنى فِتْيان مكَّة وأن يتزوَّج أجْمَلَ فتاةٍ فيهم، وأن لا يُقْطَعَ أمْرٌ دون أن يُرْجَعَ إليه، ومع ذلك قال:
((يا عمّ، والله لو وضَعوا الشَّمي عن يميني والقمر عن يساري على أن أترُكَ هذا الأمر ما ترَكْتُهُ حتى يُظْهِرهُ الله أو أهلِكَ دونَهُ.))
المبادئ عند أصْحاب المبادئ هي كُلُّ شيء، والمادَّة تحت أقْدامِهِم والمادَّة عند أصْحاب الدنيا هي كُلّ شيء، والمبادئ تحت أقْدامِهِم لذلك مَلِكَة بلْقيس كانت ذَكِيّة حينما علِمَتْ أنَّ الهَدِيَّة وَحْدها تَكْشِفُ نُبُوَّة هذا النبي، فإمَّا أنَّهُ ملِكَ، ومِن شأنِ المَلِك إن دَخَل قرْيَةً أفْسَدَها وجعل أعِزَّة أهْلها أذِلَّة، وإما أنَّهُ نبيٌّ، والنبي يمْتلأُ قلبُهُ بالرَّحْمة والعَدْل وله رسالةٍ يُؤَدِّيها، فالفرق الفاصِل بين النُّبوَّة المُلْك ما إذا فرِحَ بهذه الهَدِيَّة أو لم يفْرَح، قال تعالى:
﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)﴾
قال سيِّدنا سليمان كما قال تعالى:
﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)﴾
أحيانًا نفْرح لمَّا نجد الاتِّصالات سريعَة جدًّا، وسيِّدُنا عمر رضي الله عنه قال: يا سارِيَة، الجَبَلَ الجَبَلَ ! دون تِلكْس وخط هاتفي، كما أنَّنا نفْرح نحن لمَّا ننقل شيئا ضَخما من مكان لآخر، فالقُدُرات التي أعْطاها الله للجِنّ تفوق حدَّ الخيال، والقُدْرات التي أعْطاها الله للملائكة تفوق قدْرات الجنّ، قال تعالى:
﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)﴾
عرشٌ ضَخْم يأتي به مِن اليَمَن إلى القُدْس، هل في العالم اليوم شرِكَة نقْل تستطيع أن تنقل عرشًا ضَخْمًا من الإسمنت إلى فلسطين قبل أن تقوم مِن مقامِك ؟!! قال تعالى:
﴿قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)﴾
هنا الشاهِد، نحن كَمُؤمنين، كلَّما عايَنْتَ نِعْمَةً حلَّت بك ؛ هل تقول: هذا مِن فضْل ربِّي ؟! أجْهزتُكَ وأعْضاؤُك وحواسُّك، نِعْمَةُ المأوى والزَّوْجَة ونِعمة الأولاد، ونعمة الدَّخْل، ونِعمة الحريَّة ؛ هذه النِّعَم التي أكْرَمَنا الله بها ؛ هل نقول: هذا مِن فضل ربِّي، قال تعالى:
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7)﴾
ويا ابن آدم إن ذَكَرْتني شَكَرْتني، وإذا ما نسيتني كَفَرْتني، وإذا أردْتُم رحْمتي فارْحَموا خلْقي، أتمنَّى عليكم أن تكون كلّ حركاتك أيها الأخ وكل نشاطاتك وسكناتِك لابد أن لا تنْسى فضْل الله عليك، وحينما لا تنْسى فضْل الله عليك فهذه النِّعَم هي في ازْدِياد، ولن تنْقص، وهذا الشيء أكيد لأنَّه الله تعالى قال:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(11)﴾
فخَطُّك البياني يكون صاعِدًا إن كنت دائِمًا في شُكْر دائِم، والشُّكْر أيها الإخْوَة أنواع، فأدْنى مُسْتَوَياتِهِ أن تعْلمَ أنَّ هذه النِّعْمة من الله، وأوْسَطُ مُسْتَوَياتِهِ أن يمتلأَ قلبُكَ حمْدًا لله تعالى، وأعلى مُسْتَوياتِهِ أن يُتَرْجَمَ إلى عملٍ صالِحٍ يُتَرْجم إلى عمل صالِحٍ يرفع العبادة به وهذا لقَول الله تعالى:
﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13)﴾
ولذلك المؤمن يرى كُلَّ الخَلْق عِباد الله، وأيَّة خِدْمَةٍ يُقَدِّمُها لأيِّ إنسانٍ يراها قُرْبَةً إلى الله تعالى، ويراها قرْضًا حسَنًا لله تعالى، وسوف يُضاعِفُها الله له أضْعافًا كثيرة، والله تعالى خاطب النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113)﴾
وخاطَبَ المؤمنين فقال تعالى:
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21)﴾
هناك أشْخاص يعْبدون البقر، والحيوانات ويعبدون تماثيل، فأنت حينما أكْرَمَك الله تعالى بِنِعْمة الإيجاد ولم تكن شيئًا مذْكورًا، وأكرمَكَ الله بِنِعْمة الإمداد، وأكْرَمَك بِنِعْمة الهُدى والرَّشاد وهذه أكْبر نعمة عليك، لذلك نقف وقْفَةً قليلة ؛ كُلَّما عايَنْت نعمة من نعَمِ الله عليك قُل: هذا من فضْل الله عليّ، عوِّد لِسانَك أن لا تقول أنا، عوِّد لسانك أن تقول: هذا من فضل الله عليّ، والمؤمن دائِمًا يقول: هذا من فضْل الله عليّ، والله تعالى هو الذي أخَذ بِيَدي والله أكْرمني وأعانني، ولا تقل: هذه خِبْرة، وهذا من علمي.
قال تعالى:
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ(81)﴾
كُلَّما اسْتَقَمْتَ على أمْرِهِ أمَدَّك الله بِقُوَّةٍ منه، وكنت عند الله قوِيًّا ومُقَرَّبًا:
ما لي سِوى فقْري إليك وسيلة فبالافتِقار إليك فقْري أدْفَعُ
وما لي سوى قرْعي لبابِكَ حيلةٌ فإذا رَدَدْتَ فأيَّ باب أقْرَعُ
***
حالة الافْتِقار هي حالةُ العُبودِيَّة لله عز وجل، وهي صُعودٌ دائِمًا، وأنا أُقْسِمُ بالله العظيم، وغير حانِث أنَّ كُلَّ مؤمنٍ عايَنَ نِعَمَ الله عز وجل وامتلأَ قلبُهُ شُكْرًا لها، فهذه النِّعَم لن تزول عنه أبَدًا، وقد ذكرتُ لكم تفسير آيةٍ بالعامِيَّة مرَّةً ! وهي قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(11)﴾
لا تُغَيِّر حتى لا يُغَيِّر، وإذا كانت هناك مُشكلة فالأصل غَيّر كي يُغَيِّر فإذا كنت في بَحبوحة وفي إكرام وصِحَّة جيِّدة، ولك مكانة فإذا لم تُغَيِّر لم يُغَيِّر، والعكْس كذلك فلو كنت في مُصيبَةٍ لا سَمَح الله غيِّر كي يُغَيِّر، قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(11)﴾
قال تعالى:
﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) ﴾
(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ))
ذلك لأنَّ عطائي كلام وأخْذي كلام، فَمَن وَجَدَ خيْرًا فلْيَحْمَدِ الله ومَن وجَدَ غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفْسَه، ومَن كفر فإنَّ ربِّي غنِيٌّ كريم.
قال تعالى:
﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)﴾
الآن عندنا موضوعَان صغيرَان الإنسان لا يهْتَدي إلا بِحالَيْن ؛ عقْل راجِح، وتواضَع، فالمُسْتَكبر لا يتعلَّم، والمُسْتحي لا يتعلَّم، فهذه مَلِكَة وقَدِمَتْ على سُلَيمان المَلِك، فإنْ عامَلَتْهُ ملِكَة لِمَلِك لن تتعلَّم شيئًا فلا بدّ مِن تحْجيمِها قليلاً، فالإنسان قد يسْتَعْلي ويرى أنَّهُ نِدًّا للآخر فلا يتعلَّم أبَدًا، إذاً لا بدّ من خُضوع المُتَعلِّم للمُعَلِّم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ))
فهذه مَلِكَة، أراد أن يمْتَحِن ذكاءَها، قال تعالى:
﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)﴾
امْتِحان العَقْل أساس في الدَّعْوَة إلى الله، والنبي عليه الصلاة والسلام تزوَّج امْرأةً فقال لها اخْوتها قولي له إن دَخَلْتِ عليه: أعوذ بالله منك، فلمَّا قالتْ له ذلك قال لها: الْحَقي بِأهْلِكِ، فهذا الضَّعْف في التَّفْكير لا يسْمحُ لها أن تُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، قال تعالى:
﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)﴾
فهي أجابَت بِرَجاحة عَقْل وقالتْ: كأنَّهُ هو ! وهذا جواب دِبْلوماسي ! فالامْتِحان انتهى، ولم يبْق إلا التَّحْجيم، قال تعالى:
﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)﴾
جعل الأرض بِلَّوْر صافي، وتحته ماء يَجْري، قال تعالى: فالتَّحجيم زائِد امْتِحان الذَّكاء شَرطان أساسِيَّان لِطَلَب العِلْم.
قال تعالى:
﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) ﴾
فإذا دَعَوْتَ إلى الله عز وجل فأنت تحْتاج إلى ناسٍ عُقَلاء، لهم فِكْر قويم ومُحاكَمَة سليمة، أما الأغْبِياء، وَمحْدود و التَّفكير فهؤلاء عِبْءٌ على الدَّعْوَة، فرق بين مَن يحْمِلُ معك الدَّعْوَة، وبين مَن هو معك وفي الوقت نفْسِه عبء عليها،أعظمُ نِعْمَة على الإطلاق أن يَهَبَك الله تعالى عَقْلاً راجِحًا، والنبي عليه الصلاة والسلام عَجِبَ مِن سيِّدنا خالد لماذا تأخَّر إسْلامُهُ، وقال له:
((عَجِبْتُ لك يا خالد فإنِّي أرى لك فِكْرًا، وإنَّما الدِّين هو العَقْل ومَن لا عَقْل له لا دين له.))
ولا تفْهموا من رفْعِها عن ساقَيْها أنَّها ظهرت عورَتُها كما يفْهَمُهُ بعض الجُهَلاء، فهذه من الإسرائيليات ما أنزل الله من سلطان، والقِصَّة انْتَهت، وإلى قِصَّة أخرى إن شاء الله.