الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام؛ لازلنا في اسم الجواد، والجواد من الجود، والجود أن تأتي بالجيد من القول والعمل، الله عز وجل صاحب الأسماء الحسنى:
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
بشكل منطقي وحتمي الذي يتصل بصاحب الأسماء الحسنى يجب أن يكون أخلاقياً، أي الصفة الصارخة في المؤمن أنه إنسان أخلاقي، وإن صحّ التعبير كلمة الإيمان مرتبة، مرتبة علمية، ومرتبة أخلاقية، ومرتبة جمالية، المؤمن الصادق لأنه موصول بالله عز وجل يشتق منه الكمال، المؤمن أخلاقي، هذا المعنى ورد عند ابن القيم رحمه الله فقال: الإٍيمان هو الخُلق، ومَن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان، لا تصدق أن يكون المؤمن مؤمناً إن لم يكون أخلاقياً.
فلذلك أيها الإخوة؛ الجواد من الجود، والجود أن تأتي بالقول الحسن، والخُلًق الحسن، والفعل الحسن، والجود أيضاً هو الكرم، الجواد معطاء سخيّ، تسخُو نفسه في العطاء، أريحي يرتاح للعطاء، هكذا الله عز وجل خلق الخَلقَ ليرحمهم، قال تعالى:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
خلقهم ليرحمهم، خلقهم ليُسعدهم، إذاً المعنى الأول: الجود من أتى بالجيّد من القول والعمل، والجود هو الكرم، العطاء.
من صفات المؤمن الجود والعطاء:
لذلك الصفة الأولى للمؤمن أنه يعطي، يبني حياته على العطاء، يشعر بالتفوق إذا أعطى، يشعر بالنجاح إذا أعطى، وإن أردت مقياساً دقيقاً للمؤمن المؤمن يعطي، وغير المؤمن يأخذ، واسأل نفسك هذا السؤال الصعب: ما الذي يُسعدك أن تعطي أم أن تأخذ؟ المؤمن يُسعده أن يعطي، يعطي من وقته، يعطي من ماله، يعطي من جاهه، يعطي من خبرته، لأنه يعلم عِلم اليقين أنه إذا أعطى فإن الله سبحانه وتعالى سيغمره بالفضل، هو ذكي جداً، في نظر غير المؤمن يبدو المؤمن ليس ذكياً لأنه يعطي، الطرف الآخر يأخذ.
لذلك أقول دائماً: الأقوياء يأخذون، الأنبياء يُعطون، والناس جميعاً تبعٌ لقوي أو نبي، لأنك مؤمن أساس حياتك العطاء، تعطي بسخاء، وتعطي بغير حساب، ولا تسعد إلا إذا أعطيت، تعطي كل شيء منحك الله إياه، تبذله للناس، والله عز وجل عدّ أيّ عطاء من قِبَل المؤمن لأيّ مخلوق عده قرضاً له، قال تعالى:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾
والله الذي لا إله إلا هو مِن حِكمِ الله العظمى أنك إذا أعطيت كافأك بالدنيا قبل الآخرة، يعطيك عطاء يُخجلك في الدنيا، لأنه أكرم الأكرمين، لذلك الجواد من الجود، والجود أن تأتي بالجيد من القول والفعل، أو الكرم، العطاء، السخاء، الأريحية، ورجل جواد أيْ كثير العطاء.
الجودُ بالنفس أقصى غاية الجود:
لكن والجود بالنفس أن تبذل نفسك في جهاد في سبيل الله أقصى غاية الجود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، لذلك الحديث عن الشهداء:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾
الشهيد بذل أثمن ما يملك، بذل حياته، لكن كتعليق سريع كي تعرفوا خطورة حقوق العباد،
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ. ))
شهيد بذل حياته في سبيل الله، حقوق العباد مبنية على المشاححة، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة.
قمة العقل والذكاء أن تعطي مما أعطاك الله:
أيها الإخوة؛ في البخاري من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حينما جاءه رسول إحدى بناته برسالة أن ابنها يجود بنفسه-ينازع-سيغادر الحياة، فقال عليه الصلاة والسلام، بعث إليها برسالة:
(( عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَيْهِ: إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلامَ وَيَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ». فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ». ))
كلام جامع مانع،
((إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى)) لذلك في بعض الأدعية
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ. ))
أي يا رب وفقني أن أجعل هذا الذي منحتني إياه في سبيلك، من قوله تعالى:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)﴾
آتاك علماً ابتغِ به الدار الآخرة، آتاك خُلُقاً ابتغِ به الدار الآخرة، آتاك فصاحة ابتغِ بفصاحتك الدار الآخرة، آتاك مالاً، آتاك جاهاً، آتاك خبرة، آتاك وسامة، أيّ شيء آتاك الله به فابتغِ به الدار الآخرة.
أيها الإخوة؛ المؤمن يوظّف كل ما أعطاه الله في سبيل الله، يروى أن رجلاً من علماء القلوب سأله رجل عن الزكاة، فقال: عندنا أم عندكم؟ قال: سبحان الله! ما عندنا وما عندكم؟ قال: عندكم الزكاة ربع العشر، أما عندنا فالعبد وماله لسيده، مأخوذ من قوله تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾
هو قمة العقل والذكاء أن تعطي مما أعطاك الله، لذلك: ((إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى)) ، ((مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ)) تتمنى بيتاً غير هذا البيت، هذا البيت الذي منحك الله إياه، كنت تتمنى زوجه غير هذه الزوجة، ((وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ)) إذا شيء تحبه، وما سُمِح لك أن تأخذه، فالفراغ الناشئ عن انشغالك به ليكنْ في سبيل الله.
إنسان يطمح أن يكون ذا دخل غير محدود، لكن مشيئة الله ولحكمة بالغة جعله ذا دخل محدود، فالمال الذي كان يمكن أن يشغله عن الله، الوقت الناتج عن عدم انشغاله بهذا المال الوفير ليكنْ في سبيل الله، ليطلب العلم، إذاً: ((إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى)) ، ((وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ)) الإيمان بالقدر يُذهِب الهم والحزن، الإيمان بالقدر نظام التوحيد.
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
قال: ((وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ)) معنى تحتسب أي لتكتفِ بنصيب الصبر كأجر من الله عز وجل.
من معاني الجود سهولة البذل والعطاءِ:
من معاني الجود سهولة البذل، أي أحياناً الشحيح تقنعه، تأتيه بالأدلة، ترجوه، تتوسل إليه أن يساهم بمشروع خيري، بصعوبة بالغة، بجهد جهيد، ثم يعطيك النزر القليل، لكن من معاني الجود سهولة البذل والإنفاق، وتجنب ما لا يُحمَد من الأخلاق، ويكون بالعبادة، العبادة المتقنة من ثمراتها الجود.
أنا لا أصدق أن ترى مؤمنا شحيحاً، لا أصدق أن ترى مؤمناً جباناً، البُخل والجبن يتناقضان مع أخلاق المؤمن، المؤمن كريم وشجاع، كريم لأنه يرى المعطي،
(( عن أبي هريرة: أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم دخل على بلالٍ وعنده صُبْرَةٌ من تَمْرٍ، فقال: ما هذا يا بلالُ؟!، قال: شيءٌ ادَّخَرْتُهُ لِغَدٍ، فقال: أَمَا تَخْشَى أن تَرَى له غَدًا بُخَارًا في نارِ جهنمَ يومَ القيامةِ؟! أَنْفِقْ بلالُ! ولا تَخْشَ من ذِي العرشِ إِقْلالًا. ))
[ هداية الرواة: خلاصة حكم المحدث : صحيح بمجموع طرقه ]
(( عَن أبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» . وَقَالَ: «يَدُ اللَّهِ مَلأَى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». وَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ». ))
وشجاع يرى أن له عند الله أجلاً لا يتقدم ولا يتأخر، وقالوا: كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تُقرِّب أجلاً.
أيها الإخوة؛ يكون الجود باشتقاق هذا الكمال من الله، بالاتصال، دققوا في هذا المعنى أيها الإخوة؛ لا يمكن أن تتصل بالرحيم إلا وأن تشتق منه الرحمة، أن تتصل بالغني إلا وتشتق منه الغنى، المؤمن عنده غنى، أي عفيف، لا يتضعضع أمام الغني، ورد بالأثر: من جلس إلى غني فتضعضع له-أي تمسكن أمامه-ذهب ثلثا دينه، المؤمن عفيف يؤمن أن الله لا ينساه من فضله، والله مرة زارني إنسان قدمت له ضيافة قطعة حلوى، فقطع أول لقمة وقبل أن يضعها في فمه قال: سبحان من قسم لنا هذا ولا ينسى من فضله أحداً، كلمة ولا ينسى من فضله أحداً، كن له كما يريد ليكن لك كما تريد، عبدي أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها،
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ. ))
يا رب ماذا فَقَد مَن وجدك؟ لم يفقد شيئاً، وماذا وجد مَن فَقَدك؟ لم يجد شيئاً، وإذا كان الله معك فمَن عليك؟ إذا كان الله معك سخّر عدوك لخدمتك، وإذا كان الله عليك تطاول عليك أقرب الناس إليك، لذلك
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي، وَقَدْ اتَّخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا. ))
[ متفق عليه، واللفظ لمسلم ]
تقنين الله عز وجل تقنين تأديب لا تقنين عجز:
يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا-أي لا ينقصها-نَفَقَةٌ سَحَّاءُ-دائمة- اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ. ))
وفي الحديث القدسي:
(( عن أبي ذر يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. ))
أيها الإخوة الكرام؛ يجب أن نؤمن إيماناً قطعيا يقينياً أن الله إذا قنّن على عباده قنّن بالأمطار، قنّن بالأرزاق، لا يمكن إلا أن يكون تقنين الله عز وجل تقنين تأديب لا تقنين عجز، لذلك أهل الدنيا يُخَوّفون الضعاف أن هناك أزمة مياه بالعالم، هناك أزمة غذاء، هذا تخويف:
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾
مرة اطّلعت على بحث علمي أنه اكتشف بالفضاء الخارجي سحابة يمكن أن تملأ محيطات الأرض ستين مرة باليوم بالمياه العذبة، ثم يقولون لك: حرب مياه، تقنين الله عز وجل تقنين تأديب لا تقنين عجز، أما نحن حينما لا تكفي الطاقة الكهربائية للاستهلاك في وقت الذروة نقطع الكهرباء، قطْع الإنسان للكهرباء تقنين عجز، أما إذا قنن الإله فتقنينه تأديب، وشتان بين التقنينين، ((يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ)) .
الله حكيم في عطائه عليم بمواضعه:
لكن الشيء الدقيق الدقيق جداً أن الله سبحانه وتعالى عليم بموضع جوده، أحياناً قد تجد إنساناً جواداً وسخياً، لكن يعطي عطاء عشوائياً، من قال له كلمتين يعطيه، بتحقيق، من دون تحقيق، يستحق، لا يستحق، هذا المال قد يستعين به على معصية، أو على طاعة، لا يوجد عنده معلومات دقيقة، لكن الله سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين يأتي عطاؤه بحكمة بالغة، وباستحقاق، وبحكمة، وبخيرية.
لكن هذا الشيء يُذكرني أن النبي صلى الله عليه وسلم عقِب بعض الغزوات استعرض الأسرى، فقد كانت من بين الأسرى امرأة وقفت وقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليّ منّ الله عليك، وخلِّ عني، ولا تُشْمِت بي أحياء العرب، فإن أبي كان سيد قومه، يفك العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذِّمار، ويُفَرِّج عن المكروب، ويُطعم الطعام، ويُفشي السلام، ويحمل الكَلَّ، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد بحاجة فرده خائباً، أنا سفّانة بنت حاتم الطائي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا جارية هذه صفات المؤمنين حقاً، ثم قال: ارحموا عزيز قوم ذلّ، وغني افتقر، وعالم ضاع بين الجُهّال، هذا من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم، ارحموا عزيز قوم ذلّ، وغني افتقر، وعالم ضاع بين الجُهّال، منّ النبي عليها، وأكرمها، وحمّلها بما تحتاج، وأرسلها إلى قومها، فحينما رأت هذا العطاء وهذا الكرم، استأذنته بالدعاء، هنا الشاهد، الله عز وجل كرمُه بحكمة بالغة، في موضعه، قالت سفّانة: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة.
[ ذكر هذه القصة ابن هشام في سيرته، والطبري في تاريخه ]
ورد في بعض الآثار عن سيدنا علي: والله والله مرتين لحفر بئرين بإبرتين، مستحيل! وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين، أيضاً مستحيل! ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، أيضاً مستحيل! وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، قال: أهون عليّ من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين.
سُئِل أحدهم: ما الذل؟ قال: أن تقف بباب اللئيم ثم يردّك، اللئيم يرد.
ما قال لا قط إلا في تشهّده لولا التشهد كانت لاءه نعم
[ قول الفرزدق يصف به النبي عليه الصلاة والسلام ]
المؤمن يخجل من كلمة لا، يبذل كل ما عنده، لذلك استأذنته بالدعاء، فقالت هذه المرأة التي منّ النبي عليها، وأطلق سراحها، وأكرمها، وأرسلها إلى أهلها: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردّها، ورجعت إلى أهلها، والتقت مع أخيها الذي نسيها فوقعت أسيرة، فقالت لأخيها عدي بن حاتم: ائتِ هذا الرجل، فإني قد رأيت هدياً، وسمتاً، ورأياً يغلب أهل الغلبة، ورأيت فيه خصالاً تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود منه، ولا أكرم منه، فإن يكن نبياً فللسابق فضله، وإن يكن ملكاً فلا تزال في عزّ مُلكه، الشاهد أن الإنسان من علامات توفيق الله له أن يضع معروفه عند من يستحقه، أحياناً تُكرِم إنساناً، تُكرِم إنساناً، تُكرِم إنساناً، يتنكر لك.
أُعَلّـمه الرماية كل يـوم فلما اشتدّ ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فـلما قال قافية هجانــــي
هذا اللئيم، اللئيم يرُدّ على الإحسان بالإساءة، لكن الكريم يردّ على الكرم بكرم كبير.
من معاني الجواد الطُّرُق:
أيها الإخوة؛ الجواد أيضاً جمع جادة، أي الطريق، إذاً الله جواد أي يهدينا إلى طريق سلامتنا، يهدينا إلى طريق سعادتنا، يهدينا إلى طريق سرورنا، يهدينا إلى الجنة، يهدينا إلى الإيمان، لذلك الله عز وجل بيّن بكتابه الحلال والحرام، الخير والشر، الحق والباطل، طريق التوبة، طريق الاستغفار، ما أمرك أن تتوب إليه إلا ليتوب عليك، ما أمرك أن تستغفره إلا ليغفر لك، ما أمرك أن تعود إليه إلا ليقبلك، رسم الطريق الموصل إليه، أعطاك وسائل التقرب إليه، أعطاك المال، أعطاك الصحة، أعطاك الشهوات، الشهوات ترتقي بها إلى رب الأرض والسماوات، أي أودع في نفسك حُبّ المرأة، امرأة لا تحِل لك غضضت بصرك عنها ارتقيت، تزوجت تأملت في امرأة تحل لك سعدك فشكرت، الشهوات ترقى بها مرتين، ترقى بها شاكراً وترقى بها صابراً.
إذاً جواد هداك إلى طريقه، إلى طريق يُفضي إليه، هداك إلى طريق طاعته، هداك إلى طريق الجنة، هداك إلى سلامتك، هداك إلى سعادتك، هذا معنى الجواد أيضاً، أرشدك إلى الطريق، قال يهديهم:
﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾
المؤمن في سلام مع نفسه، لا يوجد عنده اختلال توازن، ما بنى مجده على أنقاض الآخرين، ما بنى غناه على إفقارهم، ما بنى عزّه على إذلالهم، المؤمن متوازن، أي يوجد بقلبه من الراحة النفسية ما لو وُزِّعت على أهل بلد لكفاهم، هذا معنى الجواد، الله عز وجل قال:
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)﴾
هذا الذي ترونه في العالم هذا مِن فعل الشيطان، الله عز وجل يدعو إلى دار السلام، الحروب، والقتل، والاجتياح، والاعتقال، والهدم، هذا من فعل الشيطان، إنّ هذا من عمل الشيطان: ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ .
﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ من أسماء الله الجواد، أن يهديك سبيل الرشاد، يهديك سبيل السلامة.
رأيُ ابن القيم في معنى الجواد:
الآن ابن القيم رحمه الله يرى أن الجواد أي أنه أعطاك الأوامر والنواهي لترقى بفعل الأوامر، وترقى بترك النواهي، بيّن لك الحلال والحرام لترقى بأخذ الحلال وترك الحرام، الله عز وجل جواد أرادك أن تكون في جنة عرضها السماوات والأرض.
فلذلك أيها الإخوة؛ ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ أي تقرّب إليه بكمال مشتق من كماله.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق