- موضوعات متنوعة / ٠3دورات للطلاب الأجانب / ٠2دورة عام 1999
- /
- ٠2سيرة
قدم الفتى المكي مصعب بن عمير إلى يثرب في أول بعثة تبشيرية عرفها الإسلام، فنزل على أسعد بن زرارة أحد أشراف الخزرج، واتخذ من داره مقاماً لنفسه ومنطلقاً لنشر دعوته إلى الله عز وجل.
فجاء مَن أخبر أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ ـ وكانا سيديِّ الأوس ـ بأن الداعية المكي قد نزل قريباً من ديارهما... أخذ أُسيد حربته ومضى نحو مصعب، فلما رآه أسعد بن زراره مقبلاً قال لمصعب: ويحك يا مصعب، هذا سيد قومه، وأرجحهم عقلاً، فإن يسلم تبعه في إسلامه خلق كثير، فاصدق الله فيه.. وقف أسيد على الجمع والتفت إلى مصعب وقال: ما جاء بكم إلى ديارنا ؟ وأغراكم بضعفائنا ؟ اعتزلا هذا الحي إذا أردتم أن تبقوا أحياء.
قال مصعب: يا سيد قومه هل لك في خيرٍ من ذلك ؟ قال: وما هو ؟ قال: تجلس إلينا وتسمع منا، فإن رضيت ما قلناه قبلته، وإن لم ترضه تحولنا عنكم ولم نعد.
قال أسيد: لقد أنصفتَ، وركز رمحه في الأرض، وجلس.. فأقبل عليه مصعب يذكر له حقيقة الإسلام، ويقرأ عليه شيئاً من آيات القرآن، فقال أسيد: ما أحسن هذا الذي تقول وما أجلَّ ذلك الذي تتلو.. كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في الإسلام ؟ قال مصعب: تغتسل، وتطهر ثيابك، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله... فانضم في ذلك اليوم إلى كتائب الإسلام فارس من فرسان العرب، وسيد من سادات الأوس المعدودين.
كان يلقبه قومه بالكامل، لرجاحة عقله، ونبالة أصله، ولأنه ملك السيف والقلم، وقد كان إسلامه سبباً في إسلام سعد بن معاذ، وكان إسلامهما سبباً في أن تسلم جموع غفيرة من الأوس.
ـ أولع أسيد بن الحضير بالقرآن منذ سمعه من مصعب ولع المحب بحبيبه، وأقبل عليه إقبال العطشان على الماء العذب، وجعله شغله الشاغل، فكان لا يُرى إلا مجاهداً غازياً في سبيل الله، أو عاكفاً يتلو كتاب الله... وكان رخيم الصوت مشرق الأداء، تطيب له قراءة القرآن إذا سكن الليل، ونامت العيون، وصفت النفوس، وقد استعذب أهل السماء تلاوته، كما استعذبها أهل الأرض.
ففي ليلة من الليالي كان أسيد بن الحضير جالساً قرب داره، وابنه يحيى نائم إلى جنبه، وفرسه مُرتَبطة غير بعيدة عنه... فتاقت نفس أسيد لتلاوة القرآن فانطلق يتلو بصوته الحنون:
﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)﴾
فإذا به يسمع فرسه قد جالت جولة كادت تقطع بسببها رباطها، فسكت فسكنت الفرس وقرت، فعاد يقرأ:
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾
فجالت الفرس جولة أخرى أشد من الأولى.. فسكت فسكنت، وكرر ذلك مراراً، فكان إذا قرأ أجفلت الفرس وهاجت، وإذا سكت سكنت وقرت... فخاف على ابنه يحيى أن تطأه.. فنظر إلى السماء فرأى غمامة كالظلة لم تر العيون أبهى منها، قد عُلِّق بها أمثال المصابيح، فملأت الآفاق ضياءً وسناءً، وهي تصعد إلى الأعلى حتى غابت عن ناظريه، فلما أصبح مضى إلى رسول الله، وقصَّ عليه الخبر، فقال له عليه الصلاة والسلام:
((تلك الملائكة كانت تستمع إليك يا أسيد، ولو أنك مضيت في قراءتك لرآها الناس ولم تستتر منهم ))
وكما أولع أسيد بكتاب الله فقد أولع برسول الله، وقد كان الرسول صلوات الله عليه وسلامه يبادله حباً بحب، ويحفظ له سابقته في الإسلام وذوده عنه يوم أحد حتى إنه طُعن سبع طعنات مميتات في ذلك اليوم.
مات أسيد بن الحضير في خلافة عمر بن الخطاب، فوجد عمر أن عليه أربعة آلاف درهم ديناً، فأراد ورثته بيع أرضه لو فاء ديونه، فلما عرف عمر ذلك قال: لا أترك بني أخي أسيد عالة على الناس، ثم كلَّم الغرماء فرضوا بأن يشتروا منه ثمر الأرض أربع سنين كل سنة بألف.