- موضوعات متنوعة / ٠3دورات للطلاب الأجانب / ٠2دورة عام 1999
- /
- ٠2سيرة
كان جندب بن جنادة المكنى بأبي ذر يمتاز بجرأة القلب، ورجاحة العقل، وبعد النظر، وكان يضيق أشد الضيق بهذه الأوثان التي يعبدها قومه من دون الله.
ويستنكر ما وجد عليه العرب من فساد الدين، وتفاهة المعتقد. ثم تناهت أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي ذر، فتزود أبو ذر لنفسه، وحمل قربة ماء صغيرة، واتجه إلى مكة يريد لقاء النبي
بلغ أبو ذر مكة وهو متوجس خيفة من أهلها، فقد سمع بأذى قريش لكل مَن تحدثه نفسه باتباع محمد، لذا كره أن يسأل أحداً عن محمد، ولما أقبل الليل اضجع في المسجد، فمر عليه علي بن أبي طالب، فعرف أنه غريب فقال: هلم إلينا أيها الرجل، فمضى معه وبات ليلته عنده.
ـ قال علي لصاحبه: ألا تحدثني عما أقدمك إلى مكة ؟
ـ فقال أبو ذر: لقد قصدت مكة من أماكن بعيدة، أبتغي لقاء النبي الجديد، وسماع شيء مما يقول.
فانفرجت أسارير علي، وقال: والله إنه لرسول الله، وإنه... وإنه... فإذا أصبحنا فاتَّبعني حيثما سرت، حتى تدخل مدخلي.
فلما دخلا على النبي عليه الصلاة والسلام، قال أبو ذر: السلام عليك يا رسول الله. فقال الرسول:
((وعليك سلام الله ورحمته وبركاته ))
فكان أبو ذر أول من حَيَّا بتحية الإسلام، ثم شاعت وعمَّت بعد ذلك.
أقبل رسول الله على أبي ذر يدعوه إلى الإسلام، ويقرأ عليه القرآن، فما لبث أن أعلن كلمة الحق، ودخل في الدين الجديد، ولنترك الكلام لأبي ذر يحدث عن نفسه، قال:
أقمتُ بعد ذلك في مكة مع رسول الله، فعلمني الإسلام، وأقرأني شيئاً من القرآن، ثم قال لي: لا تخبر أحداً بإسلامك في مكة ؛ فإني أخاف عليك أن يقتلوك. فقلتُ: والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد، وأصرخ بدعوة الحق بين ظهراني قريش. فسكت الرسول، فجئت المسجد، وناديت بأعلى صوتي:
يا معشر قريش: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فما كادت كلماتي تلامس القوم حتى ذعروا جميعاً، وقالوا: عليكم بهذا الصابئ. وقاموا إلي وجعلوا يضربونني لأموت، فأدركني العباس عمَّ النبي، وأكبَّ عليَّ ليحميني منهم، ثم أقبل عليهم وقال: أتقتلون رجلاً من غِفار وممر قوافلكم عليهم !! فتركوني، ولما أفقتُ جئت إلى رسول الله، فلما رأى ما بي قال:
(( ألم أنهك من إعلان إسلامك ؟ ))
ـ فقلتُ: يا رسول الله كانت حاجة في نفسي فقضيتها.
ـ فقال:
(( إلْحق بقومك، وخبرهم بما رأيت وسمعت، وادعهم إلى الله لعل الله ينفعهم بك ويؤجرك فيهم ))
ـ قال ابو ذر: فانطلقت حتى أتيت منازل قومي، فلقيني أخي، فقال: ما صنعت ؟.
ـ قلت: أسلمتُ وصدَّقت.
ـ فقال: مالي رغبة عن دينك فإني أسلمتُ وصدقتُ أيضاً.
ثم أتينا أمنا فدعوناها إلى الإسلام فقالت: مالي رغبة عن دينكما وأسلمتْ أيضاً.
ومنذ ذلك اليوم انطلقت الأسرة المؤمن تدعو إلى الله في غِفار، لا تكل عن ذلك، ولا تمل حتى أسلم من غِفار خلق كثير، وأقيمت الصلاة فيهم، فلما أتى رسول الله المدينة أقبلت إليه قبيلة غِفار مسلمة، فقال رسول الله:
(( غِفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ))
ولما لحق الرسول الكريم بربه لم يُقم أبو ذر في المدينة، فرحل إلى بادية الشام وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق، وفي خلافة عثمان نزل في دمشق فرأى من إقبال المسلمين على الدنيا فأنكر عليهم ذلك، فاستدعاه عثمان إلى المدينة فقدم إليها، ولكنه ما لبث أن ضاق برغبة الناس في الدنيا، وضاق الناس بشدته، فأمره عثمان بالانتقال إلى الرَّبذة، وهي قرية صغيرة في المدينة.
دخل عليه رجل ذات يوم، فجعل ينظر في بيته فلم يجد فيه متاعاً، فقال: يا أبا ذر أين متاعكم ؟
ـ فقال: لنا بيت هناك ( يعني الآخرة ) نرسل إليه صالح متاعنا.
ـ ففهم الرجل مراده وقال له: ولكن لا بد من متاع ما دمت في هذه الدار (يعني الدنيا ).
ـ فأجاب: ولكن صاحب المنزل لا يتركنا فيه.
ـ وبعث إليه أمير الشام بثلاثمائة دينار، وقال له: استعن بها على قضاء حاجتك.
ـ فردَّها إليه وقال: أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني ؟!
وفي السنة الثانية والثلاثين لحق أبو ذر بربه عزَّ وجل، مات العابد الزاهد الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام:
(( ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر))