- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠2الصيام
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً ، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أنواع الصيام :
أيها الأخوة المؤمنون ، نظراً لقرب شهر الصيام ، شهر المغفرة ، وشهر التوبة لابد من الحديث عن أحكام الصيام وعن حكم الصيام ، فأما عن حكم الصيام إن شاء الله تعالى في أحد دروس التفسير سوف أنهي درساً في الحديث عن حكم الصيام من خلال آيات الصيام، وفي درس الأحد هذا والذي يليه إن شاء الله تعالى نتحدث عن أحكام الصيام لأن التفقه في الدين حتم واجب على كل مسلم ، وأحكام الصيام مأخوذة من كتاب : اللباب في شرح الصيام على الفقه الحنفي .
الصوم أيها الأخوان ضربان أي نوعان ، واجب ونفل ، والصوم في الأصل لغةً هو الإمساك بل هو مطلق الإمساك ، قال تعالى :
﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾
أي إمساك عن الكلام ، وشرعاً : الإمساك عن المفطرات حقيقةً أو حكماً ، ما معنى حقيقةً أو حكماً ؟ لو أن الإنسان تناول الطعام وهو ناس وأكل ولكنه حكماً ممسك عن الطعام يبقى صائماً لأن الذي ينسى ويأكل لا شيء عليه .
الإمساك عن المفطرات حكماً أو حقيقة في وقت مخصوص بنية من المؤهل للصوم ، فإذا قلنا : واجب ونفل ، فالصيام الواجب يراد به ما يقابل النفل الذي يجب أن يؤدى، وفي معنى آخر هو الواجب الذي بين الفرض وبين النفل ، فصيام النفل واجب وصيام رمضان فرض ، وصيام النفل نفل ، الواجب إما أن يعني الفرض الواجب معاً ، وإما أن يعني حالة بين الفرض وبين النفل ، على كلٍّ الواجب ضربان أي نوعان منه ما يتعلق بزمان بعينه كصيام رمضان ، أو كصيام النذر المعين، حينما ينذر الإنسان أن يصوم يوماً بعينه ، أو أسبوعاً بعينه ، أو شهراً بعينه ، فهذا صوم واجب يجب أن يؤدى في الوقت الذي حدد له، هذا الصوم الواجب المعين بزمن مخصص كصيام رمضان أو كصيام النذر المعين يجوز صومه بنية من الليل .
النية أحد شروط العبادة :
بالمناسبة النية أحد شروط العبادة ، لا تصح العبادة من دون نية لقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))
فلذلك ينوي الصائم صيام رمضان أو صيام النذر المحدد من الليل فإن لم ينوِ حتى أصبح الصبح أجزأته النية ما بين الفجر والزوال ، ومعنى الزوال زوال الشمس عن كبد السماء ، أي صيام رمضان أو صيام النذر المعين يجوز إذا نويت الصيام من الليل أو من الفجر وحتى الزوال أي حتى الضحوة الكبرى إلى ما قبيل أذان الظهر ، لأن أذان الظهر يأتي بعد الزوال ، بعد أن تزول الشمس من كبد السماء يدخل وقت الظهر .
النوع الثاني من أنواع الصيام :
وأما النوع الثاني من أنواع الصيام فهو ما يثبت في الذمة كقضاء رمضان وما أفسده من نفل ، الإنسان إذا بدأ بعبادة نافلة عليه أن يتمها لقول الله عز وجل :
﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾
أي إذا الإنسان بدأ بالعبادة ينبغي أن يمضي فيها إلى آخرها ، فإذا نوى صيام نفل ثم أفطر لعذر يجب أن يقضي يوماً مكانه ، والضرب الثاني ما يثبت في الذمة من غير تقيد بزمن ، لك أن تقضي هذا الصوم من أي وقت تشاء يثبت عليك في الذمة من دون زمن معين كقضاء رمضان ، السنة كلها تصح لقضاء رمضان أو ما أفسده من نفل ، صيام النفل الذي أفسده لعذر يجب أن يؤدى قضاء من دون تحديد زمن معين ، والنذر المطلق ، طالب نذر إذا نجح في الشهادة الثانوية أن يصوم أسبوعاً ولم يحدد هذا اسمه نذر مطلق ، بينما النذر المقيد هو الذي قيد بزمان ، وصوم الكفارات أيضاً .
الصوم الغير محدد بوقت معين لا يجوز إلا بنية معينة من الليل :
كل هذه الأنواع من الصيام صوم غير محدد بوقت معين ، هذا الصيام لا يجوز إلا بنية معينة من الليل ، صيام رمضان وصيام النذر المعين بوقت محدد على المذهب الحنفي لا يجوز إلا بنية من الليل ، أو بعد الفجر حتى الضحوة الكبرى ، أي إلى زوال الشمس عن كبد السماء ، أي يجب أن يكون معظم اليوم داخلاً في عبادة دينية ، لو فرضنا إنساناً أراد أن يصوم نفلاً أو قضاءً غير معين وكان اليوم قصيراً واستيقظ الساعة الثانية ظهراً هذا الصيام لا يصح لصيام النفل ، لصيام قضاء رمضان، أو ما أفسده من نفل ، والنذر المطلق ، وصوم الكفارات ، لا يجوز إلا بنية معينة من الليل لعدم تعيين الوقت ، نحن في رمضان كلنا نعلم أننا في رمضان لذلك بعض الفقهاء قالوا : لمجرد أن تستيقظ تأكل طعام السحور فهذه نية ، والمسلم له أن ينوي صيام الشهر كله مرةً واحدة ، لكن صوم الكفارات ، أو صوم قضاء رمضان ، أو صوم النذر المطلق ، أو صوم ما أفسده من نفل ، هذا يحتاج إلى نية مبيتة من الليل كي تصح هذه العبادة ، والشرط أن يعلم بقلبه أي صوم يقوم ، كل إنسان يعلم ما إذا كان يصوم صيام نفل ، أو صيام نذر مطلق ، أو صيام نذر معين ، أو صيام أداء، أو صيام قضاءٍ ، أو صيام كفارةٍ ، أو صيام قضاء نفل ، كل إنسان مؤمن يعلم أن هذا الصوم هو كذا .
هذه هي أنواع الصيام ، صيام فرض وصيام نذر ، وصيام الفرض منه ما هو محدد بوقت معين كصوم رمضان والنذر المحدد ، ومنه ما يثبت في الذمة من دون تحديد كأداء النذر المطلق ، أو قضاء النفل الذي بدأ فيه ثم أفسده ، أو صوم الكفارات ، أو ما شاكل ذلك .
تلمس الهلال لصوم رمضان :
الآن ينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان ، بل ينبغي عليهم أن يلتمسوا هلال شعبان في أول الشهر ، لتكون عدة الأيام صحيحة ، لأنه لو غم علينا في أول رمضان أتممنا شعبان ثلاثين يوماً ثم شرعنا بشهر رمضان ، لأن الأصل بقاء الشهر فلا ننتقل عنه إلا بدليل ، والدليل إما إتمام العدة ، أو رؤية الهلال ، هذان هما الدليلان اللذان يكفيان لانتقالنا من شهر إلى شهر .
الآن من رأى هلال رمضان وحده صام ولو لم تقبل شهادته لأنه متعبد بما علم، من رأى الهلال وحده وذهب إلى القاضي الشرعي فلم يقبل شهادته ، لأن في قبول الشهادة شروطاً سوف نأخذها بعد قليل وإن أفطر ، من رأى الهلال وحده فعليه القضاء دون الكفارة وإن كان في السماء علة من غيم أو غبار ونحوه ، قبل الإمام شهادة الواحد العدل ، من هو العدل التي تقبل شهادته في رؤية الهلال ؟ العلماء قالوا : من غلبت حسناته على سيئاته ومن تستر على معاصيه ، أي من غلب عليه الصلاح والتستر ، أي هذا الذي يفعل سيئةً ويذكرها للناس هذا سقطت عدالته ، الذي يقول : أنا البارحة أفطرت في رمضان هذا ساقط عدالته ، هذا الذي يقول : أنا البارحة لم أصلِّ ، إن غلب عليه التستر فشهادته مقبولة وإن غلب عليه الصلاح فشهادته مقبولة ، فإن جاهر بمعصية معنى ذلك أنه لم يتستر ، إذاً مطعون في شهادته ، فإن لم يكن في السماء علة لن تقبل الشهادة حتى يراه جمع كثير يقع العلم بخبرهم ، إذا السماء صافية ولا يوجد أي عذر ولا أي علة في السماء لا تقبل شهادة الواحد ، والسبب لأن المطلع متحد والموانع منتفية والأبصار سليمة والهمم لطلب الهلال مستقيمة ، هناك همم لطلب الهلال وهناك أبصار ، فكيف نجعل أمةً بأكملها تدخل في شهر الصيام بشهادة رجل إذاً هذا الرجل لابد أن في حكمه خطأ الواحد ، لكن بعضهم قال : إذا هذا مفوض إلى الإمام أو إلى القاضي الشرعي هو بحكمته الذي يقبل شهادة الواحد أو لا يقبلها ، لكن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه رجح في آخر الزمان حينما ينصرف الناس عن تلمس هلال رمضان ، حينما ينشغل الناس في أعمالهم وينصرفون عن هذه العبادة في آخر الزمان يجوز أن يقبل القاضي الشرعي أو الإمام شهادة الرجلين أو رجل وامرأتين ، عندئذ يصبح الصيام صحيحاً ، هذا الرأي الوسط بين أن ترد شهادة الواحد وبين أن تقبل شهادة الجمع الغفير وبين تقبل شهادة الرجلين أو رجل وامرأتين .
قال بعضهم : ولم أرَ أرجح من هذه الرواية ، وينبغي العمل بها في زماننا لأن الناس تكاسلوا عن ترائي الأهلة فكان التفرد غير قائم بالغرض .
وقت الصوم :
الآن وقت الصوم من حين طلوع الفجر الثاني أي الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، لقوله تعالى:
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾
والخيطان بياض النهار وسواد الليل .
الصوم شرعاً :
الصوم شرعاً هو الإمساك حقيقةً أو حكماً، من تناول الطعام ناسياً فهو ممسك عن الطعام حكماً ومن أمسك عن الطعام فعلاً فهو ممسك عن الطعام حقيقةً ، الإمساك حقيقةً أو حكماً عن المفطرات كالأكل والشرب والرفث ، لأن الله سبحان وتعالى يقول :
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾
المفطرات هي الأكل والشرب والرفث ، فإن أكل الصائم أو شرب ناسياً لم يفطر لأنه ممسك حكماً، لأن الله سبحانه وتعالى أو لأن الشارع الحكيم أضاف هذا الفعل إلى الله حيث قال عليه الصلاة والسلام :
((حَدَّثَتْنِي أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ دِينَارٍ عنْ مَوْلاتِهَا أُمِّ إِسْحَاقَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ فَأَكَلَتْ مَعَهُ وَمَعَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَنَاوَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرْقًا فَقَالَ يَا أُمَّ إِسْحَاقَ أَصِيبِي مِنْ هَذَا فَذَكَرْتُ أَنِّي كُنْتُ صَائِمَةً فَرَدَدْتُ يَدِي لا أُقَدِّمُهَا وَلا أُؤَخِّرُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكِ قَالَتْ كُنْتُ صَائِمَةً فَنَسِيتُ فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ الآنَ بَعْدَمَا شَبِعْتِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتِمِّي صَوْمَكِ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكِ ))
لكن الفقهاء توسعوا في هذا الحكم فقالوا : إذا رأيت شيخاً فانياً قد أكل ناسياً فلا تذكره ، وإذا رأيت شاباً قوياً جلداً يأكل ناسياً في رمضان فذكره ، أي شفقةً على هذا الشيخ ، قد يكون شيخاً فانياً ويصوم وقد جهد في الصيام ، فأول يوم من الصيام هو أشد الأيام على الإنسان ، فلو شرب كأس ماء وبدأ بشربه أنت ابقَ ساكتاً أما إذا كان شاباً فذكره برمضان .
القضاء و الكفارة :
الآن من ذرعه القيء أي سبقه وغلبه إلى صنعة منه ولو ملء فيه لم يفطر ، لكن من استقاء عمداً أي تعمد القيء أفطر وعليه القضاء .
الآن من أكل شيئاً مما لا يأكله الإنسان أو مما يستقذره أفطر وعليه القضاء ، لكن ليس عليه كفارة، إنسان أكل تراباً مادام أدخل إلى جوفه شيئاً إذاً عليه القضاء لكن لا كفارةً عليه لأن هذا الذي تناوله ليس في معنى الطعام ، لو فرضنا رجلاً أدخل إلى جوفه شيئاً عليه أن يقضي هذا اليوم ولا كفارةً عليه لأن هذا الذي أدخله ليس في قصد الطعام أو مما يشتهى .
الآن من أكل أو شرب ما يتغذى به أو يتداوى به فعليه القضاء والكفارة ، من أكل طعاماً أو شرب دواءً فعليه الكفارة لكمال الجناية أي أو من تعمد الرفث إلى النساء فعليه القضاء والكفارة ، الآن من احتقن أي صب الدواء في مكان الحقنة - التحاميل لا تفطر - أو من استعف أي صبّ الدواء في أنفه أو من قطر في أذنيه دهناً بخلاف الماء فيفطر على المذهب الحنفي ، تناول التحاميل أو وضع الدواء في الأذن أو في الأنف هذا لا يفطر الصائم، لكن لو تعمد إدخاله إلى الجوف دخلنا في حكم آخر ، لو أن الإنسان شعر بطعم الدواء في حلقه من دون أن يتعمد إدخاله لا يفطر ، أما إذا تعمد إدخاله إلى حلقه فإنه يفطر ، كل شيء يصل إلى جوف الإنسان بفعله وبإرادته فإنه يفطر ، أيضاً من داوى جائفةً أي جراحة في البطن أو آمةً جراحةً في الرأس بدواء فوصل إلى جوفه أو دماغه أفطر .
الآن من ذاق شيئاً بفمه لم يفطر ، أحياناً الإنسان يضطر أن يشتري شيئاً وقيمة الشيء يعرف من مذاقه ، طبعاً العلماء كرهوا ذلك لكن إذا كان في ضرورة بالغة ، متعهد طعام عليه إطعام أعداد كبيرة ، قد يكون هذا الجبن مسحوباً خيره ، فلو وضع شيئاً يسيراً على لسانه ليعرف نوعيته قال : من ذاق الطعام فإنه لا يفطر ، أيضاً لو أن الزوج قاس جداً فإذا كان الطعام فيه خلل ربما أقام على امرأته القيامة ، مثل هذا الزوج يجوز للمرأة أن تذوق الطعام تفادياً لشر هذا الزوج القاسي ، من ذاق الطعام فإنه لا يفطر لعدم وصول المفطر إلى جوفه ويكره له ذلك بما فيه لتعريض الصوم إلى الفساد ، ويكره للمرأة أن تمضغ الطعام لصبيها إن كان لها منه بد فإن كان لابد من أن تفعل ذلك فلا شيء عليها من دون أن يصل هذا إلى الجوف .
قال : مضغ العلك الذي لا يصل منه شيئاً مع الريق إلى الجوف لا يفطر ، كل هذا العلك مغطى بمادة سكرية فإذا تناولها الإنسان وصل السكر إلى الجوف إذاً هذا يفطر ، لو تصورنا أنه لا يوجد فيه أي مادة أخرى ، قال هذا لا يفطر ولكن يكره لأن صاحبه يتهم بالإفطار ، ويحمل على هذا إذا الإنسان حرك فمه تحريك من يأكل هذا مكروه أنت تعرض سمعتك إلى الفساد ، تتهم بالإفطار .
حكم الصيام للمريض و المسافر :
الآن من كان مريضاً في رمضان فخاف ، الخوف معتبر شرعاً ، يوجد عندنا الخوف معتبر شرعاً وهو ما كان بغلبة الظن بتجربةٍ أو إخبار مسلم عدل أو طبيب حاذق ، أي غلبة الظن عن طريق التجربة
إنسان معه قرحة فكلما تأخر في شرب الحليب شعر بآلام لا تحتمل ، فغلبة الظن عنده أن الصيام يؤذيه ، أو أن طبيباً مسلماً حاذقاً نصحه بذلك ، أو أن إنساناً ذو تجربة كبيرة معهود عليه بالصدق قال له ذلك هذا هو الخوف معتبر شرعاً ، فإن صام المريض وزاد مرضه بالصيام أو تأخر شفاؤه أفطر وقضى ، وإن كان مسافراً وهو لا يتضرر بالصوم فصومه أفضل ، أحياناً يسافر إلى حلب بالطائرة ساعة وأقل من ساعة ، أي الطائرة مكيفة ومن المطار إلى البيت هناك باص مكيف فلا يوجد حاجة لأن يفطر الإنسان ، ومن لا يتضرر بالصوم وكان مسافراً فصومه أفضل لقوله تعالى :
﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
وإن أفطر وقضى جاز لأن السفر مطلق السفر من دون قيد يجيز لصاحبه الفطر، لكن ينصح بالصوم إذ لم يكن بالسفر مشقة ، أما المرض فلا يجوز اتخاذه عذراً للفطر إلا إذا كان معتبراً شرعاً، بمعنى إنسان يده مجروحة مضمدها ، لا ، يجب أن يكون المرض له علاقة بالجهاز الهضمي ، له علاقة بالكليتين ، بتناول السوائل ، أو يكون له علاقة بالطعام والشراب ، أما مرض بالعظم ، أو مرض بالعضلات فهذا ليس له علاقة بالصيام ، أما مطلق السفر يجيز لصاحبه الإفطار، بينما المرض المحدد بغلبة الظن عن طريق تجربة ، أو وصف طبيب مسلم حاذق أو له تجربة صادقة ، هذا الذي يجيز له الإفطار ، وسوف نتابع هذا الموضوع بدرس الأحد القادم ، وأرجو أن تنتهي هذه الأحكام بهذين الدرسين ليكون الصوم على بينة وعلى علم .
* * *
لمحة عن حياة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق :
والآن إلى سير التابعين الأجلاء رضي الله عنهم ، التابعي لهذه الدرس القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، هذا التابعي الجليل فتى جمع المجد من أطرافه كلها ، حتى لم يفته منه شيء ، فأبوه محمد بن أبي بكر الصديق - أي جده سيدنا الصديق - وأمه بنت كسرى يزدجر آخر الملوك ، وعمته عائشة أم المؤمنين ، وهو فوق ذلك قد توج هامته بتاج التقى والعلم ، أتحسب أن فوق هذا المجد مجداً يتنافس فيه المتنافسون ؟؟ ذلكم هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد فقهاء المدينة السبعة ، وأفضل أهل زمانه علماً ، وأحدهم ذهناً، وأشدهم ورعاً ، الآن يبدو أن والد هذا التابعي قد مات بمصر وكان والياً عليها قال : فجاءت عمتي عائشة رضي الله عنها فحملتنا من منزل عمي ، أكثر النساء يكثرن الخروج من البيت ويهملن أولادهن ، لكن المرأة التي تؤثر أولادها على حظها وتبقى في البيت ترعى أولادها وتعتني بهم قال عليه الصلاة والسلام :
(( أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة ))
وكانت تحنو علينا حنو المرضعات على الفطين ، فتغسل أجسادنا ، وتمشط شعرنا ، وتلبسنا الأبيض الناصع من اللباس ، الإسلام يرفع من قيمة الإنسان ، وكانت لا تفتأ تحضنا على الخير ، وتمرسنا بفعله ، وتنهانا عن الشر ، وتحملنا على تركه ، وقد دأبت على تلقيننا ما نطيقه من كتاب الله ، وتروي لنا ما نعقله من حديث رسول الله ، وكانت تزيدنا براً واتحافاً في العيدين ، فإذا كانت عشية عرفة حلقت لي شعري ، وغسلتني أنا وأختي ، فإذا أصبحنا ألبستنا الجديد ، وبعثت بنا إلى المسجد لنؤدي صلاة العيد - هذه المرأة الصالحة - فإذا عُدنا منه جمعتني أنا وأختي وضحت بين أيدينا ، هذا درس لكل أم ، درس لكل زوجة .
وفي ذات يوم ألبستنا ثياباً بيضاً ثم أجلستني على إحدى ركبتيها وأجلست أختي على ركبتها الأخرى ، وكانت قد دعت عمي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، فلما دخل عليها حيّته ثم تكلمت فحمدت الله عز وجل ، وأثنت عليه بما هو أهله ، فما رأيت متكلماً قط من رجل أو امرأة قبلها ولا بعدها أفصح منها لساناً ، ولا أعذب بياناً ، ثم قالت : أي أخي إني لم أزل أراك معرضاً عني منذ أخذت هذين الصبيين منك وضممتهما إليّ ، يبدو أن أخاها عبد الرحمن كان يتمنى أن يضم إليه هذين الطفلين فجاءت أخته عائشة رضي الله عنها وضمتهما إليها ، يبدو أن أخاها عبد الرحمن كان واجداً عليها قالت : والله ما فعلت ذلك تطاولاً عليك ، ولا سوء ظن بك ، ولا اتهام لك بالتقصير في حقهما ، ولكنك رجل ذو نساء - لك زوجات - وهما صبيان صغيران لا يقومان بأمر نفسيهما ، يحتاجون إلى تنظيف وإلى تغسيل وإلى إطعام فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرنه فلا يطبن بهما نفساً - سبحان الله الأم تطيب نفسها بخدمة أولادها ، غير الأم لا تطيب نفسها - فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرنه فلا يطبن بهما نفساً ، ووجدت أني أحق منهن بالقيام على أمرهما في هذا الحال، وهاهما الآن قد شبا وأصبحا قادرين على القيام بأمر نفسيهما فخذهما وضمهما إليك ، بعد أن أصبحا قادرين على خدمة أنفسهما الآن خذهما وضمهما إليك .
فأخذنا عمي عبد الرحمن وضمنا إلى بيته ، بيد أن الغلام البكري ظل معلق القلب ببيت عمته أم المؤمنين رضوان الله عليها ، فعلى أرض بيتها المضمخة بطيوب النبوة درج، وفي أكناف صاحبته تربى وترعرع ، ومن حنانها المتدفق نهل وارتوى ، فصار يوزع وقته بين بيتها وبيت عمه ، وقد ظلت ذكرياته في منزل عمته الشذية الندية ، فقد قال يوماً لعمته عائشة : يا أم - يا أمي - اكشفي لي عن قبر النبي عليه الصلاة والسلام وقبري صاحبيه فإني أريد أن أراهم ، وكانت القبور الثلاث مازالت داخل بيتها - أي الآن في الحرم النبوي الشريف مكان القبور الثلاث ؛ قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، وقبر سيدنا الصديق ، وقبر سيدنا عمر في غرفة السيدة عائشة ، النبي عليه الصلاة والسلام دفن في بيتها ، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا واطئة معتدلة ، وقد مهدت بصغار الحصى الحمر مما كان في باحة المسجد ، فقلت : أين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشارت بيدها وقالت : هذا، ثم تحدرت على خديها دمعتان كبيرتان فبادرت فمسحتهما حتى لا أراهم ، وكان قبر النبي عليه الصلاة والسلام مقدماً على قبري صاحبيه فقلت : وأين قبر أبو بكر جدي ؟ قالت : ها هو ذا وكان مدفوناً عند رأس النبي عليه الصلاة والسلام ، فقلت : وهذا قبر عمر وكان رأس عمر رضوان الله عليه عند خصر جدي قريباً من رجل النبي عليه الصلاة والسلام .
مكانة القاسم بن محمد :
ولما شبّ هذا الفتى حفظ كتاب الله عز وجل ، وأخذ عن عمته عائشة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء له أن يأخذ ، ثم أقبل على الحرم النبوي الشريف ، وانقطع على حلقات العلم التي كانت تنتثر في كل ركن من أركانه ، فروى عن أبي هريرة ، وعن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن خباب ، ورافع بن خديج ، وأسلم مولى عمر بن الخطاب وغيرهم وغيرهم ، قال : حتى بدا إماماً مجتهداً وأصبح من أعلم أهل زمانه بالسنة ، وكان الرجل لا يعد رجلاً عندهم حتى يتقن السنة ، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح القاسم بن محمد وابن خالته سالم بن عبد الله بن عمر إمامي المدينة الموثوقين ، وقد بلغ من مكانتهما في النفوس أن خلفاء بني أمية لا يقطعون أمراً ذا بال في شأن من شؤون المدينة إلا برأيهما .
من ذلك أن الوليد بن عبد الملك قد عقد العزم على توسعة الحرم النبوي الشريف ولم يكن في وسعه أن يحقق هذه الأمنية إلا إذا هدم المسجد القديم من جهاته الأربع ، وأزال بيوت زوجات النبي صلوات الله وسلامه عليه ، وهي أمور تشق على الناس ، ولا تطيب نفوسهم بها ، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز واليه على المدينة يقول : لقد رأيت أن أوسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصبح مئتي ذراع في مئتي ذراع فاهدم جدرانه الأربعة وأدخل فيه حجر زوجات النبي صلى الله الله عليه وسلم ، واشتر من نواحيه من البيوت ، وإنك تستطيع ذلك لمكان أخوالك آل الخطاب ومنزلتهم في قلوب الناس ، فإذا أبى عليك أهل المدينة فاستعن بالقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأشركهما معك في الأمر ، وادفع إلى الناس أثمان بيوتهم بسخاء ، وإن لك في هذا سلف صدق ، فدعا عمر بن عبد العزيز القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وطائفةً من وجوه أهل المدينة وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين فسروا بما عزم عليه ، وهبوا لإنفاذه ، فلما رأى الناس عالمي المدينة وإماميها الكبيرين يباشران هدم المسجد بأيديهما قاموا معهما قوم رجل واحد ونفذوا ما جاء في كتاب أمير المؤمنين .
القاسم بن محمد أشد الناس تأسياً بجده الصديق :
شيء آخر : كان القاسم بن محمد أشد الناس تأسياً بجده الصديق حتى قال الناس : لم يلد أبو بكر ولداً أشبه به من هذا الفتى فلقد أشبهه في كرم شمائله ، و نبل خصاله ، و صلابة إيمانه ، و شدة ورعه ، و سماحة نفسه ، وسخاء يده ، ولقد أؤثر عنه كثير من الأقوال والأفعال تشهد له بهذا .
من هذا أن أعرابياً جاءه إلى المسجد فقال : أيكما أعلم أنت أم سالم بن عبد الله؟ فتشاغل عنه ، فأعادها عليه ، فقال : سبحان الله فأعادها كرةً ثالثة ، فقال : ذاك سالم يا بن أخي يجلس هناك ، فقال من في المجلس : لله أبوه لقد كره أن يقول أنا أعلم منه فيزكي نفسه وكره أن يقول هو أعلم مني فيكذب ، وكان أعلم من سالم .
لقد رُئي ذات مرةٍ بمنى وأهله الأنصار من حجاج بيت الله يطبقون عليه من كل جانب وهم يسألونه، فكان يجيبهم بما يعلم ويقول لهم فيما لا يعلمه : لا أعلم ، لا أدري ، هذه الكلمة قلها أيها الأخ قل : لا أعلم وهي وسام فخر ، نصف العلم لا أدري ، من ادعى أنه يعلم كل شيء فهو لا يعلم شيئاً ، كلمة لا أعلم فيها تواضع ، نصف العلم لا أدري ، هذا هو التواضع ، وهذه هي الدقة ، فكان يقول : لا أعلم ، لا أدري ، فأخذهم منه العجب فقال لهم : والله لا نعلم كل ما تسألون عنه ، ولو علمناه ما كتمناه ، ولا يحل لنا أن نكتمه ، ولأن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعرف حق الله عليه خير له من أن يقول ما لا يعلم .
من أخلاق العالم الحقيقي إذا سئل عن قضية أن يقول : لا أعلم ، أو دعها إلى وقت آخر ، لكن أجرأكم على الفتية أجرأكم على النار .
على الإنسان أن يقول ما يعلم دون زيادة :
في ذات مرة عهد إليه في قسم الصدقات بين مستحقيها فاجتهد في ذلك ما وسعه الاجتهاد ، وأعطى كل ذي حق حقه ، غير أن أحدهم لم يرضَ عن نصيبه الذي أعطي له فأتاه إلى المسجد وهو قائم يصلي ، وجعل يتكلم في أمر الصدقة ، فقال ابنه : والله إنك لتتكلم في رجل ما نال من صدقتكم درهماً ولا دانقاً - الدانق سدس الدرهم - ولا أصاب منها تمرةً واحدة ، فأوجز القاسم صلاته والتفت إلى ابنه وقال : يا بني لا تتكلم بعد اليوم فيما لا تعلم، فقال الناس : صدق ابنه ولكن أراد أن يربيه ، وأن يحفظ لسانه من التوسع بالكلام .
إياك أن تتوسع في الكلام ، قل ما تعلم من دون زيادة ، طال عمر القاسم حتى نيف على الثانية والسبعين ، ولكن كف بصره وهو شيخ كبير ، وفي آخر سنة من حياته قصد مكة يريد الحج وفيما هو في بعض طريقه أتاه اليقين - الموت - فلما أحس بالأجل التفت إلى ابنه وقال : إذا أنا مت فكفني بثيابي التي كنت أصلي بها ، قميصي وإزاري وردائي فذلك كان كفن جدك أبا بكر ، ثم سوِّ عليّ لحدي ، والحق بأهلك ، وإياكم أن تقفوا على قبري وتقولوا : كان وكان فما كنت شيئاً .
هذا التواضع ، لابد من حفل التأبين كان وكان . . . قال له : ما كنت شيئاً ، الإنسان عندما يعرف مقامه عند الله يزهد بكلام الناس عنه ، يزهد بتأبين الناس له ، يزهد بثناء الناس عليه ، من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به ، ذلكم كان القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه .