- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله نحمده ، و نستعين به و نسترشده و نعوذ به من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لك ، إقراراً بربوبيته و إرغاماً لمن جحد به و كفر ، و أشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق و البشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلي وسلم و بارك على سيدنا محمد و على آله و أصحابه و ذريته و من تبعه ذي إحسان إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تمهيد
أيها الإخوة المؤمنون ؛ تحدثت في خطبتين سابقتين عن بعض العقائد الفاسدة التي ما أنزل الله بها من سلطان ، والتي تناقلها الخلف عن السلف ، دون أن يفطنوا إلى أنها بعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام ، وروح القرآن ونصه ، وقد بينت لكم أن فيها شيئاً من كلام الله ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيء فهمه ، وتفسيره ، عن قصد أو غير قصد ، وقد وضحّت آثار هذه العقائد الفاسدة في تثبيط الهمم ، وإضعاف العزائم ، وترك العمل والتعلق بالأمل ، ومن هذه العقائد التعلق بمغفرة الله دون علم ولا هدى ، ولا كتاب منير .
أيها الإخوة ؛ مغفرة الله خافيةٌ على كثير من الناس ، والطريق إليها محجوبةٌ عن عيونهم ، وقبل الحديث عن حقيقتها ، والطريق إليها أودُّ أن أقف قليلاً عند بعض الصور المنتزعة من حياة المسلمين .
يرى بعض المسلمين أو من يزعم أنه منهم يقترف من المعاصي ما صغر وكبر ، فإذا قلت له ما هذا يا صاحبي ، لا تجد عنده من جواب سوى قوله الله غفور رحيم ، الله يعفو عنا بعفوه ، نحنا عبيد إحسان مالنا عبيد امتحان ، بعضهم الآخر إذا واجهته بمعصية قال لك ( بكره بحج والله يغفر لي ذنوبي ) ومنهم من يقول : لا تشددها أنت أكرم من الله ...
إلى ما هنالك من كلام حقٍ أريد به باطلاً .
أيها الإخوة ؛ هذه العقائد يجب أن تُصحح يجب أن تعرض على القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
أيها الإخوة ؛ الإنسان بين حالتين ، حالة الصحو وحالة الغفلة ، حالة الاستنارة وحالة الظلمة ، حالة الرؤية القلبية وحالة العمى ، والحالات الأُول تكون بالاتصال بالله ، والإقبال عليه ، والتوجه نحوه ، والحالات الأُخر تكون بالقطيعة ، وترك الصلاة ، والإعراض عن الله ، و الإدبار عن الحق .
والإنسان حينما يتصل بربه ، يستنير بنوره ، فيرى الخير خيراً ، والشر شراً ، يرى الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، إنه يرى المعاصي ويرى ما فيها من ضرر وأذى ، فأنى له أن يقع فيها ويرى الطاعات ويرى ما فيها من خير عميم ، وسعادة دائمة ، فأنى له أن يتركها .
فلو وضعت يدك ، وأنت مغمض العينين على شيء ناعم الملمس ، لين المجس ، انسيابي الخطوط ، ثم فتحت عينيك ، فإذا هو حية رقطاء ، في أنيابها السم الناقع ، عندها تنتفض مبتعداً عنها ، وتصرخ مذعوراً منها لقد ركنت إلى ملمسها الناعم ، ومجسها اللين ، حينما جهلتها ، وابتعدت عنها ، حينما رأيت سمها .
سيدنا يوسف عليه السلام رأى في دعوة امرأة العزيز ومراودتها عن نفسه رؤية لا يراها سائر الناس ، المنقطعين عن الله ، حينما تسنح له مثل هذه الفرص ، لقد رأى أن السجن أحب إليه من تلبية هذه الدعوة فقال :
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
بينما يرى بعض الجهلاء من الناس أن السجن أحب إليهم من رفضها .
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾
أي لولا أنه رأى برهان ربه لهم بها .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾
أي كنت أعمى في الدنيا ...
مستلزمات التوبة .
في ضوء هذه الحقائق والآيات يتضح أن الذنب ليس كما يتصوره بعض الناس ، نقطة سوداء في صفحة الإنسان منفصلة عنه يمكن أن تمحى بجرة ممحاة ، ولكنه مرض نفسي ، وشهوة منحرفة ، بسبب عمىً في البصيرة ، أو بسبب رؤية منحرفة ، نتيجة القطيعة والفعلة والإعراض عن الله ، وترك الصلاة ، بمعناها الحقيقي .
ومغفرة الذنب ليست مسحاً لهذه النقطة السوداء ولا شطبها ، ولا تمزيق الصحيفة كلها ، ولكنها حمية قاسية ، أو علاج طويل ، أو عملية جراحية تستهدف شفاء النفس ، وبرأها مما ألم بها ، فالذنب مرض ، والمغفرة شفاء منه ، وهل سمعتم أيها الإخوة أن هناك شفاءً من دون دواء ، وبرءاً من غير سبب ؟..
لقد أشار القرآن الكريم ، إلى طريق المغفرة ، وإلى أسباب الشفاء فقال:
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
أيها الإخوة ، هذه آيات من القرآن الكريم توضح طريق المغفرة والشفاء .
إنها التوبة النصوح أولاً .
والإصلاح ثانياً ، إصلاح الخطأ ، إذا كان الأمر متعلقاً بالعباد .
والإيمان الصحيح ثالثاً .
والعمل الصالح رابعاً .
وبعدها تأتي المغفرة التي هي شفاء للنفس من كل أمراضها وعللها .
أما إذا عاد العبد ، واقترف الذنب الذي تاب منه ، فتفسر ذلك أن إرادته قويت تارة فتركه ، وضعفت أخرى فاقترفه ، لكنه في كلتا الحالتين :
أولاً : لم يحصل له الشفاء الصحيح الذي يجعله يترفع عن الذنب اشمئزازاً لا مجاهدة .
ثانياً : لم تحصل له المغفرة التي وعد الله بها المؤمنين .
اللهم وفقنا إلى التوبة النصوح ، والإصلاح من بعد الجموح وارزقنا إيماناً يرينا الخير خيراً، والشر شراً ، وارزقنا عملاً صالحاً يصلح ما فسد من عملنا ، ويصلح للعرض عليك حين أوبتنا إليك ، وبعدها كما قلت في كتابك ، ارزقنا مغفرة وشفاء لا انتكاس فيها .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وصلوا ما بينكم وبين ربكم تسعدوا ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، واصرف عنا شر الأعمال لا يصرفها عنا إلا أنت .