- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠7أحاديث قدسية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
علة وجود الإنسان على سطح الأرض أن يعمل صالحاً :
أيها الأخوة الكرام، لا يصح العمل إلا إذا عرفت سرّ وجودك في الأرض، هذه أخطر قضية في الإيمان، وكنت أضرب على ذلك مثالاً مشهوراً، الإنسان إذا ذهب إلى بلد وسأل إلى أين أذهب؟ نسأله نحن: لماذا أتيت إلى هنا؟ لعلك جئت طالب علم اذهب إلى المعاهد والجامعات، أما إذا جئت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات، أما إن جئت سائحاً فاذهب إلى المقاصف والمتنزهات.
السؤال الأكبر لماذا نحن في الأرض؟ لا يصح عملنا إلا إذا عرفنا سرّ وجودنا، الله عز وجل يقول:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
الآن هناك حديث قدسي يبين أن سرّ وجود الإنسان في الأرض أن يعمل الصالحات، وهناك أدلة كثيرة، ذلك أن الإنسان حينما يأتيه ملك الموت ماذا يقول:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
ما من ميت يقول: لعلي أتمّ البناء، أو لعلي أنال الشهادة، أو لعلي أتزوج، قال:
﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
إذاً علة وجودك على سطح الأرض أن تعمل صالحاً، هذا العمل الصالح هو ثمن جنة عرضها السموات والأرض، هو ثمن سعادة أبدية، الدنيا محدودة لكن الجزاء غير محدود إلى أبد الآبدين، وكنت أقول دائماً: لو وضعت واحداً في الأرض وأصفاراً إلى الشمس- بعد الشمس عنا ثمان دقائق أي: مئة و ستة و خمسون مليون كيلو متر- كل ميلي صفر، كم هذا الرقم؟ إذا قيس إلى اللانهاية فهو صفر، إذاً نحن في حياة محدودة جداً، سنوات بعد الأربعين لا تزيد عن العشرين أو الثلاثين أو العشر سنوات، وتنتهي الحياة، وتواجه أبداً أبدياً، وحياة سرمديةً، إما في جنة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفد عذابها.
العبادة حركة فيها جانب سلبي وجانب إيجابي :
إذاً هناك من يأكل ويشرب، ويتنزه ويسمر، ويتحدث ويسافر ويتطلع، ويتابع الأخبار، ينبغي أن نعلم سرّ وجودنا، سرّ وجودنا أن نعبد الله، والعبادة حركة، سلوك، فيها جانب سلبي وجانب إيجابي، الجانب السلبي أن تنتهي عما عنه نهى الله، والجانب الإيجابي أن تفعل ما أمرك الله به، أمرك أن تتصدق، أن تعاون، أن تلبي حاجة الضعيف، فلذلك يقول الله عز وجل في الحديث القدسي - وقد ذكرت لكم في أول يوم أن الحديث القدسي رؤيا من الله في المنام، أو إلقاء في الروع، أو عن طريق جبريل، لكن صياغة المعنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث القدسي له طعم خاص- إذاً:
(( عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: إن الله كتب الحسنات وكتب السيئات، فمن هَمَّ بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة))
أخ مقيم في بلاد الغرب البعيدة، استمع إلى دروس علم، تأثر تأثراً شديداً قال بصراحة: هذه الدروس معناها أن أعود إلى بلاد المسلمين لا أن أبقى هناك، لك أن تسافر إلى هناك لتنال شهادة عليا تقوي بها المسلمين، لك أن تذهب إلى هناك لتقيم إقامة مؤقتة تكسب بها مالاً تقيم فيه أود حياتك، أما أن تنوي الإقامة الدائمة، من نوى الإقامة الدائمة انطبق عليه:
(( من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة ))
فهذا الأخ مقيم ببلد اسمها نيوجرسي، استمع إلى الأشرطة وقنع أن إقامته هناك غير صحيحة، فجمع أمتعته، وأنهى عمله، وكانت دنياه في أوجها، قنع وجاء إلى الشام، خلال يومين أصيب بحادث وتوفي، على أي عمل مات؟ على أرقى عمل.
نية المؤمن خير من عمله :
لذلك:
((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ قِيلَ وَمَا عَسَلُهُ قَالَ يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْه))
فيقول الله عز وجل في الحديث القدسي:
(( مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا...))
له نيته، ونية المؤمن خير من عمله، كرم الله عز وجل ليس ككرم العباد، العباد لا يعطون إلا بعد الإنجاز، لكن الله يعطي على نيتك، فهذا نوى أن يعود إلى بلاد المسلمين، وأن يخدم المسلمين، وتوفي بعد يومين بحادث.
((من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبتٌ))
لأن الله سبحانه وتعالى يحب أن نربح عليه:
﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
قال:
(( وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ...))
لذلك: إنما الأعمال بالنيات:
((وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا))
هناك سؤال دقيق جداً لمَ لم يعملها؟ لأنه لم يستطع لا أجر له إطلاقاً، لكن لم يعملها خوفاً من الله عز وجل.
كرم الله عز وجل على العباد :
قصة سمعتها لعلها قبل أربعين عاماً: شاب رافق أمه لأداء فريضة الحج، إذاً هو حج معها، وهو في مقتبل العمر، فتح مكتبة في بعض أحياء دمشق، المكتبة قريبة من ثانوية بنات، يبدو أن فتاة ساقطة جاءت إلى محله التجاري ولمّحت له أنها تريده، فأغلق المحل وتبعها، المواصلات كانت حافلات كهربائية قديمة، هو يتبعها تذكر أنه حج بيت الله الحرام، أيعقل أن يعصي الله؟ فرجع ركب إحدى الحافلات وعاد وقال: معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين، القصة تتمتها رائعة، أن رجلاً في اليوم التالي وقف أمام محله قال: يا بني أنت متزوج؟ قال: لا، قال: عندي بنت تناسبك، هذا الشاب ظنّ أن بالبنت عيباً لأنها عرضت، مع أن عرض الفتاة في مجتمعنا أو في الأعراف غير مقبول، بينما في القرآن مقبول:
﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ﴾
فظن الشاب أن في الفتاة عيباً خطيراً لأن والدها عرضها عليه، أرسل أمه فإذا هي فتاة رائعة، فوافق، فقال له: لكني لا أملك شيئاً، قال: هذا ليس من شأنك هذا من شأني، وعقد معه شركةً، وأنا أذكر أن العم توفي، أما الشاب الآن فلا يزال حي يرزق، لأنه قال: معاذ الله إني أخاف رب العالمين.
((وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا))
لا لأنه لم يستطع، الذي لم يستطع هو أشقى الناس.
قال:
((....وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ))
أية سيئة قلت: معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين لا أفعلها خوفاً من الله كتبها الله لك عنده حسنة كاملة،
و في رواية أخرى قال:
((وَ مَنْ هَمَّ بِهَا وَ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ))
هذا نموذج من كرم الله عز وجل:
((من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبتٌ))
لذلك ملك الشمال يكتب السيئات، ملك اليمين أمير عليه، لا يسمح ملك اليمين أن يكتب ملك الشمال السيئة إلا إذا أصرّ العبد عليها، ولم يتوب منها، ولم يندم، وتبجح بها، وافتخر بها، عندئذٍ تكتب عليه، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾
الفعل خماسي، أي عمل السيئة، لم يتوب، لم يندم، أصرّ عليها، عادها، تكتب عندئذٍ سيئة.
الله سبحانه وتعالى لا يحاسب إلا على العمل :
في حديث آخر، يقول الله عز وجل:
(( يَقُولُ اللَّهُ إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا ...))
هذه بحبوحة أخرى، أي شيء تحدثك نفسك به لا تحاسب عليه ما لم ينقلب إلى عمل، أي شيء تحدثك نفسك به لا يكتب عليك إلا أن ينقلب إلى عمل، لكن لو أنك استمرأت هذه الخواطر السيئة كانت خواطر فأصبحت فكراً، ثم أصبحت شهوة، ثم أصبحت إرادة، ثم أصبحت معصية، ثم أصبحت عادة، وبعد أن تنقلب الخواطر إلى عادات يصعب كثيراً تركها، فالأولى أن أتلافى الأمر من بدايته، أن أذهب عني الخواطر، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يحاسب إلا على العمل:
(( إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة ، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة ، وإذا أراد أن يعمل حسنة ، فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف))
الله سبحانه وتعالى يحب أن نربح عليه :
الملخص أن الله سبحانه وتعالى يحب أن نربح عليه، يحب أن نتاجر معه، العمل الصالح الذي تعمله في صحيفتك، وفي صحيفة من دلك عليه، وفي صحيفة من أعانك عليه، وفي صحيفة من قبله منك، فيجزي الله عز وجل أطرافاً كثيرين، بل إنك لو ربيت ولداً صالحاً أعماله كلها في صحائفك:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
كل أعمال أولادك إلى يوم القيامة، تصور لو أن إنساناً توفي وترك ولداً صالحاً، هذا الولد جاء من ذريته مئة ألف إنسان، ولأنه كان صالحاً تزوج امرأة صالحة، أنجبوا أولاداً صالحين وهكذا، فمئة ألف إنسان كل أعمالهم في صحيفة هذا الأب، لذلك: خير كسب الرجل ولده، قال عليه الصلاة والسلام:
(( الدال على الخير كفاعله ))
كفاعله تماماً، وفي حديث آخر:
((نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله))
العمل الصالح علة وجودنا بعد أن نؤمن بالله و نلتزم بالأمر والنهي :
إذاً أيها الأخوة، ملخص هذا اللقاء الطيب أن علة وجودنا بعد أن نؤمن بالله الإيمان الصحيح، وبعد أن نلتزم بالأمر والنهي، علة وجودنا الأولى العمل الصالح، كما أن طالباً ذهب إلى بلد بعيد ليدرس، سبب وجوده في هذا البلد الدراسة فقط، فأي شيء يقربه من هدفه هو الصح، وهو الحق، وهو الخير، وأي شيء يبعده عن هدفه هو الشر، لو صاحب زميلاً له يتقن لغة أهل البلد من أجل أن يتمرن في الحديث معه هذه تابعة لهدفه، فأنت حينما تعلم علم اليقين بأنك موجود في الدنيا لعبادة الله بنص الآية الكريمة:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
إذاً أي شيء يقربك من عبادة الله هو الحق، وهو الخير، وهو الجمال، وهو السعادة، وهو التوفيق، وهو التفوق، وهو الفوز، وهو النجاح، وهو الفلاح، وأي شيء يبعدك عن سرّ وجودك في الأرض فهو الشر، وهو الأذى، وهو الغباء، وهو الحمق، مثلاً حينما قال سيدنا يوسف:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾
وبعدها:
﴿ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾
جهل سرّ وجوده فانشغل بشهوة عابرة ليس لها أثر مستقبلي، أما لو تزوج أنجب ولداً صالحاً، نفع الناس من بعده، لو أنه سلك الطريق الصحيح لكان لهذا الطريق الصحيح أثر مستقبلي.
هذان الحديثان القدسيان يدلان على كرم الله عز وجل، الخواطر لا تحاسب عنها.